
سوريا في قلب التوازنات
سوريا في قلب التوازنات
لم يكن ما جرى في الرياض مجرّد لقاء دبلوماسي عابر، بل لحظة مفصلية تُعيد رسم التوازنات الإقليمية وتعيد سوريا، رسمياً وفعلياً، إلى الخارطة السياسية كلاعب له وزنه ومكانته.
اللقاء بين الرئيس السوري أحمد الشرع والرئيس الأميركي دونالد ترامب، وقرار رفع العقوبات، لم يكن مجرد قرار أحادي، بل تتويجٌ لمسار طويل من التحولات الهادئة والمراجعات الصامتة التي طرأت على نظرة المجتمع الدولي نحو الملف السوري. الرياض لم تكن فقط منصة استقبال، بل بوابة عبور لسوريا الجديدة. سوريا الدولة، لا سوريا المحَاور. سوريا التي قرّرت أن تنهض من تحت الرماد، وتعيد بناء نفسها بعيداً عن استنزافات الفصائل، ومحاور الصراع، وأوهام الانقلابات الشعبية.
رفع العقوبات كان أول الغيث، وما تلاه من مواقف أوروبية متطابقة ما هو إلا مؤشر على أن صفحة العزل قد طُويت. إن القراءة الدقيقة لما حدث لا تكتفي بتتبع مجريات اللقاء، بل تبحث في الرسائل السياسية التي حملها القرار الأميركي. فعندما تقرر واشنطن إعادة دمج دمشق في المعادلة، فذلك يعني أن المشروع البديل قد فشل. فشل من راهنوا على تفكيك الدولة، ومن أرادوا صناعة «نموذج» جديد يُدار من الخارج أو عبر الوكلاء. الرسالة واضحة: لا بديل عن الدولة، ولا استقرار من دون مركز. وهنا تكمن دقة المشهد. فعودة سوريا لا تقتصر على حضور سياسي في المؤتمرات، بل تعني إعادة بناء الاقتصاد، وإحياء المنظومة الأمنية، وترميم الثقة بين السلطة والمجتمع. وهذا يتطلب قرارات قاسية أحياناً، لكنه أيضاً يتطلب شجاعة في كسر الدوائر المغلقة التي عطلت الدولة لعقود. من يعيد بناء الدولة، لا يمكنه مجاملة الفساد، ولا تجاهل شبكات النفوذ التي تسعى لعرقلة التغيير.
القرار الأميركي لم يأتِ مجاملة، بل بعد مراجعة استراتيجية عميقة. الملف السوري تحوّل من أداة ضغط إلى فرصة شراكة. الدول الكبرى لا تبحث عن حلفاء مثاليين، بل عن دول قادرة على حفظ التوازن، ومنع الفوضى، وتأمين المصالح المشتركة. وسوريا التي أعادت ضبط أمنها الداخلي، وأطلقت مساراً إصلاحياً واضحاً، باتت اليوم قادرة على أداء هذا الدور بشروط السيادة لا التبعية.
التحول اللافت أيضاً، هو إعادة صياغة العقيدة العسكرية السورية. الجيش السوري اليوم يُعاد بناؤه بعقلية ما بعد الحرب، لا بعقلية الحروب الباردة. تدريبات، تنظيم، تسليح، وتعاون مع شركات دولية متخصصة، بعيداً عن التجاذب الإقليمي، وبما يضمن أمن الحدود، واستقرار الداخل، ومكافحة الإرهاب دون أن يكون أداة في معارك خارجية. في لبنان، بدأت ارتدادات هذا التحول تُلمَس سياسياً. انتخاب رئيس للجمهورية وتشكيل حكومة في بيروت لا يمكن عزله عن السياق السوري الجديد، إذ إنّ عودة المركز في دمشق تدفع الأطراف اللبنانية إلى مراجعة أولوياتها، والخروج من وهم القوة خارج الدولة، والاقتناع بأن لا استقرار حقيقي دون مرجعية وطنية موحدة. نحن أمام مرحلة جديدة، تقودها المصالح لا الشعارات، وتُبنى على الإدماج لا العزل، وعلى إعادة الاعتبار للمؤسسات لا للميليشيات.
دول عديدة تعيد تموضعها وفق هذا الفهم، والأذكى من بينها هو من يلتقط التحول مبكراً ويصنع لنفسه موقعاً فيه. يبقى السؤال الأساسي: هل تنجح سوريا في تحويل هذه الفرصة إلى نقطة انطلاق وطنية؟ الإجابة مرهونة بقدرة الداخل على التوحد، وعلى الموازنة بين الواقعية السياسية والمشروع الوطني، وعلى صناعة نموذج جديد يليق بسوريا الجديدة، التي عادت… لا كملف تفاوض، بل كصاحبة قرار.
*لواء ركن طيار متقاعد

جرب ميزات الذكاء الاصطناعي لدينا
اكتشف ما يمكن أن يفعله Daily8 AI من أجلك:
التعليقات
لا يوجد تعليقات بعد...
أخبار ذات صلة


الاتحاد
منذ 5 ساعات
- الاتحاد
التعاون الخليجي- الأميركي..آفاق تنموية
التعاون الخليجي- الأميركي..آفاق تنموية مما لا شك فيه أن القمة الأخيرة التي جمعت دول الخليج العربية بالولايات المتحدة الأميركية، وانعقدت في الرياض، وما أعقبها من زيارات قام بها الرئيس الأميركي دونالد ترامب، أسفرت عن اتفاقيات وتفاهمات تُحقق الكثيرَ من المكاسب والمصالح المشتركة لجميع الأطراف. لقد كانت قمة ناجحة بامتياز، بل تكاد تكون من أنجح القمم، وذلك بالنظر لما حققته من نتائج إيجابية جمة تخدم شعوب منطقة الخليج في المقام الأول، كما تخدم المركز الاقتصادي لدول المنطقة خلال السنوات والعقود القادمة، بل لفترة أجيال وحقب ممتدة قادمة. وقد شهدت قمة الرياض كلمةً مهمةً لأمير دولة الكويت تضمنت نقاطاً حيوية على صعيد تعزيز الشراكة والتطلع لإطلاق المبادرات المشتركة، من أجل الاستثمار في مجالات البنى التحتية الذكية ودعم الابتكار وريادة الأعمال وتعزيز التجارة الحرة العادلة وتحفيز المشاريع الصغيرة والمتوسطة والكبيرة، وزيادة حجم الاستثمار المتبادل مع الولايات المتحدة الأميركية. ولا شك في أن الميزانيات المرصودة من قبل دول الخليج تصب في الطريق الذي يخدم اقتصاداتها بالدرجة الأولى، وهي تؤسس لمستقبل على درجة كبيرة من الأهمية في العديد من المجالات الاقتصادية والعسكرية والاجتماعية، وغيرها من المشاريع التي تتطلبها المرحلة المقبلة من عمر دول الخليج العربي ككل. إنها بحاجة لمثل هذه المشاريع، بغية الانطلاق نحو المستقبل القادم، لا سيما أنها مشاريع تؤسس لموقف اقتصادي صلب على طريق تطوير وتعزيز التنمية والاستفادة من خبرات الولايات المتحدة. ومما تضمنته تلك الاتفاقيات، على سبيل المثال لا الحصر، تطوير أسطول شركة الخطوط الجوية القطرية من الطائرات، من خلال صفقة تم توقيعها مع الولايات المتحدة، سيتم تنفيذها على مدى السنوات القادمة لتعزيز أداء الرحلات الجوية للشركة، وذلك وفق أحدث الطائرات المصنّعة أميركياً. بالإضافة إلى ذلك، فقد مثّل تحديث الصناعات العسكرية في المملكة العربية السعودية إنجازاً آخر في غاية الأهمية سيتحقق من وراء الاتفاقيات الموقعة خلال قمة الرياض. أما الاتفاقيات التي وقعتها دولة الإمارات العربية المتحدة مع الولايات المتحدة خلال زيارة ترامب، فتضمنت بناء أكبر قاعدة للذكاء الاصطناعي خارج حدود الولايات المتحدة نفسها، باستثمار يزيد على تريليون دولار وخلال مدة عشر سنوات. وهو أمر غير مسبوق على صعيد العالم بأكمله، ويمثل هذا المشروع أهمية حيوية كبرى بالنسبة لدولة الإمارات، لا سيما بالنظر إلى خططها التنموية المستقبلية. وبناءً عليه نقول بأن الاتفاقيات الموقعة خلال القمة الخليجية الأميركية وما تلاها من زيارات للرئيس الأميركي، سوف تسهم، وبشكل كبير للغاية، في تعزيز الموقف الاقتصادي لمنطقة الخليج العربي، وستعزز المشاريع التنموية فيها. كما نقول إن اتفاقيات من هذا النوع تحتاجها منطقة الخليج والعالم بشكل ملح.. فشكراً جزيلا لقادة الخليج على جهودهم، بغية توفير أفضل السبل لضمان التطور الاقتصادي لدولهم في المستقبل القادم. *كاتب كويتي


العين الإخبارية
منذ 6 ساعات
- العين الإخبارية
الصين وإندونيسيا.. شراكة اقتصادية ركيزتها «التعددية الحقيقية»
تم تحديثه السبت 2025/5/24 11:27 م بتوقيت أبوظبي قال رئيس مجلس الدولة الصيني لي تشيانغ اليوم السبت إن الصين وإندونيسيا ستشجعان «التعددية الحقيقية»، وفق ما أوردت وكالة أنباء الصين الجديدة (شينخوا). وقد وصل رئيس مجلس الدولة الصيني إلى جاكرتا في زيارة تستغرق يومين لأكبر اقتصادات جنوب شرق آسيا. وكثفت الصين من تعاملاتها مع دول المنطقة منذ أن أعلن الرئيس الأمريكي دونالد ترامب عن فرض رسوم جمركية شاملة على الواردات على شركائها التجاريين العالميين. وجرى تأجيل فرض بعض الرسوم بعد اتفاق بين الصين والولايات المتحدة خلال الشهر الجاري. وعرضت جاكرتا -التي تعد الصين أكبر شريك تجاري لها- على الولايات المتحدة عدداً من التنازلات في محاولة لتخفيف وطأة الرسوم الجمركية على إندونيسيا. وفي فعالية لقادة الأعمال اليوم السبت، حضره لي، قال الرئيس الإندونيسي برابوو سوبيانتو إن العلاقات بين بكين وجاكرتا أساسية للاستقرار الإقليمي، مضيفا أن إندونيسيا تعتبر الصين شريكاً مهماً في تطوير الصناعة والتكنولوجيا. وأشاد بدور الصين في الدفاع عن مصالح الدول النامية ووقوفها ضد "الإمبريالية" و"الاستعمار". وأشارت "شينخوا" إلى أنه بعد زيارة جاكرتا، سيسافر "لي" إلى ماليزيا لحضور قمة رابطة دول جنوب شرق آسيا ودول مجلس التعاون الخليجي والصين. aXA6IDI2MDI6ZmFhNTpiMTc6MjM6OjYg جزيرة ام اند امز US


العين الإخبارية
منذ 6 ساعات
- العين الإخبارية
الشرع في تركيا.. لقاء يعمق التعاون بعد سنوات من التوتر
أعلن الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، السبت، عن ترحّيب أنقرة بقرار الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي رفع العقوبات المفروضة على سوريا. جاء ذلك خلال محادثات جرت في إسطنبول مع الرئيس السوري أحمد الشرع، في زيارة غير معلنة مسبقًا تأتي بعد يوم واحد فقط من قرار واشنطن بإنهاء العقوبات المفروضة على دمشق عقب 14 عامًا من النزاع. تحوّل إقليمي زيارة الرئيس السوري أحمد الشرع إلى تركيا، وهي الأولى له منذ الإطاحة ببشار الأسد العام الماضي، تُعد مؤشرًا على متانة التحالف الجديد بين أنقرة ودمشق. وأظهر مقطع مصور بثه التلفزيون التركي الرئيس أردوغان وهو يستقبل الشرع بحرارة عند قصر دولمة بهجة التاريخي في إسطنبول. وخلال اللقاء الذي لم يعلن عنه مسبقا، تحادث الزعيمان لأكثر من ساعتين ونصف ساعة، وفق قناة "إن تي في" الإخبارية التركية الخاصة. وأكد بيان صادر عن الرئاسة التركية أن أردوغان أعرب للشرع عن دعم تركيا لقرار رفع العقوبات، معتبرًا ذلك «خطوة مهمة نحو الاستقرار». وشارك في المحادثات عدد من كبار المسؤولين من الجانبين، بينهم وزراء الخارجية والدفاع ورؤساء أجهزة المخابرات. نفوذ تركي متزايد يأتي هذا اللقاء فيما تعزّز تركيا نفوذها في الملف السوري، وسط تسريبات عن محادثات أمنية جرت بين رئيس جهاز المخابرات التركي إبراهيم قالن والرئيس الشرع، ركّزت على مصير «وحدات حماية الشعب الكردية». ووفق مصادر أمنية تركية، تدفع أنقرة باتجاه تسليم هذه الوحدات لسلاحها ودمجها في قوام القوات الحكومية السورية، ضمن مساعٍ لتفكيك البنية العسكرية الكردية شمال البلاد. من جهتها، قالت الرئاسة السورية عبر قناتها على تطبيق تليغرام "وصل الرئيس السوري أحمد الشرع على رأس وفد حكومي ضم وزير الخارجية والمغتربين أسعد الشيباني، ووزير الدفاع السيد مرهف أبو قصرة إلى قصر دولمه بهجه في إسطنبول، حيث التقى رئيس الجمهورية التركية رجب طيب إردوغان لبحث عدد من الملفات المشتركة". تعيين مبعوث أمريكي بالتزامن، أعلنت السفارة الأمريكية في أنقرة عن تعيين السفير الأمريكي لدى تركيا، توم باراك، مبعوثًا خاصًا إلى سوريا، في خطوة تشير إلى تنامي الاعتراف الأمريكي بدور تركيا المحوري في المعادلة السورية. وكانت رويترز قد كشفت في وقت سابق عن نية واشنطن إسناد هذا الملف إلى باراك في ضوء التقارب التركي-السوري. ولا تزال تركيا تحتفظ بمناطق نفوذ عسكري في شمال سوريا بعد سلسلة من العمليات ضد «وحدات حماية الشعب»، التي تعتبرها امتدادًا لحزب العمال الكردستاني المصنّف إرهابيًا لدى أنقرة. وكانت المفاجأة هذا الشهر إعلان حزب العمال الكردستاني عن حلّ نفسه وإلقاء السلاح، في تطور ربما يسهم في تهيئة الأجواء لإعادة صياغة التوازنات العسكرية في الشمال السوري. aXA6IDE1NC45LjIwLjE2NCA= جزيرة ام اند امز GB