logo
المنظمات المتعلمة: من الجودة إلى الريادة العالمية

المنظمات المتعلمة: من الجودة إلى الريادة العالمية

الرياض١٦-٠٢-٢٠٢٥

في ظل ما تناولناه سابقًا حول التميز المؤسسي، وفي عالم يتسارع فيه التغيير وتتصاعد التحديات، لم يعد الالتزام بمعايير الجودة التقليدية كافيًا لضمان استدامة المنظمات وتعزيز قدرتها التنافسية. بل أصبح التميز المؤسسي ضرورة استراتيجية تدفع المنظمات إلى تجاوز النماذج التقليدية، والانتقال إلى أساليب أكثر تطورًا وابتكارًا تمكّنها من تحقيق الريادة في سوق عالمي سريع التحول. وفي هذا الإطار، يبرز مفهوم "المنظمات المتعلمة" كعامل أساسي في تحقيق التفوق الإداري، حيث تعتمد هذه المنظمات على آليات متقدمة للتعلم المستمر، مما يعزز قدرتها على التكيف السريع مع المتغيرات، ويحدّ من تكرار الأخطاء التي قد تعيق نموها وتطورها.
لقد أظهرت تجارب عالمية أن التعلم التنظيمي ليس مجرد نظريات أكاديمية، بل هو عنصر حيوي في نجاح المنظمات. ففي حرب البوسنة والهرسك، على سبيل المثال، اكتشف الجيش أن الطرق المغطاة بالثلوج التي لم تكن عليها آثار سيارات عادةً ما تكون ملغمة، وكانت سرعة تبادل هذه المعلومة بين الوحدات العسكرية تعني الفرق بين الحياة والموت. هذه التجربة تعكس جوهر المنظمات المتعلمة وقدرتها على التقاط المعرفة الجديدة، ومشاركتها بفعالية، واستخدامها لتحسين الأداء واتخاذ القرارات الذكية.
في إطار رؤية المملكة 2030، يُعد التميز الإداري حجر الأساس لدفع عجلة التنمية المستدامة، مما يستوجب تبنّي استراتيجيات متقدمة تعزز الكفاءة والابتكار. ويأتي "التعلم المدمج"، الذي يجمع بين الأساليب التقليدية والتقنيات الرقمية، كأداة فعالة لتمكين الموظفين من اكتساب المهارات بمرونة تتماشى مع متطلبات سوق العمل. وفي السياق ذاته، يسهم "الصف المقلوب" في تحويل الموظفين من متلقين سلبيين إلى عناصر فاعلة في تطوير الحلول واتخاذ القرارات، مما يعزز الابتكار المؤسسي ويحد من الجمود الإداري. كما تلعب المنظمات التعليمية الفعالة دورًا محوريًا في استثمار البيانات بذكاء، وتوظيف التكنولوجيا الحديثة، وتطوير استراتيجيات مستدامة تعزز القدرة التنافسية. وتجسد تجربة شركة تويوتا نموذجًا رائدًا في هذا المجال، حيث تبنّت نهج التعلم المستمر والتحسين المستدام، مما مكّنها من تحقيق أداء متميز على المستوى العالمي. ولضمان تحقيق التميز المؤسسي وفق معايير عالمية، توفر الأدوات التحليلية مثل ADLI و RADAR إمكانية تقييم الأداء بعمق، مما يسهم في تحسين مستمر يدعم أهداف الرؤية الطموحة ويصنع قادة للمستقبل.
لكن التحول نحو الإدارة المتميزة لا يقتصر على تطبيق أدوات وتقنيات جديدة فحسب، بل يستلزم تغييرًا ثقافيًا في طريقة التفكير واتخاذ القرارات داخل المنظمات. فبدلاً من التركيز على الامتثال الصارم للمعايير، ينبغي على القادة تشجيع بيئة تتيح التجريب والتعلم من الأخطاء. إن المنظمات التي تتعلم من أخطائها وتعمل على تجنب تكرارها تحقق تقدمًا مستدامًا، على عكس تلك التي تعيد ارتكاب نفس الأخطاء مرارًا بسبب غياب آليات التعلم الفعالة. تعد المنظمات التي تعتمد نهج التعلم المؤسسي أكثر قدرة على الاستدامة والابتكار. فالقدرة على التكيف مع التغيرات والاستجابة السريعة للمستجدات أصبحت عنصرًا حاسمًا في نجاح المنظمات الحديثة. فالشركات الكبرى مثل جوجل وأمازون نجحت في تحقيق الريادة بفضل اعتمادها على استراتيجيات التعلم المستمر، حيث تتيح لموظفيها فرصًا دائمة للتعلم والتطوير.
كما أن التعلم المؤسسي يقلل من معدلات الفشل ويعزز من قدرة المنظمات على تطوير استراتيجيات أكثر ذكاءً. على سبيل المثال، قامت شركة تويوتا بتطبيق نموذج "الإنتاج الرشيق" الذي يعتمد على التعلم المستمر من البيانات الميدانية، مما ساعدها في تجنب الأخطاء الإنتاجية وتحقيق مستويات كفاءة عالية. إن نجاح شركة موتورولا في تطبيق نموذج المنظمة المتعلمة ساهم في جعلها واحدة من أوائل الشركات التي تبنّت الابتكار المستدام، وساعدها على إرساء معايير عالمية في الجودة والتحسين المستمر، والتي لا تزال تُستخدم حتى اليوم في العديد من الشركات الكبرى حول العالم. لا يمكن تحقيق التميز الإداري دون تبني ثقافة الابتكار داخل المنظمات. فالابتكار لا يقتصر فقط على تطوير المنتجات أوالخدمات، بل يشمل أيضًا طرق الإدارة واتخاذ القرار. فالمنظمات الناجحة هي التي تتيح لموظفيها بيئة تحفز التفكير الإبداعي، وتوفر الأدوات اللازمة لتحقيق الأفكار الجديدة على أرض الواقع.
يُعد غرس ثقافة الابتكار داخل المنظمات حجر الأساس لتحقيق التميز الإداري، حيث يتجاوز الابتكار مجرد تطوير المنتجات والخدمات ليشمل أساليب الإدارة واتخاذ القرارات. فالمنظمات الناجحة تدرك أن بيئة العمل التقليدية لم تَعُد كافية لمواكبة التغيرات السريعة، مما يستدعي توفير مساحات إبداعية وأدوات متقدمة تمكّن الموظفين من التفكير بطرق جديدة وتحويل أفكارهم إلى حلول عملية. إن هذا النهج لا يسهم فقط في تحسين الأداء المؤسسي، بل يُعد آلية استراتيجية لصناعة قادة المستقبل، إذ يمنح الأفراد القدرة على اتخاذ قرارات جريئة مبنية على الابتكار والتجربة. فعندما تتحول بيئة العمل إلى مختبر للأفكار بدلًا من كونها مجرد مساحة لتنفيذ المهام، تصبح المنظمة أكثر قدرة على التكيف، وأكثر استعدادًا لريادة المستقبل بفرق قيادية تمتلك أدوات التفكير الإبداعي، مما يعزز استدامة النمو والتنافسية في عالم متسارع التغيير.
في عالم تنافسي يعتمد على الابتكار المستدام، تمثل برامج البحث والتطوير أحد أهم الأدوات التي تدفع المنظمات نحو الريادة، حيث يضمن الاستثمار في البحث العلمي والتطوير التقني قدرة المنظمات على المنافسة عالميًا. كما أن تبني تقنيات الذكاء الاصطناعي والتحليلات الضخمة يعزز من كفاءة العمليات التشغيلية، وهو ما تحقق بشكل واضح في بلدنا الغالي بفضل البنية التحتية المتطورة التي تدعم هذه التحولات. لكن الابتكار وحده لا يكفي، فـالقيادة الفعالة تظل المحرك الأساسي لتحقيق التميز المؤسسي، حيث يتطلب الأمر قادة قادرين على تبني أساليب الإدارة الحديثة، وتعزيز ثقافة التعلم المستمر داخل المنظمة. فالمنظمات الناجحة لا تُبنى على التكنولوجيا فقط، بل على فرق عمل مبدعة يقودها مديرون يُحفّزون الابتكار، ويطوّرون مهارات الموظفين لضمان تحقيق الأهداف الاستراتيجية بكفاءة واستدامة.
كما أن التحفيز والتمكين يعدان من أهم عوامل نجاح القيادة الإدارية. فالقادة الذين يمنحون موظفيهم الثقة والمسؤولية يعززون من إنتاجيتهم ويزيدون من التزامهم بأهداف المنظمة. كذلك، فإن الاستماع إلى آراء الموظفين وإشراكهم في عملية اتخاذ القرار يعزز من روح العمل الجماعي ويحفز الابتكار داخل المنظمات.
إن تحقيق التميز الإداري في المملكة ليس مجرد طموح، بل ضرورة لضمان استدامة المنظمات فيها وقدرتها على تحقيق الريادة العالمية. فالمنظمات التي تنجح في دمج التعلم التنظيمي ضمن ثقافتها الداخلية ستكون الأكثر قدرة على مواجهة التحديات وقيادة مستقبل أكثر ازدهارًا. وكما أظهرت الحرب في البوسنة والهرسك، فإن المعرفة ليست مجرد قوة، بل هي عنصر حاسم في البقاء والتفوق في بيئات متغيرة، سواء في ساحات القتال أو في الأسواق العالمية. إن بناء ثقافة تنظيمية تدعم التعلم والابتكار هو المفتاح لتحقيق النجاح المستدام والريادة العالمية.
أ.د.عبدالحكيم بن عبدالمحسن بن عبدالكريم أبابطين
قسم الإحصاء وبحوث العمليات – كلية العلوم – جامعة الملك سعود

Orange background

جرب ميزات الذكاء الاصطناعي لدينا

اكتشف ما يمكن أن يفعله Daily8 AI من أجلك:

التعليقات

لا يوجد تعليقات بعد...

أخبار ذات صلة

ترامب يُهدد أبل برسوم جمركية 25% إذا لم تصنع بأمريكا
ترامب يُهدد أبل برسوم جمركية 25% إذا لم تصنع بأمريكا

شبكة عيون

timeمنذ 20 ساعات

  • شبكة عيون

ترامب يُهدد أبل برسوم جمركية 25% إذا لم تصنع بأمريكا

ترامب يُهدد أبل برسوم جمركية 25% إذا لم تصنع بأمريكا ★ ★ ★ ★ ★ مباشر- استهدف الرئيس الأمريكي دونالد ترامب في تصعيد جديد لحربه التجارية المستمرة، اليوم الجمعة شركة "أبل" العملاقة (AAPL) ، مهددًا بزيادة الرسوم الجمركية إذا لم تقم الشركة بتصنيع هواتف "آيفون" في الولايات المتحدة. هذه الخطوة تعكس رغبة ترامب في الضغط على الشركات لنقل عمليات الإنتاج إلى داخل البلاد . كتب ترامب على موقع "تروث سوشيال " (Truth Social): " أبلغتُ تيم كوك، رئيس شركة أبل، منذ فترة طويلة أنني أتوقع أن تُصنّع وتُبنى هواتف آيفون التي ستُباع في الولايات المتحدة الأمريكية، في الولايات المتحدة نفسها، وليس في الهند أو أي مكان آخر. وإن لم يحدث ذلك، فعلى أبل أن تدفع للولايات المتحدة تعريفة جمركية لا تقل عن 25 %". تأثرت أسهم شركة "أبل" فورًا بهذا التهديد، حيث انخفضت بنحو 3% في تعاملات ما قبل السوق . ليس من الواضح ما إذا كان بإمكان ترامب استهداف شركات بعينها برسوم جمركية بهذه الطريقة. ومع ذلك، لم يتردد ترامب في الأيام الأخيرة في مهاجمة الشركات الأمريكية التي حذرت من الآثار السلبية لرسومه الجمركية . ففي الأسبوع الماضي، تنبأت شركة "وول مارت " (WMT) بزيادات في الأسعار المتوقعة بسبب الرسوم الجمركية، مما أثار انتقادات من ترامب، الذي طلب من الشركة "تحمل الرسوم الجمركية" بنفسها. وفي الشهر الماضي، دار جدل قصير بين ترامب و"أمازون " (AMZN) بعد تقرير أفاد بأن الشركة ستعرض التكلفة الإضافية للرسوم الجمركية على المنتجات . كما أعلنت شركة "نايكي " (NKE) يوم الأربعاء أنها سترفع أسعار بعض معدات البالغين بما يصل إلى 10 دولارات الأسبوع المقبل، مع استمرار تحذير الشركات والقادة من الآثار المبكرة للرسوم الجمركية. وفي سياق متصل، صرح جيمي ديمون، الرئيس التنفيذي لبنك "جي بي مورجان " (JPM) ، يوم الأربعاء بأنه لا يستبعد وقوع الاقتصاد الأمريكي في حالة ركود تضخمي، في ظل مواجهة البلاد لمخاطر جسيمة ناجمة عن العوامل الجيوسياسية والعجز وضغوط الأسعار . تعكس هذه التصريحات والتحركات نهجًا متصاعدًا من قبل ترامب لفرض رؤيته الاقتصادية من خلال الضغط المباشر على الشركات، مما يثير مخاوف بشأن استقرار سلاسل التوريد العالمية وتكاليف الإنتاج. مباشر (اقتصاد) مباشر (اقتصاد) الكلمات الدلائليه ترامب أسعار اقتصاد

"العدل الأمريكية" تحقق في صفقة جوجل مع شركة للذكاء الاصطناعي
"العدل الأمريكية" تحقق في صفقة جوجل مع شركة للذكاء الاصطناعي

مباشر

timeمنذ 2 أيام

  • مباشر

"العدل الأمريكية" تحقق في صفقة جوجل مع شركة للذكاء الاصطناعي

مباشر: تحقق وزارة العدل الأمريكية فيما إذا كانت شركة "جوجل"، انتهكت قانون مكافحة الاحتكار باتفاقية لاستخدام تقنية الذكاء الاصطناعي من شركة رائدة في مجال روبوتات الدردشة. ونقلت وكالة "بلومبرج" عن مصادر مطلعة على الأمر، الخميس، قولها إن جهات إنفاذ قوانين مكافحة الاحتكار أبلغت "جوجل" مؤخرًا، أنها تحقق فيما إذا كانت قد أبرمت اتفاقية مع شركة "كاركتر إيه آي- لتجنب التدقيق الحكومي في عمليات الاندماج. وفي صفقة مع "جوجل"، العام الماضي، انضم مؤسسو شركة تطوير روبوتات الدردشة إلى مشغلة محرك البحث الشهير، والتي حصلت أيضًا على ترخيص غير حصري لاستخدام تقنياتهم.

3% ارتفاعا في قيمة سهم "ألفابيت" بعد إعلان هيكلة جوجل
3% ارتفاعا في قيمة سهم "ألفابيت" بعد إعلان هيكلة جوجل

مباشر

timeمنذ 2 أيام

  • مباشر

3% ارتفاعا في قيمة سهم "ألفابيت" بعد إعلان هيكلة جوجل

مباشر: ارتفع سهم "ألفابت" خلال تعاملات الخميس، مع احتفاء المستثمرين بإعلان مالكة "جوجل" عن إعادة هيكلة محرك البحث الشهير، ودعمه بمميزات أكثر للذكاء الاصطناعي. صعد السهم المدرج في "ناسداك" بنسبة 2.99% إلى 173.60 دولار، لترتفع القيمة السوقية للشركة إلى 2.05 تريليون دولار. كشفت "جوجل" خلال مؤتمرها السنوي الذي انعقد هذا الأسبوع، عن خاصية جديدة تُدعى "إيه آي مود"، تسمح للمستخدمين بتحويل محرك البحث ومتصفح "كروم" إلى واجهة أشبه بتطبيقات الدردشات المدعومة بالذكاء الاصطناعي مثل "شات جي بي تي".

حمل التطبيق

حمّل التطبيق الآن وابدأ باستخدامه الآن

مستعد لاستكشاف الأخبار والأحداث العالمية؟ حمّل التطبيق الآن من متجر التطبيقات المفضل لديك وابدأ رحلتك لاكتشاف ما يجري حولك.
app-storeplay-store