logo
نصر العرب على إسرائيل: ينتظرون إعادة سردية كرامتهم المسحوقة من أنياب عضة قط بري ؟

نصر العرب على إسرائيل: ينتظرون إعادة سردية كرامتهم المسحوقة من أنياب عضة قط بري ؟

موقع كتابات٢٣-٠٣-٢٠٢٥

قبل أيام، انفجرت واجتاحت منصات التواصل الاجتماعي موجة من النشوة والابتهاج من خلال الواقع الافتراضي تتغنى بأهازيج مدوية من قبل الشارع العربي الذي يبحث عن أي نصر حتى وإن كان من حيوان مفترس؟ السبب؟ حادث تافه لا يستحق حتى أن يذكر؟ خبر مهاجمة 'وشق' – قط بري بالمصري – لجنود إسرائيليين، أصابهم بجروح. حادث عادي جدآ قد يتعرض له أي إنسان في مواجهة حيوان مفترس عندما يشعر أي حيوان بري بان هناك خطر يوشك أن يقع عليه ويهدد حياته ,وهو رد فعل طبيعي وغريزة أودعها الله في جميع الحيوانات دون استثناء للدفاع عن نفسه، لكن خواء العقل الجمعي العربي الأجوف، ذلك الحفرة السوداء التي تعفنت من كثرة الهزائم والفراغ المظلم الذي استوطنته الهزيمة عقودًا، وجد في سردية مهاجمة 'قط بري' نشوة نصر زائفة يستحق الاحتفاء بها . يا للعار والقرف! شعوب تدّعي التاريخ والحضارة والعراقة والكرامة، تنحدر اليوم إلى هذا المستوى وتتهافت على احتفاء وتتراقص فرحا ؟ لأن حيوانا مفترسا للفئران والأرانب قد نال من عدوها في غفلة، كأن ذلك يعيد لها كرامة سُلبت أو يمحو ذل الانكسارات التي تراكمت كالجبال على صدورها. أي انحطاط هذا الذي وصلنا اليه ؟ أي ذلٍّ أعمق من أن يصبح العقل الجمعي العربي كجثة متعفنة تبحث عن بقايا كبرياء في أنياب وحش؟
التاريخ يصرخ في وجوهنا وعلّمنا أن الحروب تُحسم في خواتيم نهايتها دائمآ ، لا في بداياتها الجوفاء المبهرجة . هذه ألمانيا النازية اجتاحت ودكت أوروبا في الحرب العالمية الثانية، لكنها انتهت إلى هزيمة مدوية وجيفة قُسمت بين الذئاب أو كالغنيمة بين المنتصرين . اليابان سحقت ودكّت بيرل هاربر بضربة مذهلة، لكنها ركعت في النهاية تحت وطأة القنابل النووية الأمريكية . لكن العرب، في مواجهتهم مع إسرائيل، لم يتعلموا الدرس لغاية الان . منذ نكبة 1948 حين انهارت جيوشهم النظامية كالقش أمام ميليشيات وعصابات صهيونية، وهم ما يزالون يتوسلون النصر من حفرة الذل والعقل العربي وما يزال لغاية الآن يتخبط في مستنقع الهزيمة. تلك العصابات والميليشيات لم تكتفِ بتمزيقها لهذه الجيوش العربية وبالنصر لهم ، بل أسست دولة فوق جثثهم وأذلّت العرب وجعلتهم يتوسلون ظلال النصر منذ ذلك الحين ولغاية الآن وحتى وان كان من حيوان مفترس ؟، ميليشيات أسست لها دولة بصقت في وجوههم وجعلتهم عبيدًا للخيبات. ثم جاءت هزيمة نكسة 1967، ذلك الزلزال الذي هزّ أوهام القومية العربية وحيث جمال عبد الناصر – ذلك البهلوان القومي وبطل الخطابات النارية الخاوية – باع شعبه في سوق أوهام النصر، وبنى دولة بوليسية قمعية حيث عسعس زوار الليل التي كانت تعد انقاس المصريين يغرقهم في أعمق مستنقع لهزيمة جديدة. ستة أيام فقط، كانت كفيلة بان سحقت جيوش عربية مجتمعة كانت مدججة بالسلاح والعتاد , ولكن تبين لنا بعد أن صحي الجميع على أخبار الهزيمة النكراء المشينة , بان هذه الجيوش العرمرم كانت بالأساس لقمع وإسكات المعارضة والكلمة الحرة وتغيبها في غياهب المعتقلات والسجون والتعذيب الوحشي وليست لمواجهة إسرائيل ؟ وسقطت فيها واحتلت سيناء والجولان والضفة والقدس تحت أقدام الاحتلال، بينما كان العرب يلعقون جراحهم مثل الحيوانات المفترسة والتي احتفى بها خواء العقل العربي قبل أيام بالنصر من خلال الترند ؟ كان ذلك درسًا قاسيًا آخر في فن الهزيمة، لكن العرب لغاية الإن لم يتعلموا ففي فرقتهم نصرا وفي جمعهم هزيمة هكذا ما يزالون يعتقدون الملوك والرؤساء والحكام العرب وهم يطعنون ظهور بعضهم البعض . حتى حرب 1973، التي يتباهون بها كانتصار، لم تكن سوى كرٍ وفرٍ، انتهت ببقاء سيناء تحت السيطرة الإسرائيلية حتى تفاوضوا عليها لاحقًا كجزء من صفقة خضوع مذلة ما يزال يدفع ثمنها الفلسطينيين .
اليوم نرى بصورة أوضح من السابق ، بعد عقود من الذل وخيبة الأمل، ها هم العرب يبحثون عن بصيص أمل لنصر في مخالب حيوان . إسرائيل اليوم نراها وبكل وضوح تستبيح سوريا وفلسطين ولبنان، تضرب بعرض الحائط كل القوانين الدولية، بينما من يدّعون 'المقاومة' يهرولون للتنصل من أي عمل قد يزعج العدو ؟ 'حزب الله اللبناني' الذي كان يومًا يحسبه معظمهم رمزًا للمقاومة والتحدي والصمود بوجه إسرائيل وصدع رؤوسنا بالشعارات الرنانة الطنانة ، أصبح مجرد شبح ينتظر من يطلق عليه رصاصة الرحمة وبعد أن تم تصفية وقتل جميع قياداته ونخبة مقاتليه , نراه اليوم يتبرأ بسرعة البرق من إطلاق صواريخ قبل أيام على بعض مناطق شمال إسرائيل ، كأن الهزيمة قد نُقشت في جيناته منذ زمن , ولكن لم نكن نراها بصورة واضحة , ولكن اليوم وبعد كل هذه الهزائم اصبحنا تتكشف شيئا فشيء حقيقة محور ما كان يسمى بالمقاومة والممانعة ووحدة الساحات وكذلك جيوش الدول العربية وحكامنا ونحن نرى بما وصل إليه أهل 'قطاع غزة' باستشهاد أكثر من 50 ألف معظمهم من النساء والأطفال والشيوخ وأصبحوا مجرد أرقام تذكر وليس بشر كانوا قبل قليل لهم حياتهم وأحلامهم , يا لها من مهزلة ! شعوب تتغنى بالبطولة، لكنها تركع أمام أول اختبار حقيقي ، تاركة مصيرها للصدفة أو لعضة قط بري لجنود إسرائيليين؟.
هذا هي حقيقية خواء العقل العربي الجمعي , مجرد خرقة بالية ممزقة بالهزيمة , عقل استسلم للانكسار وتعفن فيها كل أمل حتى بالمستقبل، فقد الثقة بنفسه ، وصار يترنح بين الأوهام والذل. ومنذ 1948 حين انتصرت المليشيات والعصابات الصهيونية على جيوش عربية متهاوية كانت في حقيقتها أضعف حتى من خيوط العنكبوت، وصولًا إلى يومنا هذا، حيث تكتمل توراتية خارطة الشرق الأوسط الجديد تحت أقدام إسرائيل، والعرب يتفرجون كالأيتام على مائدة المنتصرين. مصر والأردن خرجتا من المعادلة بسلام مذل وباعها قضية فلسطين في اتفاقيات كامب ديفيد ووادي عربة، العراق وسوريا دُمرتا وتحولت إلى أنقاض ينهش جسدهما ضباع الميليشيات والفصائل الولائية المسلحة، وحزب الله أصبح يترنح كالمخمور ينتظر الذبح على مقلصة الولي الفقيه واليوم الذي يطلق عليه رصاصة الرحمة. وبينما إسرائيل تُرسم حدود الشرق الأوسط والمنطقة من جديد، يظل المواطن العربي لخواء يبحث ليصفق ويبتسم فرحا عن نصر وهمي زائف حتى وان كان هذا النصر سراب في أنياب حيوان مفترس، كأنه سيخلصنا من عار الهزائم طول العقود الماضية وكأن ذلك سيرد له كرامة نهشتها أنياب أنظمته الحاكمة الوحشية والقمعية وعجزه المزمن. أي حماقة هذه؟ أي غباء أعمق من أن نعلق كرامتنا الميتة على ومخالب حيوان؟
بل سارع أحدهم منتشينا ومن خلال مقال طويل عريض كتبه يشرح فيه تاريخ هذا الحيوان البري وطريقة عيشه وتكاثره وكأننا في درس لعالم الحيوان والجغرافية وأين يستوطن وطريقة تكاثره ثم يختم مقال بعبارة:' وفي ختام رحلتنا مع الوشق، ذلك المخلوق المذهل الذي يجسد البراعة في التكيف والبقاء، نجد أنفسنا أمام عجيبة من عجائب الخلق -التي أتاحت لنا واقعة عقره جنود الاحتلال الإسرائيلي- فرصة الغوص في تفاصيلها المذهلة'.
لكن الحقيقة المرة والمخجلة لن تمحى , وليس المشكلة القط البري من يجب أن يُخجلنا نحن العرب ، بل هذا العقل العربي المكسور والمحطم والمقزز الذي صار يرى من خلال البهائم والحيوانات والنصر فيهم ليس بطلًا وحيدا ولكن أبطالًا لأنه عاجز عن أن يكون بشرًا. إنه ليس نصرًا، ولا نحتاج نصرآ يأتي لنا من حيوان مفترس على إسرائيل وأعداء الإمة العربية والإسلامية ه بل شهادة دامغة على عمق الهزيمة التي نعيشها. متى سيتوقف العرب عن انتظار الخلاص من البهائم ومخالب الحيوانات الوحوش، ويدركون أن النصر لا يُستجدى، بل يُصنع؟ لكن، مع عقلٍ أجوف وإرادة مكسورة ومنهزمة وأنظمة عربية حاكمة خانعة بل رصاصة رحمة تُنهي هذا العفن الذي يُسمى العقل الجمعي العربي. هذا التريند ومن حيث لا يدري الأخر قد أصبح سيفًا يقطع الوهم، ويعري مدى هشاشة ذلك الفراغ الفكري العربي، حيث يترنح العقل العربي في انتظار 'حيوان مفترس' ليمنحه نشوة نصر كاذبة تذوب كالسراب في لحظة!
خواء العقل الجمعي العربي وتعلقه بوهم النصر الزائف يتجسد لنا اليوم بصورة حقيقية ومن خلال الترندات التي اجتاحت منصات التواصل الاجتماعي والسوشيال ميديا قبل أيام ؟ ومن حيث لا يدري الأخر قد أصبح هذا الترند سيفًا يقطع الوهم ، ويعري مدى هشاشة ذلك الفراغ الفكري العربي، حيث يترنح العقل العربي في انتظار 'حيوان مفترس' ليمنحه نشوة نصر كاذبة تذوب كالسراب في لحظة ! متى سنتوقف عن التسول من التاريخ العربي والإسلامي ونصنع نصرًا حقيقيًا ؟ الجواب واضح : ليس اليوم، وليس غدًا، ولا حتى بالمستقبل ؟ هكذا نرى الآن ؟ إلا إذا حدثت معجزة إلاهية ونحن مع الأسف لسنا في زمن المعجزات ولا الأنبياء والرسل والقديسين , ما دمنا نرقص كالمهووسين لعضة حيوان قط بري !، وربما تبقى هذه الأسئلة بلا إجابة، معلقة في فراغ التاريخ كما نحن اليوم .

Orange background

جرب ميزات الذكاء الاصطناعي لدينا

اكتشف ما يمكن أن يفعله Daily8 AI من أجلك:

التعليقات

لا يوجد تعليقات بعد...

أخبار ذات صلة

ما هو رد المقاومة على دعوة نائب أمريكي لقصف غزة بالسلاح النووي؟
ما هو رد المقاومة على دعوة نائب أمريكي لقصف غزة بالسلاح النووي؟

اذاعة طهران العربية

timeمنذ يوم واحد

  • اذاعة طهران العربية

ما هو رد المقاومة على دعوة نائب أمريكي لقصف غزة بالسلاح النووي؟

واعتبرت حماس أن هذه الدعوة تمثل "جريمة مكتملة الأركان" ودليلاً على "العنصرية الفاشية" التي تحكم تفكير بعض الساسة الأميركيين، مما يستوجب الإدانة من الإدارة الأميركية والكونغرس، الذي أصبح منصة لتبرير جرائم الاحتلال. وأشارت الحركة إلى أن هذه التصريحات تمثل "انتهاكاً صارخاً لمبادئ القانون الدولي الإنساني" وتحريضاً على استخدام أسلحة الدمار الشامل ضد أكثر من مليوني مدني. من جهتها، عبّرت حركة الجهاد الإسلامي عن استنكارها وغضبها من تصريحات فاين، معتبرةً إياها دعوة علنية لارتكاب جرائم ضد الإنسانية. واعتبرت الحركة أن تشبيه سكان غزة بالنازيين أو اليابانيين خلال الحرب العالمية الثانية يُعد تحريضاً مباشراً على الإبادة الجماعية. كما دانت الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين هذه التصريحات، واعتبرتها "جريمة حرب مكتملة الأركان" تعكس العقلية الأميركية المتطرفة. بدورها، حركة المجاهدين أدانت تصريحات فاين، ورأت فيها امتداداً للسياسة الأميركية المساندة للإرهاب، داعيةً أحرار العالم إلى رفض هذه التصريحات ومناصرة الشعب الفلسطيني. وكان النائب الجمهوري قد صرّح خلال مقابلة مع قناة "فوكس نيوز" بأن "القضية الفلسطينية قضية شريرة"، مشيراً إلى أن الحل يجب أن يكون مماثلاً لما حدث في الحرب العالمية الثانية.

منظمة العفو 'الدولية ' ونشاطاتها المريبة خدمة للغرب الاستعماري!كاظم نوري
منظمة العفو 'الدولية ' ونشاطاتها المريبة خدمة للغرب الاستعماري!كاظم نوري

ساحة التحرير

timeمنذ 2 أيام

  • ساحة التحرير

منظمة العفو 'الدولية ' ونشاطاتها المريبة خدمة للغرب الاستعماري!كاظم نوري

منظمة العفو 'الدولية ' ونشاطاتها المريبة خدمة للغرب الاستعماري! كاظم نوري خطوة كانت في مكانها ولوانها جاءت متاخرة عندما اعتبرت روسيا انشطة 'منظمة العفو الدولية ' بانها جهة غير مرغوب فيها. ويفترض ان تكون هذه المنظمة ومقرها لندن فاعلة في مجال حماية حقوق الانسان لكنها تعمل بالضد من ذلك خدمة للاجندات الغربية؟؟ هذه المنظمة التي تحمل صفة ' دولية' زورا اخذت تبرر جرائم النازيين الجدد في اوكرانيا وتدعوا الى زيادة تمويلهم وتصر على عزل روسيا سياسيا واقتصاديا؟؟ لقد عرف عن هذه المنظمة ان اعضاءها يدعمون الجماعات المتطرفة ويمولون انشطة عملاء اجانب؟؟ وهناك منظمات عديدة ولجان تحمل اسماء ' دولية ' لكنها تنفذ اجندات امريكية وغربية منها مثلا اللجنة الدولية للطاقة الذرية ومقرها 'فينا' فان معظم مفتشيها الذين يحملون ' صفات دولية' يقدمون معلومات الى الدول الغربية خلال نشاطاتهم وزياراتهم للدول الاخرى المستهدفة غربيا ويقدمون تقارير ومعلومات كاذبة وقدحصل ذلك مع العراق وليبيا وحتى ايران. ومنذ وجدت هذه المنظمات التي تحمل اسماء ' دولية زورا' بهدف التزام الدول الاخرى بقراراتها فهي تنفذ اوامر واشنطن ولندن وقد حرصت الولايات المتحدة وبقية الدول الغربية على ان تكون مقراتها في دول تسير على النهج الامريكي كما ان معظم كبار المسؤولين فيها يتم اختيارهم وفق رغبات الغرب وان نشاطاتهم لاتخرج عن اهداف دول الغرب الاستعماري ؟؟ موسكو كما هو معروف من الدول المؤسسة للامم المتحدة بعد الحرب العالمية الثانية باتت تشعر ان هذه المنظمات التي يفترض ان تنشط باستقلالية بعيدا عن التعليمات الامريكية والغربية تمارس نشاطات بعيدة كل البعد عن النهج الدولي المستقل وكانت احدى هذه المنظمات' محكمة الجنايات الدولية' قد اصدرت حكما ضد الرئيس الروسي فلاديمير بوتين وامرا بالقاء القبض عليه في حال زيارة بلد ما وان على ذلك البلد ان ينفذ قراراتها كما اصدرت حكما ضد رئيس حكومة العدو الصهيوني نتن ياهو جراء المجازر التي ارتكبها ضد شعب غزة الا ان احدا لم يكترث بقراراتها فقد زار نتن ياهو هنغاريا دون ان تهتم بقرار المحكمة بالقاء القبض عليه. على روسا ان تلتفت الى بقية المنظمات والهيئات التي تحمل اسماء دوليية وتنفذ اجندات غربية وما اكثرها وان منظمة العفو الدولية التي اعتبرت موسكو قراراتها غير شرعية واحدة من تلك المنظمات التي يستغلها الغرب من اجل تنفيذ مشاريعه الاستعمارية في العالم بمنحها صفة دولية زائفة ؟؟ ‎2025-‎05-‎23

مأساة الناصرية وإشكالية العقيدة التدريبية في الكليات العسكرية العراقية
مأساة الناصرية وإشكالية العقيدة التدريبية في الكليات العسكرية العراقية

موقع كتابات

timeمنذ 2 أيام

  • موقع كتابات

مأساة الناصرية وإشكالية العقيدة التدريبية في الكليات العسكرية العراقية

قبل يومين، شهد موقع التدريب الميداني للكلية العسكرية الرابعة في محافظة ذي قار جنوب العراق مأساة مزدوجة تمثلت في وفاة متدربين اثنين وإصابة أكثر من 100 طالب بالإعياء وحالات إغماء نتيجة تعرضهم لاختبارات بدنية قاسية في ظروف مناخية قاسية تجاوزت فيها درجات الحرارة حدود التحمل البشري. وبينما سارعت وزارة الدفاع إلى إقالة عميد الكلية وآمر الفوج المختص وتشكيل مجلس تحقيقي، يبقى السؤال الأهم دون إجابة: ما الذي يدفع مؤسسات عسكرية إلى تكرار نفس الخطأ البنيوي في زمن تغيّرت فيه طبيعة الحروب والجيوش؟ الحدث لا يُقرأ كحادثة ميدانية معزولة، بل كعرض صارخ لأزمة أعمق في العقيدة التدريبية العسكرية العراقية، التي لم تواكب بعد متغيرات القرن الحادي والعشرين. فالمناهج التدريبية لا تزال أسيرة نماذج استنزافية بدنية تعود إلى عقود ما بعد الحرب العالمية الثانية، حين كانت الجندية تقاس بمدى صلابة الجسد وقسوته. غير أن الجيوش الحديثة، في سياق التحول نحو الرقمنة العسكرية، والسيطرة السيبرانية، والأنظمة الذكية الموجهة عن بعد، باتت تُدار بعقول متخصصة ومهارات تكتيكية رقمية أكثر مما تُدار بعضلات تقاوم الصهد والتراب. إن ما حدث في استقبال الدورة الجديدة ليس فقط سوء تقدير ظرفي، بل فشل في استيعاب التحول الجذري في وظيفة الجندي. فبينما تتجه المؤسسات العسكرية الاحترافية في العالم إلى تقسيم برامج الإعداد وفق التخصصات الدقيقة – بين الميداني، والاستخباري، والرقابي، والتقني – لا تزال بعض الكليات في العراق تُخضع كل طالب للنوع نفسه من التدريب، دون اعتبار لفروقات التخصص، أو الفروق البيولوجية، أو حتى المؤشرات الحيوية المباشرة لحالته الصحية. هذه ممارسة لا يمكن وصفها إلا بأنها تدريب قسري لا يراعي لا المناخ ولا الإنسان. إن العقيدة العسكرية الحديثة، كما تبلورت في جيوش الدول المتقدمة، تقوم على التمييز بين الجهد البدني المطلوب لبناء اللياقة العامة، وبين الكفاءة العقلية والتخصصية المرتبطة بأدوار العمليات المستقبلية. فليس مطلوبًا من ضابط سيتولى قيادة طائرة بدون طيار أن يتحمل مسيرًا قاسيًا في حرارة 50 درجة، كما لا يُفترض أن يُجبر ضابط استخبارات على الركض لساعات في ميدان ترابي مكشوف وهو سيتعامل لاحقًا مع تهديدات رقمية معقدة تتطلب هدوءًا ذهنيًا، لا إرهاقًا عضليًا. والخطر الأكبر أن التدريب البدني القاسي – حين يُفرض بشكل شمولي وغير علمي – يتحول من أداة تأهيل إلى أداة قتل رمزي أو فعلي. وهو ما وقع بالفعل في الناصرية: اثنان من أبناء العراق سقطا قتلى لا في ميدان قتال، بل تحت سياط تدريب عقيم، فيما أصيب أكثر من مئة طالب بالإجهاد، بعضهم بأعراض حرجة. كل هذا في وقت يفترض فيه أن تكون الكليات العسكرية هي مراكز الاحتراف والانضباط والجاهزية، لا مراكز إرهاق عشوائي. الإقالات الإدارية – وإن كانت ضرورية من باب المساءلة – لا تمثل حلاً جوهريًا ما لم يُعاد النظر في الفلسفة التعليمية للمؤسسة العسكرية العراقية. لا يتعلق الأمر فقط بضبط توقيت التمارين أو توفير الظل والماء، بل بإعادة تعريف التدريب العسكري نفسه: هل ما زال الجهد البدني القاسي معيارًا لبناء الضابط؟ أم أن المعركة اليوم تحسمها المعرفة، والجاهزية السيكولوجية، والقدرة على التحليل الفوري في بيئات هجينة ومعقدة؟ إن مؤسسات التدريب العسكرية في الدول المتقدمة أصبحت تدمج بين التقنية، والطب الحيوي، والذكاء الاصطناعي، لتحليل قدرة المتدرب لحظيًا وتحديد حدود جهده القابل للتحمل. التدريب هناك لا يتسم فقط بالصرامة، بل بالدقة. أما في الحالة العراقية، فغالبًا ما يُفهم الانضباط على أنه التحمّل المطلق، وتُفهم القوة على أنها استنزاف، لا فعالية. من هنا فإن ما جرى في الناصرية يجب أن يُقرأ بوصفه لحظة اختبار حقيقية لمدى رغبة المؤسسة العسكرية العراقية في إجراء مراجعة جذرية لعقيدتها التدريبية. لا يكفي تغيير الأشخاص، ولا تقديم اعتذار بيروقراطي. المطلوب هو إعادة صياغة فلسفة الإعداد العسكري من جذورها، على قاعدة التفريق بين الرجولة العسكرية وبين الانتحار النظامي المقنن. ومثل هذه المراجعة لا تتطلب فقط شجاعة في الاعتراف، بل جرأة في التغيير الجوهري للمناهج، وللغايات، ولأدوات القياس. ففي عصر تحسم فيه الحروب عبر الأقمار الصناعية والهجمات السيبرانية والطائرات المسيّرة، لا تزال بعض الكليات في العراق تختبر جنودها عبر قسوة الشمس، لا عبر اختبارات الذكاء أو الجاهزية الذهنية. وإذا لم تتحول هذه المأساة إلى نقطة انعطاف في وعي المؤسسة، فسنظل نودّع أبناءنا لا في المعركة، بل في ميدان 'الاستقبال'.

حمل التطبيق

حمّل التطبيق الآن وابدأ باستخدامه الآن

مستعد لاستكشاف الأخبار والأحداث العالمية؟ حمّل التطبيق الآن من متجر التطبيقات المفضل لديك وابدأ رحلتك لاكتشاف ما يجري حولك.
app-storeplay-store