logo
هذا هو عقاب هارفارد والجامعات التي خانت طلابها

هذا هو عقاب هارفارد والجامعات التي خانت طلابها

الجزيرةمنذ 2 أيام

تبنّت وسائل الإعلام والجامعات والحزب الديمقراطي والليبراليون فكرة "معاداة السامية المتفشية"، فمهّدوا الطريق لهلاكهم بأنفسهم. جامعتا كولومبيا وبرينستون، حيث درّست، وجامعة هارفارد، التي درستُ فيها، ليست حواضن للكراهية تجاه اليهود.
وصحيفة نيويورك تايمز، التي عملت بها لمدة خمسة عشر عامًا، والتي يصفها ترامب بأنها "عدو الشعب"، تخضع طوعًا للرواية الصهيونية. ما تشترك فيه هذه المؤسسات ليس معاداة السامية، بل الليبرالية. وهذه الليبرالية، بعقيدتها القائمة على التعددية والشمول، مستهدفة من نظامنا السلطوي للمحو التام.
إن الخلط بين الغضب من الإبادة الجماعية ومعاداة السامية هو حيلة دنيئة لإسكات الاحتجاج، وإرضاء المتبرعين الصهاينة، وطبقة المليارديرات والمعلنين.
هذه المؤسسات الليبرالية، من خلال تسليح مصطلح "معاداة السامية"، قمعت وطردت النقّاد، وحظرت مجموعات طلابية مثل "الصوت اليهودي من أجل السلام"، و"طلاب من أجل العدالة في فلسطين"، وسمحت للشرطة باعتقال المئات من المحتجين السلميين في الحرم الجامعي، وفصلت أساتذة، وتذللت أمام الكونغرس. استخدم مصطلحات مثل "أبارتهايد" أو "إبادة جماعية"، وسيتم فصلك أو تشويهك.
في هذه الرواية الخيالية، يُصوَّر اليهود الصهاينة كمضطهدين. أما اليهود الذين يحتجون على الإبادة الجماعية، فيُشوَّهون ويُعاقبون. هناك "يهود جيدون" و"يهود سيئون". فئة تستحق الحماية، وأخرى تُقدّم للذئاب. هذا الانقسام الكريه يفضح المسرحية كلها.
في أبريل/ نيسان 2024، أدلت رئيسة جامعة كولومبيا، نعمت شفيق، بشهادتها أمام لجنة التعليم في مجلس النواب الأميركي، برفقة عضوين من مجلس الأمناء وأستاذ قانون. قبلت شفيق فرضية أن معاداة السامية تمثّل مشكلة كبيرة في كولومبيا ومؤسسات التعليم العالي الأخرى.
وعندما قال ديفيد غرينوالد، الرئيس المشارك لمجلس أمناء كولومبيا، إن شعارات مثل "من النهر إلى البحر" و"تحيا الانتفاضة" معادية للسامية، وافقته شفيق، وقامت بالتخلي عن الطلاب والأساتذة، بمن فيهم البروفيسور يوسف مسعد.
في اليوم التالي لجلسة الاستماع، أوقفت شفيق جميع الطلاب المشاركين في الاحتجاجات، واستدعت شرطة نيويورك (NYPD)، التي اعتقلت ما لا يقل عن 108 طلاب. كتبت شفيق في رسالتها للشرطة: "لقد قررت أن المخيم والاضطرابات المرتبطة به تمثل خطرًا واضحًا ومباشرًا على الوظيفة الأساسية للجامعة".
لكن رئيس شرطة نيويورك، جون تشيل، قال للصحافة: "الطلاب الذين تم اعتقالهم كانوا سلميين تمامًا، ولم يُبدوا أي مقاومة، وكانوا يعبّرون عن آرائهم بطريقة سلمية".
في الجلسة، سألت النائبة إليز ستيفانيك: "ما الإجراء التأديبي الذي اتُخذ ضد تلك الأستاذة؟"، مشيرة إلى أستاذة القانون كاثرين فرانكي. فأجابت شفيق بأن فرانكي، وهي يهودية وقد درّست في كلية القانون 25 عامًا، طُلب منها مغادرة منصبها، وأنها، إلى جانب أساتذة آخرين، تخضع للتحقيق.
وأشارت كذلك إلى البروفيسور الزائر محمد عبدو، وقالت إنه "تم فصله"، وتعهدت بأنه "لن يُدرّس في كولومبيا مرة أخرى". عبدو يقاضي الجامعة بتهم التشهير والتمييز والتحرش والخسائر المالية والمهنية.
كتب مركز الحقوق الدستورية عن خيانة فرانكي: "في هجوم صارخ على حرية الأكاديميا والدعوة لحقوق الفلسطينيين، دخلت جامعة كولومبيا في "اتفاق" مع كاثرين فرانكي لمغادرة منصبها التدريسي بعد مسيرة حافلة استمرت 25 عامًا. هذه الخطوة -بحسب فرانكي- كانت فصلًا تم تغليفه بعبارات مقبولة".
وقد ارتكبت "جريمتها"، حين أعربت عن قلقها من فشل الجامعة في التصدي لتحرشات طلاب إسرائيليين قادمين من الخدمة العسكرية بمؤيدين لحقوق الفلسطينيين، بعد أن رش الإسرائيليون المتظاهرين بمادة كيميائية سامة.
على إثر ذلك، تم التحقيق مع فرانكي بتهمة التحرش، وتقرر أنها انتهكت سياسات كولومبيا. السبب الحقيقي لإقصائها كان قمع المعارضة في الجامعة عقب احتجاجات تاريخية ضد إبادة الفلسطينيين في غزة. وقد تم حسم مصير فرانكي عندما تخلّت عنها شفيق خلال شهادتها الجبانة أمام الكونغرس.
رغم خضوعها للوبي الصهيوني، استقالت شفيق بعد عام وبضعة أشهر من توليها المنصب. لكن القمع استمر؛ تم اعتقال نحو 80 شخصًا، وتعليق أكثر من 65 طالبًا في أوائل مايو/ أيار بعد احتجاج في مكتبة الجامعة. رئيسة الجامعة المؤقتة، الصحفية السابقة كلير شيبمان، أدانت الاحتجاج بقولها: "لن يتم التسامح مع أي تعطيل للأنشطة الأكاديمية.. كولومبيا تدين بشدة العنف في حرمها، ومعاداة السامية وكل أشكال الكراهية والتمييز".
بالطبع، الاسترضاء لا ينفع. لم تكن هذه الحملة، سواء تحت إدارة بايدن أو ترامب، قائمة على حسن النية. بل كانت تهدف لقطع رؤوس منتقدي إسرائيل، وتهميش الطبقة الليبرالية واليسار. إنها مدفوعة بالأكاذيب والتشهير، التي لا تزال هذه المؤسسات تتبناها.
مشاهدة هذه المؤسسات الليبرالية، التي تعادي اليسار، وهي تُشهر بها إدارة ترامب بتهم "الماركسيين المجانين" و"اليساريين المتطرفين" و"الشيوعيين"، تكشف فشلًا إضافيًا لهذه الطبقة. كان بإمكان اليسار إنقاذ هذه المؤسسات أو على الأقل تزويدها بالتحليل والشجاعة لاتخاذ موقف مبدئي. اليسار على الأقل يسمّي الأبارتهايد أبارتهايد، والإبادة الجماعية إبادة جماعية.
تنشر وسائل الإعلام مقالات وآراء تقبل دون تمحيص مزاعم طلاب وأكاديميين صهاينة. لا تميز بين اليهودي والصهيوني، وتشيطن المحتجين، ولا تغطي المخيمات الطلابية بصدق، حيث اتحد يهود ومسلمون ومسيحيون من أجل قضية واحدة. شعارات مناهضة للصهيونية ومؤيدة للتحرر الفلسطيني تُصنّف باعتبارها خطاب كراهية أو معاداة للسامية أو سببًا لشعورالطلاب اليهود بعدم الأمان.
أمثلة من الصحف:
نيويورك تايمز: "لماذا تُقلق الاحتجاجات في الحرم الجامعي؟"، "أنا أستاذ في كولومبيا. ما يحدث ليس عدالة"، "ما الذي يجعل احتجاجًا معاديًا للسامية؟".
واشنطن بوست: "سمّوا الاحتجاجات الجامعية كما هي"، "اعذروا الطلاب، لا الأساتذة".
ذي أتلانتيك: "المخيمات الاحتجاجية غير أخلاقية"، "مشكلة كولومبيا مع معاداة السامية".
سلايت: "متى تتجاوز الاحتجاجات المؤيدة لفلسطين حدود معاداة السامية؟".
فوكس: "موجة متصاعدة من معاداة السامية في الجامعات خلال احتجاجات غزة".
ماذر جونز: "كيف أشعلت الاحتجاجات المؤيدة لفلسطين معاداة السامية في الجامعات؟".
ذا كت: "مشكلة احتجاجات فلسطين في الحرم الجامعي".
ديلي بيست: "طفرة في معاداة السامية خلال احتجاجات الجامعات الأميركية".
ووفقًا لمذكرة داخلية حصل عليها موقع ذا إنترسبت، طلبت صحيفة نيويورك تايمز من مراسليها تجنّب استخدام كلمات مثل: "مخيمات اللاجئين"، "الأراضي المحتلة"، "مجزرة"، "ذبح"، "إبادة جماعية"، و"تطهير عرقي" عند الحديث عن فلسطين. بل إنها تثني عن استخدام كلمة "فلسطين" في النصوص والعناوين.
في ديسمبر/ كانون الأول 2023، أرسلت حاكمة نيويورك الديمقراطية كاثي هوشول رسالة لرؤساء الجامعات تحذر فيها من الفشل في إدانة معاداة السامية، متوعدة بعقوبات شديدة.
وفي أكتوبر/ تشرين الثاني 2024، قالت في مناسبة تأبينية: "هناك قوانين – قوانين حقوق إنسان، قوانين فدرالية وولائية – سأطبقها إذا سمحتم بالتمييز ضد طلابنا، حتى باستخدام عبارات مثل: "من النهر إلى البحر"، فهي دعوات صريحة لإبادة اليهود".
وضغطت هوشول بنجاح على جامعة مدينة نيويورك لإلغاء وظيفة دراسات فلسطينية بسبب مصطلحات مثل: "استعمار استيطاني"، و"إبادة جماعية"، و"أبارتهايد".
في كتابه الجديد؛ "معاداة السامية في أميركا: تحذير"، يقود زعيم الأقلية في مجلس الشيوخ تشاك شومر حملة الحزب الديمقراطي لإدانة المحتجين على الإبادة الجماعية باعتبارهم يمارسون "افتراء دمويًا ضد اليهود". ويكتب: "بغض النظر عن وجهة نظرك بشأن الحرب في غزة، لم تكن سياسة الحكومة الإسرائيلية أبدًا إبادة الشعب الفلسطيني"، متجاهلًا مئات التصريحات من مسؤولين إسرائيليين تدعو إلى محو الفلسطينيين.
لكن الحقيقة؛ الوحشية مختلفة تمامًا، ومعترف بها من مسؤولين إسرائيليين أنفسهم. قال وزير المالية الإسرائيلي بتسلئيل سموتريتش: "نحن نفكك غزة، ونتركها كأنقاض، دمار شامل لا سابقة له عالميًا. والعالم لا يوقفنا". وقال عضو الكنيست زفي سوكوت للقناة 12: "قتلنا نحو 100 فلسطيني الليلة الماضية… ولا أحد يهتم. تعوّد العالم على قتل 100 فلسطيني في ليلة واحدة خلال الحرب دون أن يكترث أحد".
الاستمرار في ترويج خرافة معاداة السامية المنتشرة- التي توجد، ولكن لا تُغذى أو تُشجع من هذه المؤسسات- ورفض قول الحقيقة الموثقة على الهواء مباشرة، حطّم ما تبقى من سلطة أخلاقية لتلك المؤسسات والليبراليين، ومنح مصداقية لمساعي ترامب لتدمير مؤسسات الديمقراطية الليبرالية.
يحيط بترامب متعاطفون مع النازيين الجدد، وفاشيون مسيحيون يدينون اليهود لأنهم صلبوا المسيح. لكن معاداة السامية من اليمين تمرّ دون مساءلة لأن هؤلاء "المعادين الجيدين للسامية" يدعمون المشروع الصهيوني الاستيطاني للإبادة: مشروع يرغب هؤلاء الفاشيون في تطبيقه على السود والملونين باسم "نظرية الاستبدال العظيم". ويروج ترامب لفكرة "إبادة البيض" في جنوب أفريقيا. وفي فبراير/ شباط، وقّع أمرًا تنفيذيًا يُسرّع هجرة الأفريكانيين (البيض الجنوب أفريقيين) إلى الولايات المتحدة.
جامعة هارفارد، التي تحاول إنقاذ نفسها من هجوم إدارة ترامب، كانت متواطئة تمامًا في هذه الحملة. فقد أدانت رئيسة الجامعة السابقة كلودين غاي شعار: "من النهر إلى البحر" بوصفه يحمل "دلالات تاريخية محددة توحي لكثيرين بإبادة اليهود".
وفي يناير/ كانون الثاني 2024، شدّدت الجامعة قواعد الاحتجاجات، وزادت الوجود الأمني، ومنعت 13 طالبًا من التخرج، ووضعت أكثر من 20 آخرين في "إجازة قسرية"، وطردت بعضهم من السكن الجامعي.
هذه السياسات انتشرت في جامعات أخرى. ورغم كل هذه التنازلات والقمع لحرية التعبير والنشاط المؤيد لفلسطين منذ 7 أكتوبر/ تشرين الأول 2023، لم تسلم الجامعات من الهجوم.
منذ تولي ترامب منصبه، تم تعليق أو تجميد ما لا يقل عن 11 مليار دولار من المنح والعقود الفدرالية البحثية، بما في ذلك 3 مليارات لهارفارد، و400 مليون لكولومبيا، و175 مليونًا لجامعة بنسلفانيا، و6-7.5 ملايين سنويًا لجامعة برانديز.
وفي 22 مايو/ أيار، صعّدت إدارة ترامب من هجومها على هارفارد بإلغاء قدرتها على تسجيل طلاب دوليين (يشكّلون نحو 27% من عدد الطلاب).
قالت كريستي نويم، وزيرة الأمن الداخلي، على منصة إكس: "هذه الإدارة تحاسب هارفارد على تحريضها على العنف، ومعاداة السامية، وتنسيقها مع الحزب الشيوعي الصيني في حرمها". وأضافت: "ليكن هذا تحذيرًا لجميع الجامعات والمؤسسات الأكاديمية في البلاد".
لقد أساءت هارفارد، مثل كولومبيا والإعلام والحزب الديمقراطي والطبقة الليبرالية، قراءة موازين القوة. ومن خلال رفض الاعتراف بالإبادة الجماعية في غزة، واضطهاد من يفعل، قدمت الذخيرة لجلاديها.
وها هي تدفع ثمن غبائها وجبنها.

Orange background

جرب ميزات الذكاء الاصطناعي لدينا

اكتشف ما يمكن أن يفعله Daily8 AI من أجلك:

التعليقات

لا يوجد تعليقات بعد...

أخبار ذات صلة

بصمة البنتاغون الكربونية الأعلى عسكريا وتفوق 20 دولة
بصمة البنتاغون الكربونية الأعلى عسكريا وتفوق 20 دولة

الجزيرة

timeمنذ ساعة واحدة

  • الجزيرة

بصمة البنتاغون الكربونية الأعلى عسكريا وتفوق 20 دولة

تعد البنتاغون -القوات المسلحة الأميركية ووكالات وزارة الدفاع- أكبر مؤسسة في العالم تُصدر الغازات المسببة ل لاحتباس الحراري، بما لا يقل عن 1% من إجمالي الانبعاثات الأميركية سنويا، والأكبر بين جيوش العالم. وحسب دراسة أجرتها نيتا كروفورد، الأستاذة في جامعة أكسفورد، ومديرة مشروع تكلفة الحروب في جامعة براون. ولّدت عمليات البنتاغون ومنشآته في عام 2023 نحو 48 ميغاطن من مكافئ ثاني أكسيد الكربون، وهو ما يفوق انبعاثات غازات الاحتباس الحراري التي أطلقتها أكثر من 20 دولة، بما فيها فنلندا وغواتيمالا وسوريا والبرتغال والدانمارك، في ذلك العام. ويقدر أن ترتفع البصمة الكربونية للجيش الأميركي بشكل ملحوظ مع قلب الرئيس دونالد ترامب للنظام الجيوسياسي القديم في رئاسته الثانية، مع الغارات التي شنت على اليمن، وزيادة مبيعاته العسكرية لإسرائيل، التي كثفت هجومها العسكري على غزة والضفة الغربية واليمن ولبنان، حسب نيتا كروفورد. وقالت كروفورد، مؤلفة كتاب "البنتاغون وتغير المناخ والحرب: رسم صعود وهبوط الانبعاثات العسكرية الأميركية" لصحيفة غارديان البريطانية "مع هذه التوجهات، فإن الانبعاثات العسكرية الأميركية سترتفع بالتأكيد، وهذا من شأنه أن يسبب تأثيرا مضاعفا". وتضيف كروفورد، أن حلفاء الولايات المتحدة، الحاليين والسابقين، زادوا إنفاقهم العسكري، مما أدى إلى ارتفاع انبعاثاتهم. ومع تزايد نشاط خصوم الولايات المتحدة، أو خصومها المحتملين العسكريين، سترتفع انبعاثاتهم أيضا. وهي أخبار سيئة للغاية للمناخ، حسب تقديرها. وتعد وزارة الدفاع الأميركية (البنتاغون) أكبر مستهلك للوقود الأحفوري في الولايات المتحدة، حيث يُمثل فعلا نحو 80% من إجمالي الانبعاثات الحكومية. وفي مارس/آذار، كتب وزير الدفاع بيت هيغسيث على موقع X (تويتر سابقا) "إن وزارة الدفاع لا تُقدم أي تنازلات بشأن تغير المناخ، نحن نُجري تدريبات ونخوض معارك". ومع بداية ولايته، وعد ترامب بإنفاق دفاعي قدره تريليون دولار لعام 2026، وهو ما سيمثل زيادة بنسبة 13% على ميزانية البنتاغون لعام 2025، وقد اقترنت بتخفيضات غير مسبوقة طالت جميع الوكالات الفدرالية الأخرى تقريبا، وخصوصا تلك التي تُجري أبحاثا وتستجيب لأزمة المناخ. وتتزامن هذه الزيادات في الإنفاق العسكري مع أوامر بإنهاء أبحاث المناخ في البنتاغون، وتراجعا في العمل المناخي في جميع المؤسسات الحكومية، مع توجه جاد لتعزيز استخراج الوقود الأحفوري. منذ بدء تسجيل البيانات عام 1948، لم تُنفق الولايات المتحدة قط أقل من 3% من ناتجها المحلي الإجمالي على جيشها، ويُعد الإنفاق العسكري الأميركي والانبعاثاتات الناجمة عنه الأعلى في العالم بفارق كبير. ولم تلتزم واشنطن، وتبعتها دول أخرى، بتقديم تقارير عن انبعاثاتها العسكرية للأمم المتحدة بناء على بروتوكول كيوتو لعام 1997 الذي وضع أهدافا ملزمة لخفض انبعاثات غازات الاحتباس الحراري. وبين عامي 1979 و2023، ولّد البنتاغون ما يقرب من 4 مليارات طن مكافئ من ثاني أكسيد الكربون، وهو ما يعادل تقريبا إجمالي انبعاثات عام 2023 التي أبلغت عنها الهند، التي يبلغ عدد سكانها 1.4 مليار نسمة. وأصدرت المنشآت والقواعد العسكرية الأميركية التي تفوق الـ 700، نحو 40% من هذه الانبعاثات، بينما شكلت الانبعاثات التشغيلية 60%، والناجمة عن استخدام الوقود في الحروب والتدريبات والمناورات مع دول أخرى، وفقًا لتحليل كروفورد. الكوكب يدفع الثمن وعلاوة على ذلك، فإن الصناعة العسكرية ــالشركات التي تتخذ من الولايات المتحدة مقراً لها والتي تصنع الأسلحة والطائرات وغيرها من المعدات الحربيةــ تولّد أكثر من ضعف الغازات المسببة للاحتباس الحراري التي تطلقها البنتاغون كل عام. مع ذلك، ترجَّح كروفورد، أن يكون تقدير التأثير المناخي العسكري الأميركي المعروف أقل بكثير من الواقع. فالأرقام لا تشمل غازات الاحتباس الحراري الناتجة عن إلقاء القنابل وتدمير المباني وإعادة الإعمار اللاحقة. كما لا تشمل ثاني أكسيد الكربون الإضافي المُنبعث في الغلاف الجوي من تدمير مصادر الكربون، مثل الغابات والأراضي الزراعية، وحتى الحيتان التي تُقتل أثناء التدريبات البحرية. ولا تشمل أيضا التأثير المترتب على تزايد العسكرة وعمليات الحلفاء والأعداء، وكذلك الانبعاثات الناتجة عن العمليات السرية و"فرق الموت في الأرجنتين والسلفادور وتشيلي خلال الحروب القذرة التي دعمتها الولايات المتحدة، ولا الانبعاثات الناتجة عن زيادة الصين مناوراتها العسكرية ردا على التهديدات الأميركية". كما تقول كروفورد. ومن الاتجاهات العسكرية العالمية الأخرى التي قد تُسفر عن تكاليف مناخية وبيئية باهظة، توسع القوات النووية. وتدرس واشنطن ولندن تحديث أساطيلهما من الغواصات، بينما تشمل القوة النووية المتوسعة للصين ترسانة متنامية من الصواريخ الباليستية العابرة للقارات. ويتطلب إنتاج الأسلحة النووية استهلاكا كثيفا للطاقة وبالتالي انبعاثات أكثر لغازات الاحتباس الحراري. وفي عام 2024، شهد الإنفاق العسكري العالمي أكبر ارتفاع له منذ نهاية الحرب الباردة، ليصل إلى 2.7 تريليون دولار، حيث أدت الحروب والتوترات المتزايدة إلى زيادة الإنفاق، وفقًا لتقرير حديث صادر عن معهد ستوكهولم الدولي لأبحاث السلام. وتُقدَّر البصمة الكربونية العسكرية العالمية الإجمالية بنحو 5.5% من الانبعاثات العالمية، -تستثنى منها غازات الاحتباس الحراري الناتجة عن النزاعات والحروب-، ويفوق ذلك مساهمة الطيران المدني (2%) والشحن البحري (3%) مجتمعَين. ولو كانت جيوش العالم دولةً واحدة، لمثّل هذا الرقم رابع أكبر بصمة كربونية وطنية في العالم، متجاوزةً روسيا. وقد يكون الحشد العسكري العالمي كارثيا في ما له علاقة بظاهرة الاحتباس الحراري العالمي، في وقت يتفق فيه العلماء على أن الوقت ينفد لتجنب ارتفاع درجات الحرارة بشكل كارثي. فإضافة إلى انسحابها من اتفاقية باريس للمناخ ، لم تُبلغ إدارة ترامب عن انبعاثات الولايات المتحدة السنوية إلى اتفاقية الأمم المتحدة الإطارية بشأن تغير المناخ لأول مرة، وحذفت أي ذكر لتغير المناخ من المواقع الإلكترونية الحكومية.

حادث كولورادو يدفع تل أبيب للتفكير بإصدار تحذير سفر لكل اليهود
حادث كولورادو يدفع تل أبيب للتفكير بإصدار تحذير سفر لكل اليهود

الجزيرة

timeمنذ 3 ساعات

  • الجزيرة

حادث كولورادو يدفع تل أبيب للتفكير بإصدار تحذير سفر لكل اليهود

أفادت القناة 14 الإسرائيلية بأن الأجهزة الأمنية في إسرائيل تدرس إمكانية إصدار تحذير سفر عام لليهود والإسرائيليين إلى أي مكان يُقام فيه حدث ذو صلة بالوضع في إسرائيل، في أعقاب هجوم مدينة بولدر بولاية كولورادو. وفي غضون ذلك، قال ممثلو الادعاء في ولاية كولورادو الأميركية إن مصريا متهما بإلقاء قنابل حارقة على مسيرة مؤيدة لإسرائيل في مدينة بولدر أمضى عاما كاملا في التخطيط لهجومه، واستخدم القنابل الحارقة بدلا من السلاح الناري، لأن وضعه كمهاجر يمنعه من شراء الأسلحة. وتفيد وثائق محكمة الولاية والمحكمة الاتحادية بأن محمد صبري سليمان (45 عاما) قال للمحققين إنه كان يريد "قتل جميع الصهاينة"، لكنه أرجأ تنفيذ الهجوم إلى ما بعد تخرج ابنته من المدرسة الثانوية. وبحسب الوثائق، فقد تم اتهامه بالشروع في القتل والاعتداء وارتكاب جريمة كراهية اتحادية. كما نقلت إفادات الشرطة ومكتب التحقيقات الفدرالي (إف بي آي) عن المشتبه به قوله إنه تعلم إطلاق النار من مسدس في فصل تعليمي حضره بغرض الحصول على تصريح حمل سلاح مخفي، لكن انتهى به الأمر باستخدام القنابل الحارقة بسبب وضعه كمهاجر، كاشفا للمحققين أنه تعلم كيفية صنع القنابل الحارقة من موقع يوتيوب. وقالت السلطات إن سليمان موجود في البلاد بشكل غير قانوني لأنه تجاوز مدة تأشيرته السياحية ولديه تصريح عمل منتهي المدة. استغلال الحادث واستغل مسؤولو إدارة ترامب على الفور هجوم يوم الأحد ليكون مثالا على سبب اتخاذهم إجراءات صارمة ضد الهجرة غير الشرعية. وفي هذا السياق، قال وزير الخارجية ماركو روبيو على موقع إكس"في ضوء هجوم أمس المروع، يجب أن يعلم جميع الإرهابيين وأفراد أسرهم والمتعاطفين مع الإرهابيين الموجودين هنا بتأشيرات دخول، أننا في عهد إدارة ترامب سنجدكم وسنلغي تأشيراتكم ونرحلكم". وجاء في إفادة خطية من الشرطة تدعم مذكرة اعتقال سليمان أنه ولد في مصر وعاش في الكويت لمدة 17 عاما، وانتقل قبل 3 سنوات إلى مدينة كولورادو سبرينغز، الواقعة على بعد 161 كيلومترا جنوبي بولدر، حيث عاش مع زوجته وأبنائه الخمسة. وجاء في الإفادة المكتوبة أن المشتبه به "ألقى زجاجتين حارقتين على أشخاص مشاركين في التجمع المؤيد لإسرائيل"، وهو يصيح "فلسطين حرة". وكان المصابون، ومعظمهم من كبار السن، يشاركون في فعالية نظمتها منظمة "اركضوا من أجل حياتهم"، والتي تكرس جهودها لتسليط الضوء على الإسرائيليين المحتجزين في قطاع غزة. وذكرت شرطة بولدر أنه تم نقل 4 نساء و4 رجال، تتراوح أعمارهم من 52 إلى 88 عاما، إلى المستشفيات بعد الهجوم، ولا يزال اثنان منهم في المستشفى. وقالت السلطات المحلية أمس الاثنين إنه تم تسجيل 4 مصابين آخرين حالتهم أقل خطورة. ويواجه المشتبه به عقوبة قصوى بالسجن مدى الحياة إذا ثبتت إدانته بتهمة جريمة الكراهية الاتحادية لأنه متهم أيضا بالشروع في القتل بمحكمة الولاية. وقال مايكل دورتي المدعي العام لمقاطعة بولدر إن عقوبة تهم الشروع في القتل المتعددة تصل إلى السجن لمدة تصل إلى 384 سنة.

"الإسفين الإستراتيجي".. هل يستطيع ترامب شق الصف بين روسيا والصين؟
"الإسفين الإستراتيجي".. هل يستطيع ترامب شق الصف بين روسيا والصين؟

الجزيرة

timeمنذ 5 ساعات

  • الجزيرة

"الإسفين الإستراتيجي".. هل يستطيع ترامب شق الصف بين روسيا والصين؟

في صيف عام 1971، حلّقت طائرة تحمل مستشار الأمن القومي الأميركي، هنري كيسنجر ، فوق جبال الهيمالايا متجهةً نحو بكين، في رحلةٍ سرية غيّرت مسار التاريخ. حينها، كانت الصين الشيوعية في عزلة دولية، تخوض نزاعات حدودية دامية مع حليفها السابق، الاتحاد السوفياتي. أدرك كيسنجر أن ثمة فرصة ذهبية لأميركا يمكن من خلالها اختراق المعسكر الشيوعي وتغيير توازنات الحرب الباردة بشكل جذري. مهّدت تلك الزيارة السرية لزيارة الرئيس الأميركي ريتشارد نيكسون التاريخية عام 1972، التي فتحت باب الاعتراف الأميركي بالصين ومحاولات احتوائها ضمن نظام عالمي تسيطر عليه الولايات المتحدة. لم يكن هذا التقارب مبنيًا على حُسن النوايا، بل على حسابات جيوسياسية دقيقة لكلا الطرفين: كانت واشنطن بحاجة إلى تحييد بكين لمنع موسكو من توسيع نفوذها في آسيا ومنع أي فرصة مستقبلية للالتحام بين أكبر تكتلين في العالم الشيوعي، بينما وجدت الصين في واشنطن حليفًا تكتيكيًا ضروريًا لمواجهة السوفيات الذين باتوا يمثلون تهديدًا وجوديًا لاستقرارها. والآن؛ بعد أكثر من نصف قرن، يبدو أن إدارة الرئيس الأميركي، دونالد ترامب ، تفكر في معادلة مشابهة، ولكنها معكوسة، من خلال ما يسمى سياسة "عكس كيسنجر" (Reverse kissinger)، إذ يحاول ترامب خلال ولايته الثانية إبعاد روسيا عن التحالف مع الصين، وإعادة احتوائها في منظومة علاقات جديدة مع الولايات المتحدة، من خلال تسوية للحرب في أوكرانيا يبدو أنها تنحاز -نوعا ما- إلى روسيا في رأي بعض المراقبين. ومؤخرا قال وزير الخارجية الأميركي ماركو روبيو ، بعبارات صريحة، إن على الولايات المتحدة"إقامة علاقة مع روسيا بدلًا من تركها تعتمد كليًا على الصين". لكن الوقائع الجيوسياسية تقول إن هذه الفكرة ليست إلا محاولة "إسقاط ميكانيكي" لمناورة تاريخية ناجحة على سياقات مختلفة تماما تشكّل واقع اليوم، فما الذي تغير خلال 5 عقود ليجعل من فكرة ترامب مغامرة مستحيلة وقراءة خاطئة لمقتضيات الجغرافيا السياسية لكل من روسيا والصين؟ لماذا كانت خطة كيسنجر ممكنة؟ عندما دخل الرئيس نيكسون البيت الأبيض عام 1969 كانت العلاقات الصينية-السوفياتية تمر بحالة من الانقسام والتوتر الشديد. فما بدأ بخلافات أيديولوجية بين الزعيم السوفياتي نيكيتا خروتشوف والزعيم الصيني ماو تسي تونغ حول قيادة الحركة الشيوعية العالمية وتفسير المقولات الماركسية، سرعان ما تطور إلى مواجهة حقيقية. وبحلول أواخر الستينيات، وصلت العلاقات بين الدولتين الشيوعيتين إلى حد المواجهة العسكرية المباشرة عام 1969 على نهر أوسوري الفاصل بينهما، حيث وقعت اشتباكات مسلحة دموية أسفرت عن مئات القتلى. هذه المواجهات، جعلت بكين تدرك أن التهديد العسكري المباشر قد يأتي من جارها الشمالي، الاتحاد السوفياتي، قبل أن يأتي من الغرب، وهو ما خلق أرضية خصبة للتقارب مع الولايات المتحدة. على الجانب المقابل، كانت الصين وقتها في حالة عزلة دولية شبه كاملة، بعدما أضعفت الثورة الثقافية التي أطلقها ماو تسي تونغ عام 1966 الاقتصاد الصيني بشكل كبير، وأحدثت فوضى داخلية ضخمة أثرت على استقرار الحكم والمجتمع. وفي ظل انعدام أي شراكات دولية جدية، وعدم توفر التكنولوجيا أو الاستثمارات الخارجية الضرورية، كانت بكين بحاجة ماسة إلى منفذ يخفف من حدة هذه الضغوط. هنا جاء كيسنجر، يحمل معه عرضًا أميركيًا مغريًا: اعتراف دبلوماسي صريح، وفتح باب العلاقات الاقتصادية مع العالم، والتعاون التكنولوجي الذي كان الصينيون بأمس الحاجة إليه. من وجهة النظر الأميركية، كان التقارب مع الصين استجابة مرنة لضرورات الواقعية السياسية، وخطوة ناجحة نحو إضعاف الاتحاد السوفياتي. وأكثر من ذلك كانت الولايات المتحدة حينها متورطة بشكل مأساوي في حرب فيتنام ، وتبحث عن مخرج مشرّف يخفف الضغوط عليها، فارتأت إدارة نيكسون أن فك الارتباط بين الصين والاتحاد السوفياتي سيجعل من مهمة موسكو في دعم فيتنام الشمالية أكثر تعقيدًا، وسيعطي واشنطن حرية أكبر في المناورة العسكرية والسياسية في جنوب شرق آسيا. وداخليا في الولايات المتحدة، كان الرأي العام جاهزًا لتقبل مثل هذا التقارب التاريخي بسبب الإرهاق من حرب فيتنام والرغبة العامة في الحد من التوتر الدولي. في الوقت ذاته، كان الاتحاد السوفياتي يعاني من صعوبات اقتصادية وعسكرية كبيرة جعلته أقل قدرة على مواجهة هذا التحرك الأميركي المفاجئ. هذه البيئة هي التي جعلت واشنطن مستعدة لتقديم تنازلات جوهرية لبكين، منها الاعتراف بمبدأ " الصين الواحدة"، والتخلي عن تايوان كممثل رسمي للدولة الصينية في مجلس الأمن الدولي لصالح بكين، وهو الأمر الذي عزز موقف ماو تسي تونغ وأعطاه المبرر لهذه الانعطافة الحادة في سياسته الخارجية. الفكرة هنا أن كيسنجر ونيكسون لم يكونا قادرين على إحداث هذا التحول التاريخي داخل المعسكر الشرقي ما لم تكن ظروف المعسكر نفسه مهيأة لذلك، وما لم يكن ماو مستعدا لهذه المقايضة ومستفيدا منها. لكن العلاقات الروسية-الصينية اليوم لا تمر بنفس المرحلة، كما أن علاقة الرئيس الروسي فلاديمير بوتين بالرئيس الصيني شي جين بينغ ، ليست مثل علاقة ماو تسي تونغ ونيكيتا خروتشوف. روسيا والصين.. تحالف الضرورة المشتركة منذ سقوط الاتحاد السوفياتي عام 1991، عادت العلاقات الصينية الروسية لتنمو بصورة مطردة. وفي نفس العام، وقع البلدان اتفاقية مشتركة لضبط الكثير من النزاعات الحدودية بينهما، ولاحقا جرت معالجة آخر هذه النزاعات في اتفاقية عام 2004 التي تناولت الجزء الشرقي من الحدود. وفي عام 2001 وقّع البلدان معاهدة صداقة، وهي اتفاقية مدتها 20 عامًا تُوفّر أساسًا لعلاقات متينة ومستدامة. في عام 2008، ضربت الأزمة المالية روسيا لتكشف العديد من نقاط الهشاشة الهيكلية في اقتصادها المرتبط بالغرب، وفي نفس العام عقد حلف شمال الأطلسي (الناتو) القمة المشهورة في بوخارست، التي فتحت الباب لمناقشة انضمام أوكرانيا وجورجيا إلى الحلف، وأثبتت نية الولايات المتحدة توسيع نطاق عضوية الناتو في شرق أوروبا. وبعد سنوات قليلة كانت أوكرانيا تخرج من العباءة الروسية تماما بعد ثورة 2014 التي دعمتها واشنطن، مما دفع روسيا لغزو والسيطرة على شبه جزيرة القرم في العام نفسه. هذه التطورات مجتمعةً دفعت موسكو إلى تعزير اتجاهها شرقا وتعميق تحالفها مع الصين، وتعزز هذا التوجه مع وصول الرئيس شي جين بينغ إلى الحكم في بكين عام 2013، والذي يتبنى خطابا طموحا واستثنائيا لمواجهة الهيمنة الأميركية المنفردة على العالم. وفي 4 فبراير/شباط 2022، على هامش دورة الألعاب الأولمبية الشتوية في بكين، جلس الرئيس الصيني شي جين بينغ والرئيس الروسي فلاديمير بوتين في قاعة فخمة ليعلنا للعالم بداية حقبة جديدة من العلاقات الثنائية. لم يكن الإعلان تقليديًا، إذ جاء في خضم التوترات بين موسكو والغرب بشأن أوكرانيا واستعدادات بوتين لشن غزوه الشامل الذي هز أوروبا. في غضون ذلك، نمت العلاقات الاقتصادية بين البلدين بشكل ملحوظ، مع تزايد حاجة الصين إلى مصادر الطاقة، واعتماد روسيا على صادرات النفط والغاز لدعم اقتصادها. وبحلول عام 2023، بلغت قيمة التبادل التجاري بين البلدين نحو 190 مليار دولار، مع وجود اتفاق على زيادته إلى 250 مليارا بحلول عام 2030. تزامن ذلك مع إنشاء خط أنابيب "سيلا سيبيري" (قوة سيبيريا) الذي يضخ نحو 38 مليار متر مكعب من الغاز الروسي إلى الصين سنويًا، مع التخطيط لمضاعفة الكمية عبر خط "قوة سيبيريا 2" إلى 100 مليار متر مكعب بحلول عام 2030. لكن التعاون الاقتصادي، رغم ضخامته، لم يكن سوى مقدمة لتعاون ثنائي أعمق في المجالين العسكري والأمني. منذ عام 2018، ازدادت وتيرة التدريبات العسكرية المشتركة بشكل ملحوظ، إذ شاركت القوات الصينية لأول مرة في مناورات "فوستوك 2018″، التي كانت أكبر مناورات عسكرية روسية منذ انهيار الاتحاد السوفياتي. وفي 2021، أجرت الدولتان مناورات بحرية مشتركة في بحر اليابان، أعقبتها مناورات جوية مشتركة شملت قاذفات استراتيجية حلقت قرب المجال الجوي لكوريا الجنوبية واليابان (حلفاء الولايات المتحدة). هذه المناورات العسكرية كانت رسائل واضحة تشير إلى مدى التنسيق بين جيشي البلدين في مواجهة التحديات المشتركة في آسيا. كذلك، لم تقتصر العلاقة على الاقتصاد والجيش فقط، بل امتدت أيضًا إلى الجوانب الدبلوماسية والاستراتيجية. في مجلس الأمن الدولي، استخدمت الصين وروسيا حق النقض (الفيتو) بشكل متزامن ضد القرارات الغربية المتعلقة بسوريا وفنزويلا وميانمار. كما أعلنت الدولتان عام 2022 عن اتفاق لتعزيز التعاون في مجالات التكنولوجيا المتقدمة والأمن السيبراني والفضاء، وهي قطاعات حساسة كانت دائمًا محل خلاف في العلاقات الدولية. وعلى مستوى النظرة الأوسع للنظام الدولي، تتقارب رؤى موسكو وبكين بشكل ملحوظ، وتتشارك الدولتان في محاولات إقليمية ودولية لهندسة تحالفات وبنى مؤسسية موازية للبنى الغربية التي تُمارَس من خلالها الهيمنة الأميركية، مثل مؤسسة شنغهاي للتعاون، التي توصف بأنها مشروع لبناء "ناتو شرقي"، فضلا عن منظمة البريكس ، وغيرهما من أطر التعاون. تاريخيًا، يختلف وضع هذه العلاقة كثيرًا عما كانت عليه العلاقة بين الصين والاتحاد السوفياتي. في الخمسينيات والستينيات، كانت العلاقة الصينية السوفياتية تقوم على أيديولوجيا شيوعية مشتركة، لكن سرعان ما تفككت بسبب الخلاف على الزعامة العالمية للحركة الشيوعية. في المقابل، تقوم العلاقة الصينية الروسية اليوم على أسس براغماتية واضحة، وحسابات جيوسياسية وموازنة عقلانية للمصالح المشتركة في مواجهة الهيمنة الأميركية الغربية. ورغم أن بكين اتخذت موقفا حذرا من الحرب في أوكرانيا، فإنها ساعدت روسيا على تجاوز العقوبات ولم تتجاوب مع المساعي الأميركية لتركيع موسكو اقتصاديا. وحينما أغلق الاتحاد الأوروبي تدريجيًا أسواقه أمام النفط الروسي، برزت الصين كأكبر مشترٍ للنفط الروسي، مستفيدةً من تخفيضات كبيرة قدمتها موسكو. وفي الأشهر الستة الأولى فقط من الحرب، زادت الصين وارداتها من النفط الروسي بنسبة 55% مقارنة بالفترة نفسها من العام السابق. في الوقت نفسه، دعمت الصين روسيا بصورة فعالة في المجال المالي والنقدي. وعندما بدأت العقوبات الغربية تؤثر على قدرة موسكو على استخدام الدولار واليورو في التجارة الدولية، توسعت بكين في استخدام اليوان الصيني في معاملاتها التجارية مع موسكو. وفقًا لتقرير نشرته وكالة "رويترز" في أبريل/نيسان 2024، ارتفعت نسبة المعاملات التجارية الروسية-الصينية التي تُسوّى باليوان والروبل من حوالي 20% قبل الحرب إلى أكثر من 85% خلال عامين فقط، ما قلّص بشكل حاد تأثير العقوبات المالية الغربية. وليس لدى ترامب اليوم ما يعوض به روسيا نظير قطع أو تقليص علاقتها مع الصين، فموسكو ليست بحاجة إلى اعتراف دولي كما كانت بكين في أوائل السبعينيات، وليست بحاجة إلى إنقاذها من جار قوي يهدد حدودها، في حين أن معركتها اليوم مع الغرب ذاته، لا مع الصين. قيود التحالف لا تعني الانفصال الجدير بالذكر أن كل ما سبق لا يعني بالضرورة أن التحالف بين روسيا والصين بصدد أن يسفر عن قوة مشتركة أو حلف دائم بصورة مطلقة، فهناك تناقضات لا يمكن جسرها بين الضرورات الجيوسياسية للبلدين، لكنها كلها تقع دون أولوية المواجهة المشتركة للهيمنة الغربية. فعلى الرغم من أن البلدين يتجاوران جغرافيًّا عبر أطول حدود دولية في العالم، بطول يزيد عن 4200 كلم، فإن المراكز السكانية الرئيسية في روسيا تتواجد غربًا في جوارها الأوروبي بعيدا عن الصين، بينما يعيش معظم سكان الصين على الساحل، وينخفضون بشكل حادٍ غرب خط هطول الأمطار السنوي، حيث الهضاب والسلاسل الجبلية القاحلة والتضاريس الوعرة في شمال الصين وغربها. ومن ثم، لا توجد صلات عميقة بين الشعبين الروسي والصيني، كما أن الأصول البعيدة للحضارتين الصينية والسلافية تختلفان جذريا. على جانب آخر، تفرض الجغرافيا على روسيا والصين أولويات استراتيجية متباينة، حيث يمثل تأمين العمق الغربي للحدود الروسية أولوية قصوى لموسكو، تحديدا في بيلاروسيا وأوكرانيا بصورة أكثر إلحاحا، وفي البلطيق بصورة تالية، في حين تحدد الجغرافيا أولويات بكين في الانعتاق البحري شرقا وكسر الطوق المفروض عليها عبر سلاسل محكمة من القواعد العسكرية الأميركية وشبكات الدول الحليفة لواشنطن. هذا فضلا عن تباين العقليات الاستراتيجية الصينية والروسية من حيث تحديد أولويات الانتشار الخارجي وطرق بسط النفوذ والهيمنة، حيث تميل الصين إلى التمدد الاقتصادي الهادئ والتعاون في مجالات التنمية مع دول العالم، والذي يُرجح أن يتحول في المستقبل إلى نفوذ سياسي وأمني، بينما تميل موسكو إلى المجالات الأمنية المباشرة وتقديم نفسها للدول المستهدفة بصفتها مزودا للأمن المحلي وداعما لاستقرار الأنظمة عبر شبكات واسعة من الشركات الأمنية وموردي الأسلحة. هذا التباين هو ما يقلل من فعالية الأوعية الجماعية المشتركة التي تجمعهما معا، مثل منظمة شنغهاي للتعاون، حيث يختلف الطرفان في كيفية توظيفها وتطويرها. لكن هذه التباينات الثنائية تتلاشى بشكل كبير حين يتعلق الأمر بالمواجهة مع النفوذ الغربي، وهو ما يؤكد أن فرص ترامب محدودة للغاية في عكس مسار كيسنجر مجددا. كيف يتعامل بوتين مع نوايا ترامب؟ في الحقيقة، لم يكن ترامب أول رئيس أميركي يسعى لاحتواء روسيا وتقليل حدة عدائها للغرب عبر تقديم إغراءات اقتصادية ودبلوماسية مقابل تحجيم حضورها كقوة عالمية منفردة، لكن هذه الخطط كانت مصيرها دائما هو الفشل. ففي الأشهر التي سبقت غزو روسيا لأوكرانيا في فبراير/شباط 2022، سعى بايدن إلى "ترميم" العلاقات الثنائية مع موسكو من خلال إقامة حوار حول الاستقرار الاستراتيجي خلال اجتماعه مع بوتين في يونيو/حزيران 2021. في الاجتماع، وصف بايدن روسيا بأنها "قوة عظمى" لتهدئة مخاوف موسكو من معاملتها كشريك أصغر للصين. لكن روسيا، بحسب تحليل معهد "ستراتفور"، اعتبرت ذلك دليلا على ضعف واشنطن وتراجع قوتها، وقدّر الكرملين لاحقاً أن الولايات المتحدة، بغض النظر عن الحزب الذي يتولى الرئاسة، ستعود على الأرجح في النهاية إلى فكرة "إعادة ضبط" العلاقات مع روسيا للأسباب الاستراتيجية نفسها. ومن المرجح أن ثقة الكرملين بهذا التقييم طمأنت بوتين عندما أصدر الأمر بغزو أوكرانيا، إذ كان يعلم أنه من شبه المحتوم أن تسعى الإدارة الأميركية القادمة إلى تحقيق انفراج في العلاقات مع موسكو، مما يعني أن أي رد أميركي أولي سيكون قصير الأمد، وبالتالي غير قادر على كسر عزيمة الروس. وحاليا، يحاول ترامب مرة أخرى تقديم الحوافز التجارية والاقتصادية لموسكو من قبيل الوعد برفع العقوبات الاقتصادية، والتعاون في مجال المعادن النادرة، والتنقيب في القطب الشمالي وغيرها، لكن هذه الحوافز كلها تكشف لبوتين نقطة ضعف إدارة ترامب الرئيسية، وهي عدم رغبته في الانخراط في هذه الحرب وغياب الإيمان بمبرراتها أو بأولوية خوضها. صحيح أن نتائج الحرب -حتى الآن- لم تأت موافقة لطموحات بوتين، وما زالت موسكو عالقة في أوكرانيا، فلم تستطع السيطرة على العاصمة كييف ولا تغيير نظامها السياسي، ولا انتزاع موقف أميركي أو غربي يتعهد بحياد أوكرانيا، ولكن في المقابل أيضا؛ لم يتمكن الغرب من دحر الغزو الروسي ولا إقناع القيادة الروسية بالفشل. وبدلا من ذلك، بدأت الخلافات تضرب عمق التحالف الغربي حول حدود الدعم الذي يجب تقديمه لأوكرانيا وجدوى استمرار الحرب، مما يعطي بوتين دفعة معنوية هائلة للاستمرار في حربه، بصرف النظر عن تجاوبه الحذر والتكتيكي مع دعوات التفاوض، حتى لو أسفرت عن اتفاقات هدنة محدودة. ويبدو أن هذه الرسالة قد وصلت إلى ترامب، بصورة أو بأخرى، ومؤخرا نقلت "وول ستريت جورنال" عن "مصادر مطلعة" أن الرئيس الأميركي أخبر قادة أوروبيين، في اتصال هاتفي، أن الرئيس الروسي ليس مستعدا لإنهاء الحرب، لاعتقاده بأنه في موقع المنتصر. في هذا السياق، تبدو محاولة احتواء موسكو أميركيا وعزلها عن بكين -في جوهرها- محاولة لعكس حركة التاريخ. لم يحقق بوتين بعدُ أهدافه العميقة من الحرب في أوكرانيا، وليس مستعدا للتخلي عنها بعد هذه التضحيات الهائلة، وكييف أيضا ليست مستعدة للاستسلام لمطالب موسكو بعد كل هذه الدماء، وترامب ليس مستعدا للفشل في تحقيق وعوده والظهور بمظهر الضعيف أمام بوتين، وتلك هي معضلة الحرب التي لن يسعفها الاستدعاء المبسط لأحداث تاريخية تبدلت سياقاتها منذ عقود.

حمل التطبيق

حمّل التطبيق الآن وابدأ باستخدامه الآن

مستعد لاستكشاف الأخبار والأحداث العالمية؟ حمّل التطبيق الآن من متجر التطبيقات المفضل لديك وابدأ رحلتك لاكتشاف ما يجري حولك.
app-storeplay-store