
حينما تهمل مشاعر الطفل يزداد خطر الاكتئاب.. واختصاصيون يحذرون
اضافة اعلان
عمان- لطالما كانت رزان قريبة من ابنتها سارة، صاحبة العشرة أعوام. وفي الفترة الأخيرة، لاحظت أن هناك حزنا في عيني طفلتها بعد عودتها من المدرسة. في البداية، اعتقدت أن السبب هو عدم اعتيادها بعد على المدرسة الجديدة.لكن الأمر، بحسب قولها، ازداد سوءا، إذ بدأت سارة تبكي قبل الذهاب إلى المدرسة، وحتى بعد عودتها تبكي بلا سبب واضح، وتقول: "بس دموع بتنزل من عيوني بدون أي سبب"، الأمر الذي زاد من حيرة رزان وقلقها.وبعد تكرار الموقف أكثر من مرة، قررت رزان أن تعرف ما الذي يحدث مع طفلتها، فجلست معها وحاولت الحديث إليها، لتدرك بعدها أن سارة نفسها لا تعرف طبيعة المشاعر التي تمر بها، لكنها تشعر بضيق وخوف في داخلها.وتعترف رزان أنها في البداية لم تعرف كيف تتصرف، فبحثت وقرأت كثيرا عن الموضوع، إلى أن أدركت أن عليها مساعدة طفلتها في فهم مشاعرها. وبالفعل، بدأت بطرح الأسئلة عليها وشرح معاني المشاعر التي تمر بها، لتساعدها على التعرف إليها والتعبير عنها.ومع مرور الوقت، لاحظت تحسنا في حالتها النفسية، حيث أدركت سارة أنها كانت خائفة من البدء في مكان جديد وهو أمر طبيعي، وتعلمت أن تتقبل مشاعرها وتتعامل معها بحكمة دون أن تؤذيها.فالإنسان يعيش المشاعر منذ لحظاته الأولى، وتكون وسيلته للتعبير عن نفسه حتى قبل أن يتعلم النطق. البكاء، الابتسامة، الغضب، الخوف، والحزن جميعها مشاعر يتعرف إليها الإنسان في دورة حياته.والمشاعر من أهم المؤثرات في حياة الإنسان، فهي تؤثر على جميع جوانبها، بما في ذلك سلوكه، وعلاقاته وصحته النفسية والجسدية. فهي ليست مجرد أحاسيس داخلية، بل قوى دافعة توجه أفعالنا وتشكل تجاربنا.وبقدر ما قد يجد الإنسان صعوبة في التعامل مع مشاعره وفهمها، فإن الأطفال يواجهون صعوبة أكبر في إدراك المشاعر التي يمرون بها في بداية حياتهم، ومع تطور الحياة الاجتماعية والرقمية ازدادت هذه الصعوبة.اليوم، يمر الأطفال بمشاعر مختلفة ومتضاربة، يصعب عليهم فهمها أو إدراك حجم التخبط الذي يعيشه قلبهم الصغير. وفي ظل جهل بعض الأهل بكيفية احتواء أبنائهم، قد يقع الطفل ضحية لمشاعره ويؤذي نفسه.وهنا يبرز دور الأهل في احتواء أطفالهم وتعليمهم كيفية التعبير عن مشاعرهم بطريقة صحية وآمنة، والأهم من ذلك حاجتهم إلى فهم أطفالهم بعمق، دون التقليل من قيمة مشاعرهم.استشارية النفس الأسرية والتربوية حنين بطوش بينت أن الدور الأسري يعد حجر الزاوية في بناء شخصية الطفل وتطوره العاطفي، فمساعدة الأهل لأبنائهم على فهم مشاعرهم ليست مجرد مهارة إضافية، بل أساس صلب للتطور النفسي السليم.وتوضح البطوش أنه عندما يمنح الأهل الطفل الكلمات المناسبة لوصف ما يشعر به، من فرح أو حزن أو غضب، فإنهم يضعون اللبنة الأولى لبناء ذكائه العاطفي، مما يمكنه من إدارة سلوكياته ومشاعره بوعي. هذا القبول العائلي للمشاعر يعزز ثقته بنفسه ويمنحه إحساسا عميقا بالأمان.وتنوه البطوش أن إدراك الطفل بأن مشاعره مقدرة يجعله يشعر بالقيمة والتقدير لذاته، والأهم من ذلك أن الطفل الذي يفهم مشاعره يستطيع فهم مشاعر الآخرين والتعاطف معهم بشكل أفضل، مما يسهل عليه بناء علاقات اجتماعية صحية وإيجابية، ويجعله أكثر قدرة على التكيف في مختلف المواقف.وتذكر البطوش أن الدعم العاطفي الذي يقدمه الأهل لأبنائهم يشكل ركيزة أساسية لنموهم المتكامل، مبينةً أنه يعزز مهاراتهم في حل المشكلات من خلال تشجيعهم على التفكير بهدوء واتخاذ قرارات واعية في المواقف الصعبة، ويقلل من احتمالية ظهور السلوكيات العدوانية أو الانسحابية الناتجة عن الكبت العاطفي أو الشعور بعدم التقدير.وهذا بدوره يسهم في غرس قيم الاحترام والتسامح، بحسب البطوش، فالطفل الذي يحظى بالتقدير يتعلم كيف يقدر الآخرين، بالإضافة إلى رفع مستوى تحصيله الدراسي بفضل الاستقرار النفسي الذي ينعكس على قدرته على التركيز والانتباه.كما أن لذلك دورا في تعزيز المرونة النفسية التي تمكّنه من مواجهة الضغوط والتحديات بثبات ودون أن يفقد توازنه العاطفي. وتقول البطوش: "فهم الطفل لمشاعره ليس ترفا، بل هو بناء لجدار نفسي قوي يحميه، ويمكنه من العبور بثقة عبر مراحل الحياة".وتشدد البطوش على أنه لتنشئة جيل واع عاطفيا، على الأهل أن يتقنوا فن مساعدة أبنائهم على التعبير عن مشاعرهم بطرق صحية، ويبدأ الأمر بتسمية المشاعر؛ فبدلا من تجاهل انفعالات الطفل، يمكن للأهل ترجمتها له بعبارات بسيطة مثل: "أرى أنك غاضب لأن اللعبة لم تعمل"، فهذه الممارسة البسيطة تربط الشعور بالكلمة الصحيحة، وتمنحه القدرة على فهم ما يحدث بداخله.وتضيف أنه من المهم خلق بيئة آمنة يشعر فيها الطفل أن جميع مشاعره مقبولة، فالمنزل ينبغي أن يكون ملاذا للتعبير عن كل ما هو إيجابي أو سلبي، ولأن التعبير اللفظي قد لا يكون الخيار الوحيد.ووفقا لذلك، على الأهل تشجيع طرق تعبير مختلفة، مثل الرسم أو الكتابة أو حتى اللعب، مما يمنح الطفل مساحة للتعبير عن نفسه بطريقة تناسب شخصيته، والأهم من كل ذلك أن يكون الأهل قدوة حسنة؛ فمشاهدة الطفل لوالديه وهما يعبران عن مشاعرهما بصدق ووعي، ستعلمه بشكل غير مباشر كيف يدير مشاعره ويتبناها في حياته.وتذكر البطوش أنه هنالك مجموعة من العناصر الداعمة التي لا تقل أهمية في تنمية الوعي العاطفي لدى الطفل؛ فتعليمه مهارات الاستماع الفعال يهيئه لفهم الآخرين بالعمق ذاته الذي يفهم به نفسه، ومناقشة المواقف اليومية وربطها بالمشاعر، كأحداث المدرسة أو المواقف العائلية، تساعده على التعبير الشعوري الواعي.الى جانب تدريبه على تهدئة نفسه عبر تقنيات مثل التنفس العميق أو العد التنازلي يعزز قدرته على إدارة الانفعال قبل اتخاذ أي رد فعل، وإشراكه في حل المشكلات بدلا من فرض الحلول عليه يمنحه شعورا بملكية قراراته ويصقل مهارات التفكير الهادئ.كما يسهم غرس احترام مشاعر الآخرين في بناء شخصيته المتعاطفة من خلال تشجيعه على طرح أسئلة مثل: "كيف تشعر؟" و"كيف أستطيع مساعدتك؟".ويتعلم الأطفال المسؤولية العاطفية من خلال الممارسات اليومية بحسب البطوش، التي تركز على ربط مشاعرهم بأفعالهم، وهذا التعليم المستمر يرسخ لديه فكرة أنه هو المسؤول عن طريقة استجابته للمواقف، لا أن يرى نفسه ضحية للظروف، وعبر هذا النهج يصبح الطفل أكثر قدرة على إدارة انفعالاته، ويتحول من مجرد متلق للمشاعر إلى مشارك فعّال في تشكيلها، مما يمهد الطريق لنمو شخصية ناضجة وقادرة على اتخاذ قرارات واعية.وتؤكد البطوش أن عدم قدرة الأهل على فهم واحتواء مشاعر أطفالهم له تداعيات تربوية ونفسية خطيرة قد تؤثر بعمق على نموهم النفسي والاجتماعي.وتبين أنه عندما لا يجد الطفل من يساعده على فهم ما يدور بداخله، قد يواجه صعوبة في ضبط سلوكه، فيلجأ إلى نوبات الغضب المتكررة، أو التصرفات العدوانية أو الانطواء، نظرا لافتقاره إلى الأدوات المناسبة للتعبير عن ذاته، فهذا الإهمال العاطفي قد يتطور إلى اضطرابات أعمق، مثل القلق، والاكتئاب، وتدني احترام الذات، نتيجة تراكم المشاعر المكبوتة دون معالجة.بالإضافة إلى ذلك، قد ينمو لدى الطفل شعور دائم بعدم الأمان العاطفي، مما يجعله أكثر عرضة للبحث عن القبول في بيئات أو علاقات غير صحية، وقد يدفعه ذلك إلى التمرد أو الانسياق وراء التأثيرات السلبية، بحسب البطوش.وتشير البطوش الى أن ضعف الوعي العاطفي يحد من قدرته على التعاطف مع الآخرين، ويؤثر على مهاراته في العمل الجماعي وحل النزاعات، وعلى المدى البعيد، قد ينعكس هذا النقص على أدائه الأكاديمي واستقراره المهني، وحتى على أسلوبه في تربية أبنائه مستقبلا، مكررا دائرة الإهمال العاطفي عبر الأجيال.وتنوه البطوش انه يمكن للأسر بناء عادة التواصل الصريح من خلال جعل النقاشات العاطفية جزءًا من روتينها اليومي، هذا يساعد على حل المشكلات في وقت مبكر، ويعزز ثقافة الحوار الأسري، فعندما يرى الأبناء أن الحوار هو وسيلة آمنة للتعبير عن الذات، يتعلمون كيفية التعامل مع خلافاتهم بصراحة ووعي، مما يوطد الروابط العائلية ويجعل الأسرة ملاذًا آمنًا لجميع أفرادها.وتؤكد البطوش ان توفر البيئة الأسرية الداعمة حماية قوية للأطفال من الانحرافات السلوكية، فعندما يجد الطفل أن مشاعره واحتياجاته العاطفية يتم تلبيتها داخل الأسرة، تقل حاجته للبحث عن الدعم أو القبول خارجها، وبهذا تصبح الأسرة بمنزلة درع واق يحمي الطفل من المخاطر الخارجية، ويوفر له أساسًا آمنًا يمكنه الانطلاق منه لبناء شخصية سليمة وواثقة.وكما تشير الدراسات إلى أن شعور الأطفال بالأمان والحب داخل الأسرة يخفض من مستويات التوتر والقلق، ما يعزز قوة جهاز المناعة ويحسّن الصحة العامة.ولذلك فالاستقرار النفسي لا ينعكس على الروح فقط، بل يصل أثره إلى الجسد أيضا، لذلك فإن احتواء الأهل لمشاعر أبنائهم ليس رفاهية ولا خيارا ثانويا، بل هو حجر الأساس في بناء شخصية متوازنة وواثقة، قادرة على مواجهة تحديات الحياة بمرونة ووعي.بدوره، يبين الاستشاري النفسي والمحاضر الدولي المعتمد يزيد موسى، أن المشاعر تشكل حجر الأساس في بناء الهوية العاطفية والنفسية للطفل، موضحا أن الطفل لا يولد وهو يعرف ماذا يشعر أو كيف يعبر عن شعوره؛ بل يتعلم ذلك من البيئة التي ينشأ فيها، خاصة من الأهل.ويشير موسى إلى أنه إذا نشأ الطفل في بيئة تعترف بمشاعره، و تُسميها، وتساعده على التعبير عنها، فإنه ينمي ما يعرف بـ الذكاء العاطفي (Emotional Intelligence)، وهو القدرة على فهم مشاعره والتعامل معها بطرق صحية.ويؤكد موسى أن هذا الفهم يصبح فيما بعد عاملاً وقائيًا ضد الاكتئاب، القلق، العدوانية، وضعف الثقة بالنفس، منوها ان الطفل الذي يهمل جانب مشاعره يكبر وهو يشعر أن مشاعره 'شيء خطير أو مُخجل أو غير مقبول'، وهذا يؤدي لتكوين شخصية هشّة، مرتبكة، ومليئة بالانفعالات المكبوتة.ويذكر موسى أن الدعم النفسي من الأهل يبدأ بثلاث خطوات أساسية، أولا: التسمية، فعلى الأهل أن يساعدوا الطفل على تسمية مشاعره وبدل أن يقال له: "لا تبك"، يُقال: "واضح إنك زعلان لأن اللعبة انكسرت، صح؟.وثانيا: الاحتواء دون الحكم، فلا يجب التقليل من مشاعر الطفل أو السخرية منها، فكل شعور عند الطفل مهم، حتى لو بدا تافهًا للكبار، مثل شعور "الغيرة" أو "الخوف من المدرسة" يجب احتواؤه وفهمه بدلا من نفيه.وثالثا: التعبير الصحي يعلم الطفل كيف يخرج مشاعره بطرق آمنة منها الكلام، الرسم، اللعب، أو حتى بالبكاء ويبني من خلال نموذج القدوة، بأن يرى والديه يعبران عن مشاعرهما بشكل صحي.ويؤكد موسى أن الطفل الذي يستطيع أن يتحدث عن مشاعره ويفهمها هو طفل أكثر ثقة بنفسه، لأنه يشعر أن ما يحدث بداخله مفهوم ويمكن التحكم به، وأقل عرضة للانفجارات العاطفية، لأنه لا يكبت المشاعر حتى تنفجر، وكما أنه أكثر قدرة على بناء علاقات صحية، لأنه يفهم مشاعره ومشاعر الآخرين ويمتلك مناعة نفسية أعلى ضد التوتر والضغوطويقول "ببساطة، هذا الطفل يصبح مالكا لعالمه الداخلي، بدل أن يكون عبئا عليه".ويذكر موسى أن الضرر النفسي الواقع على الطفل إذا لم يستطع أن يفهم مشاعره ويتعامل معها كبير وعميق، وله عدة مظاهر منها تشوّه في تكوين الهوية فلا يعرف من هو، ويشعر دومًا بالضياع، وكذلك نوبات غضب أو صمت مرضي لأن المشاعر لا تخرج بطريقة صحية، فتظهر على شكل انفجارات أو انغلاق تام.وأخطرها ميول عدوانية أو إيذاء الذات فبعض الأطفال حين لا يفهمون حزنهم أو ألمهم، يعبّرون عنه بإيذاء أنفسهم أو الآخرين، ومشاكل في العلاقات لاحقًا لأنه لم يتعلم كيف يتعامل مع الشعور، فيصعب عليه التواصل العاطفي مع من حوله.أيضا؛ خطر الإصابة باضطرابات نفسية مثل القلق العام، الاكتئاب، اضطراب التعلق، أو حتى اضطراب الشخصية الحدّية على المدى البعيد، بحسب موسى.ويختم موسى حديثه بتوجيه نصيحة للأهل بقوله "طفلك لا يحتاج فقط إلى أن تُطعمه وتلبسه وتُدرّسه… بل يحتاج قبل كل شيء إلى أن تُفسّر له عالمه الداخلي، أن تجلس بجانبه وتقول له: أنا أفهمك، حتى لو ما عرفت تعبر… أنا هون معك".

جرب ميزات الذكاء الاصطناعي لدينا
اكتشف ما يمكن أن يفعله Daily8 AI من أجلك:
التعليقات
لا يوجد تعليقات بعد...
أخبار ذات صلة


الرأي
منذ 27 دقائق
- الرأي
الصحة: إنفاق كبير وجودة متواضعه
تُظهر أحدث بيانات لتقرير حسابات الأردن الصحية للسنوات 2020-2022 والذي اطلقته وزارة الصحة مؤخرا مفارقة صارخة تستدعي وقفة تحليل وتفكير عميق. فبينما يتباهى الأردن بإنفاق صحي كلي مرتفع يصل إلى 8.3% من الناتج المحلي الإجمالي – وهو رقم يتجاوز متوسط الانفاق الصحي لبلدان شرق المتوسط (5.8%)، ودول مثل مصر (4.6%) والمغرب (5.3%) – إلا أن هذا الإنفاق الكبير لا يُترجم إلى جودة مماثلة في الخدمات الصحية، حيث يحتل الأردن المرتبة 103 من أصل 195 دولة عالمياً في جودة الخدمات الصحية وفقا لمؤشر بلومبر ، هذا التناقض يدق ناقوس الخطر، ويكشف عن اختلالات هيكلية عميقة في طريقة تمويل وإدارة القطاع الصحي تستوجب إصلاحاً عاجلاً وجذرياً. إن النظرة الأولى إلى أرقام الإنفاق الصحي الكلي قد توحي بالاطمئنان، فنسبة 8.3% من الناتج المحلي الإجمالي تُعتبر مرتفعة، وتعكس إلى حد كبير الاستجابة للأعباء الصحية التي فرضتها جائحة كوفيد-19 ومع ذلك، فإن التفاصيل تحمل في طياتها ملامح أزمة، فعلى الرغم من هذا الإنفاق الكلي الكبير، نجد أن الإنفاق الرأسمالي، وهو الجزء المخصص لتطوير البنية التحتية والمعدات، لا يتجاوز 0.5% من الناتج المحلي الإجمالي،هذه النسبة هي الأدنى إقليمياً، باستثناء اليمن (0.3%) ، مما يعني أن البنية التحتية الصحية في الأردن لا تحصل على الاستثمارات الكافية للتحديث والتوسع. الكارثة الأكبر تكمن في الإنفاق المباشر من الجيب (Out-Of-Pocket - OOP)والذي يمثل 35.9% من الإنفاق الجاري على الصحة في الأردن، هذا الرقم لا يضاهي دولاً نامية مثل نيجيريا (36.5%) فحسب، بل يتجاوز دولاً مثل عُمان (12%) هذا الإنفاق المباشر الباهظ يدفع 34% من الأسر الأردنية إلى العوز المالي والإفلاس عند المرض وهذا يؤكد أن نظام الإنفاق الحالي يفتقر إلى العدالة، ويهدد الاستقرار المالي للأسر بدلاً من حمايتها. إن تحليل مصادر التمويل يكشف عن اختلال هيكلي خطير، فالقطاع الخاص يهيمن على تمويل الإنفاق الصحي بنسبة 50.6% من الإنفاق الجاري وهذا يجعل الأردن أقرب إلى النموذج الأمريكي، المعروف بأنه الأعلى كلفة عالمياً في الرعاية الصحية. في المقابل، نجد أن ألمانيا، على سبيل المثال، تعتمد على القطاع الخاص بنسبة 15% فقط. هذا الاعتماد المفرط على التمويل الخاص يجعل النظام الصحي عرضة للتحكم بآليات السوق ويزيد من العبء المالي على المواطنين، بينما تتجه دول في الاقليم كالسعودية لزيادة التمويل الحكومي (71%) لضمان وصول الخدمات للجميع. في المقابل، تبرز مشكلة أخرى تتمثل في ضعف التأمين الإلزامي، الذي لا يشكل سوى 5% من تمويل الصحة في الأردن، هذا الضعف يفسر سبب بقاء 34% من السكان غير مؤمن عليهم صحياً، في حين أن تونس، التي لديها موارد أقل، تحقق تغطية صحية شاملة لـ 100% من سكانها بتمويل تأميني يبلغ 22%. هذا الفارق الكبير يوضح الحاجة الملحة لإصلاح جذري في آليات التأمين لضمان توفير حماية مالية أوسع للمواطنين وتخفيف عبء الإنفاق المباشر. لا يقتصر الخلل على حجم التمويل ومصادره، بل يمتد ليشمل أنماط الإنفاق نفسها، والتي تُظهر إهداراً للموارد ، منها الإنفاق الدوائي المهدر حيث يشكل الإنفاق على الأدوية 29.8% من الإنفاق الجاري ، وهو أعلى بكثير من المتوسط الأوروبي (15%) هذا الارتفاع يعود جزئياً إلى غياب آليات الشراء الموحد الفعالة، مما يؤدي إلى أسعار مبالغ فيها، حيث تشير الدراسات إلى أن أسعار أدوية السكري في الأردن أعلى بنسبة 40% من تركيا. وما تزال الوقاية مهمشة: على الرغم من التحسن الطفيف في الإنفاق على الرعاية الوقائية (من 32% في 2019 إلى 40.2% في 2022) ، إلا أنها لا تزال بعيدة عن المعايير الدولية لمنظمة الصحة العالمية والمقدرة ب ( 55%) هذا الإهمال للوقاية يعكس عقيدة علاجية بدلاً من وقائية ، في حين أن دولاً مثل تايلاند، التي تخصص 50% من ميزانيتها للوقاية، نجحت في خفض أمراض القلب بنسبة 40% بفضل الكشف المبكر. كوبا، بدخل أقل بكثير من الأردن، حققت أعلى مؤشر وقائي عالمي بنسبة 64% ، وهذا يدل على أن الأولوية للوقاية ليست مرتبطة بالثراء، بل بالإرادة . هوس المستشفيات: تستحوذ المستشفيات على حصة الأسد من الإنفاق الصحي في الأردن بنسبة 65.8%. هذه النسبة تقترب من النموذج الأمريكي (67%)، الذي يُعتبر الأسوأ كفاءة بين الدول المتقدمة في إدارة الإنفاق الاستشفائي. هذا التركيز المفرط على العلاج الاستشفائي يُهدر الموارد التي يمكن توجيهها للوقاية والرعاية الأولية، ويُقلل من الكفاءة العامة للنظام. لحسن الحظ، التجارب العالمية تقدم لنا دروساً قيمة وخرائط طريق للإصلاح: منها النموذج التونسي حيث أثبتت تونس أن التغطية الشاملة ممكنة من خلال دمج صناديق التأمين والتغطية الإلزامية لـ 100% من السكان، مما خفض الإنفاق من الجيب إلى 12% من الواضح انه يجب على الأردن أن يسعى لرفع حصة التأمين الإلزامي إلى 20% خلال خمس سنوات، على غرار نموذج المغرب، وكذلك النموذج التايلاندي والذي يُعتبر مثالاً يحتذى به في "الثورة الوقائية"، فقد قامت تايلاند بتحويل 30% من ميزانيات المستشفيات إلى الرعاية الصحية الاولية وتحديدا لبرامج الكشف المبكر، وفرضت "ضرائب صحية" على التبغ والمشروبات الغازية ، مما أدى إلى خفض وفيات القلب بنسبة 40% خلال عقد و يجب على الأردن تخصيص 25% من الميزانية لبرامج الكشف المبكر والتوعية، وفرض ضرائب على المنتجات الضارة. ولغايات خفض الإنفاق الدوائي المهدر، يُوصى بإنشاء تحالف شرائي إقليمي مع دول مثل مصر والسعودية. هذا التحالف يمكن أن يساهم في خفض أسعار الأدوية بنسبة 30% من خلال الشراء الموحد. خاتمة الكلام :يجب ان تكون العدالة هي الهدف ، الأرقام لا تكذب. الأردن ينفق أكثر من جيرانه (8.3% من الناتج المحلي الإجمالي، لكنه يُقدم أقل في الجودة (المرتبة 103 عالمياً). هذه المفارقة الصارخة قد تبدو مثبطة، لكنها في الواقع تُقدم فرصة ذهبية للإصلاح، فالإنفاق المرتفع في حد ذاته ليس غاية، بل وسيلة. الهدف الأسمى هو العدالة في توزيع الخدمات الصحية وجودتها.إن النماذج العالمية الناجحة تُثبت أن الإصلاح ممكن، حتى بموارد محدودة، إذا توفرت الإرادة السياسية والرؤية الواضحة،والخيار الآن بين الاستمرار في نموذج صحي مأزوم يرهق الأسر ويُهدر الموارد، أو اقتناص هذه الفرصة لتحقيق معجزة صحية تستحقها الأمة. إنها مسؤولية جماعية تتطلب تضافر الجهود من الحكومة، القطاع الخاص، والمواطنين، لتحقيق "الصحة للجميع" التي هي حق أساسي لا امتياز. امين عام المجلس الصحي العالي السابق


الرأي
منذ ساعة واحدة
- الرأي
د. محمد رسول الطراونة
تُظهر أحدث بيانات لتقرير حسابات الأردن الصحية للسنوات 2020-2022 والذي اطلقته وزارة الصحة مؤخرا مفارقة صارخة تستدعي وقفة تحليل وتفكير عميق. فبينما يتباهى الأردن بإنفاق صحي كلي مرتفع يصل إلى 8.3% من الناتج المحلي الإجمالي –... الأربعاء 09:46 13-8-2025 "هظاك" المرض: بين الوصم والأمل وضرورة المواجهة (هظاك) أو ذاك المرض الذي يتجنب الكثيرون في مجالسهم تسميته، خوفًا من أن ينطقوا اسمه فيتجسد ويشيع صيته! كأنهم باستخدام اسم الإشارة البعيد "هظاك" قد أقاموا سدًّا منيعًا، أو ألقوا بتعويذة تمنع اقترابه، همسًا يُطلقون عليه... الأحد 08:50 22-6-2025 الشراكة بين العام و الخاص: الصحة أرض الفرص في ظل التحديات المتزايدة التي تواجه الأنظمة الصحية حول العالم، من تزايد الكثافة السكانية إلى ارتفاع تكاليف الرعاية الصحية وعدم كفاية البنية التحتية ونقص الكوادر البشرية ذات الاختصاصات الدقيقة، برزت الشراكة بين... الثلاثاء 11:48 27-5-2025 طبيب الأسرة.. حارس الصحة الأول في التاسع عشر من أيار من كل عام، يحتفل العالم بـاليوم العالمي لطبيب الأسرة، وهو مناسبة لتكريم هؤلاء الأطباء الذين يلعبون دورًا محوريًا في الأنظمة الصحية حول العالم، اذ يُعد طبيب الأسرة حجر الزاوية في الرعاية الصحية... الأحد 11:29 18-5-2025 تسونامي الأمراض غير السارية.. الواقع والتحديات والتوصيات في ظل التحوّلات الديموغرافية والاجتماعية والاقتصادية التي يشهدها العالم العربي، برزت الأمراض غير السارية كأحد أخطر التحديات الصحية في القرن الحادي والعشرين. تُعرف هذه الأمراض، مثل السكري وأمراض القلب والسرطان وأمراض... السبت 11:50 3-5-2025 المريض بين مطرقة الاخطاء الطبية وسندان التداعيات النفسية في عالمٍ تتصاعد فيه تعقيدات المنظومة الصحية، تبرز معاناة المريض كأحد أبرز التحديات التي تُهدد كرامة الإنسان وسلامته، فبينما تُعد الرعاية الصحية ركيزةً أساسيةً للحضارة الانسانية، تتحول في بعض الأحيان إلى ساحةٍ... الثلاثاء 11:17 29-4-2025 تجارة المرض والمريض: حين يتحول الألم إلى سلعة في عالمٍ تُقاس قيمته بالربح والمكاسب المادية، لم تسلم المنظومة الصحية في كثير من البلدان من تحوّلها إلى سوق أستثماري تسوده قواعد العرض والطلب، ولم يسلم الجسد الإنساني من أن يصير ساحةً للاستغلال التجاري. لقد تحوَّلت... الاثنين 12:11 21-4-2025 نهج صحة الأسرة: رؤية جديدة لرعاية صحية شاملة ومتكاملة في الأردن في عالم يتسم بتعقيدات صحية متزايدة وانتشار الأمراض غير السارية (المزمنة) مثل السكري وارتفاع ضغط الدم والسمنة وغيرها، يبرز » نهج صحة الأسرة » كحلٍّ مبتكر لإصلاح النظام الصحي حيث أصبح من الضروري تبني نهج شامل ومتكامل... الأربعاء 12:01 9-4-2025


الغد
منذ 3 ساعات
- الغد
5 وفيات جديدة نتيجة المجاعة وسوء التغذية في غزة
قالت وزارة الصحة الفلسطينية في قطاع غزة، الثلاثاء، إنه سجلت خلال الـ24 ساعة الماضية 5 حالات وفاة نتيجة المجاعة وسوء التغذية، في القطاع من بينهم طفلان. اضافة اعلان وأضافت الوزارة في بيان صحفي أن العدد الإجمالي لضحايا المجاعة وسوء التغذية ارتفع إلى 227 شهيدًا، من بينهم 103 أطفال.