
«أدب ما فوق الخمسين درجة مئوية»
قبل أيام كنتُ أتأمل وجه صديقة أجنبية في مقهى مسكون بالضجيج. كانت تتحدث عن نفسها بهدوء وروية، وشيء من اللامبالاة الذي لا يشير إلى المناخ الحالي، ولا إلى الجو العام الذي يحيط بنا.
بدأت حديثها بوصف طقسية تحضير قهوتها صباحاً وأجوائها النهارية المشوبة بصوت إديث بياف، وعاطفتها الدافئة في احتضان مذكراتها التي اعتادت على كتابتها بالقرب من نافذة توزع كسراً من أشعة الشمس. وهكذا راحت صديقتي تصف لي بدقة لذيذة وببطء ساحر يومياتها الزاخرة بالتفاصيل المتمهلة، حتى قاطعتها على عجل؛ ذلك لأن إيقاعها لم يكن على وتيرة واحدة مع هرولة المكان من حولنا. أسرعتُ في لهجتي كي تقبض معي على نبرة اللحظة الراهنة، وسألتها: ماذا تقرأين هذه الأيام؟ وكنتُ قد دعوت الله في قلبي أن تبتعد عن كل ما هو روسي في هذا التموز اللاهب. فأجابت في تريث مقصود: – دوستويفسكي.
كنتُ كمن لفحته الإجابة وحطّ على كتفه رداء من الصوف الروسي في نهار حار تتضرع فيه الأشجار من خلف زجاج المقهى برشفة من الماء البارد. هكذا رحت أغلي من شدة الحر والغيظ، فأجبتها: هذا ما أسميه الأدب الشتوي؛ إذ إنّ التناقض المسلي بين أصياف بغداد وشتاء الروايات الروسية مثلاً، هو أعلى درجات المفارقة بين الواقع والخيال، بين قارئ تتصبب جبهته عرقاً وبطل رواية تتجمد أصابعه في جيوب معطفه.
لذلك، في رأيي أن دوستويفسكي يشبه شتاء بلاده، بل هو جوهر ذلك الشتاء. وأنا أتحاشى قراءة «الليالي البيضاء» قبل أن يدخل علينا تشرين الأول في أقل تقدير.
قالت بتعجب، وماذا تقرأين في الصيف؟
– أحب أن أقرأ الأدب النيجيري، لأن كاتبة مثل شماماندا مثلاً تعرف كيف تجعلني أشعر بالهزل المصاحب لهذا الفصل في بلادها؛ حتى لو كانت ترزح تحت وطأة الصواريخ، فإنّ لدى مجتمعها خبرة عميقة في إيجاد الحلول غير المألوفة إذا ما صادفهُ ظرف قاسٍ في هذا الفصل، لأن المهيمن في مثل هذه الموضوعات هو المناخ. والاستغراق في مناخ مغاير عن الواقع أثناء القراءة يزيد من الشعور بثقل المعاطف في الصيف مثلاً وهبات النسائم الباردة في الشتاء.
انتبهت أثناء حديثي أنها كانت ترتدي بلوفر بني اللون لا يخلو من السماكة. فاستدركت قائلة: هل تعتقدين أن هذا البلوفر مناسب لنهايات شهر تموز في بلادنا العربية؟
أجابت بنعم، وعلى وجهها سمات الهدوء والرضا وشيء من الاستغراب.
فاقترحت مع نفسي تجنباً للجدال، أنها تحمل جينات تساعدها على اجتياز هذه الشهور القائظة دون الحاجة إلى الاستغاثة بجهاز تبريد. سألتها بجدية إن كانت مستعدة لتقويض جيناتها اللطيفة بجينات امرأة عراقية عانى أجدادها السومريون من ارتفاع درجات الحرارة منذ الأزل؛ حتى إن أساطير بلاد ما بين النهرين اضطرّت لتسمية أحد أهم آلهتها المسؤولة عن الرعاة باسم «تموز» تضرعاً وتقرباً من هذا الشهر المتعجرف، بغية أن يخفف من شدة سطوته عليهم؟
أبدت صديقتي إيماءة بالموافقة، ثم سألتني عن الفائدة التي ستعود لها من هذه المقايضة؟
قلت نحن -كتاب ما بين النهرين- نكتب تحت سطوة شموسنا الأبدية. نقرأ في الصيف مثل النمل الذي يجمع قوت الشتاء، ونفضل الكتابة تحت لسعات البرد ونقرات المطر على السقوف. وعندما يداهمنا شتاء الروايات الثقيل، نعيش برداً افتراضياً بخيالات الثلج الذي يفترش كل ما حولنا إلا الواقع.
وحين تتحدث الآنسة جين أوستن عن صيف أبطالها، نضحك من القلب، لأنهم يتجولون في الغابات تحت قهقهة الظلال الباردة، بينما نتجول نحن ذهاباً وإياباً في المتر الوحيد الرطيب نسبياً أمام فوهة «مبردة» الصالة.
الذكريات الشتائية في بلادنا كثيفة، حميمية، ملاصقة للروح، وعاطفية. لذلك، كان الشتاء وطنياً دائماً، بينما الصيف للسفر والترحال أو اختراع قيلولة الظهيرة. إنه الكسل الاضطراري، الكسل الذي يحتاجهُ الكاتب لاقتراح مشغله السري في لملمة التجارب وصقلها.
الشتاء للمدرسة، والصيف للعطلة الطويلة البلهاء. نحن نحصي الصفوف الدراسية، ولا نعد أعمارنا على أيام العطل.
الصباح الشتائي صباح مكتمل بشخصية واضحة وجلية، وربما كاريزمية، وتكاد صباحات الصيف كلها أن تأتي بلا معنى سوى القفز فوق حقل الممارسة اليومية والقراءات المسلية.
المطر في النصف الشمالي من الكوكب يجلب الكآبة، وفي شرقنا الأوسط هو البهجة السماوية والمرح الذي يتقافز من وراء البيوت. إن الصيف لديكم هو الشتاء بالنسبة لنا.
تقول جيني هاب: «الصيف الذي أصبحت فيه جميلة»، فتخيلي لو أصبحتِ في كل الفصول كذلك. ضحكت صديقتي ضحكة صيفية بمزاج يشبه المكان أخيراً، وقالت إن كنتُ أريد جيناتكِ، فأنا أفضلها الآن فقط لأتحلى بهذه القدرة على المراوغة واختلاق الحقائق.
-لا يعنيني الأمر، المهم أن أشعر بالاسترخاء في آب القادم يا صديقتي.

جرب ميزات الذكاء الاصطناعي لدينا
اكتشف ما يمكن أن يفعله Daily8 AI من أجلك:
التعليقات
لا يوجد تعليقات بعد...
أخبار ذات صلة


القدس العربي
منذ 2 أيام
- القدس العربي
وفاة 'سيدة المسرح العربي' سميحة أيوب عن 93 عاماً
القاهرة: أعلن الفنان منير مكرم، عضو مجلس نقابة المهن التمثيلية، في مصر، وفاة 'سيدة المسرح العربي' الفنانة المصرية القديرة سميحة أيوب عن عمر ناهز الـ93 عاما. وكتب مكرم على صفحته بموقع فيسبوك اليوم :'الفنانة القديرة سميحة أيوب في ذمه الله'. وجاءت وفاة الفنانة سميحة أيوب بعد تاريخ فني طويل وحافل بدأ منذ عام 1947، تركت خلاله حضورا واسعا في المسرح والسينما والتلفزيون، وأثرى اسمها المشهد الثقافي في مصر والعالم العربي. وتنقلت سمية أيوب خلال مشوارها الفني بين خشبة المسرح، وأمام عدسات السينما والتلفزيون ، تعاونت خلالها مع نخبة من المخرجين والكتاب الكبار في مصر والعالم العربي. وشاركت الراحلة في عدد كبير من الأعمال ذات الطابع الاجتماعي والتراجيدي، وإلى جانب مساهمتها في الدراما التلفزيونية والأفلام السينمائية، برزت بأدوارها في عروض مسرحية شهيرة ظلت راسخة في الذاكرة الثقافية، وقدمت أكثر من 100 عرض منها 'سكة السلامة' و'السبنسة' و'رابعة العدوية' و'دماء على ستار الكعبة' و'سقوط فرعون' و'الفتى مهران'. وتميزت بصوتها القوي وحضورها المسرحي اللافت، ما جعلها من أبرز رموز الأداء الدرامي منذ منتصف القرن العشرين. وشغلت سميحة أيوب ، إلى جانب عملها كممثلة، مناصب إدارية في مؤسسات ثقافية، وكان لها حضور دائم في المحافل الفنية والمسرحية داخل مصر وخارجها، وتقلدت عددا من الجوائز والتكريمات من مؤسسات رسمية وهيئات ثقافية عربية ودولية، تقديرا لعطائها الطويل وتاريخها الفني المتنوع. وبحسب وسائل إعلام مصرية، نعت نقابة المهن التمثيلية، في بيان رسمي، و'ببالغ الحزن والأسى وفاة الفنانة الكبيرة سميحة أيوب، التي وافتها المنية اليوم، بعد مسيرة فنية حافلة أثرت خلالها المسرح والسينما والتلفزيون المصري بأعمال خالدة'. وجاء في بيان النقابة: 'إنا لله وإنا إليه راجعون، ننعى بمزيد من الحزن والأسى الفنانة القديرة سميحة أيوب، ونسأل الله أن يتغمدها بواسع رحمته، وأن يلهم أهلها وذويها الصبر والسلوان.' وأضاف: 'الراحلة كانت رمزا من رموز الفن المصري، ولقبت بـ/ سيدة المسرح العربي/، وقدمت خلال مشوارها أعمالا شكلت علامات فارقة في تاريخ الأداء المسرحي والتلفزيوني، كما شغلت مواقع قيادية مؤثرة في الحركة الثقافية'. (وكالات)


العربي الجديد
منذ 2 أيام
- العربي الجديد
"طريق" سمير الصايغ.. في كلّ حرف عبارة
"يمضي الخطّ إلى الكلمة: الله، الحبّ، الخير"، بهذه الكلمات يُقدّم الحروفي والشاعر اللبناني سمير الصايغ (1945) لمعرضه الجديد "الطريق" الذي افتُتح في "غاليري صالح بركات" ببيروت، في الثالث والعشرين من مايو/ أيار الجاري، ويتواصل حتى الخامس من يوليو/ تموز المُقبل، مستعيداً من خلال لوحاته علاقةً مديدة بـ الحرف العربي وتجلياته الجمالية. الانشداد إلى التراث هو أول ما يمكن للمتلقّي أن يُشاهده، لكن هذا التراث يطوي القصص والأحداث بعضها داخل بعض، بما يحوّله إلى قوس مفتوحة لا فكرة ثابتة، إلى خطوط لا تستقيم إلا لتلتوي وتنكسر، في رؤية تُترجم مقولة أنّ الثابت الوحيد هو المتغيّر، وفي هذا الجوّ تُطالعنا بدايةً لوحتا: "تحية إلى سمعان العمودي" و"تحية إلى الحلاج" اللتين تنبنيان على أول حروف الأبجدية العربية: الألف. خلفية صوفية لا تنفي الطابع الهندسي عن اللوحة (من المعرض/ العربي الجديد) خلفيات الصايغ الصوفية، وانجذابه إلى التأويل، وهو من روّاد الجيل الثاني لمجلة "شعر"، لا تنفيان الطابع الهندسي عن لوحاته، سواء في الأعمال ذات القطع الصغير في الطابق العلوي من الغاليري، أو في مجموعة من أربع لوحات تُمثّل الألف والباء والتاء والثاء، حيث تظهر بوضوح ثنائية الخط والنقطة، بما هما شكلان هندسيان يمتدّان على مساحة من الفراغ اسمُه اللوحة. هنا يبلغ "التبيسط" حدوداً في منتهى الدقّة، الفراغ يأخذ لوناً والحرفُ المُسطَّر بصُحبة نقطته المُفارِقة لوناً آخر. اتحادُ الثنائيات لا انفصالها هو الفَهم الكلّي للوجود عند الصوفي، فالمفارَقة هي "طريق" مُوصلة، كما عبّرت عن ذلك الفلسفات والرياضات التأمّلية التي تنشد وحدةً ما مع الوجود. وهذا لا يغيب عن صاحب "مقام القوس وأحوال السَّهم" (مجموعة شعرية، 1981)، حيث نقرأ في عملين (متعاكسين) كلمتَي مذكَّر ومؤنّث اللتين لا تلبثان أن تتبادلا الأدوار في لعبة الخطوط والنقاط أولاً، ثمّ في لعبة الضمائر "هو" و"هي" في استعادةٍ لبعض الأعمال التي قدّمها في معرض "هي" (2022) بالاشتراك مع الفنّانَين حسين ماضي ومحمد الرواس. استقلالية الخطّ عن اللغة (من المعرض/ العربي الجديد) يتمتّع الخطّ عند سمير الصايغ بالاستقلالية عن اللغة ببُعدها الوظيفي، وجماليته تقوم أساساً على فرادته بذاته، وهو ما يتجلّى في المعرض من حيث إن أغلب اللوحات مكوّنة من حرف/شكلٍ واحد فقط، وإن كان لا بدّ من جَمع فيظهر في أعلى مراحل التجريد كما في مجموعة لوحات بالأبيض والأسود "الله" و"أكبر" و"حبّ"، في حين لا يعمد على الإطلاق إلى تمثيل أو نقل عبارات شعرية أو أقوال مأثورة وما شابه، وكأن لوحته تقول: كلّ حرف عبارة. درس سمير الصايغ تاريخ الفن في المدرسة الوطنية العليا للفنون الجميلة بباريس. وقد قاده بحثه في الخط التقليدي، إلى جانب اهتمامه بالتصميم المعاصر، إلى ابتكار خطوط جديدة وتصميم عدد من الشعارات. كما نشر العديد من المقالات والدراسات حول الفن والجماليات. بين عامي 2003 و2007، عمل محاضراً في قسم الهندسة المعمارية والتصميم الغرافيكي في الجامعة الأميركية ببيروت. فنون التحديثات الحية صورة الحرب في الفن.. من غويا إلى بيكاسو


القدس العربي
منذ 2 أيام
- القدس العربي
«أدب ما فوق الخمسين درجة مئوية»
قبل أيام كنتُ أتأمل وجه صديقة أجنبية في مقهى مسكون بالضجيج. كانت تتحدث عن نفسها بهدوء وروية، وشيء من اللامبالاة الذي لا يشير إلى المناخ الحالي، ولا إلى الجو العام الذي يحيط بنا. بدأت حديثها بوصف طقسية تحضير قهوتها صباحاً وأجوائها النهارية المشوبة بصوت إديث بياف، وعاطفتها الدافئة في احتضان مذكراتها التي اعتادت على كتابتها بالقرب من نافذة توزع كسراً من أشعة الشمس. وهكذا راحت صديقتي تصف لي بدقة لذيذة وببطء ساحر يومياتها الزاخرة بالتفاصيل المتمهلة، حتى قاطعتها على عجل؛ ذلك لأن إيقاعها لم يكن على وتيرة واحدة مع هرولة المكان من حولنا. أسرعتُ في لهجتي كي تقبض معي على نبرة اللحظة الراهنة، وسألتها: ماذا تقرأين هذه الأيام؟ وكنتُ قد دعوت الله في قلبي أن تبتعد عن كل ما هو روسي في هذا التموز اللاهب. فأجابت في تريث مقصود: – دوستويفسكي. كنتُ كمن لفحته الإجابة وحطّ على كتفه رداء من الصوف الروسي في نهار حار تتضرع فيه الأشجار من خلف زجاج المقهى برشفة من الماء البارد. هكذا رحت أغلي من شدة الحر والغيظ، فأجبتها: هذا ما أسميه الأدب الشتوي؛ إذ إنّ التناقض المسلي بين أصياف بغداد وشتاء الروايات الروسية مثلاً، هو أعلى درجات المفارقة بين الواقع والخيال، بين قارئ تتصبب جبهته عرقاً وبطل رواية تتجمد أصابعه في جيوب معطفه. لذلك، في رأيي أن دوستويفسكي يشبه شتاء بلاده، بل هو جوهر ذلك الشتاء. وأنا أتحاشى قراءة «الليالي البيضاء» قبل أن يدخل علينا تشرين الأول في أقل تقدير. قالت بتعجب، وماذا تقرأين في الصيف؟ – أحب أن أقرأ الأدب النيجيري، لأن كاتبة مثل شماماندا مثلاً تعرف كيف تجعلني أشعر بالهزل المصاحب لهذا الفصل في بلادها؛ حتى لو كانت ترزح تحت وطأة الصواريخ، فإنّ لدى مجتمعها خبرة عميقة في إيجاد الحلول غير المألوفة إذا ما صادفهُ ظرف قاسٍ في هذا الفصل، لأن المهيمن في مثل هذه الموضوعات هو المناخ. والاستغراق في مناخ مغاير عن الواقع أثناء القراءة يزيد من الشعور بثقل المعاطف في الصيف مثلاً وهبات النسائم الباردة في الشتاء. انتبهت أثناء حديثي أنها كانت ترتدي بلوفر بني اللون لا يخلو من السماكة. فاستدركت قائلة: هل تعتقدين أن هذا البلوفر مناسب لنهايات شهر تموز في بلادنا العربية؟ أجابت بنعم، وعلى وجهها سمات الهدوء والرضا وشيء من الاستغراب. فاقترحت مع نفسي تجنباً للجدال، أنها تحمل جينات تساعدها على اجتياز هذه الشهور القائظة دون الحاجة إلى الاستغاثة بجهاز تبريد. سألتها بجدية إن كانت مستعدة لتقويض جيناتها اللطيفة بجينات امرأة عراقية عانى أجدادها السومريون من ارتفاع درجات الحرارة منذ الأزل؛ حتى إن أساطير بلاد ما بين النهرين اضطرّت لتسمية أحد أهم آلهتها المسؤولة عن الرعاة باسم «تموز» تضرعاً وتقرباً من هذا الشهر المتعجرف، بغية أن يخفف من شدة سطوته عليهم؟ أبدت صديقتي إيماءة بالموافقة، ثم سألتني عن الفائدة التي ستعود لها من هذه المقايضة؟ قلت نحن -كتاب ما بين النهرين- نكتب تحت سطوة شموسنا الأبدية. نقرأ في الصيف مثل النمل الذي يجمع قوت الشتاء، ونفضل الكتابة تحت لسعات البرد ونقرات المطر على السقوف. وعندما يداهمنا شتاء الروايات الثقيل، نعيش برداً افتراضياً بخيالات الثلج الذي يفترش كل ما حولنا إلا الواقع. وحين تتحدث الآنسة جين أوستن عن صيف أبطالها، نضحك من القلب، لأنهم يتجولون في الغابات تحت قهقهة الظلال الباردة، بينما نتجول نحن ذهاباً وإياباً في المتر الوحيد الرطيب نسبياً أمام فوهة «مبردة» الصالة. الذكريات الشتائية في بلادنا كثيفة، حميمية، ملاصقة للروح، وعاطفية. لذلك، كان الشتاء وطنياً دائماً، بينما الصيف للسفر والترحال أو اختراع قيلولة الظهيرة. إنه الكسل الاضطراري، الكسل الذي يحتاجهُ الكاتب لاقتراح مشغله السري في لملمة التجارب وصقلها. الشتاء للمدرسة، والصيف للعطلة الطويلة البلهاء. نحن نحصي الصفوف الدراسية، ولا نعد أعمارنا على أيام العطل. الصباح الشتائي صباح مكتمل بشخصية واضحة وجلية، وربما كاريزمية، وتكاد صباحات الصيف كلها أن تأتي بلا معنى سوى القفز فوق حقل الممارسة اليومية والقراءات المسلية. المطر في النصف الشمالي من الكوكب يجلب الكآبة، وفي شرقنا الأوسط هو البهجة السماوية والمرح الذي يتقافز من وراء البيوت. إن الصيف لديكم هو الشتاء بالنسبة لنا. تقول جيني هاب: «الصيف الذي أصبحت فيه جميلة»، فتخيلي لو أصبحتِ في كل الفصول كذلك. ضحكت صديقتي ضحكة صيفية بمزاج يشبه المكان أخيراً، وقالت إن كنتُ أريد جيناتكِ، فأنا أفضلها الآن فقط لأتحلى بهذه القدرة على المراوغة واختلاق الحقائق. -لا يعنيني الأمر، المهم أن أشعر بالاسترخاء في آب القادم يا صديقتي.