
هوِّن عليك الأمر
كثيرًا ما يضع الإنسان على عاتقه ما يفوق طاقته، فيتوقف عند كل كلمة يسمعها، أو كل إشارة يلمحها، أو حتى عند تلميح عابر يمر أمامه مرور السحاب؛ بل أحيانا لا يحتاج الأمر إلى كلمات، وإنما يكفي أن يشعر بشعور غامض يطرق أبواب نفسه، فيفتح لها المجال مشرعا على مصراعيه، فيدخل ذاك الشعور دون استئذان، ويعيث في داخله فسادًا، حتى يروي بذور الهوى بسيول من حمم شيطانية تحرق صفاء قلبه وتكدر نقاءه.
إن هذه المواقف البسيطة في ظاهرها قد تتحول عند البعض إلى محطات توقف طويلة، يقفون عندها متأملين، محللين، مقلبين وجوهها من كل جانب، حتى تتضخم في داخلهم وتصبح كرة ملتهبة من الضغائن. وقد تتحول تلك الكرة إلى كتلة من الحقد المتراكم، تكبر يوما بعد يوم في الصدر، حتى لو خرجت لأحرقت الأخضر واليابس من حولها. وكم من صلة رحم تقطعت بسبب هذا الحمل الزائد من الشكوك، وكم من صداقة امتدت لسنوات طويلة انتهت فجأة لأنها بنيت على ظنون لا أساس لها، وظلال أوهام لا تستند إلى منطق أو حقيقة.
ولو أننا التفتنا إلى دواخلنا وبحثنا فيها عن الجمال الإنساني الكامن فينا، لوجدنا ما يغنينا عن الانغماس في الشكوك، ولأدركنا أن أغلب ما نتوقف عنده ليس سوى مواقف عابرة لا تستحق كل هذا الجهد النفسي ولا هذا الاستنزاف. ولو وعينا أن ما يمر بنا من كلمات أو أفعال لا يستحق أن نضخمه أو نمنحه أكبر من حجمه الطبيعي، لكُنَّا أكثر هدوءًا في مواجهة تفاصيل الحياة اليومية، وأكثر رحابة صدر في تقبل اختلافات الآخرين.
وأغلب الظنون التي تعكر صفو العلاقات ما هي إلا انعكاس طبيعي لاختلافنا مع الآخرين؛ فالاختلاف في حد ذاته ليس عيبا ولا خطأ؛ بل هو من سنن الحياة الثابتة. نحن نختلف في الأفكار والآراء والتصورات، وقد نختلف حتى في فهم المواقف والنوايا. وهذا الاختلاف في جوهره أمر إيجابي، لأنه يفتح المجال للتنوع والتكامل. لكن حين يتحول الاختلاف إلى مجهر نضعه على كل كلمة أو حركة تصدر عن الآخرين، فإننا نسجن أنفسنا في دائرة من الشك المرهق.
وعلينا أن نضع نصب أعيننا أن هذه الحياة ليست على نمط واحد، بل هي مسرح متنوع، مليء بالأفكار المتباينة، ومشحون بالاختلافات التي تُثري التجربة الإنسانية. وقد أخبرنا الله تعالى أن التدافع والاختلاف سنة كونية لا مفر منها: "
وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُم بِبَعْضٍ لَّهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا"
(الحج: 40). ولو أدركنا هذه الحقيقة وأيقنّا بها حق اليقين، لتجاوزنا عن كثير من المواقف العابرة، ولأرحنا أنفسنا من عناء الظنون التي لا تجلب سوى القلق والتعب. ولو فعلنا ذلك، لوجدنا أن الحياة أرحب، وأن الود مع الآخرين أجمل عبقا وأطيب أثرا من أي خصام أو شك.
إنَّ السحب السوداء التي نصنعها بأنفسنا من أوهام وظنون هي التي تضيق صدورنا وتثقل أرواحنا. بينما الحياة أوسع من أن تُختزل في تلك الزوابع الصغيرة. وكل ما نقوله ونفعله ونفكر فيه يحتاج إلى تهذيب دائم، وتربية متواصلة للنفس، حتى لا نستسلم لسلبياتنا أو لعواصف الغضب والشك التي قد تعصف بنا فجأة.
والتدريب هنا لا يقتصر -كما يتوهم بعض الناس- على المهارات الإدارية أو تقنيات العمل فقط، بل يشمل بالدرجة الأولى تدريب النفس على السلوك الإيجابي، وإتقان التعامل الراقي مع الناس، سواء في محيطنا الاجتماعي أو في مجالنا العملي؛ فالأخلاق هي الأساس المتين للشخصية الإنسانية، وإذا غابت الأخلاق لم يعد للسلوك قيمة، ولا للتعامل معنى. لذلك، فإن أرقى أنواع التدريب هو ذاك الذي يهذب النفوس، ويُعوِّدها على الصبر، ويغرس فيها حسن الظن، ويجعلها أكثر تسامحًا وانفتاحًا.
الحياة في حقيقتها بسيطة، لكنها تبدو معقدة حين نثقلها بأوهامنا ومخاوفنا. هي لا تحتاج إلى كل هذا التهويل الذي نصنعه، ولا تحتمل كل هذا العويل الذي نمارسه. لو أننا نظرنا إليها بصفاء، لوجدناها أقرب إلى البساطة مما نظن. إنها أقصر من أن نهدرها في تتبع الظنون، وأثمن من أن نُضيعها في التوقف عند كل كلمة أو إشارة.
فلنحاول أن نرى الحياة كما هي: رحلة قصيرة مهما طالت، تحتاج إلى قلب مطمئن وروح متسامحة. فلماذا نملأها بالتشنج والقلق؟ ولماذا نعيشها بأوهام أدق من خيوط الدخان، لكنها رغم دقتها قادرة على أن تحيل حياتنا إلى سحب سوداء؟ أليس الأجمل أن نصنع منها حياة مليئة بالسكينة والرضا؟
أيها الإنسان، هوِّن عليك الأمر. لا تجعل من نفسك أسيرا لظنونك، ولا تسمح للأوهام أن تكون هي الحاكم على قلبك وعقلك. فما من شيء يستحق أن نجعله محور اهتمامنا الدائم إذا كان مبنيا على الشكوك والظنون. وقد جاء التوجيه الرباني واضحًا صريحًا في قوله تعالى: "
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِّنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ
" (الحجرات: 12).
لنجعل من هذه الآية قاعدة لحياتنا، ولنأخذها نورا نهتدي به كلما حاولت الظنون أن تسرق صفاء قلوبنا. عندها فقط سنشعر بخفة الحياة، وننعم بالسلام الداخلي، ونمنح أرواحنا فرصة أن تتنفس عطر المودة والإخاء بدل أن نحبسها في غياهب الضيق والحرج.

جرب ميزات الذكاء الاصطناعي لدينا
اكتشف ما يمكن أن يفعله Daily8 AI من أجلك:
التعليقات
لا يوجد تعليقات بعد...
أخبار ذات صلة


جريدة الرؤية
منذ 19 ساعات
- جريدة الرؤية
هوِّن عليك الأمر
د. صالح بن ناصر القاسمي كثيرًا ما يضع الإنسان على عاتقه ما يفوق طاقته، فيتوقف عند كل كلمة يسمعها، أو كل إشارة يلمحها، أو حتى عند تلميح عابر يمر أمامه مرور السحاب؛ بل أحيانا لا يحتاج الأمر إلى كلمات، وإنما يكفي أن يشعر بشعور غامض يطرق أبواب نفسه، فيفتح لها المجال مشرعا على مصراعيه، فيدخل ذاك الشعور دون استئذان، ويعيث في داخله فسادًا، حتى يروي بذور الهوى بسيول من حمم شيطانية تحرق صفاء قلبه وتكدر نقاءه. إن هذه المواقف البسيطة في ظاهرها قد تتحول عند البعض إلى محطات توقف طويلة، يقفون عندها متأملين، محللين، مقلبين وجوهها من كل جانب، حتى تتضخم في داخلهم وتصبح كرة ملتهبة من الضغائن. وقد تتحول تلك الكرة إلى كتلة من الحقد المتراكم، تكبر يوما بعد يوم في الصدر، حتى لو خرجت لأحرقت الأخضر واليابس من حولها. وكم من صلة رحم تقطعت بسبب هذا الحمل الزائد من الشكوك، وكم من صداقة امتدت لسنوات طويلة انتهت فجأة لأنها بنيت على ظنون لا أساس لها، وظلال أوهام لا تستند إلى منطق أو حقيقة. ولو أننا التفتنا إلى دواخلنا وبحثنا فيها عن الجمال الإنساني الكامن فينا، لوجدنا ما يغنينا عن الانغماس في الشكوك، ولأدركنا أن أغلب ما نتوقف عنده ليس سوى مواقف عابرة لا تستحق كل هذا الجهد النفسي ولا هذا الاستنزاف. ولو وعينا أن ما يمر بنا من كلمات أو أفعال لا يستحق أن نضخمه أو نمنحه أكبر من حجمه الطبيعي، لكُنَّا أكثر هدوءًا في مواجهة تفاصيل الحياة اليومية، وأكثر رحابة صدر في تقبل اختلافات الآخرين. وأغلب الظنون التي تعكر صفو العلاقات ما هي إلا انعكاس طبيعي لاختلافنا مع الآخرين؛ فالاختلاف في حد ذاته ليس عيبا ولا خطأ؛ بل هو من سنن الحياة الثابتة. نحن نختلف في الأفكار والآراء والتصورات، وقد نختلف حتى في فهم المواقف والنوايا. وهذا الاختلاف في جوهره أمر إيجابي، لأنه يفتح المجال للتنوع والتكامل. لكن حين يتحول الاختلاف إلى مجهر نضعه على كل كلمة أو حركة تصدر عن الآخرين، فإننا نسجن أنفسنا في دائرة من الشك المرهق. وعلينا أن نضع نصب أعيننا أن هذه الحياة ليست على نمط واحد، بل هي مسرح متنوع، مليء بالأفكار المتباينة، ومشحون بالاختلافات التي تُثري التجربة الإنسانية. وقد أخبرنا الله تعالى أن التدافع والاختلاف سنة كونية لا مفر منها: " وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُم بِبَعْضٍ لَّهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا" (الحج: 40). ولو أدركنا هذه الحقيقة وأيقنّا بها حق اليقين، لتجاوزنا عن كثير من المواقف العابرة، ولأرحنا أنفسنا من عناء الظنون التي لا تجلب سوى القلق والتعب. ولو فعلنا ذلك، لوجدنا أن الحياة أرحب، وأن الود مع الآخرين أجمل عبقا وأطيب أثرا من أي خصام أو شك. إنَّ السحب السوداء التي نصنعها بأنفسنا من أوهام وظنون هي التي تضيق صدورنا وتثقل أرواحنا. بينما الحياة أوسع من أن تُختزل في تلك الزوابع الصغيرة. وكل ما نقوله ونفعله ونفكر فيه يحتاج إلى تهذيب دائم، وتربية متواصلة للنفس، حتى لا نستسلم لسلبياتنا أو لعواصف الغضب والشك التي قد تعصف بنا فجأة. والتدريب هنا لا يقتصر -كما يتوهم بعض الناس- على المهارات الإدارية أو تقنيات العمل فقط، بل يشمل بالدرجة الأولى تدريب النفس على السلوك الإيجابي، وإتقان التعامل الراقي مع الناس، سواء في محيطنا الاجتماعي أو في مجالنا العملي؛ فالأخلاق هي الأساس المتين للشخصية الإنسانية، وإذا غابت الأخلاق لم يعد للسلوك قيمة، ولا للتعامل معنى. لذلك، فإن أرقى أنواع التدريب هو ذاك الذي يهذب النفوس، ويُعوِّدها على الصبر، ويغرس فيها حسن الظن، ويجعلها أكثر تسامحًا وانفتاحًا. الحياة في حقيقتها بسيطة، لكنها تبدو معقدة حين نثقلها بأوهامنا ومخاوفنا. هي لا تحتاج إلى كل هذا التهويل الذي نصنعه، ولا تحتمل كل هذا العويل الذي نمارسه. لو أننا نظرنا إليها بصفاء، لوجدناها أقرب إلى البساطة مما نظن. إنها أقصر من أن نهدرها في تتبع الظنون، وأثمن من أن نُضيعها في التوقف عند كل كلمة أو إشارة. فلنحاول أن نرى الحياة كما هي: رحلة قصيرة مهما طالت، تحتاج إلى قلب مطمئن وروح متسامحة. فلماذا نملأها بالتشنج والقلق؟ ولماذا نعيشها بأوهام أدق من خيوط الدخان، لكنها رغم دقتها قادرة على أن تحيل حياتنا إلى سحب سوداء؟ أليس الأجمل أن نصنع منها حياة مليئة بالسكينة والرضا؟ أيها الإنسان، هوِّن عليك الأمر. لا تجعل من نفسك أسيرا لظنونك، ولا تسمح للأوهام أن تكون هي الحاكم على قلبك وعقلك. فما من شيء يستحق أن نجعله محور اهتمامنا الدائم إذا كان مبنيا على الشكوك والظنون. وقد جاء التوجيه الرباني واضحًا صريحًا في قوله تعالى: " يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِّنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ " (الحجرات: 12). لنجعل من هذه الآية قاعدة لحياتنا، ولنأخذها نورا نهتدي به كلما حاولت الظنون أن تسرق صفاء قلوبنا. عندها فقط سنشعر بخفة الحياة، وننعم بالسلام الداخلي، ونمنح أرواحنا فرصة أن تتنفس عطر المودة والإخاء بدل أن نحبسها في غياهب الضيق والحرج.


جريدة الرؤية
منذ 2 أيام
- جريدة الرؤية
الوصول الميمون
محمد بن رامس الرواس ما كادت أنفاس صباح يومٍ من أيام الخريف الجميلة تطلق عبيرها العذب بين روابي صلالة، حتى أخذت الأجواء تتزين بنسائم الفرح، وابتهجت الأرواح بترحيب يفيض حبًا وولاء بمقدم حضرة صاحب الجلالة السلطان هيثم بن طارق المعظم -حفظه الله ورعاه- إلى صلالة، مقدم سلطان الصلاح والثبات إلى أرض اللبان ومهوى الأفئدة، ومقدمه -أعزه الله- موعدٌ تلتقي فيه الأفئدة على تجديد العهد والوفاء لقائدها الحكيم الذي هو عنوان عزتها، وأصدق من حفظ العهد وأوفى بالأمانة. لقد بدت صلالة في ذلك اليوم كعروس مزهوة بثوب أخضر نسجه لها المولى عز وجل كأبهى حلة، وتزينت جبالها بالندى كحبات اللؤلؤ تتلألأ في فصل الخريف، ونشر بحر العرب أشرعته من الموج يردد سيمفونية الفرح كأنما كل موجة فيه تُجدِّد العهد للسلطان الحكيم -حفظه الله- الذي جمع في قلبه البصيرة النافذة، والرحمة الشاملة والحكمة الراسخة. وما القيادة في جوهرها إلّا عهد ومسؤولية، ورعاية ورحمة، وقد اجتمعت هذه الصفات جميعها في قلب السلطان هيثم -أيده الله- فهو الحازم إذا دعا الموقف إلى الحزم، والرفيق الذي يمسح بيده على كتف أبناء وطنه كما يمسح الأب الحنون على رأس طفله؛ فاجتمعت فيه قوة العزم ولين الجانب، فأدار الأمور بما يقيم العدل بين الرعية ويحفظ الكرامة، ومن قبل أن يتقلد أمانة النهضة المتجددة، وهو يرسم للوطن ملامح مستقبل مشرق، يخط فيه بالأمل واليقين طريق الغد من خلال رؤية "عُمان 2040"، فلا يعرف قلبه التردد، ولا تعرف عزيمته سبيل التراجع عن تنفيذ ما أبرمه من خطط النجاح. في هذا اليوم اكتمل في صلالة مشهد فريد، فقد اكتملت الفرحة وتضاعفت بمقدمه الميمون وتجدد فصل الخريف، فكان بموسم الخريف بما فيه من خضرة نضرة ونسمات ندية، قد صافحت مقدم السلطان هيثم، فجاء اللقاء كلقاء الجمال والطبيعة الخلابة بالسلطان الأمين الحكيم، الذي أوفى بالوعد والعهد. مرحبًا بسلطان الخير والنماء والسلام، مرحبًا بمن يصبح قدومه تجديد للعهد بين القائد وشعبه، وبشارات مستقبل يزهر في القلوب قبل أن يزهر في السهول. إن القيادة الحكيمة للسلطان هيثم وثَّقت غرسها؛ فأنبتت قيادة صالحة، وثباتًا راسخًا، ورؤية واعدة لا تغيب عنها شمس الخير والنماء. مرحبًا بكم مولاي، ومن خلفك شعبك يفتديك بالأرواح ويرفع أكف الضراعة بالدعاء لكم، أن يديم الله عليكم نعمة الصحة والعافية ويرزقكم طول العمر، ويزيدكم عزًا ومجدًا.. نمضي خلفكم مولاي المعظم، نحو مستقبل تصنعه بعزيمة السلاطين وحكمة العظماء.. والله نسأل لهذا الوطن الشامخ أن يظل حصنَ عزٍ وموئل أمن ومنارة حضارة، مُتضرعين للمولى -جل في علاه- أن يحرسكم في حلكم وترحالكم وفي كل وقت وحين.


جريدة الرؤية
منذ 2 أيام
- جريدة الرؤية
كذَّب المغردون.. ولو صدقوا
خالد بن سعد الشنفري أستغربُ من هذه الموجة من الهجوم والانتقادات التي انهالت على موسم خريف ظفار هذا العام، وللأسف أنها صادرة عن عُمانيين وليس من أَغْرابٍ عنا، وقد صُدِمت حتى إخوة أعزاء لنا من دول مجلس التعاون ليقينهم بأنها مُغالى فيها كثيرًا وتفتقد المصداقية من الواقع المعاش لهم بيننا، وهم من يعتبرون أنفسهم نُدماء لخريف ظفار وشركاء فيه، وعايشوه معنا وشاركونا في كل تفاصيله على مدى أكثر من 40 عامًا مضت، فتصدوا لهذه التغريدات بتغريداتٍ مقابلة تُدحضها، فأنعِم وأكرِم بهم. مع يقيننا أن وصف "مُغرِّد" لا تنطبق على هؤلاء؛ فالتغريد ترتيل جميل يُطرب ويفرح النفس ويبعث السعادة، وما يصدر منهم ليس إلا صراخًا ونعيقًا، والتغريد أساسًا صفة لأصوات غناء الطيور الجميلة، أمّا هؤلاء؛ فالنشاز أو التغريد خارج السرب دَيدنهم، وهم أول من يعلمون أن ما قالوه عارٍ عن الصحة وعن منطق الأمور وطبيعتها، ولا يُعدّ نقدًا؛ فالنقد يبني ولا يهدم، وبالتالي لا يستحقون حتى مجرد الرد عليهم في الأساس، إلّا أن السلاح الذي بأيديهم خطير جدًا، ألا وهو وسائل التواصل التي أصبحت تتجاوز الحدود وتتعدى الآفاق بمجرد كبسة زر على لوحة مفاتيح هاتف محمول باليد الواحدة، وحتى لو كان هؤلاء المُغرِّدون يهرفون بما لا يعرفون! هذا الجهاز الصغير الذي أصبح في كل يد وفي متناول كل غرير لا بُد من كبحه بقانون، وعاجلًا وإلّا سيتغوّل وسيضرّ بالسياحة في بلادنا، ولا بُد من وقفه بقانون. البداية كانت بالأسعار وبالكرك بمئتين بيسة، دون مراعاة نوعية المقهى الذي يبيعه أو نوع الخدمة التي تُقدَّم فيه؛ مرورًا بالمشلي بثلاثمائة بيسة، دون أن يفهموا أبسط معوّقات شجرة النارجيل في المحافظة، وأن هذه الثمرة قد فتكت بها الأمراض دون مكافحة تُذكر، وقلَّ إنتاج الشجرة الواحدة منها من 500 كُزابة إلى 50 كُزابة، وأنها ما مكنوز ولب مغذٍّ لذيذ وغذاء مكتمل الخواص. أمّا علبة الكولا المسمومة والممقوتة بـ250 بيسة، فبردًا وسلامًا عليهم، ضَعُفَ الطالبُ والمطلوب. في ذروة الضباب والرذاذ لم يجدوا إلّا موجة بحرٍ تنفّست في الخريف وامتدّت قليلًا على الشاطئ فبلّلت حذاءً هنا وثوبًا هناك، جعلتهم ينعقون تغريدًا وكأنها تسونامي تطاول عليهم ويطالبون الجهات المختصة على الملأ بالتدخل، ولا زلتُ عاجزًا إلى الآن عن فهم التدخل الذي يطالبون به، ولم أجد لهم سببًا أو عذرًا مقبولًا، اللهم إذا أرادوا من الجهات المختصة مخالفة هذه الموجة والمقهى الذي تطاولت عليه! لم يقف الأمر عند هذا الحد، فقد وجدوا ضالتهم بعد ذلك في انقشاعٍ متقطع للضباب وسطوعٍ دافئ للشمس فيه عظيم الفوائد في التسريع بنمو الزرع وفي صحة الإنسان والضرع بعد فترة متواصلة من الضباب والرذاذ، فقالوا: اقرأوا الفاتحة على موسم خريف ظفار؛ فهذا نذير بقرب نهايته أو موته السريري، وعلى من ينوي القدوم إلى ظفار أن يتوقف فورًا حيث هو، وصوّروا لهم الشمس في إشارة وكدليل قطعي على ما يقولون، وأن من سيأتي لن يجد إلا شمسًا كالتي عندهم هناك، وأنهم قد خُدعوا، وطالبوا الجميع بالتوقف عن القدوم إلى المحافظة، وعليهم أن يتوجّهوا إلى أي مكان آخر؛ فهنا مثل ما هناك: مجرد شمس! يا سبحان الله! وكأن الشمس من عمل الشيطان والضباب من عمل الرحمن! السؤال هو: هل أثّر ذلك على السياحة؟ نعم أثّر، فهنيئًا لكم يا من تدّعون حب الوطن، فلقد شوّهتم الوطن من حيث تدرون أو لا تدرون؛ لأن همّكم الأساسي كان مجرد الشهرة الرخيصة للأسف، عن طريق وسيلة التغريد هذه التي منحها لكم التطور العلمي في وسائل التواصل الاجتماعي لتُدمّروا بها مقدّرات وأرزاق بلدكم وأهلكم، عجبًا لكم. للأسف الشديد أن قرار العودة للمدارس أعانكم بدوره في تدني حراك موسم هذا العام أيضًا، وقد بُحّت أصواتنا منذ سنين على ضرورة تأخيره تناغمًا مع هذا الموسم المهم اقتصاديًا واجتماعيًا ونفسيًا، وألا تتقاطع معه العودة إلى المدارس؛ فهؤلاء من إخوتنا المعلّمين وأبنائنا الطلبة يشكّلون مع أسرهم -للارتباط الذي يفترض أن لا يخفى على حصيف- أكثر من نصف مجتمعنا العُماني عددًا؛ فلماذا هذا الإصرار على عدم تكييف قرار العودة إلى المدارس مع هذا الموسم الذي يهم عُماننا كلها ودول جوارنا؟ كأني بهذا القرار وهؤلاء المُغرّدين قد اتفقا مع سبق الإصرار على القضاء على أهم مواسمنا السياحية، والذي أصبح ينافس أكبر وأهم المزارات الصيفية في المنطقة. اللهم إني بلّغت.. اللهم فاشهد. حفظ الله عُماننا الحبيبة بحفظه وعينه التي لا تنام. لكن.. ها هو الخريف يعود ليكذبهم، وأقوى مما كان عليه، وكأنه يقول: كذب المُغرّدون ولو صدقوا، ونتوقع بإذن الله استمرار هذا الموسم، ورحمة الله عظيمة، وقد عشنا ذلك مرّات عديدة. ولكن للأسف لن يتمكّن من الاستمتاع به نصف عددنا إلّا من خلال نوافذ الفصول الدراسية المغلقة والمكتظّة بطلابها أصلًا، هذا في محافظة ظفار، أمّا في غيرها من المحافظات فلن يستمتعوا إلا من خلال شاشات التلفاز فقط، للأسف الشديد، ولهم جميعًا نقول: ليس لكم إلا الصبر والسلوان. ليت النعيق توقّف عند هذا الحد؛ بل تطاول بالسخرية من بداية موسم خريف هذا العام، وبعد أن تواتر وتعارف عليه أهل المنطقة وتوارثوه وتناقلوه جيلًا عن جيل من مئات السنين في الفترة من 21 يونيو إلى 21 سبتمبر من كل عام، قد يتأخر قدومه أو يتأخر مكوثه، وأن أواخره دائمًا نحسبها أجمل من بداياته، وهذه أيضًا لا يحتاج لحصيف يفهمها. ختامًا.. لن يأتي من الرحمن الرحيم لعباده إلا ما فيه الخير والصلاح لهم، فأهل هذه المنطقة لا يتحكّمون في سير حركة الضباب ولا صنبور الرذاذ والعياذ بالله، ولكن أهل مكة دائمًا أدرى بشعابها. وفقنا الله جميعًا لما فيه خير وصلاح بلدنا ومجتمعنا العُماني الطيب الشريف العفيف.