
المدينة المنورة.. إرثٌ جيولوجي يمتد إلى أعماق التاريخ
ورغم مناخها الصحراوي الجاف الذي يتسم بالحرارة صيفًا والبرودة شتاءً، إلا أن المدينة المنورة برزت كواحة زراعية خضراء عبر التاريخ، مستفيدة من خصوبة تربتها ووفرة مصادر المياه الجوفية والأودية الموسمية، واشتهرت بزراعة النخيل وتنوع الغطاء النباتي, وتُشكّل المعالم الجغرافية والجيولوجية المحيطة بها عنصرًا أساسيًا في هذه الخصوبة، وتسهم التكوينات الجبلية والرسوبيات الحديثة في إثراء التربة بالعناصر الطبيعية.
وتحيط بالمدينة مجموعة من الجبال البارزة، يأتي في مقدمتها جبل أحد، الواقع شمال المسجد النبوي الشريف على بُعد نحو (5.5) كيلومترات، الذي يُعد رمزًا طبيعيًا وتاريخيًا في آنٍ معًا, ويبلغ ارتفاعه نحو (1077) مترًا عن سطح البحر، ويتكون في الغالب من صخور الريوليت النارية ذات اللون الأحمر الفاتح، الغنية بالكوارتز والفلسبار والبلاجيوكلاز، مع تداخلات لصخور الداسيت والبريشيا الريوليتية والطف, ويتميز النسيج الصخري لهذا الجبل بدقة تبلوره، مما يعكس مراحل تبريد بطيئة للصهارة في أعماق القشرة الأرضية.
إلى الغرب من المسجد النبوي، تقع جبال الجماوات، التي تُعرف بتضاريسها المتوسطة الارتفاع، التي تصل إلى نحو (965) مترًا، وتتكون من صخور الجرانيت والجرانوديوريت، وهي من الصخور النارية الجوفية، التي تشكلت نتيجة لتداخل حمم مصهورة ضمن أعماق القشرة الأرضية ثم تجمدت, ويظهر جبل جُمّة غرب المدينة، والممتد من جهة جامعة طيبة حتى حيّ السلام، بارتفاع يبلغ حوالي (944) مترًا، ويتكوّن في معظمه من صخور الجرانيت.
أما جبل سلع، الواقع شمال غرب المسجد النبوي، فيتكون من صخر الجابرو القاعدي، قاسٍ وصلد، مصدره بلوتوني (جوفي)، ولونه رمادي قاتم يميل إلى الأسود، ويصل ارتفاعه إلى نحو (681) مترًا, ويبرز جبل عير، جنوب المدينة، كأحد المعالم البركانية البارزة، وتحيط به صخور البازلت من مختلف الجهات، باستثناء الشمال الغربي، مما يشير إلى نشاط بركاني قديم أسهم في تشكيل بنيته, وتضم المدينة أيضًا جبل أم سالمة شمال غربها، على بُعد نحو (17) كيلومترًا، ويُعد من أبرز التكوينات الجرانيتية التي تشهد على التاريخ الجيولوجي العميق للمنطقة.
وتزخر المدينة المنورة بأنواع متعددة من الصخور التي تُعبّر عن مراحل جيولوجية متنوعة, ومن بين هذه الصخور ما يُعرف بـ"صخور القاعدة القديمة"، وهي تكوينات نارية وحمضية وقاعدية (مثل الريوليت، الداسيت، والأنديزيت) تعود إلى ما قبل العصر الكامبري، وتظهر بشكل واضح في شمال وغرب المدينة, وتتخللها صخور فتاتية، مما يدل على وجود نشاطات بركانية.
ومن التكوينات الأخرى البارزة ما يُعرف بـ"صخور المحقونات الجوفية"، وهي عبارة عن حمم نارية مصهورة اندفعت من باطن الأرض، وتغلغلت داخل القشرة الأرضية، ثم بردت ببطء مكونة صخورًا نارية جوفية كصخور الجرانيت، والجرانوديوريت، والديوريت، والجابرو, واندست هذه الصخور في تكوينات القاعدة القديمة، وتعرضت لاحقًا لعمليات تحول بفعل الحرارة والضغط.
وتحيط بالمدينة ثلاث حرات بركانية ضخمة، تُعد من أبرز ملامحها الجيولوجية، وتعرف علميًا باسم "الصخور البركانية الحديثة"، وهي ناتجة عن تدفقات حمم بركانية بازلتية قاتمة اللون تعود إلى العصور الجيولوجية المتأخرة، وتغطي هذه الحرات أجزاء واسعة من المناطق المحيطة بالمدينة المنورة، وتحيط بالمدينة المنورة على شكل ذراعين يطوقها الأول من جهة الشرق، ويعرف بالحرة الشرقية (حرة واقم)، ويطوقها الثاني من جهة الغرب، ويعرف باسم الحرة الغربية (حرة الوبرة).
يذكر أن الحرة الغربية أوسع انتشارًا من الحرة الشرقية, وتمتد صخورها البازلتية بعيدًا نحو الجنوب، حتى تصل إلى شرق جبل عير, وتُرى هذه المجموعة البازلتية بوضوح على جانبي طريق القصيم، وتنتج هذه التكوينات عن النشاط البركاني القديم الذي أسهم في تشكيل البنية الطوبوغرافية للمنطقة.
وإلى جانب الجبال والحرات، تمثل الرسوبيات الحديثة أحد أبرز العناصر الجيولوجية في المدينة المنورة، وتُغطي الجزء الأكبر من أرضها مكونة حوضًا رسوبيًا، بمتوسط ارتفاع يبلغ نحو (625) مترًا عن سطح البحر, وتعود هذه الرسوبيات إلى عمليات الحتّ والتعرية التي تتعرض لها المرتفعات الجبلية المحيطة، وتم نقل معظمها إلى أرض المدينة عبر شبكة من الأودية الموسمية، التي تجري فيها المياه خلال مواسم الأمطار، جالبة معها كميات كبيرة من التربة والفتات الصخري.
ومن أشهر هذه الأودية وادي العقيق، الذي يعبر المدينة من الجنوب إلى الشمال، ويلتقي بوادي قناة غرب جبل أحد، ويُعد من أقدم الأودية تاريخيًا وأكثرها أهمية، نظرًا لخصوبته ودوره في تغذية الأراضي الزراعية, يليه وادي قناة، القادم من الشمال الشرقي، الذي يمر شرق جبل أحد قبل أن يتجه غربًا نحو منطقة زُغابة, ويمر وادي بطحان جنوب المدينة، غرب جبل سلع، ثم يتجه شمالًا، بينما يلتقي وادي الرانوناء، القادم من الجنوب الغربي، مع بطحان عند قباء، ليستكملا جريانهما شمالًا, أما وادي الحمض، الذي يستمر مجراه باتجاه الشمال قليلا، ثم ينحرف نحو الشمال الغربي ليتابع مساره الطويل بين الجبال، حتى يصب أخيرًا في البحر الأحمر.
وتلعب هذه الأودية دورًا رئيسيًا في تشكيل الطبيعة الجيولوجية للمدينة، فهي تسهم في ترسيب طبقات من التربة الطينية والغرينية والرملية، وتُغذي الحوض الرسوبي بالمواد العضوية والمعدنية، مما يزيد خصوبته ويدعم الغطاء النباتي.
وعلى الصعيد الهندسي، تُعد الصخور المنتشرة في المدينة المنورة، وخصوصًا الصخور النارية كالجرانيت والبازلت والأنديزيت، ذات أهمية كبيرة نظرًا لكثافتها العالية وقدرتها على مقاومة الضغط، مما يجعلها ملائمة للاستخدام في المنشآت الإنشائية الثقيلة وأعمال البنية التحتية، وهو ما انعكس فعليًا في كثير من مشاريع التطوير العمراني بالمنطقة.
ويمكن الاستفادة من بعض أنواع الصخور الرسوبية الفتاتية، كمواد أولية ذات جودة عالية في صناعة الخرسانة، وتنتشر في شمال وغرب المدينة المنورة وخاصة في المناطق الجبلية الممتدة إلى الشمال من جبل أحد، وعلى جانبي طريق تبوك القديم, وتتكون هذه الصخور من تلاحم شظايا وحبات صخرية غير متجانسة، نتجت عن إعادة ترسيب مواد بركانية قديمة متكسرة, وتُعد التربة والرسوبيات الناعمة الحديثة الموجودة في سد البيضاء صالحة للاستخدامات الزراعية, والمدينة المنورة ليست فقط مركزًا دينيًا وتاريخيًا، بل تمثل كذلك متحفًا جيولوجيًا مفتوحًا يعكس تنوع الأرض وتاريخها الطويل، ويقدّم للباحثين والمهتمين فرصًا غنية لفهم العوامل الطبيعية التي أسهمت في تشكيل ملامحها على مر العصور.
هاشتاغز

جرب ميزات الذكاء الاصطناعي لدينا
اكتشف ما يمكن أن يفعله Daily8 AI من أجلك:
التعليقات
لا يوجد تعليقات بعد...
أخبار ذات صلة


صحيفة سبق
منذ 3 ساعات
- صحيفة سبق
الحدود الشمالية.. 17 ألف م² لتشييد مشروع بيطري يحمي 7.5 ملايين رأس ماشية
يواصل فرع وزارة البيئة والمياه والزراعة بمنطقة الحدود الشمالية تنفيذ المشروع الأول من نوعه، المتمثل في إنشاء مشروع التميز الوطني للأبحاث والثروة الحيوانية ومكافحة الأمراض الحيوانية بالمنطقة، الذي يعد خطوة في تعزيز الأمن البيطري، ويسهم في تطوير القطاع البيطري ورفع كفاءة الأبحاث والخدمات التشخيصية في المملكة. ويقام المشروع على مساحة تتجاوز 17 ألف متر مربع، ويضم عددًا من المرافق المتخصصة الجاري العمل عليها، تشمل المباني الإدارية، ومختبرات التشخيص البيطري، والحظائر، والثلاجات المركزية، ومباني المعرفة، إضافة إلى المرافق التشغيلية كسكن العمال والخزانات ومرافق الكهرباء، وذلك وفق أعلى المعايير الفنية والهندسية، وبميزانية تُقدّر بنحو 29,636,570 ريالًا. وتبرز أهمية المشروع نظرًا لما تشهده منطقة الحدود الشمالية من كثافة في الثروة الحيوانية، حيث تُعد من أكبر المناطق الرعوية في المملكة، إذ بلغ إجمالي الثروة الحيوانية في المنطقة نحو 7,551,997 رأسًا، منها: 7,258,950 رأسًا من الضأن، و235,814 رأسًا من الماعز، و56,925 رأسًا من الإبل، و308 رؤوس من الأبقار. ويهدف المشروع إلى توفير بيئة علمية متقدمة تدعم الباحثين والممارسين البيطريين، وتطوير وسائل مكافحة الأمراض الحيوانية العابرة للحدود، وتعزيز منظومة الأمن الغذائي والصحة الحيوانية، بما يسهم في تحقيق مستهدفات رؤية المملكة 2030 في التنمية المستدامة للقطاع الزراعي والبيئي.


الرياض
منذ 4 ساعات
- الرياض
محمية الأمير محمد بن سلمان الملكية تحتفي بولادة أول "وعلين نوبيين"
أعلنت محمية الأمير محمد بن سلمان الملكية عن ولادة أول "وعلين نوبيين" ضمن برنامجها لإعادة تأهيل الحياة البرية، ضمن خطوة رئيسة في جهود المحمية لاستعادة الأنواع الأصيلة في المملكة؛ بهدف إعادة توطين 23 من الأنواع الأصلية التي عاشت تاريخيًا في المنطقة، ويُصنّف الاتحاد الدولي لحماية الطبيعة هذا الوعل ضمن الأنواع المهددة بالانقراض، حيث لا يتجاوز عدده 5,000 وعلٍ بالغٍ في البرية حول العالم. وقال الرئيس التنفيذي لهيئة تطوير محمية الأمير محمد بن سلمان الملكية أندرو زالوميس: "تشكل ولادة هذين الوعلين إنجازًا لافتًا في إطار برنامجنا لإعادة تأهيل الحياة البرية، وهذا رابع نوعٍ مميزٍ ينجح في التكاثر ضمن هذا البرنامج بعد ولادات المها العربي وغزال الرمل وغزال الجبل". وأضاف بأن جميع هذه الإنجازات تساعدنا على تحقيق رؤية هيئة تطوير المحمية في استعادة الحياة الفطرية. وأكد أن أعداد الوعول في المحميات الملكية تتزايد، بفضل جهود المملكة في حماية الحياة البرية.


الشرق الأوسط
منذ 5 ساعات
- الشرق الأوسط
السعودية: ولادة أول «وعلين نوبيين» في إطار برنامج إعادة تأهيل الحياة البرية
أعلنت محمية الأمير محمد بن سلمان الملكية ولادة أول «وعلين نوبيين»، ضمن برنامجها لإعادة تأهيل الحياة البرية، في خطوة رئيسية لجهود المحمية لاستعادة الأنواع الأصيلة في المملكة؛ بهدف إعادة توطين 23 من الأنواع الأصيلة التي عاشت تاريخياً في المنطقة، ويُصنّف «الاتحاد الدولي لحماية الطبيعة» هذا الوعل ضمن الأنواع المهدَّدة بالانقراض، حيث لا يتجاوز عدده 5 آلاف وعلٍ بالغٍ في البرية حول العالم. تُشكِّل ولادة الوعلين إنجازاً لافتاً لمحمية الأمير محمد بن سلمان الملكية في إطار برنامجها لإعادة تأهيل الحياة البرية (واس) وقال الرئيس التنفيذي لهيئة تطوير محمية الأمير محمد بن سلمان الملكية، أندرو زالوميس: «تشكِّل ولادة هذين الوعلين إنجازاً لافتاً في إطار برنامجنا لإعادة تأهيل الحياة البرية، وهذا رابع نوعٍ مميزٍ ينجح في التكاثر ضمن هذا البرنامج بعد ولادات المها العربي، وغزال الرمل، وغزال الجبل». وأضاف زالوميس، أن جميع هذه الإنجازات تساعدنا على تحقيق رؤية هيئة تطوير المحمية في استعادة الحياة الفطرية، مؤكداً أن أعداد الوعول في المحميات الملكية تزداد، بفضل جهود المملكة في حماية الحياة البرية. محمية الأمير محمد بن سلمان الملكية تمتد من الحرات البركانية إلى أعماق البحر الأحمر غرباً لتربط بين نيوم ومشروع البحر الأحمر والعلا (واس) يذكر أن محمية الأمير محمد بن سلمان الملكية تُعد واحدة من 8 محميات ملكية في المملكة، وتمتد على مساحة 24500 كم²، من الحرات البركانية إلى أعماق البحر الأحمر غرباً، لتربط بين نيوم ومشروع البحر الأحمر والعلا، كما تُعد موطناً لمشروع وادي الديسة التابع لصندوق الاستثمارات العامة، وأمالا التابعة لشركة البحر الأحمر العالمية. وتضم المحمية 15 نظاماً بيئياً مختلفاً، وتغطي 1في المائة من المساحة البرية للمملكة، و1.8في المائة من مساحتها البحرية، إلا أنها تُشكِّل موطناً لأكثر من 50 في المائة من الأنواع البيئية في المملكة، مما يجعلها واحدة من أغنى المناطق الطبيعية في الشرق الأوسط بالتنوع الحيوي.