
غزة في "كانّ" وتارانتينو أيضاً
مَن أعلن افتتاح
مهرجان كان السينمائي
هذا العام كان كونتين تارانتينو وهو ليس غريباً عن المهرجان الذي منحه السعفة الذهبية عام 1994 عن تحفته "بالب فيكشن". ورغم ذلك فإن حضور تارانتينو هذه المرة كان غريباً على نحو ما، فالرجل القادم إلى "كانّ" من تل أبيب على الأغلب، حيث يعيش مع زوجته المغنية الإسرائيلية دانييلا باك، وجد نفسه في بيئة غير صديقة إذا صح الوصف، فثمة من يتحدث عن قطاع غزة هنا، وثمة من يوقّع رسالة تعتبر الصمت على استمرار حرب الإبادة عليها عاراً.
وبينما يزداد عدد الموقّعين وليس من بينهم تارانتينو على الإطلاق، تحضر إحدى ضحايا المقتلة أمام عينيه لو رغب بأن يرى، وهي الصحافية الفلسطينية الشابة فاطمة حسّونة (25 عاماً) التي قُتلت بصاروخ إسرائيلي أتى على كل أسرتها باستثناء والدتها (عشرة شهداء بينهم شقيقتها الحامل).
قُتلت حسّونة بعد يوم واحد فقط من إعلامها بأن فيلم "ضع روحك على كفك وامشِ" للإيرانية سبيده فارسي، ويتناول حياتها (حسّونة) خلال المجزرة المفتوحة على صمت العالم كله، قد اختير للعرض ضمن فعاليات المهرجان.
وقُتلت بصاروح وليس جراء وقوعها في حفرة ممتلئة بالورود خلال تنزهها في الجوار، وليس في حادث سير أو حتى بسبب مرض مفاجئ وخطأ طبي في التشخيص. لقد قُتلت بصاروخ يُوجّه عن بُعد وبدقة بحيث يعرف هدفه تماماً ويمضي إليه، لإبادة الأعداء، وحسّونة منهم رغم أنها مصوّرة فوتوغرافية، وشقيقتها منهم أيضاً رغم أنها رسّامة ولا تعمل في منشأة لتخصيب اليورانيوم أو تصنيع القنابل.
هل يعرف تارانتينو هذا؟ الأمر لا يعنيه، فقد اختار معسكره، وخلال الأيام الأولى من العدوان الإسرائيلي الوحشي، غير المسبوق، على قطاع غزة، هرع المخرج (الأميركي) من شقته في تل أبيب إلى منطقة غلاف غزة، لا ليعرف الأمور عن كثب ويرى الوجه الآخر من الصورة، بل ليكون مع الجنود الإسرائيليين الذين كانوا يستعدون لقتل أطفال غزة، ونساء غزة، وعجائز غزة ونعناع بيوتهم المدمّرة، ولم يكتفِ تارانتينو بذلك، بل التقط صوراً مع جنود أمام مروحية قتالية كانت جاهزة لقصف أهالي غزة وبيوتها.
هذا الرجل لا سواه لا يجد حرجاً في أن يكون تحت سماء واحدة مع جولييت بينوش وسوزان ساراندون وريتشارد غير (لم يحضر المهرجان على الأغلب) وعشرات غيرهم ممن وقّعوا رسالتهم التضامنية مع غزة، والمندّدة بالصمت على مجزرتها.
لم تكن فاطمة حسّونة الصحافية الوحيدة التي قتلها أبشع احتلال على وجه الأرض، بل ثمة آخرون: 217 صحافياً قتلوا وبعضهم قضى حرقاً وتفحمت جثته، منذ 7 أكتوبر/تشرين الأول 2023 حتى يوم الخميس الماضي (15 مايو/أيار الجاري) بحسب المكتب الإعلامي الحكومي في غزة، كثير منهم آباء تركوا خلفهم أطفالاً لا يعرف تارانتينو أسماءهم ولا يريد أن يعرف أيضاً، فقد اختار معسكره وانتهى الأمر.
كل واحد منهم قصة مختلفة، مشحونة بالدراما العالية، بالمآسي الصغيرة، بالآمال التي كان سقفها سماء الله، فانخفضت على أمل مجرد البقاء على قيد الحياة على هذه الأرض التي خلقها ربنا جميعاً، رب تارانتينو وفاطمة حسّونة.
كلهم قُتلوا. كلهم قتلتهم إسرائيل التي يقيم فيها تارانتينو دون أن يتجشم عناء المعرفة، مجرد معرفة ما إذا كان قتلهم جريمةً أم لا.
موقف
التحديثات الحية
متى سنعبُر "شارع طلال"؟
دعك من هوليوود، من شركات الإنتاج، من الشهرة والجوائز، من منظر البحر من نافذة شقة في الطوابق العلوية في تل أبيب، دعك من كل شيء، ألست إنساناً في نهاية المطاف؟ أليس ثمة فضول لديك أو بقايا شعور أخلاقي؟
في الأمثال العربية أن "الضرب في الميت حرام"، وهذا لا علاقة له بالسينما والدراما ومهرجان كانّ، بل بالخبرة الإنسانية الممتدة من قابيل إلى نتنياهو، إذ إرث القتل والدم يجد من يتغاضى عنه إما إعجاباً وعبادةً للقوة كما قد تكون حالة تارانتينو، أو خوفاً وخشية من البطش، وما بينهما ثمة من لا يخشى بل يصغي إلى أصوات الضحايا من هابيل إلى فاطمة حسّونة، وينحاز إلى قوافل القتلى ويسرد سيرتهم، في الرواية والسينما وبقية الفنون.
تارانتينو اختار ألّا يكون من بين هؤلاء، فلقد اختار معسكره وانتهى الأمر.

جرب ميزات الذكاء الاصطناعي لدينا
اكتشف ما يمكن أن يفعله Daily8 AI من أجلك:
التعليقات
لا يوجد تعليقات بعد...
أخبار ذات صلة


العربي الجديد
منذ 2 أيام
- العربي الجديد
غزة في "كانّ" وتارانتينو أيضاً
مَن أعلن افتتاح مهرجان كان السينمائي هذا العام كان كونتين تارانتينو وهو ليس غريباً عن المهرجان الذي منحه السعفة الذهبية عام 1994 عن تحفته "بالب فيكشن". ورغم ذلك فإن حضور تارانتينو هذه المرة كان غريباً على نحو ما، فالرجل القادم إلى "كانّ" من تل أبيب على الأغلب، حيث يعيش مع زوجته المغنية الإسرائيلية دانييلا باك، وجد نفسه في بيئة غير صديقة إذا صح الوصف، فثمة من يتحدث عن قطاع غزة هنا، وثمة من يوقّع رسالة تعتبر الصمت على استمرار حرب الإبادة عليها عاراً. وبينما يزداد عدد الموقّعين وليس من بينهم تارانتينو على الإطلاق، تحضر إحدى ضحايا المقتلة أمام عينيه لو رغب بأن يرى، وهي الصحافية الفلسطينية الشابة فاطمة حسّونة (25 عاماً) التي قُتلت بصاروخ إسرائيلي أتى على كل أسرتها باستثناء والدتها (عشرة شهداء بينهم شقيقتها الحامل). قُتلت حسّونة بعد يوم واحد فقط من إعلامها بأن فيلم "ضع روحك على كفك وامشِ" للإيرانية سبيده فارسي، ويتناول حياتها (حسّونة) خلال المجزرة المفتوحة على صمت العالم كله، قد اختير للعرض ضمن فعاليات المهرجان. وقُتلت بصاروح وليس جراء وقوعها في حفرة ممتلئة بالورود خلال تنزهها في الجوار، وليس في حادث سير أو حتى بسبب مرض مفاجئ وخطأ طبي في التشخيص. لقد قُتلت بصاروخ يُوجّه عن بُعد وبدقة بحيث يعرف هدفه تماماً ويمضي إليه، لإبادة الأعداء، وحسّونة منهم رغم أنها مصوّرة فوتوغرافية، وشقيقتها منهم أيضاً رغم أنها رسّامة ولا تعمل في منشأة لتخصيب اليورانيوم أو تصنيع القنابل. هل يعرف تارانتينو هذا؟ الأمر لا يعنيه، فقد اختار معسكره، وخلال الأيام الأولى من العدوان الإسرائيلي الوحشي، غير المسبوق، على قطاع غزة، هرع المخرج (الأميركي) من شقته في تل أبيب إلى منطقة غلاف غزة، لا ليعرف الأمور عن كثب ويرى الوجه الآخر من الصورة، بل ليكون مع الجنود الإسرائيليين الذين كانوا يستعدون لقتل أطفال غزة، ونساء غزة، وعجائز غزة ونعناع بيوتهم المدمّرة، ولم يكتفِ تارانتينو بذلك، بل التقط صوراً مع جنود أمام مروحية قتالية كانت جاهزة لقصف أهالي غزة وبيوتها. هذا الرجل لا سواه لا يجد حرجاً في أن يكون تحت سماء واحدة مع جولييت بينوش وسوزان ساراندون وريتشارد غير (لم يحضر المهرجان على الأغلب) وعشرات غيرهم ممن وقّعوا رسالتهم التضامنية مع غزة، والمندّدة بالصمت على مجزرتها. لم تكن فاطمة حسّونة الصحافية الوحيدة التي قتلها أبشع احتلال على وجه الأرض، بل ثمة آخرون: 217 صحافياً قتلوا وبعضهم قضى حرقاً وتفحمت جثته، منذ 7 أكتوبر/تشرين الأول 2023 حتى يوم الخميس الماضي (15 مايو/أيار الجاري) بحسب المكتب الإعلامي الحكومي في غزة، كثير منهم آباء تركوا خلفهم أطفالاً لا يعرف تارانتينو أسماءهم ولا يريد أن يعرف أيضاً، فقد اختار معسكره وانتهى الأمر. كل واحد منهم قصة مختلفة، مشحونة بالدراما العالية، بالمآسي الصغيرة، بالآمال التي كان سقفها سماء الله، فانخفضت على أمل مجرد البقاء على قيد الحياة على هذه الأرض التي خلقها ربنا جميعاً، رب تارانتينو وفاطمة حسّونة. كلهم قُتلوا. كلهم قتلتهم إسرائيل التي يقيم فيها تارانتينو دون أن يتجشم عناء المعرفة، مجرد معرفة ما إذا كان قتلهم جريمةً أم لا. موقف التحديثات الحية متى سنعبُر "شارع طلال"؟ دعك من هوليوود، من شركات الإنتاج، من الشهرة والجوائز، من منظر البحر من نافذة شقة في الطوابق العلوية في تل أبيب، دعك من كل شيء، ألست إنساناً في نهاية المطاف؟ أليس ثمة فضول لديك أو بقايا شعور أخلاقي؟ في الأمثال العربية أن "الضرب في الميت حرام"، وهذا لا علاقة له بالسينما والدراما ومهرجان كانّ، بل بالخبرة الإنسانية الممتدة من قابيل إلى نتنياهو، إذ إرث القتل والدم يجد من يتغاضى عنه إما إعجاباً وعبادةً للقوة كما قد تكون حالة تارانتينو، أو خوفاً وخشية من البطش، وما بينهما ثمة من لا يخشى بل يصغي إلى أصوات الضحايا من هابيل إلى فاطمة حسّونة، وينحاز إلى قوافل القتلى ويسرد سيرتهم، في الرواية والسينما وبقية الفنون. تارانتينو اختار ألّا يكون من بين هؤلاء، فلقد اختار معسكره وانتهى الأمر.


العربي الجديد
منذ 5 أيام
- العربي الجديد
أخطاء "كانّ" فادحة: لماذا يتغاضى عربٌ عنها؟
عاملون وعاملات عرب في النقد والصحافة السينمائيّين يُفضّلون التغاضي عن أخطاء، بعضها مُكرّر، ترتكبها إدارة مهرجان "كانّ" السينمائي ( تييري فريمو مندوبه العام) في دورات سابقة (يُقال إنّ الارتكابات، كي لا تُستخدم مفردة "أخطاء"، حاصلة منذ تفشّي كورونا مطلع عام 2020)، والمهرجان نفسه يصفه هؤلاء غالباً بكل ما في خانة "أفعل التفضيل" من أوصافٍ إيجابية وتبجيلية. يرون في التغاضي "راحة بال"، أو يظنّونه دافعاً لإدارة المهرجان إلى اهتمامٍ أكبر بهم/بهنّ، علماً أنّ أقصى ما يحصلون عليه منها "بطاقةَ اعتماد"، تُخوّلهم مشاهدة أفلامٍ، والمشاركة في مؤتمرات صحافية، وطلب إجراء مقابلات، لن يكونوا فيها لوحدهم، فكلّ جلسة (مدّتها: 15 ـ 20 دقيقة) تضمّ خمسة/سبعة مُحاورين/محاورات، ذوي جنسيات مختلفة. بطاقة الاعتماد تلك تُمنح بألوان متنوّعة، لكلّ لون مرتبة معيّنة في أولويات المُشاهدة، فيبدو المشهد غير منصفٍ وغير عادل، كما يشعر زملاء وزميلات عرب، يُتابعون الدورات السنوية للمهرجان رغم كلّ شيء. فالأبيض (قلّة من النقاد تحصل عليه، ويتردّد أنّه "مُختفٍ" في أعوامٍ قليلة ماضية، علماً أنّ الناقدين السينمائيين المصريين الراحلين سمير فريد ويوسف شريف رزق الله حاصِلان عليه دون سائر العرب) يعني الدخول أولاً قبل الجميع، يليه الوردي مع نقطة صفراء، ثم الوردي من دون نقطة، فالأزرق والبرتقالي والأصفر والأحمر. هذا يعني أنّ حامل الألوان الأخيرة (بدءاً من الأزرق) ربما لن يعثر على مقعدٍ له في صالات العروض الصحافية. هذا غير موجود في "مهرجان برلين" . بينما "مهرجان فينيسيا" يعتمد هذا التقليد، مع أنْ لا أفضلية للون على آخر في حجز بطاقات المشاهدة. أمّا "السوق"، المعنية بالتوزيع والإنتاج (أي "بيزنيس")، فلها بطاقات خاصة، يندر حصول ناقد أو صحافي/صحافية سينمائي عليها. رغم هذا، يتجاهل عربٌ عديدون ما يُشبه الفوضى في مسائل إدارية وتنظيمية، تعمّ دورات سابقة عدّة. يتجاهلون كذباً وعدم مساواة في تعامل إدارة "كانّ" مع مسائل دولية، في السياسة والحروب، فتُتيح لسياسي (فولوديمير زيلينسكي) مساحة لكلمة في حفلة افتتاح، لخوضه حرب بقاء ضد دولة جارة (ما علاقته بالسينما أصلاً، رغم أنّه ممثل تلفزيوني سابق، غير مشهور كثيراً خارج بلده؟)، لكنّها تنفضّ عن جريمة ترتكبها دولة (حرب الإبادة الإسرائيلية الأخيرة)، أقلّه بتحاشيها ذكرها وذكر جرائمها، خاصة مع اختيارها فيلماً "فلسطينياً"، تُقتل شخصيته النسائية الأساسية بغارة إسرائيلية يتردّد أنّها متعمّدة ( فاطمة حسونة، وفيلم "ضع روحك على كفّك وامشِ" للإيرانية زبيدة فارسي ). مع هذا، يندر العثور على "رأي" لناقد أو صحافي/صحافية سينمائي عربيّ إزاء المسألة هذه، عشية الدورة الـ78 (13 ـ 24 مايو/أيار 2025). سينما ودراما التحديثات الحية أكذوبة مهرجان كانّ في السياسة والحريات يستخدم هؤلاء العرب مفردات تبجيلية في وصف المهرجان، مع أنّها غير لائقة بمهنةٍ، وغير متوافقة مع نقدٍ. هناك بينهم/بينهنّ من "يشتم" زملاء وزميلات، قلائل للغاية، لهم/لهنّ كتابات نقدية تطرح تساؤلات مشروعة. يقولون، مواربة أو علناً (ويفخرون بذلك)، إنّ المهمّة الأولى كامنةٌ في مشاهدة أفلام والكتابة عنها فقط، والبعض يهرع إلى غرف المؤتمرات الصحافية، وإنْ يُكلّفه هذا خسارة فيلم، "ربما" يشاهده لاحقاً في يوم آخر، أو ينساه كلّياً. فالحوارات نفسها، رغم ضيق الوقت، فرصةٌ بالنسبة إليهم/إليهنّ لاقتناص صورة والحصول على إجابات، يُقال إنّ عرباً (يندر مشاركتهم/مشاركتهنّ في حوارات كهذه أصلاً) غير متردّدين عن "سرقة" أسئلة زملاء وزميلات أجانب، لنشرها مع الإجابات في ما يسمّونه "حواراً خاصاً" بهذه المطبوعة، أو بذاك الموقع. لا نقاش حول ضيق الوقت، فهذا مفهوم، لأنّ من يوافق على حوارات كهذه (الغالبية الساحقة لممثلين/ممثلات ومخرجين/مخرجات) يأتي إلى مهرجان "كانّ" لأيامٍ قليلة، والحوار، الذي يُنظَّم قبل عرض الفيلم أحياناً، وهذه مشكلةٌ نقدية وصحافية كبيرة (للحوار الإعلامي مدّة أطول بقليل، فالجهات الإنتاجية تُفضّله لرواجه الشعبيّ)، جزءٌ من ترويجٍ مطلوب. قول هذا كلّه يُشير إلى أنّ المهرجان غير مانح إياهم/إياهنّ ميزات، "تفرض" تغاضياً عن قراءات نقدية سوية لأخطاء وارتباكات وخديعة وكذب وادّعاء، ترتكبها إدارة المهرجان وتتصرّف وفقاً لها. مهرجان كهذا غير مكترثٍ أصلاً بكتابات نقدية عربية، رغم إصراره على إرسال المكتوب عن كلّ دورة إلى مكتبه الصحافي، لـ"الاطمئنان" على أنّ من يُمنَح "بطاقة اعتماد" يُتابع يوميات دوراته، ويكتب عن أفلامها ونشاطاتها. لكنْ، أهناك من يقرأ فعلياً؟ ألن يكون عربيّ/عربيّة مسؤولاً عن القسم العربي في المكتب الصحافي، مع ما يعنيه هذا من تلبية مصالح شخصية، أحياناً؟ لذا، ما الداعي إلى تجنّب الكتابة النقدية السوية عن أخطاء مرتكبة منذ أعوام قليلة، في مسائل إدارية وتنظيمية: الخوف من أنْ يُرفض طلب الحصول على "بطاقة اعتماد" في دورة لاحقة؟ ألن تكون الكتابة هذه جزءاً من المهمة النقدية والصحافية على الأقلّ، فللإعلام المرئي/المسموع مهمات غير نقدية إطلاقاً؟ أيظنّ هؤلاء أنّ تجنّب التعليق النقدي السوي عن أخطاء سيمنحهم ميزات إضافية، لن يحصلوا عليها لأنهم/لأنهنّ غير حاصلين على شيءٍ أساساً، باستثناء "بطاقة الاعتماد" تلك، التي يُروى أنّ علاقات عامة تفرض تبديلاً بألوانها وفقاً لمصالح شخصية متبادلة؟ تساؤلات كهذه ربما تدفع عربٌ إلى مزيدٍ من الشتم والتقريع، بدلاً من إثارة نقاشٍ صحّي وعلني وواضح. لكنّها (التساؤلات) أحد أسس المهنة.


العربي الجديد
منذ 6 أيام
- العربي الجديد
صُنع الله إبراهيم.. سيرة جسد يقاوم هشاشته
تعدّدت مظاهر الاعتراف بالمكانة الحقيقية التي يحتلّها إبداع صنع الله إبراهيم في المتن الروائي المصري والعربي، خلال مسيرته الحافلة بالتحوّلات الفكرية والثقافية والسياسية. وكان أبرز هذه المظاهر ما حدث عام 2003، حين رفض جائزة ملتقى الرواية العربية الثاني المنعقد في القاهرة، احتجاجاً على ما وصفه بحالة الهوان التي بلغتها مصر تحت حكم الرئيس المصري الراحل حسني مبارك. وقد لخّص صنع الله إبراهيم هذا الهوان أمام الحاضرين في دار الأوبرا، عقب إعلان فوزه بالجائزة من قبل الروائي السوداني الطيب صالح، قائلاً: "في هذه اللحظة التي نجتمع فيها هنا، تجتاح القوات الإسرائيلية ما تبقّى من الأراضي الفلسطينية، وتقتل النساء الحوامل والأطفال، وتشرّد الآلاف، وتنفّذ، بدقّة منهجية واضحة، خطة لإبادة الشعب الفلسطيني. لكن العواصم العربية تستقبل زعماء إسرائيل بالأحضان". الغريب أن هذه الكلمات التي قيلت قبل 22 عاماً، لا تزال سارية حتى اليوم! ندد البعض حينها برفض إبراهيم للجائزة، واتهموه بمحاولة عمل "شو" إعلامي، فيما تضامن آخرون معه. مهما يكن من أمر، كان رفضه للجائزة بذلك الشكل المدوي صفعة غير مسبوقة لدولة مبارك وتأكيداً آخر من صنع الله إبراهيم أنه لم ولن يهادن النظم القمعية أو الديكتاتورية، كما لو أراد بهذا الرفض أن يمتلك جرأة الطفل في الحكاية الشهيرة، حين صاح وسط الجميع قائلًا "الملك عار"، وقد فعل. قُدِّر لجسد صنع الله إبراهيم، على هشاشته، أن يتحمّل ما لم يتحمله غيره من الأقوياء الأصحاء. وتكفي تجربة اعتقاله خمس سنوات كاملة لتجعلنا ننظر مرتين إلى جسده الضئيل، الذي يتعارض مع عينيه اليقظتين، ونتساءل كيف عبر جحيم المعتقل في الواحات، حيث مات عشرات منهم تحت التعذيب، وعلى رأسهم صديقه شهدي عطية. لم تكن تجربة المعتقل وحدها هي التي صنعت من صنع الله إبراهيم كاتباً. فقبلها كانت طفولته الاستثنائية، كان عليه منذ يومه الأول أن يحمل اسماً غير مألوف، وقع تحت إصبع أبيه بالمصادفة وهو يستخير الله لتسمية وليده الذي جاء إلى الدنيا عام 1937، فكانت الآية رقم 88 من سورة النمل: "وَتَرَى الْجِبَالَ تَحْسَبُهَا جَامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ إِنَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَفْعَلُونَ"، إشارة للأب أن يكون اسم وليده "صنع الله". ما إن يبدأ الطفل في الوعي بالعالم من حوله، حتى يكتشف أن والده قد تجاوز الستين، وأنه أقرب إلى هيئة الجد منه إلى صورة الأب. يدرك أيضاً أن له شقيقين من أبيه، من زواج سابق. في افتتاحية روايته التلصص (المستقبل العربي، 2007)، يرسم صنع الله إبراهيم ملامح الأب المُسنّ بلغة مشهدية دقيقة، قائلاً: "يتمهّل أبي في مدخل المنزل قبل أن نخطو إلى الحارة. يرفع يده إلى فمه، يتحسّس طرفي شاربه الرماديّ الملوّيين إلى أعلى. يتأكّد من أن طربوشه مائل قليلاً ناحية اليسار. ينزع سيجارته السوداء المطفأة من ركن فمه، ينفض رمادها عن صدر معطفه الأسود الثقيل، يبسط أساريره لتتلاشى تجاعيد جبهته، يرسم ابتسامة على شفتيه، يقبض على يدي اليسرى، ونتلمّس طريقنا في ضوء الغروب". تتحول العلاقة التي تربط بين الأب وابنه إلى صداقة وتشجيع متواصل على مواصلة القراءة، إلى الدرجة التي يعتبر فيها صنع الله إبراهيم أن والده كان المدرسة الحقيقية التي تخرّج منها. يقول في افتتاحيّته لكتابه السيري "يوميات الواحات" (2005): "السجن هو جامعتي، ففيه عايشت القهر والموت، ورأيت بعض الوجوه النادرة للإنسان، وتعلّمت الكثير عن عالمه الداخلي وحيواته المتنوعة، ومارست الاستبطان والتأمّل، وقرأت في مجالات متباينة، وفيه أيضاً قررت أن أكون كاتباً. أما أبي فهو المدرسة". شكّل رفضه لجائزة ملتقى الرواية العربية صفعة لـ"دولة مبارك" بموت الأب عام 1955، تتغيّر حياة صنع الله إبراهيم، ويبدأ في الانغماس أكثر فأكثر في العمل السياسي السري وتنظيمات الشيوعيين المصريين، بعدما أهمل دراسته في كلية الحقوق، ما يؤدي إلى اعتقاله في 1959 وبقائه في المعتقل حتى منتصف 1964. يصف الكاتب إحساسه البكر بيومياته السريعة التي دأب على كتابتها بعد خروجه من المعتقل، والتي شكّلت في ما بعد روايته الأولى "تلك الرائحة". في مقدمته للطبعة الثالثة للرواية (دار الهدى، 2003)، يقول: "كان ثمّة تيار خفي في ذلك الأسلوب التلغرافي الذي لا يتوقّف ليتمعّن، ولا يعنى بانتقاء المترادفات أو سلامة اللغة أو مداراة القبح الذي يصدم النفوس الحساسة". هذه السطور تستعيد بشكل ما الهجوم العنيف الذي شنّه الكاتب المصري الراحل يحيى حقي على رواية "تلك الرائحة" بعد صدورها في 1966، إذ كتب في عموده الأسبوعي بجريدة المساء معبّراً عن نفوره من الرواية وتقزّزه من المشاهد الجنسية التي غرق فيها الراوي، حيث قال: "تقززت نفسي من هذا الوصف الفيزيولوجي تقززاً شديداً لم يبق لي ذرة من القدرة على تذوّق القصة رغم براعتها". لينهي حقي بجملته القاطعة: "إنني لا أهاجم أخلاقياتها (الرواية)، بل غلظة إحساسها وفجاجته وعاميته، هذا هو القبح الذي ينبغي محاشاته، وتجنيب القارئ تجرّع قبحه". لا شك أن ذلك الهجوم الحاد من حقي ضد "تلك الرائحة"، جعل صنع الله إبراهيم يدرك منذ بدايته في عالم الكتابة درساً مهماً، وهو أنّه لن يكون بمقدوره إرضاء الجميع، وأن عليه أن يثق في الشكل الأرشيفي الذي اختاره لكتابته، والمُعتمد على الكتابة الراصدة لكل التفاصيل، المزوّدة بعشرات الوثائق والتصريحات والمواد الصحافية واليوميات، لتكون أساساً لفنه الروائي الذي كرسه لتأريخ مصر أدبياً إن صح لنا التعبير، على طريقة الجبرتي. إنه الأسلوب الذي سيتأكّد لاحقاً في أعمال روائية مثل "نجمة أغسطس" (1974)، و"اللجنة" (1981)، و"بيروت بيروت" (1984)، و"ذات" (1992)، و"شرف" (1997)، و"وردة" (2000)، و"أمريكانلي" (2003). مع الألفية الجديدة، وبعد أن رفض صنع الله إبراهيم جائزة "دولة مبارك"، واصل الكتابة بالأسلوب التأريخي المعتمد على الأرشيف والصحف، ليقدم عدداً من أعماله السيرية والروائية، من بينها "يوميات الواحات" (2005)، و"العمامة والقبعة" (استخدم فيها شخصية الجبرتي الحقيقية كأحد شخصيات الرواية)، و"القانون الفرنسي" (2008)، محولاً مسيرته الروائية إلى ما يشبه أرشيفاً لتاريخ مصر المعاصر، بدءاً من الحملة الفرنسية وصولاً إلى لحظتنا العربية الراهنة. اليوم، إذ يرقد الكاتب المصري صنع الله إبراهيم في أحد مستشفيات القاهرة، إثر إصابته بكسر في الحوض – هو الثاني خلال العامين الماضيين – أستعيد اللحظة التي وقعتُ فيها على أول عمل أدبي له. كان ذلك في صباح يوم بارد من ديسمبر/ كانون الأول 1996، في أحد المقاهي الجانبية بميدان باب اللوق في القاهرة، حين أهداني المترجم المصري الراحل بشير السباعي نسخته الخاصة من الطبعة الثانية لرواية "بيروت بيروت"، وقال لي: "تفضّل، اقرأ وتعلّم". منذ الصفحة الأولى، تعلّقت بكتابة صنع الله إبراهيم، وبدأت أقرأ أعماله السابقة بأثر رجعي، وأتابع جديده أولاً بأول... وأتعلّم. * شاعر ومترجم من مصر آداب التحديثات الحية صنع الله إبراهيم في حالة صحية حرجة ومناشدات لتدخل الحكومة المصرية