متحفُ تراث من عبقِ الترابِ... من التأسيسِ إلى التطويرِ
نضال برقان
مثّلَ «متحفُ تراث من عبقِ الترابِ»، وهو أولُ مُتحفٍ خاصٍ في مجالِ التراثِ الفلسطيني، تمّ تأسيسُه في العام 1790، في قريةِ «غزالة»، في منطقةِ بئر السبع جنوب فلسطين، على يدِ الطبيبةِ حاكمة العايد ترابين (1775 - 1885)، معادلاً موضوعيًّا لاهتمامِ قبيلةِ «عايد ترابين» بخاصّةٍ، ومجملِ القبائلِ الفلسطينيّةِ بحمايةِ الذاكرةِ والتراثِ الفلسطينيين، عن طريق المتاحفِ، بأسلوبٍ علميٍّ يضمنُ المحافظةَ على مقتنياتِ الأجدادِ، بوصفها أدواتٍ تعزّزُ المعرفةَ من جانبٍ، وتسهمُ في شفاءِ الذاكرةِ من جانبٍ آخر.
وبينما وقفنا، في تقريرٍ سابقٍ عندَ السياقِ الاجتماعيّ والثقافيّ الذي رافقَ المتحفَ في مرحلةِ التأسيس (1790–1884)، فإننا سنتتبّعُ، في التقرير التالي، السياقاتِ التي عزّزت انتقالَ المتحفِ من مرحلةِ التأسيسِ إلى مرحلة التطوير (1884–1948).
شكّل اعترافُ الإمبراطوريّةِ العثمانيّةِ بـ»تراث من عبقِ الترابِ» حدثًا مفصليّا في مسيرةِ المتحف، إذ تمّ سنُّ قانون الآثار لعام 1888، في ظلّ حكم السلطان عبد الحميد الثاني (1842-1918)، وذلك لتأميمِ جميعِ الاكتشافاتِ الأثريّةِ داخلَ أراضي الإمبراطورية، ومنعِ تصديرِ المقتنياتِ إلى الخارجِ لإيجادِ الإطار القانونيّ المعنيّ بالحفاظِ على التراثِ الثقافيِ للإمبراطورية، وتماشيًا مع هذا التشريعِ الجديدِ، قامت عائلةُ «عايد ترابين» بتوثيقِ جميعِ المقتنياتِ الموجودةِ في مجموعتها بدقّةٍ، وفي العامِ نفسه، حصلت على اعترافٍ رسميٍّ من الإدارةِ العثمانيةِ بالمتحفِ.
كما استطاعت الطبيبةُ «حاكمة» حشدَ دعمِ ثلاثين عائلةً وقبيلةً أخرى ساهمت في جمعِ القطعِ الثقافيّةِ، لحمايةِ وتعزيزِ التراثِ الثقافي الذي تمثله مجموعةُ المقتنياتِ بشكلٍ أفضل، ما خلقَ التزامًا مجتمعيًا بِحمايةِ تراثِ المنطقة.
نقلة نوعيّة تالية شهدها المتحف، في تلكَ الحقبةِ الزمنيّةِ، فبعد رحيل الطبيبة «حاكمة» عُهد إرث المتحف ومسؤوليته لابنتها الطبيبةِ «سلاسل»، والتي ولدت عام 1820، في قرية «غزالة» وعاشت 125 عامًا. فبعد الانتهاءِ من دراستها في بيمارستان نور الدين في دمشق، قامت «سلاسل» بطويرِ مجموعةِ المتحف، من خلالِ الاعتمادِ على مبدأ البحثِ العلميِّ في الحفاظِ على مقتنياتِ المتحف وجمع المزيد منها، حيثُ قام فريق المتحف، تحتَ قيادتها، بتوسيعِ مقتنياته لتشمل مقتنياتٍ من جميع عشائر بدو النقب في منطقة بئر السبع، التي كانت موطنًا لمائة قبيلة على الأقل.
وفي عام 1855، ولدت الطبيبةُ «حِسِن»، ابنة الطبيبة «سلاسل» في قرية «غزالة». ومثل والدتها وجدتها، عاشت حياةً طويلةً، وتوفيت عام 1950 في غزة. بعد الانتهاء من دراستها في كلية طب قصر العيني مدرسة الطب للنساء في القاهرة، ذهبت الطبيبة حِسِن عايد ترابين إلى العراق للتدريب في مستشفى الغرباء في كرخ، بغداد. ثمّ تخصّصت في الطبّ البدويّ التقليديّ، وتحمّلت مسؤولية الحفاظ على المتحف وتوسيعه. بعد الانتهاء من دراستها، وسعت مجموعة المتحف بقطع إثنوغرافية من البلدات والقرى التابعة لمدن جنوب فلسطين، وبعض مدن الساحل المحيطة ببير السبع، مثل عسقلان، غزة، يافا، الخليل. وقد دعمت فروع عائلة عايد ترابين المنتشرة في غالبية مناطق فلسطين التاريخية هذا النمو في هذه المناطق الحضرية والريفية.
لم تكن مجموعةُ المتحفِ بمثابةِ مستودعٍ ثقافيٍّ فحسب، بل كانت أيضًا موردًا عمليًا، حيث يمكن استعارةُ القطع الإثنوغرافية مجانًا، مقابل وديعةٍ لضمانِ العودةِ الآمنة لها، ما يجسّد إدامةً للتراثِ وأدواته بشكلٍ عَمَليّ.
قدمت الطبيبةُ «حِسِن» ابتكارًا إضافيًا لمجموعة المتحف من خلال إنشاء شبكة تجارية تركز على الحرف اليدوية المنسوخة من المقتنيات الموجودة في المجموعة.
وواصل المتحف ازدهاره ونموّه لتصلَ مقتنياته تقريبًا إلى 10,000 قطعة بحلول عام 1917، وكان يعمل وقتها ضمنَ سبعِ خيام، بلغَ طولُ كلِّ واحدةٍ منها حوالي خمسينَ مترًا وعرضها عشرة أمتار: خيمة للأزياء والمجوهرات والتمائم، وواحدة للسجاد والتطريز، وواحدة للأسلحة البيضاء، وواحدة للأدوات الزراعية، وواحدة للطب التقليدي، وواحدة للحرف اليدوية، وواحدة للتخزين.
كانّ ذلك حالُ المتحفِ قبل الحرب العالميّة الأولى، والتي تركت آثارًا مرعبة في منطقة بلاد الشام بعامّةٍ، وفي فلسطين بخاصّةٍ، أمّا ما حصلَ للمتحفِ ومقتنياتِهِ ما بين الحرب العالمية الأولى وما بين نكبة عام 1948 فهو ما سنتعرّف عليه في تقرير جديد حول المتحف، قبل أن تحطّ مجموعةٌ مهمةٌ من مقتنياته في أكاديمية علم المتاحف الفلسطيني والعربي في العاصمة الفرنسية باريس، التي أسسها حفيد الطبيبة «حاكمة» من الجيل السادس الدكتور متحف عايد ترابين، باعتباره أولَ وصيًّ وأمينٍ للعائلة.

جرب ميزات الذكاء الاصطناعي لدينا
اكتشف ما يمكن أن يفعله Daily8 AI من أجلك:
التعليقات
لا يوجد تعليقات بعد...
أخبار ذات صلة

الدستور
٢٨-٠٤-٢٠٢٥
- الدستور
أكاديمية علم المتاحف الفلسطيني والعربي.. إرث 235 عامًا من العمل المتحفي المؤسساتي
نضال برقان تختزلّ «أكاديمية علم المتاحف الفلسطيني والعربي»، إرثَ 235 عامًا من العمل المتحفي المؤسساتي، حيثُ أُعيدَ من خلالها إحياءُ متحف «تراث مِن عبقِ الترابِ»، المتحف الذي تمّ تأسيسه على يدِ الطبيبةِ حاكمة العايد ترابين (1775 -1885). في عام 1790 في قريةِ «غزالة» الواقعة في منطقةِ بئر السبع جنوبي فلسطين التاريخية. في العام 2022 قام الباحث الأكاديمي متحف عايد ترابين وهو الحفيد السادسُ للطبيبة حاكمة العايد ترابين بالمبادرة لتأسيس الأكاديمية في العاصمة الفرنسيّة باريس. وذلك سعيًا لِغرس وتعزيز السرديات المتعلقة بالثقافة الفلسطينية والعربية الأصيلة، بما تحتوي من معرفة ومعتقدات مجتمعية وثقافة شعبية، في مجالات الزي والطب الشعبي وفي مجالات ومواضيع أخرى تتعلق بالثقافة الشعبية. وبالإضافة لذلك المساهمة في فهم مفرداتها ورموزها ودلالاتها المختلفة وأيضا فهم سياقاتها المتعلقة بحياة الفلسطينيين بجوانبها الإنسانية والاجتماعية المختلفة. وقد جاءت انطلاقةُ الأكاديمية لعدة أسباب تاريخية وموضوعية مهمة أولا جمع التراث الفلسطيني المادي والحفاظ عليه وعرضه للعام وثانيا فهمه ودراسته ونشره. وفي هذا السياق برز الافتقار على المستوى الأكاديمي العالمي للفهم العميق والمعلومات المفصلة حول المجتمع والثقافة الفلسطينية وحول القطع الأثرية والإثنوغرافية الفلسطينية.حيث كان من الملفت والمثير جدا أن المتاحف حول العالم ليس فقط تفتقر، لمعلومات كافية حول التراث الفلسطيني، بل حتى تصنف في أغلب الأحيان القطع التراثية الفلسطينية تحت مسميات فضفاضة، عامة أو حتى خاطئة كليا. حيث اكتشفنا العديد من القطع الفلسطينية المصنفة تحت عناوين مثل: «قطع من الشرق الأوسط»، «قطع من العالم الإسلامي»، «قطع عربية»، «قطع عثمانية/ تركية» أو» قطع بدوية» وحتى هنالك العديد من القطع المصنفة كـ»قطع أوروبية»، قطع من غرب آسيا» أو حتى «قطع من وسط أو شرق آسيا». وتسعى الأكاديمية إلى جمع وحماية التراث الفلسطيني كجزء لا يتجزأ من التراث المشترك للبشرية، وذلك عبر بناء مجموعة «تراث من عبق التراب»، والتي تحوي مجموعة من القطع الإثنوغرافية القيّمة، والتي تقدر بحوالي 5 آلاف قطعة حتى الآن، وهي معروضة داخل متحف الأكاديمية، وتحوي المجموعة على قطع يعود تاريخها ابتداء من العصور الفينيقية والكنعانية مرورا بالفترة الإغريقية، الرومانية، البيزنطية، الإسلامية بكافة مراحلها، حتى فترة الانتداب البريطاني وصولا إلى عام 1948. وتحوي 14 صنفا من أصناف وأنواع التراث الفلسطيني بما فيه: الأثواب والنسيج والمطرزات، الحلي والزينة الشعبية، والتمائم والحجب، الطب الشعبي، الأسلحة البيضاء، العملات المعدنية والورقية، الكتب والإصدارات القديمة، الوثائق التاريخية، الفخاريات والسراميك، المنحوتات الصدفية والخشبية، الأيقونات، اللوحات الفنية، الطوابع البريدية، الأوسمة والمداليات التاريخية. بالإضافة لمجهود في جمع وحفظ قطع التراث الفلسطيني، تكرس الأكاديمية جهودا لتطوير البحث الأكاديمي والعلمي حول أنواع وأصناف القطع الفلسطينية المختلفة، وتقوم بدراسات معمقة للقطع الموجودة في متحف الأكاديمية بالإضافة لدراسة قطع مختلفة موجودة في متاحف عدة أو مجموعات خاصة مختلفة. وقد ركزت الأكاديمية حتى الآن على إنتاج وتطوير علوم جديدة متفرعة من علم المتاحف الفلسطيني وهي: (علم النسيج والتطريز الفلسطيني، علم الحلي والزينة الشعبية الفلسطيني، علم الطب التقليدي الفلسطيني، علم الوثائق الفلسطيني، علم النميات والطوابع الفلسطيني). وفي هذه السياق تستعين الأكاديمية بمجموعة ضخمة من المراجع والمصادر العلمية، وقد استطاعت بناء مكتبة علمية تحوي ما يزيد عن ألف وخمسمئة مرجع من الكتب والمجلات والموسوعات بين القرن الثامن عشر والعشرين باثنتي عشرة لغة مختلفة، حيث تتم دراسة على المراجع المختلفة والاستعانة بها لفهم ودراسة القطع الفلسطينية المختلفة. أما أساليب الدراسة والأبحاث التي تقوم بها الأكاديمية فتستند إلى مناهج بحث ومدارس أكاديمية عالمية مختلفة، وأهمها: المدرسة الروسية والشرق أوروبية (المتأثرة ب الثقافة المسيحية أرثوذوكسية)، المدرسة الأوروبية الغربية الخاصة في منطقة فرنسا وإيطاليا وإسبانيا (المتأثرة بالثقافة المسيحية الكاثوليكية)، والمدرسة الأوروبية الغربية الخاصة بمنطقة ألمانيا وسويسرا والنمسا وهولندا (المتأثرة بالثقافة المسيحية البروتستنتية)، إذ كان لهذه الدول بمرجعياتها الدينية والثقافية المختلفة حضور ثقافي واجتماعي ملموس في فلسطين، وكانت لها تأثيرات عدة على المشهد الحضاري والثقافي في فلسطين. كما أن تلك الدول كان لديها اهتماما كبيرا وعميقا جدا بالثقافة والحضارة في فلسطين، على اعتبار فلسطين هي مهد ومنبع المسيحية التي انتشرت فيما بعد في الجغرافيا الأوروبية والعالم الغربي، حيث شكل هذه الاهتمام لدى المؤسسات الثقافية الأوروبية دافعا لجمع الكثير من القطع التراثية والأثرية الخاصة بالشعب الفلسطيني. واليوم تقوم الأكاديمية بدورها باستكشاف وتوثيق ودراسة هذه القطع الفلسطينية والمحتفظ بها داخل متاحف ومراكز ثقافية وأكاديمية، وكنائس، ومجموعات خاصة الموجودة في دول أوروبية عديدة. كما تقوم الأكاديميّة حاليا ببناء مشروع إضافي يهدف إلى تأهيل باحثين يحملون خبراتٍ علميةٍ أصيلةٍ في مجال علم المتاحف الفلسطيني، تطلعا لاكتشاف ودراسة المزيد مما قدمه الأسلاف، وبالتالي المساهمة في حفظ ومعرفة التراث الفلسطيني. وتتويجا لتلك الجهود فقد تم إنجاز الاعتراف بتأسيس اللجنة الوطنية الفلسطينية للمتاحف كعضو في المجلس الدولي للمتاحف، وذلك تتويجا لجهود كبيرة قام بها الباحث الاكاديمي متحف عايد ترابين وعلى مدى سنوات طويلة، حتى تم الحصول على الاعتراف الرسمي بـ»اللجنة الوطنية الفلسطينية للمتاحف»، بتاريخ 20 آذار 2025. حيث سيكون لهذه الإنجاز انعكاسات إيجابية بالغة وعديدة يشكل رافعة قوية في جمع دراسة وحفظ الوطني الفلسطيني. ختاما، فقد تأملنا، عبر سلسلة من التقارير، مسيرة علم المتاحف الفلسطيني، ابتداءً من تأسيس متحف «تراث من عبق التراب» وهو المتحف الأول في مجال التراث الفلسطيني، عام 1790، إلى تأسيس أكاديمية علم المتاحف الفلسطيني والعربي في باريس عام 2022، استنادا لكتاب «تاريخ علم المتاحف الفلسطيني»، وهو من تأليف د. متحف عايد ترابين، وكليمانتينا بولي، وقد نقلته من الفرنسية إلى العربية السيدة ريم بسيسو، وهي مستشارة دولية وخبيرة في اقتصاد المعرفة والتنمية المستدامة، وتتمتع بخبرة تزيد عن أربعة عقود في مجالات السياسات التعليمية والأدوار الاستشارية الاستراتيجية على امتداد المنطقة العربية وعلى المستوى الدولي، وقد ساهمت أعمالها في صياغة أطر مؤسسية كبرى واستراتيجيات وطنية في مجالات التعليم، والسياحة، والطاقة، ودمج اقتصاد المعرفة، لا سيما من خلال قيادتها لنماذج تدريبية قابلة للتوسع وعمليات التحول الرقمي في قطاع التعليم

الدستور
١٩-٠٤-٢٠٢٥
- الدستور
امتزاجُ الخبراتِ الطبيّةِ والمتحفيّةِ في مسيرةِ «متحفِ تراث مِن عبقِ الترابِ»
نضال برقانانطلاقًا من مكانته التي ترسّخت في الوجدان الجمعي الفلسطيني والعربي بدايةً، بوصفِهِ أولَ مُتحفٍ خاصٍ في مجالِ التراثِ الفلسطيني، تمّ تأسيسُهُ في العام 1790، وتأكيدًا لمكانتِهِ العالميّة، إذ اعترفت به الإمبراطوريةُ العثمانيةُ رسميًّا في العام 1884، في ظلّ حكم السلطان عبد الحميد الثاني (1842-1918)، تاليًا، نواصلُ عبر هذا التقرير، وهو الثالثُ من سلسلةِ تقاريرَ تتأمّلُ السياقاتِ الاجتماعيّةِ والطبية والثقافيّةِ والسياسيّةِ لمسيرةِ (متحف تراث مِن عبقِ الترابِ)، ومقتنياته، منذ كانت مجموعةً في خيمة بـقرية «غزالة» بفلسطين، قبل أن تحطّ رحالَها في أكاديمية علم المتاحف الفلسطيني والعربي في العاصمةِ الفرنسيّةِ باريس.كنّا تتبعنا السياقِ الاجتماعيّ والثقافيّ الذي رافقَ المتحفَ في مرحلةِ التأسيس (1790–1884)، إضافة إلى حالِ المتحفِ قبل الحرب العالميّة الأولى، والتي تركت آثارًا مرعبة في منطقة بلاد الشام بعامّةٍ، وفي فلسطين بخاصّةٍ، أمّا ما حصلَ للمتحفِ ومقتنياتِهِ ما بين الحرب العالمية الأولى وما بين نكبة عام 1948 فهو ما سنتعرّف في هذا التقرير.شكّلت الطبيبة حليمة عايد ترابين (ولدت في غزالة عام 1894 وتوفيت في عام 2014)، نقلة نوعيّة في مسيرة المتحف، وهي ابنة الطبيبة حِسِن عايد ترابين وحفيدة حفيده الطبيبة حاكمة عايد ترابين، كرست شبابها لدراسة الطب العربي البدوي والحضري والسعي نحو الكمال في مهنتها وممارسة عملها. واصلت دراستها في كلية الطب في القسطنطينية حيث حصلت على شهادة الدكتوراة في الجراحة في عام 1916. بالتوازي مع كلية الطب، حضرت دروسًا متنوعة لزيادة المعرفة العلمية في الفلك والرياضيات بالقرب من مسجد الفاتح في القسطنطينية.خلال إقامتها في القسطنطينية، التقت الطبيبة حليمة عايد ترابين بالعديد من الطلاب والباحثين والدبلوماسيين الدوليين من فرنسا وألمانيا وروسيا والصين والمملكة المتحدة، بالإضافة إلى الجراحين والموسيقيين والفنانين والكتاب والمهندسين المعماريين. من خلال هذه التجارب المتنوعة، اكتسبت معرفة ورؤى لا تقدر بثمن اكتسبتها طوال حياتها. كما أشارت إلى أن العديد من معاصريها يفتقرون إلى فهم عميق للفلسطينيين وباقي سكان بلاد الشام وتراثهم الثقافي الغني.ومن الشخصيات التي كان لها أثر متميّز في مسيرة المتحف الطبيب أحمد منيف عثمان محمد عايد ترابين (1886–1962)، واسم عائلته معروف بسوريا بعائلة العائدي أو العائد، وهو ابن عم الطبيبة حليمة عايد ترابين، والذي تردّد كثيرًا على القسطنطينية. ولعب دورًا حاسمًا كأحد مؤسسي المعهد الطبي العربي في دمشق في عام 1918. والتي شكلت نواة لجامعة دمشق اليوم، وقد شارك في تقديم النصائح الدراسة القيمة مع الطبيبة حليمة عايد ترابين، والتي كانت تزوده بمعلومات عن الكتب والمعلمين والتقنيات الجراحية. تبادلوا خبراتهم الطبية: ناقشت الطبيبة حليمة الطب البدوي من النقب ومصر وفلسطين، في حين شارك الطبيب أحمد منيف معرفته بالطب الحديث من القسطنطينية وسوريا. شارك كلاهما في تحليل ما بين الثقافات وطرحا مقترح ما يُعرف الجمهور الغربي بالثقافة الفلسطينية وباقي المنطقة العربية من خلال إرسال ممثل عن القبيلة إلى القارة الأوروبية. تركت هذه المناقشات انطباعًا دائمًا على الطبيبة حليمة، التي وضعت هذه الأفكار موضع التنفيذ من خلال تعيين أحد أحفادها لتمثيل متحف «التراث من عبق التراب» وتعزيز الثقافة الفلسطينية والعربية في الخارج، بعد ثمانين عامًا.يتذكر د. متحف عايد ترابين، وهو مؤسس أكاديمية علم المتاحف الفلسطيني والعربي في العاصمة الفرنسية باريس، وحفيد الطبيبة «حاكمة» من الجيل السادس، الحياة السعيدة من خلال وجوده في سانت بطرسبورغ: «لم تكن أسرتي مجتمعًا مغلقًا؛ ولأكثر من ألف عام، استكشف الرجال والنساء الثقافة والطب والقانون وطرق التجارة، وحماية الضعفاء، وما إلى ذلك. على حد علمي، إن ذلك منغرس في حمضها النووي. كانت جدتي «حليمة» مثل والدتها، وكذلك جدتها. لقد نشأت بنفس الطريقة وربّتني بنفس الطريقة..».كرست الطبيبة حليمة عايد ترابين، على غرار والدتها وجدتها، نفسها لإثراء ودراسة مجموعات المتحف. منذ تعيينها مديرة للمتحف في عام 1920 حتى إغلاق المتحف بسبب أحداث عام 1948، سافرت على نطاق واسع إلى جميع أنحاء فلسطين للحصول على فهم أفضل للتراث الإثنوغرافي للقرويين الفلسطينيين وسكان الحضر والبدو وشبه البدو. خلال رحلاتها، حصلت على مقتنيات اعتبرتها ذات قيمة وذات صلة بمجموعة المتحف.كانت المقتنيات الموجودة في المجموعة بمثابة وسيلة لعلاج المشاكل الصحية للسكان المحليين والمساعدة في شفاء المرضى. أنشأت الطبيبة حليمة عايد ترابين عيادة حَجَرِية رسمية مجاورة للمتحف، مجهزة تجهيزًا كاملاً بجميع المعدات الطبية اللازمة التي يحتاجها السكان قرية غزالة المحليين. في عام 1935، كان لديها عشرة أجنحة بنيت للمتحف، من بينها أجنحة لدراسة وعرض النباتات والبذور والتمائم والأزياء الشعبية والكثير من المنتوجات النسيج والحلي والأدوات الزراعية والأسلحة البيضاء والنحاسيات والعملات ومكتبة فيها الكثير من الوثائق والمخطوطات المتداولة بين غرف التجميع والغرفة الطبية وغرفة الحرف اليدوية، عكست الالتزام بالحفاظ على وظائف هذه المقتنيات على قيد الحياة لصالح المجتمع الفلسطيني. لم يساهم هذا النهج المتكامل في الحفاظ على التراث الفلسطيني فحسب، بل كفل أيضًا استمرارية تقاليدهم.وبعد النكبة عام 1948 تمّ إعادة إحياء رسالة المتحف، كما تمّت ولادة جديدة لعلم المتاحف الفلسطيني بين عامي (1967-2000)، وهو ما سنتوقف عند في تقرير لاحق.

الدستور
١٢-٠٤-٢٠٢٥
- الدستور
متحفُ تراث من عبقِ الترابِ... من التأسيسِ إلى التطويرِ
نضال برقان مثّلَ «متحفُ تراث من عبقِ الترابِ»، وهو أولُ مُتحفٍ خاصٍ في مجالِ التراثِ الفلسطيني، تمّ تأسيسُه في العام 1790، في قريةِ «غزالة»، في منطقةِ بئر السبع جنوب فلسطين، على يدِ الطبيبةِ حاكمة العايد ترابين (1775 - 1885)، معادلاً موضوعيًّا لاهتمامِ قبيلةِ «عايد ترابين» بخاصّةٍ، ومجملِ القبائلِ الفلسطينيّةِ بحمايةِ الذاكرةِ والتراثِ الفلسطينيين، عن طريق المتاحفِ، بأسلوبٍ علميٍّ يضمنُ المحافظةَ على مقتنياتِ الأجدادِ، بوصفها أدواتٍ تعزّزُ المعرفةَ من جانبٍ، وتسهمُ في شفاءِ الذاكرةِ من جانبٍ آخر. وبينما وقفنا، في تقريرٍ سابقٍ عندَ السياقِ الاجتماعيّ والثقافيّ الذي رافقَ المتحفَ في مرحلةِ التأسيس (1790–1884)، فإننا سنتتبّعُ، في التقرير التالي، السياقاتِ التي عزّزت انتقالَ المتحفِ من مرحلةِ التأسيسِ إلى مرحلة التطوير (1884–1948). شكّل اعترافُ الإمبراطوريّةِ العثمانيّةِ بـ»تراث من عبقِ الترابِ» حدثًا مفصليّا في مسيرةِ المتحف، إذ تمّ سنُّ قانون الآثار لعام 1888، في ظلّ حكم السلطان عبد الحميد الثاني (1842-1918)، وذلك لتأميمِ جميعِ الاكتشافاتِ الأثريّةِ داخلَ أراضي الإمبراطورية، ومنعِ تصديرِ المقتنياتِ إلى الخارجِ لإيجادِ الإطار القانونيّ المعنيّ بالحفاظِ على التراثِ الثقافيِ للإمبراطورية، وتماشيًا مع هذا التشريعِ الجديدِ، قامت عائلةُ «عايد ترابين» بتوثيقِ جميعِ المقتنياتِ الموجودةِ في مجموعتها بدقّةٍ، وفي العامِ نفسه، حصلت على اعترافٍ رسميٍّ من الإدارةِ العثمانيةِ بالمتحفِ. كما استطاعت الطبيبةُ «حاكمة» حشدَ دعمِ ثلاثين عائلةً وقبيلةً أخرى ساهمت في جمعِ القطعِ الثقافيّةِ، لحمايةِ وتعزيزِ التراثِ الثقافي الذي تمثله مجموعةُ المقتنياتِ بشكلٍ أفضل، ما خلقَ التزامًا مجتمعيًا بِحمايةِ تراثِ المنطقة. نقلة نوعيّة تالية شهدها المتحف، في تلكَ الحقبةِ الزمنيّةِ، فبعد رحيل الطبيبة «حاكمة» عُهد إرث المتحف ومسؤوليته لابنتها الطبيبةِ «سلاسل»، والتي ولدت عام 1820، في قرية «غزالة» وعاشت 125 عامًا. فبعد الانتهاءِ من دراستها في بيمارستان نور الدين في دمشق، قامت «سلاسل» بطويرِ مجموعةِ المتحف، من خلالِ الاعتمادِ على مبدأ البحثِ العلميِّ في الحفاظِ على مقتنياتِ المتحف وجمع المزيد منها، حيثُ قام فريق المتحف، تحتَ قيادتها، بتوسيعِ مقتنياته لتشمل مقتنياتٍ من جميع عشائر بدو النقب في منطقة بئر السبع، التي كانت موطنًا لمائة قبيلة على الأقل. وفي عام 1855، ولدت الطبيبةُ «حِسِن»، ابنة الطبيبة «سلاسل» في قرية «غزالة». ومثل والدتها وجدتها، عاشت حياةً طويلةً، وتوفيت عام 1950 في غزة. بعد الانتهاء من دراستها في كلية طب قصر العيني مدرسة الطب للنساء في القاهرة، ذهبت الطبيبة حِسِن عايد ترابين إلى العراق للتدريب في مستشفى الغرباء في كرخ، بغداد. ثمّ تخصّصت في الطبّ البدويّ التقليديّ، وتحمّلت مسؤولية الحفاظ على المتحف وتوسيعه. بعد الانتهاء من دراستها، وسعت مجموعة المتحف بقطع إثنوغرافية من البلدات والقرى التابعة لمدن جنوب فلسطين، وبعض مدن الساحل المحيطة ببير السبع، مثل عسقلان، غزة، يافا، الخليل. وقد دعمت فروع عائلة عايد ترابين المنتشرة في غالبية مناطق فلسطين التاريخية هذا النمو في هذه المناطق الحضرية والريفية. لم تكن مجموعةُ المتحفِ بمثابةِ مستودعٍ ثقافيٍّ فحسب، بل كانت أيضًا موردًا عمليًا، حيث يمكن استعارةُ القطع الإثنوغرافية مجانًا، مقابل وديعةٍ لضمانِ العودةِ الآمنة لها، ما يجسّد إدامةً للتراثِ وأدواته بشكلٍ عَمَليّ. قدمت الطبيبةُ «حِسِن» ابتكارًا إضافيًا لمجموعة المتحف من خلال إنشاء شبكة تجارية تركز على الحرف اليدوية المنسوخة من المقتنيات الموجودة في المجموعة. وواصل المتحف ازدهاره ونموّه لتصلَ مقتنياته تقريبًا إلى 10,000 قطعة بحلول عام 1917، وكان يعمل وقتها ضمنَ سبعِ خيام، بلغَ طولُ كلِّ واحدةٍ منها حوالي خمسينَ مترًا وعرضها عشرة أمتار: خيمة للأزياء والمجوهرات والتمائم، وواحدة للسجاد والتطريز، وواحدة للأسلحة البيضاء، وواحدة للأدوات الزراعية، وواحدة للطب التقليدي، وواحدة للحرف اليدوية، وواحدة للتخزين. كانّ ذلك حالُ المتحفِ قبل الحرب العالميّة الأولى، والتي تركت آثارًا مرعبة في منطقة بلاد الشام بعامّةٍ، وفي فلسطين بخاصّةٍ، أمّا ما حصلَ للمتحفِ ومقتنياتِهِ ما بين الحرب العالمية الأولى وما بين نكبة عام 1948 فهو ما سنتعرّف عليه في تقرير جديد حول المتحف، قبل أن تحطّ مجموعةٌ مهمةٌ من مقتنياته في أكاديمية علم المتاحف الفلسطيني والعربي في العاصمة الفرنسية باريس، التي أسسها حفيد الطبيبة «حاكمة» من الجيل السادس الدكتور متحف عايد ترابين، باعتباره أولَ وصيًّ وأمينٍ للعائلة.