
من تهجير غزة إلى دفن الدولة الفلسطينية: مشهدية الهزيمة أم فرصة للتحول؟
تحوّل استراتيجي في العقيدة الصهيونية:
من إدارة الصراع إلى حسمه
التحولات الآخذة في مزيد من التطرف، سواء في تل أبيب أو في البيت الأبيض، ليست استثناءً، بل تشكّل امتدادًا لبنية الفكرة الصهيونية التي قامت على إلغاء وجود الفلسطيني شعبًا وأرضًا. إلا أن ما يحدث اليوم هو انتقال نوعي من إدارة الصراع إلى حسمه عبر التدمير الشامل لغزة والضمّ الزاحف للضفة. إنهم يسابقون الزمن لفرض واقع لا عودة عنه، مستندين إلى انشغال العالم بأزماته، وإلى عجز فلسطيني داخلي يمنحهم نافذة وفرص مناورة إضافية.
الانقسام الفلسطيني:
شرعية مهزوزة وقيادات منفصلة عن الشعب
في الجانب الفلسطيني، يظهر المشهد أكثر قتامة. فهناك من يقدّم نفسه حاكمًا لغزة بقرار أميركي، بما يشكّله ذلك من استقواء بالخارج، ومن إقصاء للإرادة والقرار والكرامة والحق الفلسطيني في اختيار قيادته كمكوّن أساسي من حقه في تقرير مصيره. فيما تُصدر السلطة مراسيم فوقية، تارةً لما يسمى انتخاب مجلس وطني جديد وفق شروط وتوقيت لا تفضي سوى لإقصاء شركاء الوطن، وتارةً لتشكيل لجنة دستور من لونٍ واحد لا تعكس تنوع الطيف السياسي ولا الاجتماعي. هذا في وقت يتعرض فيه الشعب لواحدة من أبشع حملات الإبادة والتطهير العرقي والاقتلاع. النتيجة مشهدية لا تعكس سوى عجز القيادات والنخب المتحكمة في المصير الوطني، وانفصالها عن نبض الناس وتضحياتهم.
جذور الأزمة:
استعمار إحلالي وفشل المسار السياسي
يعود هذا المشهد إلى طبيعة بنية الفكرة الصهيونية، سيّما الاستعمار الاستيطاني الإحلالي الذي يرى الأرض "خالية سياسيًا"، ويستهدف نزع الفلسطيني من المكان والسردية معًا. كما أن فشل تسوية مسار أوسلو، وما أنتجه من قدرة على تحويل "المرحلي" إلى دائم، ومن ثم تكريسه، ومن تجزئة الأرض والشعب والقرار، إلى تطبيع إدارة الاحتلال بدل تفكيكه. هذا بالإضافة إلى انتقال حكومة الاحتلال من الردع إلى عقيدة التدمير الشامل، أو من "جزّ العشب" إلى سياسة "كسر المجتمع" عبر الحصار والتجويع وتدمير المقومات المدنية. يأتي ذلك كله في سياق ثغرات بنيوية خطيرة في الحالة الفلسطينية، حيث شرّع الانقسام الأبواب لفتح شهية الاحتلال نحو الضم والتصفية، كما أدى إلى اهتزاز طبيعة وشرعية التمثيل، سيّما في ظل انشغال النخب الحاكمة في الصراع الداخلي على حساب مشروع التحرر الوطني، حيث بات القرار الوطني يُصنع في الغرف المغلقة، وتُدار المؤسسات بمراسيم بدلاً من التوافق والانتخابات والمساءلة.
المطلوب فلسطينيًا:
استنهاض وطني وقطع الطريق على مشاريع التصفية
أمام هذا المشهد، المطلوب أولًا استنهاض مجمل الطاقات الوطنية لوقف الإبادة وحماية المدنيين، عبر توحيد الجهود القانونية والسياسية والحقوقية، وتفعيل أدوات الضغط على الاحتلال في المحاكم الدولية وفي مؤسسات المجتمع المدني العالمي. ثانيًا، تحصين المجتمع من التهجير بإعادة الأمل للناس وفق رؤية واقعية قابلة للتطبيق، تشكّل أداة مضادة لمحاولات شطب الوجود الفلسطيني. وفي السياق ذاته، لا بد من وقف منح الشرعية للإجراءات الأحادية: لا لجنة دستور أحادية، ولا حكم مفروض من الخارج. إن مستقبل غزة والضفة والقدس لا يُحسم في العواصم الأجنبية ولا في المراسيم الفوقية، بل في عقد اجتماعي جديد يقوم على التوافق الذي يضمن وحدة التمثيل وتوسيع قاعدة المشاركة. الأمر الذي يتطلب الإسراع في تشكيل حكومة وفاق وطني تقطع الطريق على مخططات نتنياهو لتكريس الفصل بين الضفة والقطاع، وكذلك عقد الإطار القيادي الموحّد كهيئة انتقالية جامعة تضم جميع الفصائل والمجتمع المدني والنقابات والشتات، بولاية مؤقتة محددة تحت إطار منظمة التحرير، والتحضير لانتخابات عامة تشريعية ورئاسية وللمجلس الوطني، في الطريق لتشكيل مجلس تأسيسي لبرلمان دولة فلسطينية. فهذا ليس ترفًا تنظيميًا، بل شرط بقاء، لأن أي فراغ سيملؤه الاحتلال أو وكلاؤه، شريطة أن يكون ذلك كله في إطار أدوات وطنية جامعة، لا نهجًا إقصائيًا يبقي الأبواب مشرعة لتدخل الاحتلال وأعوانه. إلى جانب ذلك، نحن بحاجة إلى عقد اجتماعي يحدد برنامجًا كفاحيًا شاملًا، يرتكز على المقاومة الشعبية الفعّالة، والقادرة على تقليل الكلفة على المجتمع ورفعها على الاحتلال، وعلى استقلالية مالية من خلال صندوق وطني شفاف يدير موارد الإعمار والصمود بعيدًا عن الولاءات السياسية ذات اللون الواحد أو الابتزازات الخارجية.
الرأي العام العالمي:
من التعاطف إلى خلق كلفة على الاحتلال
رغم صمت الحكومات الغربية، هناك رأي عام عالمي يتشكّل على صعيد الجامعات، والنقابات، والمجالس المحلية، والمحاكم، وصناديق التقاعد التي بدأت ترى في الاحتلال عبئًا أخلاقيًا واقتصاديًا. هذه النافذة تحتاج إلى جهد فلسطيني منظم ومحترف لتحويل التعاطف إلى كلفة سياسية مستدامة على الاحتلال، بدل أن يبقى مجرد شعارات موسمية فارغة من أي مضمون.
بين مشهدية الهزيمة وإمكان التغيير:
خيار الشعب أم قدر الاحتلال؟
اللحظة خطيرة، لكنها ليست قدرًا محتومًا. إسرائيل تراهن على إدارة بؤس فلسطيني دائم، وعلى قبول العالم بواقع "إسرائيل الكبرى". كسر هذا المسار يبدأ بتحويل الفلسطيني من موضوع للسياسات إلى صانع للكلفة على كافة الأصعدة: القانونية، والاقتصادية، والأخلاقية. لا قيادة تُمنح من الخارج، ولا شرعية بلا تمثيل، ولا مقاومة بلا انضباط أخلاقي. إن مشهدية التهجير والإبادة والاستيطان ليست نهاية الطريق، بل جرس إنذار أخير: إما إعادة بناء الحركة الوطنية الفلسطينية على أسس تمثيلية وشراكة حقيقية، أو الاستسلام لمعادلة الاحتلال التي لا ترى فينا سوى عبء يجب التخلص منه. الخيار ما زال ممكنًا، لكنه يتطلب شجاعة الاعتراف بالأزمة أولًا، وإرادة الخروج منها ثانيًا. والسؤال: كيف يمكن تحقيق ذلك؟ هذه مسؤولية الجميع، وبما يشمل كل مواطن، وهذا ما يستحق نقاشًا وطنيًا ومجتمعيًا واسع النطاق.
هاشتاغز

جرب ميزات الذكاء الاصطناعي لدينا
اكتشف ما يمكن أن يفعله Daily8 AI من أجلك:
التعليقات
لا يوجد تعليقات بعد...
أخبار ذات صلة


معا الاخبارية
منذ 7 ساعات
- معا الاخبارية
بريطانيا تستدعي سفيرة إسرائيل
لندن -معا- ذكرت وكالة رويترز أن بريطانيا استدعت سفيرة إسرائيل لديها احتجاجا على موافقة تل أبيب على خطة استيطان جديدة في الضفة الغربية المحتلة. وأقرت الحكومة الإسرائيلية، أمس الأربعاء، خطة استيطانية كبرى في الضفة برعاية وزير المالية اليميني المتطرف بتسلئيل سموتريتش، حيث وافقت لجنة الاستيطان الحكومية على الشروع في تنفيذ مخطط "إي 1″، الذي بدء الترويج له في تسعينيات القرن الماضي. وينص المخطط الإسرائيلي على بناء 3400 وحدة استيطانية من شأنها فصل شمال الضفة الغربية عن جنوبها وتقويض فرصة إقامة دولة فلسطينية متصلة.


معا الاخبارية
منذ 14 ساعات
- معا الاخبارية
خيارات نتنياهو الثلاث وترقب لقرار الكابنيت وسط مفاوضات سرية
بيت لحم- معا- تستمر المفاوضات خلف الكواليس للتوصل إلى اتفاق بشأن الأسرى، في الوقت الذي ترى فيه وسائل الإعلام الإسرائيلية أن نتنياهو قل اهتمامه باتفاق جزئي وافقت عليه حماس، لكنه لم يُغلق الباب أمامه بعد. نتنياهو نفسه الذي أوضح أهمية التقدم في الصفقات الجزئية، يدّعي أن المطلوب الآن هو اتفاق شامل فقط. فإلى جانب الاستعدادات لاحتلال غزة تبقى رسائل "الشخصية السياسية البارزة" غامضة. لذا لا يزال من الممكن أن يتوجه وفد اسرائيلي إلى الدوحة نهاية الأسبوع أو مطلع الأسبوع المقبل بحسب صحيفة "يديعوت احرنوت". تُناقش إسرائيل بين اتفاق جزئي لإطلاق سراح عشرة اسرى واتفاق شامل يُنهي الحرب، لكن البيت الأبيض يُشير إلى اتجاه واضح وهو اتفاق شامل . في الوقت نفسه، سيجتمع الكابنيت اليوم للموافقة على خطط جيش الاحتلال الإسرائيلي لاحتلال مدينة غزة . في الوقت الذي تريد جميع الالوان في اسرائيل الاتفاق وتقول إنه في حال الموافقة، أي موافقة نتنياهو، يُمكن إبرام اتفاق خلال أيام. لكن مسؤول إسرائيلي قال إن كل شيء يعتمد الآن على نتنياهو ووزيره ديرمر. وصرح مسؤول حكومي رفيع المستوى أمس: "نتنياهو الآن أقل اهتمامًا باتفاق جزئي. إنه يُدرك أن الاتفاق الجزئي ليس الخيار الصحيح، ويُدرك أنه سيكون من الصعب جدًا استئناف القتال بعد وقف إطلاق نار لمدة 60 يومًا . تقول الصحيفة الإسرائيلية أن أمام نتنياهو الان ثلاثة خيارات: إما "نعم" لاتفاق جزئي، أو "لا" لاتفاق جزئي، أو مواصلة التفاوض تحت وطأة الضغط. ويبقى السؤال الكبير مطروحًا: هل ستدفع العملية العسكرية في غزة حماس إلى الموافقة على اتفاق شامل بشروط إسرائيل؟نزع السلاح، ونزع سلاح القطاع، والنفي، وعدم المشاركة في الحكومة المقبلة. وأضاف مسؤولون كبار أن إسرائيل ستُوقف العملية إذا وافقت حماس على هذه الشروط. لكن نتنياهو لا ينوي إنهاء الحرب. إلا في مكان تسيطر فيه إسرائيل على الأمن، وتنقل السيطرة المدنية إلى كيان دولي ليس حماس ولا السلطة الفلسطينية .


معا الاخبارية
منذ 15 ساعات
- معا الاخبارية
الصفقة: «حماس» وافقت فماذا عن إسرائيل؟
أبدت حركة حماس، ومعها فصائل فلسطينية أخرى، هذا الأسبوع موافقتها على الصفقة الجديدة، التي اقترحتها مصر وقطر، بعد مشاورات ومداولات مكثّفة في القاهرة. وتكاد هذه الصفقة أن تكون نسخة طبق الأصل لمقترح المبعوث الأمريكي ستيف ويتكوف، التي سبق أن وافقت عليها إسرائيل، والتي شملت وقفا لإطلاق النار في غزة لمدة 60 يوما وإطلاق سراح محتجزين إسرائيليين مقابل أسرى فلسطينيين، ودخول مساعدات إنسانية بكميات كبيرة، مع استمرار المفاوضات خلال فترة الهدنة المؤقتة للتوصل إلى اتفاق إنهاء الحرب. ولم يخرج، حتى كتابة هذه السطور، موقف رسمي من الصفقة، التي قبلت بها حماس، لا من الحكومة الإسرائيلية ولا من الإدارة الأمريكية، لا بالموافقة ولا بالرفض. تفيد بعض المصادر أن المبعوث الأمريكي ستيف ويتكوف، كان على تواصل مع القاهرة بشأن الصفقة الجزئية، وأنّه شجّع التوصل إليها، وأعرب عن دعمه للمقترح المصري القطري، الذي وافقت عليه حركة حماس. لكن ليس من الواضح إلى أي مدى كان ويتكوف على تواصل وانسجام مع ترامب بهذا الشأن. وتطرقت المتحدثة باسم البيت الأبيض لهذا الموضوع، متباهية بأن المقترح الذي وافقت عليه حماس، جاء بعد بيان قوي للرئيس على منصة «تروث سوشيال» (الذي جاء فيه أن تحرير المحتجزين سيأتي بعد القضاء على حماس)، وأردفت أن «الولايات المتحدة تواصل مناقشة المبادرة، وأترك للرئيس إعلان الموقف النهائي بصددها». من نافل القول إن الموقف الأمريكي في غاية الأهمية، لأنّه يؤثر على القرار الإسرائيلي إلى حد كبير، لكن واشنطن هذه الأيام تنتظر موقف تل أبيب، بعد أن «تركت» ـ كما يشاع- غزّة لإسرائيل. وفقط بعد أن تقرر الحكومة الإسرائيلية موقفها وتبعث به إلى الإدارة الأمريكية، ستعلن الأخيرة قرارها، وحتى لو جاء الإعلان الأمريكي قبل الإسرائيلي، فسيكون ذلك استنادا إلى تفاهم مسبق بين الطرفين. وقد شهدنا في الأشهر الأخيرة سلسلة من الحركات الدائرية: إسرائيل تبعث سرّا للولايات المتحدة قرارها ومطلبها بالنسبة للموقف الأمريكي، والإدارة الأمريكية تستجيب لتعلن تل أبيب بعدها تبنيها للموقف الأمريكي، الذي صاغته هي أصلا. وإذ ينتظر الجميع رد إسرائيل على الصفقة الجزئية، بعد أن صادقت حماس عليها، تباطأ نتنياهو في الدعوة إلى جلسة «كابينت» لبحث الموضوع، وليس من المؤكّد أن يصدر رد إسرائيلي واضح وحاسم في الموضوع. ولكن يبدو أن رئيس الوزراء الإسرائيلي أميَل حاليا إلى عدم قبول المقترح، وإلى طرح المزيد من العراقيل لضمان مواصلة الحرب. ويذهب الكثيرون في إسرائيل إلى أن استراتيجية نتنياهو الوحيدة هي استمرار الحرب، أو على الأقل «حالة الحرب»، وكتب إيهود براك رئيس الوزراء الإسرائيلي السابق، أن إنهاء الحرب سيأتي فقط بعد إنهاء حكم نتنياهو. صحيح أن «الميل الطبيعي» لنتنياهو هو مواصلة الحرب، لكنّه يتعرّض لضغوط من الوزن الثقيل من عائلات المحتجزين الإسرائيليين، ومن الشارع الإسرائيلي، الذي يدعم مطلب تحرير المحتجزين، وإنهاء الحرب فورا. وبالنسبة للصفقة الجزئية، فهي تحظى بدعم من الجيش والمؤسسة الأمنية عموما، ومن عدد من الوزراء والمسؤولين المحيطين بنتنياهو، ومنهم رئيس مجلس الأمن القومي تساحي هنيغبي، ما يضع وزنا مقابلا لرفض وزراء اليمين المتطرف للصفقة، وما يضع نتنياهو أمام أكثر من خيار. خيارات نتنياهو الخمسة كما في مرّات سابقة فإن القرار سيكون كما يحسم نتنياهو، ومهما كان قراره فهو سيحظى بأغلبية في الكابينت، وأمامه الآن خمسة خيارات بالنسبة لمقترح الصفقة الجديدة: الأول، أن يرفضها قطعيا ويصر على صفقة شاملة وفق الشروط الإسرائيلية، التي أعلنها مرات عديدة في الشهر الحالي (نزع سلاح حماس، تحرير المحتجزين جميعا، غزة منزوعة السلاح، سيطرة أمنية إسرائيلية مطلقة، إدارة مدنية ليست من حماس ولا من السلطة)؛ الثاني، أن يوافق على البدء بمفاوضات حولها ويحاول الحصول على المزيد من «المكاسب» خلالها، مع الإعلان أن إسرائيل ستعود إلى الحرب إذا لم تُقبل في المفاوضات اللاحقة شروط إسرائيل لإنهاء الحرب؛ ثالثا، المماطلة وعدم اتخاذ قرار واختراع التبريرات والحجج الداعمة لعدم اتخاذ موقف حاليا؛ رابعا، الإعلان أن إسرائيل ماضية في تنفيذ خطّة الاحتلال المباشر الكامل لغزة، وأن لا جدوى من صفقات أو مفاوضات مع حركة حماس، التي «يجب القضاء عليها لا مفاوضتها». خامسا، تبنّي الموقف الأمريكي حال صدوره. وفي هذه الحالة سيكون هناك تفاهم مسبق بين واشنطن وتل أبيب حول طبيعة وفحوى الرد الأمريكي على المقترح المصري – القطري. «عربات جدعون ب» أطلق الجيش الإسرائيلي على المرحلة المقبلة لحرب الإبادة في غزة اسم «عربات جدعون ب»، على اعتبار أنها استمرار للعملية السابقة. وحتى بعد قرار الكابينت بالشروع بالعملية الهادفة إلى احتلال مباشر لمدينة غزة أوّلا، وبعدها لبقية مناطق القطاع، فإن قيادة الجيش الإسرائيلي لا تزال غير راضية عن فرض هذا الخيار عليها، وهي تخشى من الفشل ومن التورّط في مشاكل محسوبة وغير محسوبة. وهذه من المرّات النادرة، التي تفرض فيها الحكومة على الجيش القيام بعملية عسكرية واسعة، وهو غير راض عنها، وما يزيد من تحفّظ الجيش من العملية أنّها مفصّلة وفق مصالح ومطامع نتنياهو، وقد تهزّ من مكانة العسكر: فإن فشلت سيتهم نتنياهو الجيش بالإخفاق لأنّه دخل المعركة مترددا ومتثاقلا، وإن هي نجحت فهو سيتباهى بأنه فرضها على الجيش، وأن المكاسب تعود له بشكل حصري، وهو لو أصغى إلى رئيس الأركان إيال زامير لما تحققت الإنجازات. كما تخشى قيادة الجيش الإسرائيلي من عدم استجابة قوات الاحتياط لدعوات التجنيد التي بدأت بإرسالها، وذلك أولا، بسبب التعب والإعياء بعد مئات الأيام من الخدمة العسكرية؛ وثانيا، عدم الاقتناع بجدوى العملية العسكرية الجديدة، فغالبية الجمهور الإسرائيلي تعارضها، ومعظم مجندي الاحتياط من هذه الأغلبية؛ وثالثا الاحتقان والغضب والشعور بالاستغباء لدى أوساط واسعة من إعفاء شباب اليهود «الحريديم» من الخدمة العسكرية وفرضها على بقية أفراد المجتمع؛ رابعا، «معاناة» جنود الاحتياط على المستوى الشخصي الاجتماعي والاقتصادي والعائلي والتعليمي، فالكثير منهم تضررت مصالحهم الاقتصادية وعلاقاتهم العائلية ومنهم من خسر أشهرا من التعليم الجامعي. صحيح هناك تعويضات لكنّها غالبا جزئية. يظهر من التعليقات والتحليلات، التي ينشرها الإعلام الإسرائيلي، أن هناك تشكيكا في ما إذا كانت عملية «عربات جدعون ب» ستمضي إلى نهايتها. ولا يستبعد كبار المحللين العسكريين والسياسيين أنها مناورة إسرائيلية ـ أمريكية لابتزاز حركة حماس، وحملها على تقديم المزيد من التنازلات. ومن اللافت للانتباه، أن هذه العملية تحظى بحملة «علاقات عامة» غير مسبوقة، قبل أن تخرج فعليا إلى حيّز التنفيذ، فكل زيارة لنتنياهو لقيادة الجيش في منطقة الجنوب تحظى بتغطية واسعة، وكل اجتماع يعقده وزير الأمن يسرائيل كاتس يجري تضخيمه إعلاميا، باعتباره «خطوة حاسمة» في الطريق إلى الاجتياح. كما يردد الرئيس الأمريكي دونالد ترامب بعض «مقولات الحرب» الداعمة للموقف الإسرائيلي، ما يوحي للرأي العام بأن الولايات المتحدة داعمة للعملية العسكرية الإسرائيلية الجديدة. كما أن الكثير من تفاصيل الخطة العسكرية تُنشر بسخاء في الإعلام الإسرائيلي بشكل يثير الشبهات حول المقصد والغاية من التبرع بمعلومات عن عملية عسكرية وشيكة. مفاوضات تحت النار استبقت «مصادر إسرائيلية» التطوّرات بشأن احتمال تجديد المفاوضات بالقول «المفاوضات ستكون تحت النار ـ الجيش سيتوقّف (عن القتال) فقط إذا تمت الصفقة وجرى التوقيع عليها». وجاء في رسائل الاستدعاء التي تلقاها جنود الاحتياط على «الواتساب»: «كما نعرف، فإن دينامية وفرص التغيير قائمة دائما، ولكن عندما تخرج مثل هذه الرسالة، وليس كشائعة، فإن الحديث هو عن مخطط حقيقي يخرج إلى حيز التنفيذ، ومن المهم أن تبدأوا بالاستعداد وتجهيز من حولكم». لقد جرى تسريب هذه النص لبث رسالة أن إسرائيل في طريقها لاحتلال شامل لغزة. في المقابل اهتم «المقربون» من رئيس الأركان الميجر جنرال إيال زامير، بنشر خبر يفيد بأنه عرض أمام وزير الأمن يسرائيل كاتس، خطة احتلال غزة، مع التأكيد أنه يرى فيها خطوة للدفع نحو «صفقة محتجزين»، وإن لم تأت الصفقة فسيجري توسيع العملية طبقا لتعليمات المستوى السياسي. قبل حوالي الشهر، هرب نتنياهو من مفاوضات الدوحة عند الاقتراب من التوصّل إلى صفقة جزئية. وبدأ بعدها يلوّح بصفقة شاملة وكاملة، واضعا شروطا تعجيزية لتحقيقها. لذا يبدو أنه ماض في الخيار الحربي متوهما أنه قد يحقق «إنجازا» يمكّنه من الادعاء بأنه حقق النصر، وأن حماس خضعت لشروطه. حاليا، وبعد أن وافقت حماس على «شروط» الولايات المتحدة وإسرائيل، فإن موافقة واشنطن وتل أبيب على هذه الشروط ليست مضمونة. يبدو أن نتنياهو يريد أن تبدأ عملية احتلال غزة، مع إبقاء الباب مواربا لصفقة تمكّنه من ادعاء الانتصار. وباختصار من المرجّح أن تبقى استراتيجية مواصلة حرب الإبادة هي خيار سيد الجريمة الإسرائيلي.