
"تربية الحسّ الاجتماعي" في الإسلام
لقد اهتم القرآن الكريم بنزعة التربية الاجتماعية في الإنسان ووضع لها عدة دعائم:
وتلك القاعدة التي ترتكز عليها الحاسة الاجتماعية في البشر عمومًا، ويتضح هذا من سيرة النبي- ﷺ- عندما وصل إلى المدينة فآخى بين المهاجرين والأنصار في الله، وأصبحوا إخوة، وسجل ذلك في وثيقة مكتوبة، نقشت في قلب كل مؤمن، بل صاروا يتوارثون بمقتضى هذه الأخوة، وظل هذا التوارث ساريًا حتى نزل قول الله تبارك وتعالى: {وأولو الأرحام بعضهم أولى ببعض في كتاب الله إن الله بكل شيء عليم} [الأنفال: 75]؛ فألغى التوارث، وبقيت الأخوة في الله على ما كانت عليه من قوة ووثاقة، ولا تزال بين الواعين من المؤمنين حتى اليوم، ولقد تأكدت الأخوة بين المؤمنين بقوله سبحانه {إنما المؤمنون إخوة} [الحجرات: 10].
ولقد كان من مقتضى فقه الأنصار للأخوة في الله، أن حملوا أعباء إخوانهم المهاجرين، ومدح الله- سبحانه- ذلك الفقه والعمل، وأثنى عليه بقوله، سبحانه: {والذين تبوؤوا الدار والإيمان من قبلهم يحبون من هاجر إليهم ولا يجدون في صدورهم حاجة مما أوتوا ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة ومن يوق شح نفسه فأولئك هم المفلحون} [الحشر: 9].
الدعامة الثانية: استجابة الإسلام لحاجات المجتمع كاستجابته لحاجات الفرد
وقد عمل الإسلام على تحقيق حاجات المجتمع في إطار ما أحل الله، وبحيث لا يضر بأحد من الناس. ومن حاجات المجتمع:
إعلان
التعاون والتكافل: لقد أمر الله تعالى عباده المؤمنين بالتعاون وأوجبه عليهم، قال تعالى: {وتعاونوا على البر والتقوى ولا تعاونوا على الإثم والعدوان واتقوا الله إن الله شديد العقاب} [المائدة: 2].
التناصر والتواصي بالحق والصبر: قال تعالى: {والعصر (1) إن الإنسان لفي خسر (2) إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات وتواصوا بالحق وتواصوا بالصبر (3)} [العصر: 1- 3] والتواصي بالحق يدفع عن الناس كل مصيبة، ويقضي على المنكرات والآثام التي في المجتمع ويجعلها تنحسر، والتواصي بالصبر يجعل العدالة تسري في المجتمع ويرتفع الظلم، وتسوده المودة وتزول العجلة (فقه النصر والتمكين، د. علي الصلابي، ص433).
الحث على التراحم بين أفراد المجتمع: قال تعالى: {محمد رسول الله والذين معه أشداء على الكفار رحماء بينهم} [الفتح: 29]. وأثنى سبحانه وتعالى، على المؤمنين المتراحمين في قوله سبحانه: {ثم كان من الذين آمنوا وتواصوا بالصبر وتواصوا بالمرحمة (17) أولئك أصحاب الميمنة (18)} [البلد: 17، 18].
وهذه الآيات لم تحصر حاجات المجتمع، بل حثته بمفهومها العام على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وعلى جلب المصالح ودفع المفاسد، والجهاد في سبيل الله وتجهيز الغزاة، وعلى تأمين العيش الكريم لكل أفراده.
الدعامة الثالثة: تحديد الصفات التي يجب أن تسود المجتمع
قال تعالى: {فما أوتيتم من شيء فمتاع الحياة الدنيا وما عند الله خير وأبقى للذين آمنوا وعلى ربهم يتوكلون (36) والذين يجتنبون كبائر الإثم والفواحش وإذا ما غضبوا هم يغفرون (37) والذين استجابوا لربهم وأقاموا الصلاة وأمرهم شورى بينهم ومما رزقناهم ينفقون (38) والذين إذا أصابهم البغي هم ينتصرون (39) وجزاء سيئة سيئة مثلها فمن عفا وأصلح فأجره على الله إنه لا يحب الظالمين (40) ولمن انتصر بعد ظلمه فأولئك ما عليهم من سبيل (41) إنما السبيل على الذين يظلمون الناس ويبغون في الأرض بغير الحق أولئك لهم عذاب أليم (42) ولمن صبر وغفر إن ذلك لمن عزم الأمور} [الشورى: 36- 43].
إعلان
لقد ذكرت الآيات الكريمة الصفات الرفيعة، والتي إن سادت في المجتمع أصبح سعيدًا راشدًا؛ فقد أشارت إلى الإيمان بالله، والتوكل عليه سبحانه، واجتناب كل إثم وفاحشة، والصفح والتسامح، والاستجابة لكل ما أمر الله به، وإقامة الصلاة، وممارسة الشورى في كل أمر يعنيهم، والإنفاق في سبيل الله ووجوه الخير، والانتصاف من كل عدو للإسلام والمسلمين، وهو مقتضى العدل، والعفو والتسامح مع القدرة على الانتصاف، وهو مقتضى الإحسان، والانتصار بعد الظلم، والصبر على المظالم، والتجاوز عن الظالم لعل الله يهديه بشرط ألا يكون ذلك مؤديًا إلى الفساد والشر، والدعوة للمعرفة، وهكذا يكون المجتمع الإسلامي (فقه الدعوة إلى الله، علي محمود، 1/507 – 509).
لا شك أن مرحلة الإعداد والتربية من أهم المراحل التي تبنى عليها الأهداف في الوصول إلى التمكين، وسيادة شرع الله على العالمين، وإقامة دولة الإيمان والتوحيد
الدعامة الرابعة: تأكيد خيرية هذا المجتمع
أكد القرآن الكريم خيرية هذا المجتمع الذي انصهر في تعاليم الإسلام، ووضعه في مقدمة المجتمعات لقيادته كلها إلى الإيمان والمنهج الرباني، والحق والخير والصلاح والسعادة في الدنيا والآخرة، قال تعالى: {كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتؤمنون بالله} [آل عمران: 110].
وهذه خيرية تقوم على الإيمان والعمل الصالح، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، بعيدة كل البعد عن الخيرية العرقية والجنسية والقومية، كما زعمت أمة اليهود، وانخدعت أمة الألمان بالعرقية منذ خمسة عقود فكلفتها وكلفت العالم كله حربًا دامية مات فيها ملايين من البشر.
هذه الدعائم التي يجب أن تسود في المجتمع، وينبغي أن يقوم برنامج هذه المرحلة عليها، وأن يوزع على كل المشرفين في مرحلة الإعداد في القرى والأرياف والحواضر والبوادي والمدن والبلديات، ولا شك أن مرحلة الإعداد والتربية من أهم المراحل التي تبنى عليها الأهداف في الوصول إلى التمكين، وسيادة شرع الله على العالمين، وإقامة دولة الإيمان والتوحيد (فقه النصر والتمكين، د. علي الصلابي، مرجع سابق، ص433).
هاشتاغز

جرب ميزات الذكاء الاصطناعي لدينا
اكتشف ما يمكن أن يفعله Daily8 AI من أجلك:
التعليقات
لا يوجد تعليقات بعد...
أخبار ذات صلة


العرب القطرية
منذ 5 ساعات
- العرب القطرية
دروس إيمانية وبرامج تربوية لحجاج «الفرقان»
الدوحة - العرب في أجواء روحانية مفعمة بالإيمان، وضمن استعداداتها التربوية والنفسية لحجاجها، نظّمت حملة الفرقان سلسلة من البرامج الإيمانية والتثقيفية لحجاجها، استعداداً لبدء أعمال الحج، بهدف تعزيز الوعي الديني والتهيئة الروحية في أفضل بقاع الأرض وأعظم مواسم الطاعة. شهد برنامج «مجلس الحجاج» في الحملة عدداً من الجلسات والدروس التي قدمها نخبة من المشايخ والدعاة، في مقدّمتهم فضيلة الشيخ الدكتور يحيى النعيمي، مفتي الحملة، الذي ألقى كلمة مؤثرة عقب صلاة الظهر، خلال جلسة لتلاوة وتدبّر القرآن الكريم، ركّز فيها على أهمية تعظيم شعائر الله في هذه الأيام المباركة، وعلى رأسها العناية بتلاوة وتدبّر القرآن الكريم، الذي وصفه بأنه أعظم موعظة وهداية، وأن كل كلمة في كتاب الله هي توجيه إلهي للعبد ليفعل ما أمر به وينتهي عما نهى عنه، مضيفاً: إذا أردت أن تعيش مع الله، فليكن شعارك القرآن الكريم، فهو هداية الله للعالمين. وبعد صلاة العصر، ألقى فضيلة الشيخ حمود العنزي درسا حول «التوبة النصوح», دعا فيها الحجاج إلى الإكثار من الاستغفار والعودة الصادقة إلى الله، وقال: التوبة هي حياة جديدة للقلوب، وهي باب عظيم لا يُغلق، فالله يفرح بتوبة عباده، ويحب التوابين، ويعدهم بجنات تجري من تحتها الأنهار. وذكر الشيخ العنزي شروط التوبة الصادقة: الإقلاع عن الذنب، والندم عليه، والعزم على عدم العودة، مؤكداً أن التوبة من أعظم أسباب الرحمة والقبول، وهي وسيلة لتطهير الصحائف واستقبال الحياة بنقاء جديد، مؤكداً على ضرورة اغتنام هذا الموسم المبارك في تصحيح العلاقة مع الله وفتح صفحة جديدة. كما قدم فضيلة الشيخ عبدالرشيد صوفي كلمة حول كيف يعيش الحاج الأجواء الإيمانية في العشر من ذي الحجة، وذكر فيها: إن الحاج يعيش في أطهر بقاع الأرض، في خير أيام الدنيا، وهذه فرصة نادرة لا تتكرر، ينبغي أن نغتنمها بالإكثار من الذكر، والدعاء، والتوبة، والعمل الصالح». واستعرض فضيلته أثر التلاوة والتدبر لكتاب الله في تليين القلوب وتزكية النفوس، مشيرا إلى أن أعظم ما يقدّمه الحاج لنفسه في هذه الرحلة المباركة هو أن يعيش مع آيات الله، فيفهمها، ويتأملها، ويطبّقها واقعاً وسلوكاً، لتثمر الطاعة والتقوى. ودعا الحجاج إلى إدراك عظمة الزمان والمكان، والانشغال بما يرضي الله، والابتعاد عن المشاغل الدنيوية والجدالات التي تفسد الروحانية، وأضاف: من عاش هذه الأيام بصدق وإخلاص، عاد إلى بلده إنساناً جديداً، بقلب نقي، ونفس مطمئنة، وصفحة بيضاء، مشيراً إلى أن الحج الحقيقي رحلة تجديد إيماني، وتجربة تُغيّر مسار الإنسان. وفي درس آخر ألقاه الشيخ د. يحيى النعيمي بعنوان «ربنا ليقيموا الصلاة», أكد فيه على مكانة الصلاة في الإسلام، مبيناً أنها عمود الدين، وأول ما يُسأل عنه العبد يوم القيامة، فإن صلحت صلح سائر عمله، وإن فسدت فسد سائر عمله. وقال: «الصلاة ليست مجرد أداء حركات، بل صلة حقيقية بين العبد وربه، نور وبرهان ونجاة في الدنيا والآخرة». وبين الشيخ أبرز ثمرات الصلاة وأهميتها في حياة المسلم، مؤكداً أنها راحة للقلوب وطمأنينة للنفوس، وأنها لم تُسقط عن المريض ولا المجاهد، بل بقيت مفروضة في أشد الظروف دلالة على عظمتها، وأنها كانت وصية النبي صلى الله عليه وسلم في كل حين، فهي النور الذي يضيء درب العبد ويطهر قلبه ويهذب سلوكه. أما ختام البرنامج اليومي لمجلس حجاج الحملة، فكان مع الدكتور محمد العنزي حيث قدم مجموعة من المسابقات التربوية والثقافية التي لاقت تفاعلاً كبيراً من الحجاج، وعزّزت لديهم المفاهيم الإيمانية التي تم طرحها، في جوّ من التفاعل الروحي والبناء المعرفي. وتأتي هذه البرامج ضمن سلسلة من البرامج التثقيفية والإرشادية التي تنفذها «حملة الفرقان» لتمكين الحجاج من أداء مناسكهم على بصيرة، وتحقيق المقصد الأعظم من الحج، وهو تعظيم الله، وتزكية النفس، والخروج من الرحلة وقد كُتب لهم القبول والمغفرة.


جريدة الوطن
منذ 5 ساعات
- جريدة الوطن
أحكام الإسلام للحج تراعي حماية البيئة
أكد الدكتور عبد العظيم أبو زيد، أستاذ التمويل الإسلامي في كلية الدراسات الإسلامية بجامعة حمد بن خليفة أن الإسلام يحث الفرد على الحفاظ على بيئته وعلى الموارد الطبيعة بشكل عام، وفي موسم الحج يجتمع ملايين الناس في بقعة واحدة، ما يعرض البيئة في تلك المنطقة لبعض التحديات، ولكن الإسلام راعى هذا الأمر. فشرع أحكاما خاصة للحج تخفف من الخطر الذي يمكن أن تتعرض له البيئة نتيجة اجتماع الناس بأعداد كبيرة في مكان واحد. ومن تلك الأحكام أنه حثّ على النظافة وإماطة الأذى، بحيث لا يترك الناس مخلفاتهم، بل يجعلونها في أماكنها المخصصة لها. ومن ذلك أن الإسلام شرع للناس الاشتراك في الهدي أو في الأضحية، بحيث يمكن أن يجتمع سبعة أشخاص في تقديم حيوان واحد إن كان هذا الحيوان بقرة أو جملاً. ومن تلك الأحكام أيضا إمكان إيصال لحم الهدي والأضاحي إلى المناطق والدول الأكثر فقرا إن زاد ذلك اللحم عن حاجة أهل الحرم، وذلك حتى يُستفاد من اللحم ولا يُترك دون فائدة. وأوضح خلال تصريحات لـالوطن أن كل ما يسهم في حماية البيئة ورعايتها فهو إما واجب وإما مندوب في الإسلام. وذلك يشمل العبادات، فالإسلام مثلا يحض المسلم على التقليل من الماء عند الوضوء ويجعل الإسراف في ماء الوضوء أو الغسل من المكروهات، وكذلك يكره الإسلام الإسراف في الطعام على مائدة الإفطار في رمضان. وبناء على ذلك فإن الأفعال التي تحافظ على الموارد الطبيعية وتقلل استهلاكها من المندوبات في الإسلام، ومن ذلك استخدام أقمشة صديقة للبيئة في صناعة لباس الإحرام، فإن ذلك يلتقي مع مقاصد الشريعة في الحفاظ على الموارد الطبيعية. وأكد أن الاستخلاف، أو الخلافة في الأرض، تقتضي عدم استنزاف الموارد الطبيعية والحفاظ عليها، وذلك ليستمر إمكان الحياة على الأرض، وتستمر خلافة الإنسان عليها. وبناء على ذلك، فأي تصرف يسهم في تحقيق التنمية المستدامة أو يخفف من استهلاك الموارد الطبيعية، فهو تصرف صحيح ومطلوب في الإسلام، ومن ذلك التصرفات والممارسات التي ترتبط بالحج، مثل إعادة تدوير المخلفات الكثيرة التي يتركها الحجيج. وأشار الدكتور أبو زيد أن التثقيف الشرعي والبيئي أمران ضروريان لتوعية المسلمين بعامة والحجيج بخاصة بالحاجة إلى المحافظة على البيئة ومواردها. فالتثقيف الشرعي الصحيح والمتوازن والمبني على مقاصد الشريعة الإسلامية يجعل الحاج مدركا للمقاصد الكلية للشريعة الإسلامية، ويجعله لا يتوقف عند حدود الاجتهادات الفقهية إن تعارض ذلك مع الأحكام الكلية للشريعة الإسلامية ومقاصدها، فالحاج المثقف إسلاميا وبيئيا الثقافة الصحيحة لا يتمسك بالآراء الفقهية الجزئية التي تحتّم عليه تصرفات تتعارض مع المقاصد الشرعية العامة في الحفاظ على البيئة وعدم استنزاف مواردها، بل يتجاوز تلك الآراء إلى فضاء التيسير والعقلانية المنضبطة بمقاصد الشريعة العامة. ونوه بأنه لا تشترط الشريعة شروطا مخصوصة للباس الإحرام سوى أن يكون ساترا للعورة وأن يكون غير مخيط. والغاية من اشتراط كونه غير مخيط هي إظهار التواضع والعبودية لله عز وجل، وليكون الناس كلهم سواسية في ذلك المشهد العظيم، وتذكيرا للناس بالموت، حيث يُجعل الميت في كفن غير مخيط كذلك، ومن السنة أن يكون أبيض اللون.


الجزيرة
منذ 13 ساعات
- الجزيرة
عشر ذي الحجة.. إشراق ملء الزمان والمكان!
تجسيدًا لتلازم ثنائية الذّكر والتجارة في أيام العشر من ذي الحجة، يروى أن ابن عمر وأبا هريرة كانا يخرجان إلى السوق فيكبّران ويكبر الناس بتكبيرهما؛ إفشاء للذكر في موطن الانصراف إلى البيع والشراء والمعاش الدنيوي. ويُفهم من سياق صنيع الصحابيين الجليلين أنّ باعثهما التذكير وإفشاء فضيلة الذكر في هذه الأيام العظيمة، التي يُنظر فيها إلى يوم عرفة، فيقارَن بينه وبين ليلة القدر في الأجر والفضل والمنزلة، لدرجة جعلت بعض المحققين من أهل العلم يجمع بين ما جاء في أفضلية ليلة القدر ويومي عرفة والنحر بأنّ "العشر الأواخر من رمضان أفضل من جهة الليل؛ لأن فيها ليلة القدر، والعشر الأوائل من ذي الحجة أفضل من جهة النهار؛ لأن فيها يوم عرفة، وفيها يوم النحر، وهما أفضل أيام الدنيا"!. الأضحية في حق غير الحاج تقابل الهدي، وصوم يوم عرفة يقابل الوقوف على صعيدها يوم التاسع من ذي الحجة، والامتناع عن قص الأظفار والكفُّ عن الأخذ من شعر الرأس في حق المضحي اقتداءٌ بالحاجّ ذكر ومنفعة ويتجلى تلازم ثنائية الذكر والتجارة في الأيام العشر في الآية: ﴿لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللّهِ فِي أَيَّامٍ مَّعْلُومَاتٍ عَلَىٰ مَا رَزَقَهُم من بَهِيمَةِ اِلْأَنْعَامِ ۖفَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ﴾. وقد فُسّرت "المنافع" بأنها الأجر في الآخرة، والتجارة في الدنيا، ورُوي عن ابن عباس أنها الأسواق. ومن هنا اختصّ الحج باسم "الموسم" دون قيد؛ لما ينقلب به الحاجّ من مردود مادي وعائد معنوي، كما يُسرّ الزارع في موسم الحصاد بعائد حقله ومحصول حرثه، ولاجتماع الناس بأعداد كبيرة، ووفودهم من كل فجّ عميق، في أكبر تجمّع بشري عالمي. عظَمة زمكانية وقد انتقل تنازُع "الزمكانية" من لفظة "الموسم" في معجمها اللغوي إلى الحجّ في مجاله العبادي؛ إذ "الموسم" اسم زمان واسم مكان، والحجّ ميقات زماني معلوم، وموعد مكاني مخصوص (حدود منطقة المشاعر بمكة حاليًا). لكنّ خصوصية المكان وازتها عمومية تقليد الحاج في أفعاله (مع فارق التقرّب العبادي والحكم الشرعي)؛ فالأضحية في حق غير الحاج تقابل الهدي، وصوم يوم عرفة يقابل الوقوف على صعيدها يوم التاسع من ذي الحجة، والامتناع عن قص الأظفار والكفُّ عن الأخذ من شعر الرأس في حق المضحي اقتداءٌ بالحاجّ. تأسٍّ واقتداء وليس الاقتداء ذا وجهة واحدة؛ فالحاجّ نفسه حين يسعى بين الصفا والمروة يقتدي بأفعال انتقلت من العادة إلى العبادة، وليس ذلك في مجرد التصرف، بل في عدد الأشواط (السبعة)؛ أسوة بهاجر زوج سيدنا إبراهيم -عليه السلام- التي قطعَت تلك الأشواط عَفْويًا، حين كانت تلتمس الماء لابنها إسماعيل -عليه السلام- فتصعد على جبل الصفا ثم تنزل حتى تصل جبل المروة؛ مكرِّرة السعي سبعة أشواط بحثًا عن الماء، الذي وجدته أخيرًا عند موضع زمزم. استحضار ورمزية وفي رمي الجمار يستحضر الحاج -تطبيقيًا- وغيره -ذهنيًا- فعل أبي الأنبياء إبراهيم -عليه السلام- لمّا اعترضه الشيطان -لعنة الله عليه- فوسوس إليه ألا يذبح ولدَه إسماعيل -عليه السلام- فرماه بسبع حصيات، ثم انطلق فاعترضه أخرى فرماه بسبع، ثم انطلق فاعترضه ثالثه فرماه، ثم أضجع ولدَه وتلَّه للجَبين، وأجرى السكين على عنقه فلم تقطع، وفُدِي ابنُه بذِبح عظيم، ونودي الأب {أن يا إبراهيم قد صدَّقت الرؤيا}. ومن هنا كان لركن الحجّ ما لم يكن للصلاة من قُرب التعليل ودنُوّ التأصيل في جانبي الحِكمة والعدد؛ ففي حديث الإسراء والمعراج الطويل ذُكر تحوُّل الخمسين صلاة يوميًا إلى خمسٍ، بعد مراجعة محمد ﷺ ربّه، عملًا بنصيحة موسى -عليه السلام-، لتبقى الحكمة العددية محجوبة، لغياب الإحالة الذهنية بين يدي سؤال العَدَدية: لماذا الفجر ركعتان؟ ولماذا المغرب ثلاث؟ ولماذا العشاء أربع؟! وتحت هذا "الارتباط الذهني" تكمن "رمزية" إرغام الشيطان، وقد حمل ذلك الارتباط بعض العوامّ على تصوّر إلحاق الأذى "الجسدي" بالشيطان (عند رمي الجمَرات)؛ فتجاوزوا منصوص تخيُّر الحصَيات الصغار التي يُرمى بها "الرجيم"، وشدّدوا على أنفسهم فأخذوا يرمون بما تناله أيديهم، مما ثقل حَمْله وكبُر جِرمه من قطع الخشب والحديد، وكأنهم يحسَبون أنهم ينالون من إبليس بدنيًّا! إن عجيج الحَجيج وتلبيتَهم لتتردد في أرجاء النفس قبل أن تتردد في رحاب الحرَم، وإن خصوصية المكان لمتّصلة السبب بعمومية الزمان: عظمةً وفضلًا وقُربةً وزُلفى صَغار إبليس وحسْب إبليس ما يلحقه من الخزي والصغار يوم عرفة، لما يرى من تنزُّل الرحمة والتجاوز عن الذنوب والاستجابة لأهل الموقف، والمباهاة بهم، مصداقًا للحديث: "ما من يوم أفضل عند الله من يوم عرفة، ينزل الله تعالى إلى سماء الدنيا، فيباهي بأهل الأرض أهل السماء، فيقول: انظروا إلى عبادي، جاؤوني شعثًا غبرًا ضاجين، جاؤوا من كل فج عميق، يرجون رحمتي، ولم يروا عقابي، فلم يُر يوم أكثر عتقًا من النار، من يوم عرفة". ورُوي عن أنس -رضي الله عنه- قوله: كنت مع رسول الله ﷺ في مسجد الخيف قاعدًا، فأتاه رجل من الأنصار، ورجل من ثقيف، فذكر حديثًا فيه طول، وفيه: "وأما وقوفك عشية عرفة، فإن الله يهبط إلى سماء الدنيا، ثم يباهي بكم الملائكة، فيقول: هؤلاء عبادي جاؤوني شعثًا سفعًا، يرجون رحمتي ومغفرتي؛ فلو كانت ذنوبكم كعدد الرمل، وكعدد القطر، وكزبد البحر، لغفرتها. أفيضوا عبادي مغفورًا لكم، ولمن شفعتم له"! إشراق ملء النفس هذا وإن عجيج الحَجيج وتلبيتَهم لتتردد في أرجاء النفس قبل أن تتردد في رحاب الحرَم، وإن خصوصية المكان لمتّصلة السبب بعمومية الزمان: عظمةً وفضلًا وقُربةً وزُلفى.. فيا سعد من عمر العشر بالذكر والدعاء وصالح العمل، ولئن جمع -إلى ذلك- الحجَّ المبرور فقد أصاب الغُنمَ من أطرافه، وانقلب بنعمة من الله وفضل!