
محمد الموجي... موسيقار «كامل الأوصاف» (2 - 2)
أحدثت ثورة يوليو 1952 تغيرًا كبيرًا في المجتمع المصري وساحة الفن والإبداع، وفي ذلك الوقت انشغل الموسيقار محمد عبدالوهاب بالتلحين، وأصبح مقلاً في الغناء، واستغرق رياض السنباطي في تلحين الأغنيات الرومانسية لأم كلثوم، وتوقف زكريا أحمد عن التلحين لكوكب الشرق، بعد خلافه معها، واعتزل محمد القصبجي التلحين، واكتفى بظهوره كعازف للعود في فرقة «السِّت».
وباتت الساحة مهيأة لظهور فرسان جُدد في الساحة الغنائية، وكان الموجي وكمال الطويل وعبدالحليم حافظ من المؤيدين للثورة، واندفع الفرسان الثلاثة في طريق التجديد، والتحرُّر من القوالب التقليدية في التلحين والغناء، وتوفرت لديهم موضوعات جديدة يغلب عليها الطابع الوطني.
طالب مدرسة الزراعة يعزف على عود رياض السنباطي
.related-article-inside-body{min-width: 300px;float: right;padding: 10px 0px 20px 20px;margin-top: 20px;}
.related-article-inside-body.count_2,.related-article-inside-body.count_3{width:100%}
.related-article-inside-body .widgetTitle{margin-bottom: 15px;}
.related-article-inside-body .widgetTitle .title{font-size: 16px;}
.related-article-inside-body .flexDiv{display:flex;align-items:flex-start;justify-content:space-between;}
.related-article-inside-body .flexDiv .articleBox{position: relative;}
.related-article-inside-body .flexDiv.count_3 .articleBox{width:31%}
.related-article-inside-body .flexDiv.count_2 .articleBox{width:48%}
.related-article-inside-body .flexDiv.count_1 .articleBox{width:300px}
.related-article-inside-body .layout-ratio{ padding-bottom: 60%;}
.related-article-inside-body .layout-ratio img{ height: 100%;}
.related-article-inside-body a.titleArticleRelated{font-weight: 700;font-size: 17px;line-height: 25px;padding: 10px 0px;display: block;text-decoration: none;color: #000;}
.related-article-inside-body .date{font-weight: 400;font-size: 13px;line-height: 18px;color: #9E9E9E;}
.related-article-inside-body .defaultView{margin-top: 20px;width: 100%;text-align: center;min-height: 250px;background-color: #D8D8D8;color: #919191;font-size: 18px;font-weight: 800;line-height: 250px;}
@media screen and (max-width: 992px) {
.related-article-inside-body{width: 100%;float: none;padding: 10px 0px;}
.related-article-inside-body .flexDiv.count_1 .articleBox{width:100%}
.related-article-inside-body a.titleArticleRelated{font-size: 14px;line-height: 22px;}
.related-article-inside-body .date{font-size: 12px;}
}
@media screen and (max-width: 768px) {
.related-article-inside-body .flexDiv{flex-direction: column;}
.related-article-inside-body .flexDiv .articleBox{margin-bottom:20px;}
.related-article-inside-body .flexDiv.count_3 .articleBox{width:100%}
.related-article-inside-body .flexDiv.count_2 .articleBox{width:100%}
.related-article-inside-body .flexDiv.count_1 .articleBox{width:100%}
}
نشيد الجلاء
انتبهت أم كلثوم إلى نجاح هؤلاء الشباب، وأرادت أن تواكب التغيير، واستطاع محمد الموجي وكمال الطويل، اختراق دائرة الملحنين الحصريين لكوكب الشرق، التي بدأت بالشيخ أبوالعلا محمد، ثم محمد القصبجي، ورياض السنباطي، وزكريا أحمد، بينما تأخر لقاؤها بألحان محمد عبدالوهاب سنوات طويلة، لشدة التنافس واختلاف وجهات النظر بينهما.
وفي عام 1954 غنّت أم كلثوم من ألحان محمد الموجي أغنية وطنية هي «نشيد الجلاء»، كلمات الشاعر أحمد رامي، بمناسبة جلاء الاحتلال البريطاني عن مصر، يقول مطلعها: «يا مصر إن الحق جاء، فاستقبلى فجر الرجاء، اليوم قد تم الجلاء، ونلتِ غايات المُنى».
وكانت الأغنية نقلة كبيرة في مسيرة «صاحب الأنامل الذهبية»، ولمحمد الموجي صورة شهيرة يقف فيها مع أم كلثوم إلى جوار كل من الرئيس جمال عبدالناصر وأنور السادات، تدل على مدى قربه من قيادة الثورة، ولم يكن باستطاعة الملحن الشاب ذلك، لولا تقديم أم كلثوم له إلى القيادة المصرية.
لحن «هويتك» يجمعه بالمطرب مصطفى أحمد والشاعر مبارك الحريبي
وفي عام 1955، غنت أم كلثوم من ألحان الموجي، أغنيتين للشاعر طاهر أبوفاشا، هما «سألت عن الحب»، و«الرضا والنور»، وفي عام 1957 «محلاك يا مصري» كلمات صلاح جاهين، وتضمنت تحية للمرشدين المصريين أيام تأميم قناة السويس وأزمة انسحاب المرشدين الأجانب.
وتتابعت ألحان محمد الموجي لأم كلثوم، بأغنيتين وطنيتين «بالسلام إحنا بدينا» (1960)، كلمات الشاعر بيرم التونسي، و«يا صوت بلدنا» (1964)، كلمات الشاعر عبدالفتاح مصطفى، وفي العام ذاته شدت كوكب الشرق بأغنية «للصبر حدود» كلمات عبدالوهاب محمد، وحققت الأغنية نجاحًا كبيرًا في ذلك الوقت.
«للصبر حدود» تدفع أم كلثوم لرفع دعوى قضائية ضد الملحن الشاب
خلافات في المحاكم
كادت «للصبر حدود» أن تنهي التعاون الفني بين الموجي وأم كلثوم، وتفاصيل تلك الأزمة رواها نجله الموجي الصغير، الذي أشار إلى أن الخلاف بينهما وصل إلى المحاكم، فذات يوم قالت أم كلثوم للموجي، إنها ستقدم وصلة عاطفية، وكانت هذه الوصلة أغنية «للصبر حدود»، وكتبت له عقدًا لمدة شهر تقريبًا، لينتهي من تلحين هذه الأغنية، لكنه كملحن لا يقدر على صناعة لحن في هذه المدة، فتأخر 6 أشهر، وكانت قد أعطته كلمات «دليلي احتار وحيرت قلبي»، و«ليلي ونهاري»، وعندما تأخر في تقديم لحن «للصبر حدود» بدأت تسحب منه أغنية تلو الأخرى وأعطتها لرياض السنباطي، ولم يتبقَّ معه سوى «للصبر حدود»، ولأنه لم ينته من تلحينها رفعت ضده دعوى قضائية.
وفوجئ الموجي بالدعوى، ووقف أمام القاضي الذي قال له: «أم كلثوم أقامت دعوى ضدك بسبب عدم الانتهاء من لحن أغنية (للصبر حدود) وبينكما عقد»، فنظر الموجي للقاضي وقال: «أنا مذنب... احكم عليّ إذن بالتلحين بالإكراه، فقال القاضي: «اذهب إلى أم كلثوم وتفاهم معها»، وخرج الموجي من المحكمة إلى فيلا «السِّت»، وما أن دخل حتى وجدها تنزل على السلم، فنظرت إليه بابتسامة، فقال لها بغيظ: «أتضحكين؟» فقالت: «طبعًا، أنا كنت عارفة إنك ستحضر إلى هنا، تقدّم ألحانًا عظيمة لحليم وشادية ومش عاوز تعمل (للصبر حدود)».
وجلسا معاً، لكنه اكتشف أن أم كلثوم تريده أن يتبع أسلوب السنباطي والقصبجي في عمل لحن الأغنية، ووافق، وما ان وصل إلى آخر مقطع في الأغنية حتى توقف وخرج من الفيلا، ليعود بعدها ومعه لحن المقطع الأخير، لكن أم كلثوم أرادت أن تغيّر بعض الجُمل الموسيقية فرفض واختفى، لتعيش السِّت بعدها في قلق، خصوصا أن موعد الحفل اقترب، فأرسلت إليه عبده صالح والحفناوي وعاد الموجي ووافقت أم كلثوم على رأيه.
سر احتفاظ «جواهرجي النغم» بدبلة ذهبية بعد نجاح «اسأل روحك»
وجاء يوم الحفل وجلس الموجي في الكواليس، وكان الجمهور يطلب منها إعادة الكوبليه الأخير أكثر من مرة لإعجابهم به، لدرجة أنها غيّرت في كلمات الأغنية قائلة: «وكفاية وأنا بهواك... خلصت الصبر معاك»، وبعد الحفل نظر إليها فقالت له وهى سعيدة: «إيه غلطنا في البخاري؟... على العموم مبروك».
واستكمل الموجي ألبوم ألحانه لأم كلثوم، بأغنية «يا سلام على الأمة» في عام 1965، كلمات الشاعر عبدالفتاح مصطفى، ويقول مطلعها: «يا سلام على الأمة في وحدة الكلمة، الكل بالإجماع إرادة تسند إرادة، من الصفوف للقيادة بالشورى والإقناع».
وأسدلت «اسأل روحك» (1970) الستار على اللقاء الاستثنائي بين ألحان الموجي وشدو أم كلثوم، وصاغ كلماتها الشاعر عبدالوهاب محمد، وبعد نجاح الأغنية سافرت أم كلثوم إلى السعودية، وأحضرت معها دبلة ذهب وقالت له: «اكتب عليها اسم أم أولادك... زوجتك... ولا تخلعها من يدك»، وبالفعل كتب اسم زوجته على الدبلة، وظلت في إصبعه حتى رحيلها، ثم أخذها نجله الموجي الصغير، ولاتزال معه حتى الآن.
صانع النجوم
تبوأ محمد الموجي مكانة متميزة بين ملحني جيله، وقال عنه الموسيقار محمد عبدالوهاب، إنه صانع النجوم، وإن موسيقاه تثري المكتبة الموسيقية العربية، لأن ما يميز ألحانه أنها من السهل الممتنع، فالأعمال التي قدّمها بها إحساس يصل بسهولة إلى قلوب الناس.
وقدم الموجي الكثير من الروائع الفنية لعدد من الأصوات النسائية، منها «اسأل روحك»، و»حانت الأقدار» لأم كلثوم، كما برع في الألحان الخفيفة التي قدمتها الفنانة سعاد حسني، منها «أنا لسة صغيرة»، و«منتاش قد الحب يا قلبي»، وللفنانة صباح مثل «الراجل دا هايجنني».
ووصفته كوكب الشرق أم كلثوم بأنه نهر لا يجف، فقد كان غزير الإنتاج، وشديد الثراء والتنوع في موسيقاه، وقدّم لعبدالحليم حافظ 88 لحنًا، منها «جبّار»، و«الليالي»، و«كامل الأوصاف»، و«رسالة من تحت الماء»، و«قارئة الفنجان»، وتغنى بألحانه أجيال من المطربين والمطربات في مصر والعالم العربي، منهم المطرب الكويتي مصطفى أحمد، الذي غنى من ألحان الموجي أغنية «هويتك» كلمات الشاعر مبارك الحريبي، في عام 1984. واكتشف الموجي عددًا من نجوم الغناء، أبرزهم الفنان هاني شاكر، وتعد أعماله من كلاسيكيات الموسيقى العربية.
عبدالناصر والسادات يمنحانه الميدالية البرونزية ووسام الاستحقاق
وتناول الموسيقار الراحل عمار الشريعي في برنامجه «غواص في بحر النغم» الكثير من ألحان الموجي بالشرح والتحليل، وقال: «إن الموسيقار محمد الموجي ذو موهبة قوية وهبها له الله تعالى وصقلها بالدراسة، موهبة تحمل في داخلها كل ما يحمله الشعب المصري من آمال وآلام وفرح وحزن، فهو ملحن مصري أصيل في ألحانه وتفكيره وتراثه الشرقي».
وحصل محمد الموجي على العديد من الجوائز والتكريمات، خلال مسيرته الإبداعية المتفردة، ومنحه الرئيس جمال عبدالناصر الميدالية البرونزية في عام 1965، ونال وسام الاستحقاق من الرئيس أنور السادات عام 1976، وحصل على شهادة تقدير من الرئيس حسني مبارك عام 1985، بالإضافة إلى أوسـمة ونياشين من ملوك ورؤساء عرب في مناسبات مختلفة.
ورحل الموسيقار محمد الموجي في أول يوليو عام 1995 بعد رحلة فنية غزيرة الإبداع أثرى خلالها مكتبة الموسيقى العربية بأعمال مزجت بين الأصالة والتجديد، ولاتزال تتردد حتى اليوم، وتعيدنا إلى زمن الفن الجميل.
تمنى والد محمد الموجي أن يصبح ابنه ناظراً للزراعة، فالتحق بمدرسة الزراعة المتوسطة، ومن خلال الأنشطة الفنية ظهرت موهبته في الموسيقى والغناء، واستطاع الموجي أن يحقق أمنية والده بعد تخرجه، وعُين ناظراً للزراعة في بلده، ورغم ذلك ظل العود رفيقاً له، وقرر أن يسافر إلى القاهرة.
وتزوج الموجى 8 مرات في حياته، نذكر منها الآتي: الأولى من ابنة عمه فهيمة الأمين، ومن المطربة سميرة فتحي، ثم تزوج من المطربة أحلام، بعدما لحن لها 10 أغانٍ، فوقع في حبها وتزوجها، لكن هذا الزواج لم يدم طويلا، وقد تزوج من المطربة سعاد مكاوي، وتزوج أيضاً من المطربة أميرة سالم، وكان زواجه الأخير من الفنانة وداد حمدي.
وكان قد نفذ وصية والده، وتزوج من ابنة عمه، ونشأت بينهما قصة حب عميقة، وعبّر عن هذا الحب بتلحين أغنية «لايق عليك الخال» تأليف الشاعر عبدالمنعم السباعي، وغناها عبدالحليم حافظ، وضربت السيدة فهيمة مثالاً رائعاً في الوفاء والحب لزوجها، وظلت بجانبه حتى اللحظات الأخيرة من حياته.
وقد رُزق الموجي بـ 6 أبناء، 3 أولاد و3 بنات، وهم: أمين وموجي ويحيى، وألحان وأنغام وغنوة، والأخيرة أستاذة بالمعهد العالي للموسيقى العربية بأكاديمية الفنون.
روى الملحن الموجي محمد الموجي أسرار والده في كواليس الفن والحياة حتى اللحظات الأخيرة، وقال الموجي الصغير: «لم يكن جدي مقتنعا بموهبة أبي في التلحين، ورغم أنه لحّن لعبدالحليم حافظ، فإنه قال له لن أقتنع بموهبتك حتى تلحن لأم كلثوم، إذا غنت من ألحانك وقتها فقط أقتنع بك كملحن، وبالفعل لحّن أول أغنية له مع أم كلثوم (نشيد الجلاء)، وهنا اقتنع جدي بموهبته، ويوم الحفل كان يحضره أعضاء مجلس قيادة الثورة، ومن بينهم جمال عبدالناصر، وكان جدي لم يقتنع بعد بخلع الطربوش (أحد مظاهر الحقبة الملكيّة)، رغم صدور قرار من عبدالناصر بمنعه بعد الثورة، فنظر لهم ناصر وقال: من هؤلاء الذين يرتدون الطرابيش؟، فرد أحد الحضور: إنهم عائلة الموجي أبوه وعمه، فسمح لهم عبدالناصر باستكمال الحفل.
وتابع الموجي الصغير: «كان والدي يقوم ببعض التعديلات على قصائد الشاعر نزار قباني، والأخير طلب منه تلحينها ليغنيها عبدالحليم، فمثلا قصيدة «قارئة الفنجان» كان يقوم بتعديل بعض المفردات التي لا يجوز قولها للجمهور، خصوصا في الغناء كعبارة «كلاب تحرسه وجنود»، وفي قصيدة «رسالة من تحت الماء»، كانت جميع النهايات ساكنة مثل «أشتاق، أعماق، يم، عوم» وهذا يرهق الملحن كثيرًا، ولا يسمح له باستكمال جملته الموسيقية، فأراد والدي أن يغيّر نزار نهايات الشطرات، لكنه رفض، وقال لعبدالحليم إن الموجي سيتلف القصيدة بتلك الطلبات، فطلب عبدالحليم من أبي أن يحاول تلحينها دون المساس بالكلمات أو تغيير السكون، فعبّر أبي عن الحرف الساكن بموسيقاه، للهروب من السكون واستغلها لحنيًا، فكان أفضل من يعبّر عن الموسيقى العربية وإحساسه بها عالٍ
وكشف الموجي الصغير تفاصيل الأيام الأخيرة في حياة «جواهرجي النغم»، وقال: «سبحان الله توفي والدي بنفس المرض الذي توفي به عبدالحليم، كانا توأمين في كل شيء حتى المرض، وتكرّر نفس السيناريو وظل ينزف حتى انتهت حياته، وكانت آخر أيام والدي بالمستشفى ولم نكن نتركه للحظة، وكان دائما يوصينا بأن نظل يدا واحدة أنا وإخوتي، خاصة أخي الصغير يحيى، فكان الأقرب لقلبه».
وعن وصيته الأخيرة قال: «طلب مني والدي إنجاز سيمفونية باسم محمد الموجي، ولكن تأليف سيمفونية يتطلب مبلغاً ضخماً، إلا أن أخي يحيى قام بجمع موسيقاه من أجل هذا الغرض، أو متتالية للألحان التي تصلح لسيمفونية عالمية، كلحن «جبار» و»نار» و»شباكنا ستايره حرير» و»الليالي»، ومع توليف كل ذلك تصبح سيمفونية عالمية باسم محمد الموجي، ولكن إنجازها يستلزم التفرغ سنوات».

جرب ميزات الذكاء الاصطناعي لدينا
اكتشف ما يمكن أن يفعله Daily8 AI من أجلك:
التعليقات
لا يوجد تعليقات بعد...
أخبار ذات صلة


الجريدة
منذ 6 أيام
- الجريدة
عبدالعزيز الصقر... أحد رجالات «وطن الطيبين»
نواصل في هذه الحلقة مع موسى معرفي «خواطر الزمن الجميل»، ويبدأها بحديثه عن أحد رجالات هذا الزمن، فيقول: منذ مدة تراودني الكتابة عن شخصية وطنية قيادية لن تعوّض في تاريخ الكويت، فقدته الكويت وترك وراءه فراغاً كبيراً ونحن في أشد الحاجة إليه هذه الأيام. العم العظيم والرجل الشهم، المرحوم عبدالعزيز حمد الصقر، كان شخصية ذات إنجازات كبيرة في تاريخ الكويت، في صغري كنت أروح إلى ديوان الصقر في الجبلة مع أعمامي في الزيارات المتبادلة أيام العيد. ومرت السنون وأنا في أيام شبابي منذ خمسين سنة، كما تسعفني الذاكرة، مررت في ذات مرة عليه في أحد مستشفيات لندن، حيث كان مريضاً حينها، وحينما دخلت عليه في الغرفة، وكنت أريد أن أعرّفه بنفسي فبادر أنت يا ولدي من عيال معرفي؟ .related-article-inside-body{min-width: 300px;float: right;padding: 10px 0px 20px 20px;margin-top: 20px;} . .related-article-inside-body .widgetTitle{margin-bottom: 15px;} .related-article-inside-body .widgetTitle .title{font-size: 16px;} .related-article-inside-body .flexDiv{display:flex;align-items:flex-start;justify-content:space-between;} .related-article-inside-body .flexDiv .articleBox{position: relative;} .related-article-inside-body . .articleBox{width:31%} .related-article-inside-body . .articleBox{width:48%} .related-article-inside-body . .articleBox{width:300px} .related-article-inside-body .layout-ratio{ padding-bottom: 60%;} .related-article-inside-body .layout-ratio img{ height: 100%;} .related-article-inside-body 700;font-size: 17px;line-height: 25px;padding: 10px 0px;display: block;text-decoration: none;color: #000;} .related-article-inside-body .date{font-weight: 400;font-size: 13px;line-height: 18px;color: #9E9E9E;} .related-article-inside-body .defaultView{margin-top: 20px;width: 100%;text-align: center;min-height: 250px;background-color: #D8D8D8;color: #919191;font-size: 18px;font-weight: 800;line-height: 250px;} @media screen and (max-width: 992px) { .related-article-inside-body{width: 100%;float: none;padding: 10px 0px;} .related-article-inside-body . .articleBox{width:100%} .related-article-inside-body 14px;line-height: 22px;} .related-article-inside-body .date{font-size: 12px;} } @media screen and (max-width: 768px) { .related-article-inside-body .flexDiv{flex-direction: column;} .related-article-inside-body .flexDiv .articleBox{margin-bottom:20px;} .related-article-inside-body . .articleBox{width:100%} .related-article-inside-body . .articleBox{width:100%} .related-article-inside-body . .articleBox{width:100%} } مرت السنون إلى ما قبل الغزو العراقي بسنتين، وكلت بإدارة الشركة الكويتية لبناء وإصلاح السفن من قبل الدولة، حيث آلت ملكيتها بنسبة 85 بالمئة للدولة، بعدما تعرّض سوق الأسهم للانهيار، وظلت ملكية عائلتي الراشد والصقر فيها، فتعرفت على المرحوم حمد عبدالله الصقر، يرحمه الله، وكان عضواً في مجلس الإدارة معي، وبالمناسبة كان يمرّ عليّ بين الحين والآخر، ليخبرني على حالات الوفاة، وكان حريصاً على أداء واجب العزاء في تلك الأيام قبل وفاته. دعاني المرحوم حمد الصقر لزيارة ديوانهم في ضاحية عبدالله السالم، وتعرّفت على العم عبدالعزيز عن قرب خلال تلك الزيارات، ومازلت أزور ديوانهم العامر إلى يومنا هذا. ديوان الصقر كان دائماً عامراً برجالات الكويت كان الديوان عامراً برجالات الكويت، إلّا أن زيارة أستاذي سليمان المطوع، يرحمه الله، كانت لها نكهة خاصة في غشمرته مع العم عبدالعزيز. خلال زياراتي للعم عبدالعزيز، كان في بعض الأحيان يقول: لي تعال أقعد يمّي، وكان يقص عليّ عن سنة المجلس، ويتطرق إلى الدور الذي قام به عمي أحمد محمد حسين معرفي في حل الخلاف، حيث كان عمي من أعز أصدقاء الشيخ أحمد الجابر، يرحمه الله، وكان يزوره يومياً في قصر السيف، وكان موضع ثقة شباب المجلس، فكان رسول السلام فيما بين الطرفين، كما سمعت هذا الكلام من أحد أبناء عمومتي، المرحوم عبدالمجيد عبدالله معرفي، يرحمه الله، الذي عمل في السفارة الكويتية في روما مع المرحوم خالد العدساني، حينما كان سفيراً هناك. أرجع إلى ما تعلمته من العم عبدالعزيز، يرحمه الله، خلال السنين التي كنت أزور ديوان الصقر حتى يوم مماته، يرحمه الله. والعم جاسم الصقر، يرحمه الله، الذي كان يخاطبني بكلمة «يا ابني». المهم في الأمر أنه كان يقص عليّ تاريخ مبادرات تجار الكويت في تأسيس الشركات العديدة، والتي لا أريد أن أطيل عليكم عنها. لكن من الطرائف كانت قصة تدشين أول ناقلة لشركة ناقلات النفط، فقال لي إنه كان رئيس مجلس إدارتها، وبنيت الناقلة في اليابان، وركبها من هناك إلى الكويت، وتحدث عمّا واجهوه من عواصف في المحيط الهادي، إلى أن وصلوا إلى الكويت، وما دعاه لذكر ذلك عندما كنت أتكلم معه عما يواجهه من يسافر بالطائرة من الكثير من مطبّات هوائية عند السفر إلى الشرق الأقصى. استمرت زياراتي لديوان الصقر، وأشعر براحة كبيرة في زياراتي لهم، وأتذكر لما توفي أخي العزيز وائل الصقر في حادث سيارة، كنت دائم التواجد خلال أيام العزاء الثلاثة، وكانوا يصرون أن أتغدى معهم في الديوان كل يوم. هناك الكثير من خواطر عن عيال الصقر، لكن السالفة طالت، ولكن لابُد أن أذكر أمراً مهماً تعلمته من العم عبدالعزيز، يرحمه الله، حيث قال عندما يكون الإنسان في موقع قيادي: «إذا عزمت فتوكل على الله، وإن حسمت فاستعن بالله، وان حزمت فاطلب العون من الله»... هذا مثال لرجالات الكويت الأولين. «الكرنتينه» مستوصف أنشأته المعتمدية البريطانية بفريج الشيوخ عام 1940 مهمته الأساسية الحجر الصحي في فريج الشيوخ الملاصق لفريج معرفي، أنشئ مستوصف في أكتوبر 1940 من قبل المعتمدية البريطانية، بالقرب من ديوان الشيخ صباح الناصر، وكانت مهمته الأساسية الحجر الصحي، وكانت تسمى (الكرنتينه). وكان يعمل فيه الدكتور Greenway والدكتور Easey اللذان جاءا من الهند. هذه مقدمة مختصرة عن الكرنتينه. بعد مدة فتح الدكتور Easey لنفسه عيادة خاصة في بيت الشيخ عبدالله الخليفة في فريج الجناعات، على فكرة، فإن الدكتور إيزي كان (إنجلو إنديا)، أي والده إنكليزي وأمه هندية، وعاش في فريج الجناعات لمده ما يقارب عشرين سنة، ثم انتقل إلى فريج الفهد بجانب مدرسه خالد بن الوليد، وكان يتحدث ثلاث لغات: الإنكليزية، والأردو، والفارسية. وتكونت صداقة بينه وبين والدي، حيث كان يأخذني وإخواني للعلاج لديه، حتى لما انتقل بعيداً عنا إلى فريج الفهد، كان د. إيزي ووالدي «يمونان» على بعض، وكانت نتيجة لتلك العلاقة الصراحة بينهما. ومن الأمور التي صارح والدي فيها ملاحظاته عن الجناعات، ويقول لوالدي إنهم مجموعة هو معجب بهم، وأنهم يختلفون عن باقي أهل الكويت، من حيث إنهم جماعة راقية في سلوكهم وآدابهم وتعليمهم، ذكوراً وإناثاً، وكان دائم الإشادة بهم. هذه شهادة لشخص عاش بيننا لمدة غير قصيرة، وكان معجباً بالجناعات. تعليقان على الخاطرة تسلّمت تعليقاً على الخاطرة من الأخ صبيح سامي السلطان، د. إيزي كان يسكن في ديوانية يوسف المطوع اللصيقة بمسجد العود بفريج وبراحة العود، والعود هو عبدالعزيز المطوع جد أغلب الجناعات، المتوفى حوالي عام 1890، وكان مسناً، وعندما يأتي العيد تجهز العيادة لتصبح ديوانية مرة أخرى وتستقبل المهنئين. ورأيت الراحل الشيخ عبدالله السالم يأتي إليها، وبعدها إلى ديوانية أبناء علي عبدالوهاب المطوع، ولم تكن ملكاً لعبدالله الخليفة الذي كان منزله مجاوراً للحسينية الجديدة. أتذكر د. إيزي كان أيضاً صديقاً لوالدي، ويجلسان معاً، وكان الأطفال يغنون عند بابه «إنجليزي بوتيله... مساء يموت الليلة»، فيخرج معتمراً قبعته ونظارته البيضاء، مبتسما ويوزع «الحلاو والجاكليت» على الأطفال. كل هذا أتذكره وبيدي أثر جرح قديم التهب وعالجه، يرحمه الله. وهذا تعليق تسلمته من الأخ ثابت المهنا، يقول: أحسنت... زوجتي بنت محمد عبدالإله الجناعي، الجناعات استانسوا من هذا الكلام الطيب، بالمناسبة عبدالإله الجناعي يعتبر أول طبيب بالكويت دارس في الهند، وعالج الشيخ سالم المبارك بعد عودته من حرب الجهراء، وأعطاه دكاناً عند كشك مبارك ومسجلة البيانات في الكشك. یا لیت تذكر عن هذا الموضوع. أكون لك من الشاكرين. تحياتي. من أوائل مستوصفات الرجال ذاك الذي أنشأه د. يحيى الحديدي عام 1940 وبعده مستوصف للنساء أسسه د. صلاح أبوالذهب الكويتيون والعمل في الطب تحدثت فيما سبق عن الداية، وتطرقت لقدوم د. يحيى الحديدي الذي وصل الكويت في نهايات 1940، وسكن في أحد بيوت آل معرفي، وولد ابنه د. صباح الحديدي في عام 1945 وهو من جيلي. افتتح مستوصفاً للرجال فور وصوله، حيث كان جاهراً في أحد بيوت الحاج إسماعيل محمد علي بن حيدر معرفي، وهو موقع وزارة التخطيط سابقا، مقابل المدرسة الجعفرية، في نفس السكة التي تطورت لشارع الخليج. وأتذكر المستوصف جيدا، لأن عمي مصطفى صادق كان «يطقنّي الإبر»، وهو مكون من حوش وعلى أطرافه غرف عديدة لكافة استعمالات المستوصف المتعددة. وبعد ذلك في عام 1941 جاء د. صلاح أبوالذهب، والقابلتان اللتان تذكرتهما وهيبة البابا وأمينة البيطار ثم صبحية العريس، التي ذكرتها من قبل، بعد أن فشل د. الحديدي في جلب دكتورة للنساء، فتولى الدكتور أبوالذهب هذه المهمة في بيت آخر على البحر صار مستوصفاً للنساء، وكان ملكاً للحاج إسماعيل معرفي كذلك. من أوائل الكويتيين والكويتيات الذين عملوا وتدربوا على يد الدكتورين، الملا يوسف الحجي ومصطفى صادق وحمود بورسلي وأحمد الدهيم وغيرهم لا تسعفني الذاكرة الآن لتذكرهم. ومن النساء عائشة الجماع وأختها فاطمة اللتان كانتا تسكنان في براحة مبارك، وماما سعيدة اللنقاوي جارتنا، التي سبق لي ذكرها. هؤلاء عملن في التمريض، وهناك سيدة أخرى كان اسمها مشكورة، والتي لا أعتقد أن هذا اسمها الحقيقي، بل لطيبتها سميت بذلك الاسم، ولها أخت كانت تعمل معها. هذه صورة في خيالي وكأنها يوم أمس. الملا... عابدين بن باقر كان سوق التجار يمتد إلى البهيئة شمالاً التي كانت مقابل قصر السيف، وهو تكملة للسوق الذي تمت إعادة بناء جزء منه من المباركية إلى مسجد السوق الكبير الموجود حالياً. وكان هناك امتداد جنوبي للسوق يؤدي إلى سبيل وسوق بن دعيج والأسواق الأخرى. الذي أتذكره أنه تم هدمه من الجانبين في وقت مبكر، وأنا متحسّر على ذلك، وأقيم محله شمالاً المنطقة التجارية الموجودة حالياً. عندما كنا صغاراً أتذكر أنني كنت أذهب في ذلك الوقت إلى «كاركة» بيت جمال من خلال ذلك السوق، وكان العم الحاج إسماعيل جمال، يرحمه الله، متواجداً هناك، حيث كان والدي يبعثني لأشتري منه أنواع الحلوى و«الهردة» للبيت. خلف «الكاركة» كانت هناك سكة تؤدي إلى عيادة الدكتور جوب، في طرف قيصرية عبدالله السالم، وهو هندي الجنسية، قدم إلى الكويت في مطلع الأربعينيات، وكان شائعاً أنه لم يكن يحمل شهادة في الطب، لكن كانت لديه خبرة في صرف أدوية العلاج، حيث تعلم ذلك حينما عمل في المستشفى الأمريكاني قبل ذلك. وبالقرب من عيادته، كانت مدرسة الملا عابدين بن باقر، الذي كان مقرباً من الشيخ مبارك الصباح، والذي أشار عليه بوضع مقولة للإمام علي عليه السلام على بوابة قصر السيف، التي كتبها بخط يده، ومازالت موجودة حتى اليوم «لو دامت لغيرك ما اتصلت إليك». وهو الشاعر المعروف الذي كان يكتب القصائد باللغتين العربية والفارسية، وأرخ تاريخ إنشاء حسينية معرفي عام 1904 بقصيدة بالعربية وأخرى بالفارسية، معلقتين في الحسينية. «لو دامت لغيرك ما اتصلت إليك» عبارة كتبها الملا عابدين بن باقر بخط يده على بوابة قصر السيف بو بدر، ما يحزنني أن هذا الشاعر الكبير والأديب القدير ملا عابدين المولود في الكويت 1865، وتوفي في الكويت 1985، لا يوجد حتى اليوم شارع أو مدرسة أو مكتبة باسمه ليش؟ ما السبب؟ شيء يحير. عبقرية تبحث عن تخليد ذكرت في نهاية خاطرتي السابقة لمحة بسيطة عن الشاعر الكويتي الملقب بذي الرياستين الملا زين عابدين، وعلى أثر تلك الخاطرة وصلتني التفاصيل التالية من أحد الإخوة أعرضها كما وصلتني: الشاعر الكويتي الملا عابدين بن حسن بن باقر الجهرمي، تواجد آباؤه في الكويت منذ بداية القرن التاسع عشر، رزق موهبة الشعر والأدب والفن منذ طفولته بعد دراسته في الكتاب (الملا) بنى نفسه وطور موهبته في بيئة فقيرة بهذه العلوم، تكاد تكون الكتب نادرة ومصادر الثقافة غير معروفة، لكنه كان فلتة من فلتات الزمن، انبثق في زمن وفي مجتمع لا يقيم وزناً للمواهب الربانية لانشغالهم في البحث عن لقمة العيش، كما ظلم إيضاً في زماننا، فلم يحفظ إنتاجه الشعري والثقافي. وبعد وفاته، أتلفت العديد من كتبه التي كان يسافر للهند لطباعتها، وكان يكتب جميع كتبه بخط يده فتطبع بذات الخط، وهو خطاط لا يضاهيه كثير من الخطاطين المعاصرين، ويجيد فنوناً مثل رسم طائر على ورقة مطوية عند فتحها تكون عبارات مثل «إن تنصروا الله ينصركم»، وكان يجيد اللغتين العربية والفارسية، يكتب بهما الشعر ومواضيع الثقافة، حتى سُمّي (ذو الرياستين) على اللغتين. لقد قصّر جيلنا المتعلم في حق هذا النابغة، وأنا شخصياً أتحسر علی ضیاع تراث متنوع تركه الملا عابدين وأهمله هذا الجيل، فكان ينبغي تكريمه بحفظ نتاج عبقريته، وإحياء تراثه، وليس بإطلاق اسمه على شارع. مازالت العديد من بقايا كتبه يقتنيها بعض الأفراد، يمكن جمعها منهم وإعداد دراسة عن فن وشعر وثقافة الملا عابدين، وعن سيرة حياته التي تشكل تاريخ الكويت ومناطق الخليج والسعودية وعمان، وعربستان خاصة تحت حكم الشيخ خزعل. لا شك في أن هناك رغبة من الكثيرين للقيام بذلك، والأمر يحتاج إلى فريق متخصص ومتحمس من المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب لطباعتها. الملا عابدين «ذو الرياستين» كان ينظم القصائد بالعربية والفارسية تفاعلاً مع الحديث عن الملا عابدين كتب الأخ عبدالمحسن تقي مظفر لمحة بتوسع عن الشاعر أنقلها من موقع آخر: الشاعر ملا عابدين كان يلقب بذي الرياستين، لأنه كان يجيد الكتابة باللغتين العربية والفارسية، وهو الشاعر الملازم للشيخ مبارك الصباح فترة طويلة من الزمن، وله في مديحه ومديح الشيخ خزعل (أمير المحمرة) الكثير من القصائد، وهو الذي كتب أو اقترح كتابة الحكمة المشهورة «لو دامت لغيرك ما اتصلت إليك» على بوابة قصر السيف في زمن الشيخ مبارك. يقول عنه الصحافي المصري عبدالمسيح أنطاكي (صاحب صحيفة العمران المصرية)، الذي قابله في يناير 1908 بالكويت ما يلي: «... هو كهل من نجباء العرب... وهو شاعر أميرنا، الشيخ المبارك حضرة الأستاذ العلامة الحاج عابدين ابن الحاج حسن الكويتي. ووجدته واسع الصدر علماً وأدباً وذكاء ونباهة...». وكثير من قصائد عابدين وعبدالمسيح أنطاكي نشرت في مجلد كبير بعنوان «الرياض المزهرة بين الكويت والمحمرة»، وكانت لديّ نسخة نادرة منه أعطيتها لأخي العزيز الشاعر المرحوم خالد مسعود الزيد، الذي كتب عن الملا عابدين في كتابه «أدباء الكويت في قرنين». ومن الإنصاف ألا ننسى هذا الشاعر العظيم ذا الرياستين، وأن تسمى باسمه مدرسة أو شارع أو مؤسسة أخرى. ومن طريف أقواله التي أذكرها منذ صغري: «إن الأناكير ساعت بعد أن سبزت واستشرنت بعد أن كانت تراشيشا» ومعناها: «إن الأعناب اسودت بعد أن اخضرت، واحلوت بعد أن كانت حامضة». والملا عابدين كان فنانا جميل الخط، ومن المؤسف أن عدداً كبيراً من كتبه المخطوطة بيده دفنت جهلاً، بعد وفاته في بئر أحد المزارعين الذين كانوا يزرعون الخضراوات، مثل البربير والرويد والطماطم والجزر في الأرض القريبة من بيته في منطقة شرق. شاعر بديع هذا البيت من قصيدة فريدة من نوعها باللغتين، وهي خلطة من كلمات اللغتين العربية والفارسية، هذه قصيدته في تاريخ حسينية معرفي عام 1904 واحدة بالعربية والأخرى بالفارسية. ويعقب: «هاتان المقولتان كان يرددهما أهل الكويت في ذلك الوقت، وقتها كانت الكويت والزبير والبصرة تشكّل مثلثاً فريداً». ويضيف: «سفرتي الأولى إلى البصرة كانت مع عائلتي عن طريق البر بالسيارة عام 1953، وكان عمري 8 سنوات، وكان الطريق ترابياً، واستأجرنا سيارة سوداء اللون، من نوع فورد، مع حجي ياسين غلوم، وهو من أقارب الأستاذ عبدالصمد التركي، والد المؤلف المسرحي عبدالأمير التركي. عندما نصل إلى صفوان في منتصف الطريق إلى البصرة، تقع الزبير على اليسار وسكنتها الكثير من العائلات النجدية، وكان أبناؤهم يذهبون للبصرة للدراسة، ومنهم من أكمل الدراسات الجامعية في بغداد، ومع ظهور النفط نزحوا إلى الكويت والسعودية. تكمل السفرة باتجاه البصرة، وتصلها بعد 6 ساعات من الكويت أو أكثر. بداية نصل إلى العشار التي كانت تبهرنا بعماراتها من الأجر، ونحن كنا نعيش في بيوت من الطين بالكويت، ونكمل السير لتدخل البصرة التي تشقها شط العرب، وعلى جوانب الشط كانت عمارات من طابقين وثلاثة، وكانت تبهرنا بشناشيلها الحلوة. نسيلها الحلوة. تنزل في خان، أو كما يسمونها أحيانا بالمسافرخانة، أي فندق، وهو خان الحكاك، ونتجول في بساتين النخل، وتتريق القيمر والخبز ونتغدى ونتعشى ونتمشى على جانبَي الشط. ومع مرور السنوات، تم تبليط الطريق من قبل شركة مساعد الصالح في أوائل الستينيات. سفرتنا الثانية كانت على أول طائرة للخطوط الكويتية، واسمها كاظمة عام 1954، وكانت من مطار النزهة إلى البصرة، واستغرقت 20 دقيقة، وذلك في العهد الملكي، وقبل ثورة 14 تموز 1958، واستمررنا بالتردد كما كان الكثير من الكويتيين عن طريق البر بعد تبليطه. كان في البصرة الكثير من البيوت وبساتين النخل، في أغلبها وإن لم تكن كل بساتين أبوالخصيب إلى الفاو بالذات، أملاك كويتية هجرت بعد مطالبة عبدالكريم قاسم بالكويت، وهي مازالت أملاكهم حتى الآن». ويختتم بأن هذه ذكريات في بال أهل الكويت عندما كانوا يسمّون البصرة بـ «سويسرا المنطقة» بعد سفراتهم إلى أوروبا.


الجريدة
٢٩-٠٤-٢٠٢٥
- الجريدة
عبدالعزيز السريع... في كتاب جديد (2)
في المقال السابق تناولنا كتاب الإعلامي أمجد زكي عن كاتبنا المسرحي عبدالعزيز السريع الذي حاول تغطية مختلف جوانب حياة وعطاء «أبو منقذ» الأدبية، وبخاصة مساهماته البارزة والمؤسسة في الكتابة المسرحية. وفي الأسطر التالية نكمل تحليلنا لذلك الكتاب، حيث يفرد الكاتب أمجد زكي فصلاً للنقاد، كما أشرنا، منهم الباحث الكبير في الإنتاج الثقافي الكويتي أ. د. محمد حسن عبدالله. ويقول د. عبدالله إن «السريع» أغزر كتاب المسرحية في الكويت إنتاجاً... بالعمق الذي تبلغه شخصياته. إنه أول من كتب المسرحية الفنية في الكويت». [ص 110] في الطبعة الثانية من كتابه «الحركة المسرحية في الكويت»، يخصص الفصل الثامن لمسرح «الخليج العربي»، الذي يصفه بأنه المسرح الوحيد الذي لم يعتمد في تأسيسه على جهود أفراد تمرسوا بالعمل المسرحي بقدر ما اعتمدوا على حماسة مجموعة من الشباب الهواة، الذين جمع بينهم حب المسرح والرغبة في التثقيف، وقد أسس هذا المسرح في 15/5/ 1963» [الحركة المسرحية في الكويت، د. محمد حسن عبدالله، ص 121] وعن مسرحية «الأسرة الضائعة» من وضع عبدالعزيز السريع يقول إنها المسرحية الوحيدة التي شارك السريع بالتمثيل فيها. ويضيف د. عبدالله أن المسرحية عرضت لمدة تسع ليال، «ويمكن اعتبار هذه المسرحية بداية الأسلوب الجاد الذي التزمه مسرح الخليج بعد ذلك... وفيها ظهر محمد المنصور لأول مرة». [نفس المرجع، ص 123] .related-article-inside-body{min-width: 300px;float: right;padding: 10px 0px 20px 20px;margin-top: 20px;} . .related-article-inside-body .widgetTitle{margin-bottom: 15px;} .related-article-inside-body .widgetTitle .title{font-size: 16px;} .related-article-inside-body .flexDiv{display:flex;align-items:flex-start;justify-content:space-between;} .related-article-inside-body .flexDiv .articleBox{position: relative;} .related-article-inside-body . .articleBox{width:31%} .related-article-inside-body . .articleBox{width:48%} .related-article-inside-body . .articleBox{width:300px} .related-article-inside-body .layout-ratio{ padding-bottom: 60%;} .related-article-inside-body .layout-ratio img{ height: 100%;} .related-article-inside-body 700;font-size: 17px;line-height: 25px;padding: 10px 0px;display: block;text-decoration: none;color: #000;} .related-article-inside-body .date{font-weight: 400;font-size: 13px;line-height: 18px;color: #9E9E9E;} .related-article-inside-body .defaultView{margin-top: 20px;width: 100%;text-align: center;min-height: 250px;background-color: #D8D8D8;color: #919191;font-size: 18px;font-weight: 800;line-height: 250px;} @media screen and (max-width: 992px) { .related-article-inside-body{width: 100%;float: none;padding: 10px 0px;} .related-article-inside-body . .articleBox{width:100%} .related-article-inside-body 14px;line-height: 22px;} .related-article-inside-body .date{font-size: 12px;} } @media screen and (max-width: 768px) { .related-article-inside-body .flexDiv{flex-direction: column;} .related-article-inside-body .flexDiv .articleBox{margin-bottom:20px;} .related-article-inside-body . .articleBox{width:100%} .related-article-inside-body . .articleBox{width:100%} .related-article-inside-body . .articleBox{width:100%} } ومن نجوم التمثيل المسرحي الذين ظهروا لأول مرة في «عنده شهادة» 18/12/1965 الفنانة القديرة سعاد عبدالله، نجمة مسرح الخليج» [ص 125]. وكانت المسرحية تقوم على عشر شخصيات بينها خمس نساء. ويبين عرض د. حسن عبدالله مدى ما عبر المؤلف عبدالعزيز السريع عن مشاعر الجمهور من خلال حديثه عن مسرحيات «مسرح الخليج العربي» فنرى أن «الأسرة الضائعة» عرضت لمدة تسع ليال، و«لمن القرار الأخير» والتي أخرجها ومثل فيها كل من صقر الرشود ومنصور المنصور، وظهرت في ديسمبر 1968 عرضت لمدة ست ليال. وتتفاوت مسرحيات السريع الأخرى في فترة العرض، مثل «الدرجة الرابعة» التي عرضت في دمشق وبغداد والقاهرة وعرضت في الكويت لثلاث ليال. ومن المسرحيات التي عرضت لفترات أطول «ضاع الديك» و«شياطين ليلة الجمعة». وكان «مسرح الخليج العربي» كما هو مفهوم قد «أسس بإرادة حرة، دون إشراف أو امتيازات من وزارة الشؤون، أو أي جهة حكومية». [نفس المرجع، ص 134] ويصف د. محمد مبارك بلال، الناقد الأكاديمي المعروف في هذا المجال مسرح «السريع» بــ «المسرح التنموي»، حيث إن السريع، يضيف د. بلال، يمثل «الاتجاه الأكمل الأكثر فنية للمسرح التنموي». وقد وصف النقاد مسرحية «الجوع» بأنها تشكل «صفحة جديدة وانعطافاً جديداً في تاريخ المسرح الكويتي». [عبدالعزيز السريع، أمجد زكي، ص 118]. وقد نالت مسرحية «ضاع الديك» الكثير من الثناء من النقاد عند عرضها في المغرب. غير أن البعض يرى أن هذه المسرحية «قدمت بعض مشاكل الإنسان في الكويت، لكنها لم تسلط الأضواء على مسبباتها». [زكي، ص 119] يلاحظ المؤلف، أمجد زكي، أن السريع قد تبنى مسرح «القضية الاجتماعية». ويعلل هذا الاهتمام بأنه أراد تقديم مسرح «أقرب إلى الناس وألصق بهمومهم وأفراحهم وتقاليدهم وتراثهم». ويضيف زكي أن «السريع» يعتبر هذه المدرسة الأقدر على تغيير الناس والتعبير عن مكنوناتهم. ومثلما غاصت أعمال السريع المسرحية في الواقع الاجتماعي وبحثت قضاياه، فإن قصصه القصيرة تناولت الهموم الاجتماعية منذ ظهور أول هذه القصص في صحيفة «الهدف» عام 1964. ومن الذين أشادوا بدور ومكانة الأستاذ عبدالعزيز السريع الدكتور محمد غانم الرميحي الذي يعتبر ثقافة السريع «موسوعية». أما في مجال المسرح، يضيف د. الرميحي، فهو «حجة». ولهذا امتدت مساحة دوره وعطائه للمحيط العربي وامتداداته، «فهو عضو في لجنة تحكيم أو مشارك في ندوة». ويشير د. الرميحي إلى مجال ثقافي بحاجة إلى مقال أو مقالات وهو دوره في إصدارات مؤسسة البابطين للإبداع الشعري. ومن يعرف جودة هذه الإصدارات والفراغ الذي سدته بعض هذه الموسوعات الشعرية، «يعرف قدرة عبدالعزيز السريع التنظيمية في المتابعة والاهتمام بالتفاصيل». [ص 160] وهذا ما يؤكده د. علاء الجابر كذلك في شهادته لدور السريع في تنفيذ مشروع معجم البابطين للشعراء العرب المعاصرين، حيث «كان العم (بو منقذ) في حقيقة الأمر، العقل المنفِّذ له بتراتبية، حيث كنت من أوائل العاملين في أول انطلاق المشروع إلى جانب عملي في المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب». [كتاب عبدالعزيز السريع، أمجد زكي، ص 256]. ختاماً، لا يمكن اختصار كل عطاء السريع في مقال مهما طال، وقد أصدر الأستاذ أمجد زكي كتابه الأول قبل سنوات عن السريع بعنوان «عبدالعزيز السريع... ملامح في رحلة الاحتفاء والتكريم» لصالح هيئة الفجيرة للثقافة والاعلام، بدولة الإمارات العربية المتحدة... وهذا كتابه الثاني. شكراً للأستاذ عبدالعزيز السريع وهذا العطاء في مختلف المجالات المسرحية والأدبية والثقافية، وشكراً للجهد التوثيقي والتحليلي الذي بذله الأستاذ أمجد زكي.


الجريدة
٢٥-٠٣-٢٠٢٥
- الجريدة
بيرم التونسي... فيلسوف الشعر الغنائي (2 - 3)
وهوت عاصفة أشد وطأة، برحيل والده الشيح محمد الحريري، وتضاعف شعور الصبي بالحزن والتعاسة المبكرة، ولم يترك الأب الراحل للأم والأخت والابن سوى المنزل الذي يعيشون فيه، واستولت زوجة أبيه على ثروته لحظة موته، وقُدرت بخمسة ألاف جنيه ذهبا، واستولى أبناء عمه على تجارة أبيه. وفي خضم تلك الدوامة من الأحداث الدراماتيكية، انقطع بيرم عن الدراسة، وعمره لا يتجاوز الثانية عشرة، وأصبح في مفترق طرق، بين التشرد وتحمل مسؤولية أسرته، واضطر لأن يعمل صبيًا في محل بقالة، إلا أنه لم يستمر في هذا العمل طويلًا، وطرده صاحب المحل، ووقتها تزوجت أمه، والتحق بيرم بالعمل مع زوج والدته في عمله الشاق بصناعة هوادج الجِمال، واكتملت دائرة أحزانه في عام 1910 برحيل أمه. وفي مذكراته روى بيرم تفاصيل حياته البائسة بعد رحيل أمه، قائلًا: «ابتدأت حياة من الضياع، فقد انتقلت للإقامة مع أختي لأبي المتزوجة من خالي، وكانت تعُد عليّ الأنفاس والحركات والسكنات وتضيق ذرعًا بأية خدمة تؤديها لي». .related-article-inside-body{min-width: 300px;float: right;padding: 10px 0px 20px 20px;margin-top: 20px;} . .related-article-inside-body .widgetTitle{margin-bottom: 15px;} .related-article-inside-body .widgetTitle .title{font-size: 16px;} .related-article-inside-body .flexDiv{display:flex;align-items:flex-start;justify-content:space-between;} .related-article-inside-body .flexDiv .articleBox{position: relative;} .related-article-inside-body . .articleBox{width:31%} .related-article-inside-body . .articleBox{width:48%} .related-article-inside-body . .articleBox{width:300px} .related-article-inside-body .layout-ratio{ padding-bottom: 60%;} .related-article-inside-body .layout-ratio img{ height: 100%;} .related-article-inside-body 700;font-size: 17px;line-height: 25px;padding: 10px 0px;display: block;text-decoration: none;color: #000;} .related-article-inside-body .date{font-weight: 400;font-size: 13px;line-height: 18px;color: #9E9E9E;} .related-article-inside-body .defaultView{margin-top: 20px;width: 100%;text-align: center;min-height: 250px;background-color: #D8D8D8;color: #919191;font-size: 18px;font-weight: 800;line-height: 250px;} @media screen and (max-width: 992px) { .related-article-inside-body{width: 100%;float: none;padding: 10px 0px;} .related-article-inside-body . .articleBox{width:100%} .related-article-inside-body 14px;line-height: 22px;} .related-article-inside-body .date{font-size: 12px;} } @media screen and (max-width: 768px) { .related-article-inside-body .flexDiv{flex-direction: column;} .related-article-inside-body .flexDiv .articleBox{margin-bottom:20px;} .related-article-inside-body . .articleBox{width:100%} .related-article-inside-body . .articleBox{width:100%} .related-article-inside-body . .articleBox{width:100%} } زوجة أبيه تستولي على 5 آلاف جنيه ذهباً بعد رحيله وانطبع هذا الشعور بالغُبن على شخصية بيرم في صباه، لكنه قاوم تلك الانكسارات المتتالية، ووجد ضالته في الفن، وبدأ في كتابة أولى محاولاته الشعرية، وأصبح القلم والورقة أقرب إليه من أي شيء آخر، وتفتح وعيه مبكرًا، وزاد شغفه بالقراءة في شتى مجالات المعرفة، واجتمعت لديه خبرات متراكمة، وبمرور الوقت التأمت جراحه، وتحولت إلى ندوب لا يراها أحد سواه. بحث بيرم عن الاستقرار بعد موجات متلاطمة من التعاسة، واستطاع أن يؤجر محل بقالة، وكلف شقيقته الكبرى بالبحث له عن زوجة من أسرة طيبة، وتزوج في عمر السابعة عشرة من ابنة تاجر عِطارة، تُدعى «نبوية» وعاش معها في غرفة ببيت أبيها، ولكن تجارته كسدت تحت وطأة الضرائب الباهظة، التي فرضها الاحتلال البريطاني ـ آنذاك ـ فأغلق المحل رغمًا عنه، إلا أنه لم يستسلم لذلك، فباع المنزل الذي تركه له أبوه، وعمل في تجارة السمن من ثمن المنزل، واشترى بباقي النقود بيتًا صغيرًا في حي الأنفوشي بمدينة الإسكندرية. وأنجب بيرم من زوجته «محمد ونجيبة»، وبعد ست سنوات زواج رحلت الزوجة، وداهمه الحزن مجددًا، وحار الأب مع الطفلين، ولم يعرف كيف يعاملهما، ويلبي طلباتهما في المنزل، واضطر بيرم للزواج مرة أخرى بعد 17 يومًا من موت زوجته الأولى، وأنجب من زوجته الثانية «صبرية ومحي الدين وأيمن». سنوات المنفى كانت حياة بيرم التونسي مليئة بالغرائب والعجائب، لكن قصته مع المنافي، كانت الأكثر إثارة، وبدأت بكتابته سلسلة من القصائد الزجلية، هاجم فيها الملك فؤاد وأسرته والاحتلال البريطاني، وصدر الأمر بإبعاد الشاعر المشاغب من مصر، ونفيه إلى وطن أجداده في تونس يوم 25 أغسطس عام 1920، وكان سبب الإبعاد غضب الملك فؤاد عليه بسبب قصيدته «البامية الملوكي والقرع السلطاني»، وبتوصية من زوج الأميرة فوقية ابنة الملك فؤاد، الذي انتقده بيرم في مقال تحت عنوان «لعنة الله على المحافظ» وكان وقتذاك محافظًا للقاهرة. وفور وصوله إلى تونس، بحث بيرم عن أهل أبيه، لكنهم رفضوا مساعدته، وحاول الاتصال ببعض الكُتّاب التونسيين للاشتراك معهم في إصدار صحيفة، لكن الإدارة التونسية كانت تضعه تحت المراقبة منذ وصوله، باعتباره مشاغبًا، وسرت أخباره بين العامة والمثقفين على حد سواء، وأنه ينتمي إلى عائلة أصلها تركي، وأحد الثائرين في مصر ضد الاحتلال البريطاني. الشاعر المنفي يفقد لقب «التونسي» في موطن أجداده وفقد الشاعر المنفي لقب «التونسي» في موطن أجداده، وترسخ في الأذهان أنه تركي، وروى بيرم أنه حينما كان يعود من جولته اليومية إلى الفندق الذي ينزل فيه يقول مديره للخدم: «أعطوا التركي مفتاح غرفته ليرقد». وأخفقت محاولات بيرم في ممارسة أي نشاط صحافي أو سياسي طوال فترة إقامته، وسمحوا له بالأعمال التي تحتاج قوة بدنية، فاشتغل في بعض المحلات التجارية، ثم اكتشف أن البوليس بدأ يضيّق عليه الخناق، ويتتبعه في كل مكان يذهب إليه، فقرر الرحيل من تونس بعد أربعة أشهر فقط. الرحيل إلى فرنسا وسافر بيرم على باخرة إلى فرنسا، ووصل إلى ميناء مارسيليا، ومكث هناك ثلاثة أيام، انتقل بعدها إلى باريس، شعر فيها بقسوة الغربة، وعانى من الصقيع وشدة البرد، واكتشف أن ذلك لا يعطل الناس عن الاستيقاظ مبكرين والتوجه إلى أعمالهم، فكتب قصيدة يسجل فيها إعجابه بنشاط الشعب الفرنسي، ويبث شجونه عن وطنه المحتل في ذاك الوقت، تقول أبياتها: «الفجر نايم وأهلك يا باريس صاحيين، معمرين الطريق داخلين على خارجين، ومنورين الظلام راكبين على ماشيين، بنات بتجري وياما للبنات أشغال، وعيال تروح المدارس في الحقيقة رجال، ورجال ولكن على كل الرجال أبطال، ولسة حامد وعيشة وإسماعين نايمين». أخفق الشاعر المنفي في الحصول على عمل في باريس، ونصحه بعض المغتربين بالسفر إلى مدينة ليون، ووصفها بيرم في مذكراته، بقوله: «سعيت بنفسي إلى مدينة صناعة الصلب في فرنسا، تلك المدينة التي لأهلها قلوب مثل الصلب لا تعرف الرحمة أو الشفقة، وهي أيضًا مدينة مشهورة عند الفرنسيين أنفسهم بأنها مدينة معتمة... وصلت لهذه المدينة في عز الشتاء، ولأن جيوبي كانت شبه خاوية، فقد أخذت المسألة من أقصر طرقها، وذهبت إلى أفقر أحيائها، واستأجرت فوق سطوح أحد المنازل شيئًا يسمونه حجرة، كانت من الخشب الذي حولته مياه الأمطار إلى مكان له رائحة من نوع خاص، إنها رائحة قريبة من العفن، وداخل تلك الثلاجة كنت أنام الليالي القاسية البرودة، وفي النهار كنت أسعى مع الفجر في البحث عن عمل قبل أن يتبخر آخر مليم في جيبي». «البامية الملوكي» تتسبب في نفي الشاعر المشاغب خارج مصر وعاش بيرم في ليون، تلاحقه الكوابيس، وقسوة الاغتراب، وعمل في أحد مصانع الحديد والصلب، لكنه تركه بعد أن سقطت على فخذه قطعة حديد ضخمة، واستطاع أن يحصل على شهادة حُسن سير وسلوك، ولكونه غريبًا لم يستطع الحصول على عمل آخر، فهي مدينة لا تحبذ اشتغال الأجانب، وبات يطارده شبح الجوع والبطالة. وروى بيرم تجربته مع الجوع: «كنت أثناء الجوع أمر بمراحل لا يشعر بها غيري من الشبعانين، كنت في البداية أتصوّر الأشياء واستعرضها في ذاكرتي، هذا طبق فول مدمّس، وهذه منجاية مستوية، وهذه يا ربي رائحة بُفتيك تنبعث من عند الجيران، ثم أصل بعد ذلك إلى مرحلة التشهي، أثناءها تتلوى أمعائي، ويبدأ المغص، ويطوف الظلام حول عيني، وأتمنى من الله أن ينقلني إلى الآخرة فهي أفضل من هذا العذاب الأليم، وأخيرًا تبدأ مرحلة الذهول وخفة العقل، فأطيل النظر إلى اللحاف الذي يغطيني، وتحدثني نفسي أن أكل قطنه أو أبحث عن بذرة للغذاء تحتوي على زيوت، وكان لا ينقذني من تلك الحال سوى معجزات، عندما أنهض كالمجنون أبحث في كل أركان الحجرة عن أي شيء فأعثر بالصدفة على كسرة خبز أو بصلة مهجورة». الوظيفة القاتلة وكان بيرم يتمتع بقوة جسمانية، حمته من الموت جوعًا، وبعد معاناة عثر على وظيفة في شركة المنتجات الكيماوية العالمية، لكن هذا العمل يحتاج إلى قدرة على تحمل الغازات الخانقة، ومقابل تلك الوظيفة القاتلة، منحوه 20 فرنكًا في اليوم. وذاق مرارة الشقاء اليومي، وساءت صحته إلى حد كبير، وأصيب بأمراض الرئتين، وسيطرت عليه الكآبة، وضلت الابتسامة طريقها إلى وجهه.