logo
امتزاجُ الخبراتِ الطبيّةِ والمتحفيّةِ في مسيرةِ «متحفِ تراث مِن عبقِ الترابِ»

امتزاجُ الخبراتِ الطبيّةِ والمتحفيّةِ في مسيرةِ «متحفِ تراث مِن عبقِ الترابِ»

الدستور١٩-٠٤-٢٠٢٥

نضال برقانانطلاقًا من مكانته التي ترسّخت في الوجدان الجمعي الفلسطيني والعربي بدايةً، بوصفِهِ أولَ مُتحفٍ خاصٍ في مجالِ التراثِ الفلسطيني، تمّ تأسيسُهُ في العام 1790، وتأكيدًا لمكانتِهِ العالميّة، إذ اعترفت به الإمبراطوريةُ العثمانيةُ رسميًّا في العام 1884، في ظلّ حكم السلطان عبد الحميد الثاني (1842-1918)، تاليًا، نواصلُ عبر هذا التقرير، وهو الثالثُ من سلسلةِ تقاريرَ تتأمّلُ السياقاتِ الاجتماعيّةِ والطبية والثقافيّةِ والسياسيّةِ لمسيرةِ (متحف تراث مِن عبقِ الترابِ)، ومقتنياته، منذ كانت مجموعةً في خيمة بـقرية «غزالة» بفلسطين، قبل أن تحطّ رحالَها في أكاديمية علم المتاحف الفلسطيني والعربي في العاصمةِ الفرنسيّةِ باريس.كنّا تتبعنا السياقِ الاجتماعيّ والثقافيّ الذي رافقَ المتحفَ في مرحلةِ التأسيس (1790–1884)، إضافة إلى حالِ المتحفِ قبل الحرب العالميّة الأولى، والتي تركت آثارًا مرعبة في منطقة بلاد الشام بعامّةٍ، وفي فلسطين بخاصّةٍ، أمّا ما حصلَ للمتحفِ ومقتنياتِهِ ما بين الحرب العالمية الأولى وما بين نكبة عام 1948 فهو ما سنتعرّف في هذا التقرير.شكّلت الطبيبة حليمة عايد ترابين (ولدت في غزالة عام 1894 وتوفيت في عام 2014)، نقلة نوعيّة في مسيرة المتحف، وهي ابنة الطبيبة حِسِن عايد ترابين وحفيدة حفيده الطبيبة حاكمة عايد ترابين، كرست شبابها لدراسة الطب العربي البدوي والحضري والسعي نحو الكمال في مهنتها وممارسة عملها. واصلت دراستها في كلية الطب في القسطنطينية حيث حصلت على شهادة الدكتوراة في الجراحة في عام 1916. بالتوازي مع كلية الطب، حضرت دروسًا متنوعة لزيادة المعرفة العلمية في الفلك والرياضيات بالقرب من مسجد الفاتح في القسطنطينية.خلال إقامتها في القسطنطينية، التقت الطبيبة حليمة عايد ترابين بالعديد من الطلاب والباحثين والدبلوماسيين الدوليين من فرنسا وألمانيا وروسيا والصين والمملكة المتحدة، بالإضافة إلى الجراحين والموسيقيين والفنانين والكتاب والمهندسين المعماريين. من خلال هذه التجارب المتنوعة، اكتسبت معرفة ورؤى لا تقدر بثمن اكتسبتها طوال حياتها. كما أشارت إلى أن العديد من معاصريها يفتقرون إلى فهم عميق للفلسطينيين وباقي سكان بلاد الشام وتراثهم الثقافي الغني.ومن الشخصيات التي كان لها أثر متميّز في مسيرة المتحف الطبيب أحمد منيف عثمان محمد عايد ترابين (1886–1962)، واسم عائلته معروف بسوريا بعائلة العائدي أو العائد، وهو ابن عم الطبيبة حليمة عايد ترابين، والذي تردّد كثيرًا على القسطنطينية. ولعب دورًا حاسمًا كأحد مؤسسي المعهد الطبي العربي في دمشق في عام 1918. والتي شكلت نواة لجامعة دمشق اليوم، وقد شارك في تقديم النصائح الدراسة القيمة مع الطبيبة حليمة عايد ترابين، والتي كانت تزوده بمعلومات عن الكتب والمعلمين والتقنيات الجراحية. تبادلوا خبراتهم الطبية: ناقشت الطبيبة حليمة الطب البدوي من النقب ومصر وفلسطين، في حين شارك الطبيب أحمد منيف معرفته بالطب الحديث من القسطنطينية وسوريا. شارك كلاهما في تحليل ما بين الثقافات وطرحا مقترح ما يُعرف الجمهور الغربي بالثقافة الفلسطينية وباقي المنطقة العربية من خلال إرسال ممثل عن القبيلة إلى القارة الأوروبية. تركت هذه المناقشات انطباعًا دائمًا على الطبيبة حليمة، التي وضعت هذه الأفكار موضع التنفيذ من خلال تعيين أحد أحفادها لتمثيل متحف «التراث من عبق التراب» وتعزيز الثقافة الفلسطينية والعربية في الخارج، بعد ثمانين عامًا.يتذكر د. متحف عايد ترابين، وهو مؤسس أكاديمية علم المتاحف الفلسطيني والعربي في العاصمة الفرنسية باريس، وحفيد الطبيبة «حاكمة» من الجيل السادس، الحياة السعيدة من خلال وجوده في سانت بطرسبورغ: «لم تكن أسرتي مجتمعًا مغلقًا؛ ولأكثر من ألف عام، استكشف الرجال والنساء الثقافة والطب والقانون وطرق التجارة، وحماية الضعفاء، وما إلى ذلك. على حد علمي، إن ذلك منغرس في حمضها النووي. كانت جدتي «حليمة» مثل والدتها، وكذلك جدتها. لقد نشأت بنفس الطريقة وربّتني بنفس الطريقة..».كرست الطبيبة حليمة عايد ترابين، على غرار والدتها وجدتها، نفسها لإثراء ودراسة مجموعات المتحف. منذ تعيينها مديرة للمتحف في عام 1920 حتى إغلاق المتحف بسبب أحداث عام 1948، سافرت على نطاق واسع إلى جميع أنحاء فلسطين للحصول على فهم أفضل للتراث الإثنوغرافي للقرويين الفلسطينيين وسكان الحضر والبدو وشبه البدو. خلال رحلاتها، حصلت على مقتنيات اعتبرتها ذات قيمة وذات صلة بمجموعة المتحف.كانت المقتنيات الموجودة في المجموعة بمثابة وسيلة لعلاج المشاكل الصحية للسكان المحليين والمساعدة في شفاء المرضى. أنشأت الطبيبة حليمة عايد ترابين عيادة حَجَرِية رسمية مجاورة للمتحف، مجهزة تجهيزًا كاملاً بجميع المعدات الطبية اللازمة التي يحتاجها السكان قرية غزالة المحليين. في عام 1935، كان لديها عشرة أجنحة بنيت للمتحف، من بينها أجنحة لدراسة وعرض النباتات والبذور والتمائم والأزياء الشعبية والكثير من المنتوجات النسيج والحلي والأدوات الزراعية والأسلحة البيضاء والنحاسيات والعملات ومكتبة فيها الكثير من الوثائق والمخطوطات المتداولة بين غرف التجميع والغرفة الطبية وغرفة الحرف اليدوية، عكست الالتزام بالحفاظ على وظائف هذه المقتنيات على قيد الحياة لصالح المجتمع الفلسطيني. لم يساهم هذا النهج المتكامل في الحفاظ على التراث الفلسطيني فحسب، بل كفل أيضًا استمرارية تقاليدهم.وبعد النكبة عام 1948 تمّ إعادة إحياء رسالة المتحف، كما تمّت ولادة جديدة لعلم المتاحف الفلسطيني بين عامي (1967-2000)، وهو ما سنتوقف عند في تقرير لاحق.

Orange background

جرب ميزات الذكاء الاصطناعي لدينا

اكتشف ما يمكن أن يفعله Daily8 AI من أجلك:

التعليقات

لا يوجد تعليقات بعد...

أخبار ذات صلة

رحلة مع كتاب «المدن والتجارة في الحضارة العربية الإسلامية» للأستاذ الدكتور مجد الدين خمش
رحلة مع كتاب «المدن والتجارة في الحضارة العربية الإسلامية» للأستاذ الدكتور مجد الدين خمش

الدستور

time٢٠-٠٤-٢٠٢٥

  • الدستور

رحلة مع كتاب «المدن والتجارة في الحضارة العربية الإسلامية» للأستاذ الدكتور مجد الدين خمش

نضال برقانمن خلال كتابه الجديد «المدن والتجارة في الحضارة العربية الإسلامية» يعمل الأستاذ الدكتور مجد الدين خمش، عميد كلية الآداب الأسبق في الجامعة الأردنية، على تحليل استثمار الحضارة العربية والإسلامية لطرق الحرير البرية والبحرية القديمة بشكل فاعل أسهم في صنع الروافد المالية، والثقافية، والسياسية الأساسية التي دعّمت المدن العربية الإسلامية ومكوّناتها السياسية، والاقتصادية، والاجتماعية، والثقافية. مما أدى إلى ازدهارها، وتطوّرها، وتعاظم دورها الحضاري، خصوصًا بعد أن سيطرت الجيوش الإسلامية على طرق وممرات الحرير التجارية البرية والبحرية في عصرها الزاهر شرقًا وغربًا محقّقة السبق الحضاري على مستوى العالم القديم. و»طرق الحرير» مصطلح مجازي للإشارة إلى الروافد التي كانت تدعم صعود وازدهار الحضارات القديمة، خصوصًا البوذية، والفارسية، والصينية، والمغولية، والهندية، والرومانية، والإسلامية. فقد استثمرت جميعها طرق الحرير، أو طرق التجارة بمعنى أكثر دقة للحصول على الموارد المالية، والضرائب، والمواد الأولية والغذائية، والمعتقدات، والأفكار، والفنون. وشملت هذه الطرق تنوّعًا واسعًا من التسميات، منها: طرق الفراء، وطرق التجارة بين الصين ونهر السند، وشمال الهند، وطرق القمح، وطرق الذهب، وطرق البخور، وطرق العاج، وطرق العبيد، وغيرها من التسميات.ويُبرز الكتاب، وقد صدر عن دار «الصايل للنشر والتوزيع- عمّان، 2024، وجاء في 444 صفحة من القطع الكبير، العلاقات والارتباطات التجارية، والسياسية، والعسكرية، والثقافية بين الحضارة العربية الإسلامية والحضارات القديمة في آسيا وأفريقيا، وأوروبا بشكل خاص من خلال إطار نظري مُدمج يستثمر منظور التاريخ العالمي، ونظريات النظام العالمي الحديث، وطروحات عديد الأدبيات التنموية في العلوم الاجتماعية، وطروحات العولمة، والانتقادات عليها. ولذلك، ولطبيعة الأدلة المستثمرة في الكتاب، ومنهجيته يمكن تصنيفه ضمن مجال «علم الاجتماع التاريخي».ويتم التركيز في الكتاب، بشكل خاص على العلاقات والروابط السياسية، والعسكرية، والحضارية العديدة المتداخلة بين الحضارة العربية والإسلامية والحضارة الأوروبية منذ ما قبل الإسلام، وحتى الوقت الحاضر. بما في ذلك تبادل السلع والمنتجات، والتقنيات، والفلسفات، والأفكار والمعتقدات، والفنون. وتم نقل نتاجات الحضارة العربية الإسلامية العلمية، والمادية، والثقافية إلى الدول الأوروبية مما ساهم في حركة التنوير والنهضة في أوروبا، وصولًا إلى الاكتشافات الجغرافية الأوروبية التي دعّمت الازدهار التجاري في أوروبا، ثم بدء الثورة الصناعية الأولى في بريطانيا، وبعدها في دول أوروبية أخرى. وانتشار الاستعمار الأوروبي في مناطق واسعة في آسيا وأفريقيا وأمريكا الجنوبية، والعالم العربي. وكانت القوى الأوروبية قد بدأت بترسيخ سيطرتها على الطرق التجارية العالمية البرية والبحرية منذ نهايات القرن الخامس عشر الميلادي. مما دعّم صعود وازدهار الحضارة الأوروبية، وسبّب تراجع مكانة الحضارة العربية الإسلامية. ذلك أن ازدهار وصعود الحضارة العربية الإسلامية، وضعفها وتراجعها كان مرتبطًا ارتباطًا وثيقًا بازدهار وانهيار سيطرتها على طرق الحرير الخاصة بها. دون إغفال تأثيرات الخلافات والصراعات السياسية والعسكرية الداخلية على السلطة والنفوذ، والغزوات المدمرة للتتار والمغول، والجيوش الصليبية على عواصم الحضارة الإسلامية، وصولاً إلى السيطرة العثمانية على مقاليد الأمور في الوطن العربي حتى نهاية الحرب العالمية الأولى حين خضعت المنطقة العربية للاستعمار الأوروبي.ويشير الكتاب في أكثر من موضع إلى سعي الحكومات العربية المعاصرة لاستثمار قدراتها الذاتية، واتفاقيات العولمة، وتقنيات الذكاء الاصطناعي، وتحالفاتها الاقتصادية والسياسية إقليميًا، وعالميًا لتطوير اقتصاداتها ومجتمعاتها لضمان النمو المستدام، وتحقيق رغد العيش لمواطنيها، والمساهمة النشطة في التجارة العالمية المعاصرة للصعود الحضاري من جديد. ذلك أن هذه الاستراتيجيات والقنوات التنموية تمثّل طرق حرير حديثة –بعضها رقميّ- لتراكم الثروة والسلطة، وتحسين المكانة الدولية للدول والحضارات المعاصرة. ويطرح الكتاب بالتالي مشروعًا نهضويًا عربيًا معاصرًا يمكن أن يدعم جهود الحكومات والمجتمعات لتحيق النمو الاقتصادي والتقدم الاجتماعي.هذا، ويشكّل الكتاب إضافة جديدة نوعية للمكتبة العربية حيث يقدّم طروحات مبتكرة حول الدور الحضاري للمدن في الحضارة العربية والإسلامية في علاقاتها بطرق الحرير القديمة، والحضارات الأخرى القريبة والبعيدة التي ارتبطت بها تجاريًا، وسياسيًا، وثقافيًا. كما يمثّل نمطًا جديدًا في التأليف المدمج يسهم في تنمية الفكر والإبداع في الثقافة العربية المعاصرة. كما حقّق الكتاب القائمة القصيرة لجائزة الشيخ زايد للكتاب في فرع « التنمية وبناء الدولة»، الدورة الـ19، 2025.

امتزاجُ الخبراتِ الطبيّةِ والمتحفيّةِ في مسيرةِ «متحفِ تراث مِن عبقِ الترابِ»
امتزاجُ الخبراتِ الطبيّةِ والمتحفيّةِ في مسيرةِ «متحفِ تراث مِن عبقِ الترابِ»

الدستور

time١٩-٠٤-٢٠٢٥

  • الدستور

امتزاجُ الخبراتِ الطبيّةِ والمتحفيّةِ في مسيرةِ «متحفِ تراث مِن عبقِ الترابِ»

نضال برقانانطلاقًا من مكانته التي ترسّخت في الوجدان الجمعي الفلسطيني والعربي بدايةً، بوصفِهِ أولَ مُتحفٍ خاصٍ في مجالِ التراثِ الفلسطيني، تمّ تأسيسُهُ في العام 1790، وتأكيدًا لمكانتِهِ العالميّة، إذ اعترفت به الإمبراطوريةُ العثمانيةُ رسميًّا في العام 1884، في ظلّ حكم السلطان عبد الحميد الثاني (1842-1918)، تاليًا، نواصلُ عبر هذا التقرير، وهو الثالثُ من سلسلةِ تقاريرَ تتأمّلُ السياقاتِ الاجتماعيّةِ والطبية والثقافيّةِ والسياسيّةِ لمسيرةِ (متحف تراث مِن عبقِ الترابِ)، ومقتنياته، منذ كانت مجموعةً في خيمة بـقرية «غزالة» بفلسطين، قبل أن تحطّ رحالَها في أكاديمية علم المتاحف الفلسطيني والعربي في العاصمةِ الفرنسيّةِ باريس.كنّا تتبعنا السياقِ الاجتماعيّ والثقافيّ الذي رافقَ المتحفَ في مرحلةِ التأسيس (1790–1884)، إضافة إلى حالِ المتحفِ قبل الحرب العالميّة الأولى، والتي تركت آثارًا مرعبة في منطقة بلاد الشام بعامّةٍ، وفي فلسطين بخاصّةٍ، أمّا ما حصلَ للمتحفِ ومقتنياتِهِ ما بين الحرب العالمية الأولى وما بين نكبة عام 1948 فهو ما سنتعرّف في هذا التقرير.شكّلت الطبيبة حليمة عايد ترابين (ولدت في غزالة عام 1894 وتوفيت في عام 2014)، نقلة نوعيّة في مسيرة المتحف، وهي ابنة الطبيبة حِسِن عايد ترابين وحفيدة حفيده الطبيبة حاكمة عايد ترابين، كرست شبابها لدراسة الطب العربي البدوي والحضري والسعي نحو الكمال في مهنتها وممارسة عملها. واصلت دراستها في كلية الطب في القسطنطينية حيث حصلت على شهادة الدكتوراة في الجراحة في عام 1916. بالتوازي مع كلية الطب، حضرت دروسًا متنوعة لزيادة المعرفة العلمية في الفلك والرياضيات بالقرب من مسجد الفاتح في القسطنطينية.خلال إقامتها في القسطنطينية، التقت الطبيبة حليمة عايد ترابين بالعديد من الطلاب والباحثين والدبلوماسيين الدوليين من فرنسا وألمانيا وروسيا والصين والمملكة المتحدة، بالإضافة إلى الجراحين والموسيقيين والفنانين والكتاب والمهندسين المعماريين. من خلال هذه التجارب المتنوعة، اكتسبت معرفة ورؤى لا تقدر بثمن اكتسبتها طوال حياتها. كما أشارت إلى أن العديد من معاصريها يفتقرون إلى فهم عميق للفلسطينيين وباقي سكان بلاد الشام وتراثهم الثقافي الغني.ومن الشخصيات التي كان لها أثر متميّز في مسيرة المتحف الطبيب أحمد منيف عثمان محمد عايد ترابين (1886–1962)، واسم عائلته معروف بسوريا بعائلة العائدي أو العائد، وهو ابن عم الطبيبة حليمة عايد ترابين، والذي تردّد كثيرًا على القسطنطينية. ولعب دورًا حاسمًا كأحد مؤسسي المعهد الطبي العربي في دمشق في عام 1918. والتي شكلت نواة لجامعة دمشق اليوم، وقد شارك في تقديم النصائح الدراسة القيمة مع الطبيبة حليمة عايد ترابين، والتي كانت تزوده بمعلومات عن الكتب والمعلمين والتقنيات الجراحية. تبادلوا خبراتهم الطبية: ناقشت الطبيبة حليمة الطب البدوي من النقب ومصر وفلسطين، في حين شارك الطبيب أحمد منيف معرفته بالطب الحديث من القسطنطينية وسوريا. شارك كلاهما في تحليل ما بين الثقافات وطرحا مقترح ما يُعرف الجمهور الغربي بالثقافة الفلسطينية وباقي المنطقة العربية من خلال إرسال ممثل عن القبيلة إلى القارة الأوروبية. تركت هذه المناقشات انطباعًا دائمًا على الطبيبة حليمة، التي وضعت هذه الأفكار موضع التنفيذ من خلال تعيين أحد أحفادها لتمثيل متحف «التراث من عبق التراب» وتعزيز الثقافة الفلسطينية والعربية في الخارج، بعد ثمانين عامًا.يتذكر د. متحف عايد ترابين، وهو مؤسس أكاديمية علم المتاحف الفلسطيني والعربي في العاصمة الفرنسية باريس، وحفيد الطبيبة «حاكمة» من الجيل السادس، الحياة السعيدة من خلال وجوده في سانت بطرسبورغ: «لم تكن أسرتي مجتمعًا مغلقًا؛ ولأكثر من ألف عام، استكشف الرجال والنساء الثقافة والطب والقانون وطرق التجارة، وحماية الضعفاء، وما إلى ذلك. على حد علمي، إن ذلك منغرس في حمضها النووي. كانت جدتي «حليمة» مثل والدتها، وكذلك جدتها. لقد نشأت بنفس الطريقة وربّتني بنفس الطريقة..».كرست الطبيبة حليمة عايد ترابين، على غرار والدتها وجدتها، نفسها لإثراء ودراسة مجموعات المتحف. منذ تعيينها مديرة للمتحف في عام 1920 حتى إغلاق المتحف بسبب أحداث عام 1948، سافرت على نطاق واسع إلى جميع أنحاء فلسطين للحصول على فهم أفضل للتراث الإثنوغرافي للقرويين الفلسطينيين وسكان الحضر والبدو وشبه البدو. خلال رحلاتها، حصلت على مقتنيات اعتبرتها ذات قيمة وذات صلة بمجموعة المتحف.كانت المقتنيات الموجودة في المجموعة بمثابة وسيلة لعلاج المشاكل الصحية للسكان المحليين والمساعدة في شفاء المرضى. أنشأت الطبيبة حليمة عايد ترابين عيادة حَجَرِية رسمية مجاورة للمتحف، مجهزة تجهيزًا كاملاً بجميع المعدات الطبية اللازمة التي يحتاجها السكان قرية غزالة المحليين. في عام 1935، كان لديها عشرة أجنحة بنيت للمتحف، من بينها أجنحة لدراسة وعرض النباتات والبذور والتمائم والأزياء الشعبية والكثير من المنتوجات النسيج والحلي والأدوات الزراعية والأسلحة البيضاء والنحاسيات والعملات ومكتبة فيها الكثير من الوثائق والمخطوطات المتداولة بين غرف التجميع والغرفة الطبية وغرفة الحرف اليدوية، عكست الالتزام بالحفاظ على وظائف هذه المقتنيات على قيد الحياة لصالح المجتمع الفلسطيني. لم يساهم هذا النهج المتكامل في الحفاظ على التراث الفلسطيني فحسب، بل كفل أيضًا استمرارية تقاليدهم.وبعد النكبة عام 1948 تمّ إعادة إحياء رسالة المتحف، كما تمّت ولادة جديدة لعلم المتاحف الفلسطيني بين عامي (1967-2000)، وهو ما سنتوقف عند في تقرير لاحق.

متحفُ تراث من عبقِ الترابِ... من التأسيسِ إلى التطويرِ
متحفُ تراث من عبقِ الترابِ... من التأسيسِ إلى التطويرِ

الدستور

time١٢-٠٤-٢٠٢٥

  • الدستور

متحفُ تراث من عبقِ الترابِ... من التأسيسِ إلى التطويرِ

نضال برقان مثّلَ «متحفُ تراث من عبقِ الترابِ»، وهو أولُ مُتحفٍ خاصٍ في مجالِ التراثِ الفلسطيني، تمّ تأسيسُه في العام 1790، في قريةِ «غزالة»، في منطقةِ بئر السبع جنوب فلسطين، على يدِ الطبيبةِ حاكمة العايد ترابين (1775 - 1885)، معادلاً موضوعيًّا لاهتمامِ قبيلةِ «عايد ترابين» بخاصّةٍ، ومجملِ القبائلِ الفلسطينيّةِ بحمايةِ الذاكرةِ والتراثِ الفلسطينيين، عن طريق المتاحفِ، بأسلوبٍ علميٍّ يضمنُ المحافظةَ على مقتنياتِ الأجدادِ، بوصفها أدواتٍ تعزّزُ المعرفةَ من جانبٍ، وتسهمُ في شفاءِ الذاكرةِ من جانبٍ آخر. وبينما وقفنا، في تقريرٍ سابقٍ عندَ السياقِ الاجتماعيّ والثقافيّ الذي رافقَ المتحفَ في مرحلةِ التأسيس (1790–1884)، فإننا سنتتبّعُ، في التقرير التالي، السياقاتِ التي عزّزت انتقالَ المتحفِ من مرحلةِ التأسيسِ إلى مرحلة التطوير (1884–1948). ‌شكّل اعترافُ الإمبراطوريّةِ العثمانيّةِ بـ»تراث من عبقِ الترابِ» حدثًا مفصليّا في مسيرةِ المتحف، إذ تمّ سنُّ قانون الآثار لعام 1888، في ظلّ حكم السلطان عبد الحميد الثاني (1842-1918)، وذلك لتأميمِ جميعِ الاكتشافاتِ الأثريّةِ داخلَ أراضي الإمبراطورية، ومنعِ تصديرِ المقتنياتِ إلى الخارجِ لإيجادِ الإطار القانونيّ المعنيّ بالحفاظِ على التراثِ الثقافيِ للإمبراطورية، وتماشيًا مع هذا التشريعِ الجديدِ، قامت عائلةُ «عايد ترابين» بتوثيقِ جميعِ المقتنياتِ الموجودةِ في مجموعتها بدقّةٍ، وفي العامِ نفسه، حصلت على اعترافٍ رسميٍّ من الإدارةِ العثمانيةِ بالمتحفِ. كما استطاعت الطبيبةُ «حاكمة» حشدَ دعمِ ثلاثين عائلةً وقبيلةً أخرى ساهمت في جمعِ القطعِ الثقافيّةِ، لحمايةِ وتعزيزِ التراثِ الثقافي الذي تمثله مجموعةُ المقتنياتِ بشكلٍ أفضل، ما خلقَ التزامًا مجتمعيًا بِحمايةِ تراثِ المنطقة. نقلة نوعيّة تالية شهدها المتحف، في تلكَ الحقبةِ الزمنيّةِ، فبعد رحيل الطبيبة «حاكمة» عُهد إرث المتحف ومسؤوليته لابنتها الطبيبةِ «سلاسل»، والتي ولدت عام 1820، في قرية «غزالة» وعاشت 125 عامًا. فبعد الانتهاءِ من دراستها في بيمارستان نور الدين في دمشق، قامت «سلاسل» بطويرِ مجموعةِ المتحف، من خلالِ الاعتمادِ على مبدأ البحثِ العلميِّ في الحفاظِ على مقتنياتِ المتحف وجمع المزيد منها، حيثُ قام فريق المتحف، تحتَ قيادتها، بتوسيعِ مقتنياته لتشمل مقتنياتٍ من جميع عشائر بدو النقب في منطقة بئر السبع، التي كانت موطنًا لمائة قبيلة على الأقل. وفي عام 1855، ولدت الطبيبةُ «حِسِن»، ابنة الطبيبة «سلاسل» في قرية «غزالة». ومثل والدتها وجدتها، عاشت حياةً طويلةً، وتوفيت عام 1950 في غزة. بعد الانتهاء من دراستها في كلية طب قصر العيني مدرسة الطب للنساء في القاهرة، ذهبت الطبيبة حِسِن عايد ترابين إلى العراق للتدريب في مستشفى الغرباء في كرخ، بغداد. ثمّ تخصّصت في الطبّ البدويّ التقليديّ، وتحمّلت مسؤولية الحفاظ على المتحف وتوسيعه. بعد الانتهاء من دراستها، وسعت مجموعة المتحف بقطع إثنوغرافية من البلدات والقرى التابعة لمدن جنوب فلسطين، وبعض مدن الساحل المحيطة ببير السبع، مثل عسقلان، غزة، يافا، الخليل. وقد دعمت فروع عائلة عايد ترابين المنتشرة في غالبية مناطق فلسطين التاريخية هذا النمو في هذه المناطق الحضرية والريفية. لم تكن مجموعةُ المتحفِ بمثابةِ مستودعٍ ثقافيٍّ فحسب، بل كانت أيضًا موردًا عمليًا، حيث يمكن استعارةُ القطع الإثنوغرافية مجانًا، مقابل وديعةٍ لضمانِ العودةِ الآمنة لها، ما يجسّد إدامةً للتراثِ وأدواته بشكلٍ عَمَليّ. قدمت الطبيبةُ «حِسِن» ابتكارًا إضافيًا لمجموعة المتحف من خلال إنشاء شبكة تجارية تركز على الحرف اليدوية المنسوخة من المقتنيات الموجودة في المجموعة. وواصل المتحف ازدهاره ونموّه لتصلَ مقتنياته تقريبًا إلى 10,000 قطعة بحلول عام 1917، وكان يعمل وقتها ضمنَ سبعِ خيام، بلغَ طولُ كلِّ واحدةٍ منها حوالي خمسينَ مترًا وعرضها عشرة أمتار: خيمة للأزياء والمجوهرات والتمائم، وواحدة للسجاد والتطريز، وواحدة للأسلحة البيضاء، وواحدة للأدوات الزراعية، وواحدة للطب التقليدي، وواحدة للحرف اليدوية، وواحدة للتخزين. كانّ ذلك حالُ المتحفِ قبل الحرب العالميّة الأولى، والتي تركت آثارًا مرعبة في منطقة بلاد الشام بعامّةٍ، وفي فلسطين بخاصّةٍ، أمّا ما حصلَ للمتحفِ ومقتنياتِهِ ما بين الحرب العالمية الأولى وما بين نكبة عام 1948 فهو ما سنتعرّف عليه في تقرير جديد حول المتحف، قبل أن تحطّ مجموعةٌ مهمةٌ من مقتنياته في أكاديمية علم المتاحف الفلسطيني والعربي في العاصمة الفرنسية باريس، التي أسسها حفيد الطبيبة «حاكمة» من الجيل السادس الدكتور متحف عايد ترابين، باعتباره أولَ وصيًّ وأمينٍ للعائلة.

حمل التطبيق

حمّل التطبيق الآن وابدأ باستخدامه الآن

مستعد لاستكشاف الأخبار والأحداث العالمية؟ حمّل التطبيق الآن من متجر التطبيقات المفضل لديك وابدأ رحلتك لاكتشاف ما يجري حولك.
app-storeplay-store