
رؤى تربوية وأدبية حول دور الحكاية في تشكيل وعي الطفل وهويته الثقافية في ظل التحديات المعاصرة
رؤى تربوية وأدبية حول دور الحكاية في تشكيل وعي الطفل وهويته الثقافية في ظل التحديات المعاصرة
من السرد الشفهي إلى التربية الوجدانية
"العُمانية": تُعد الحكاية من أقدم الوسائل الشفهية التي استخدمها الإنسان لنقل القِيم والمعارف الإنسانية عبر الأجيال، ولكونها أداة مهمة في تشكيل وعي الطفل منذ البدايات وبناء هويته الثقافية، فقد أصبحت لغة مجتمعية لا يمكن تجاوزها أو الاستغناء عنها، فهي عامل يكتشف الطفل من خلاله ملامح بيئته ليتعرّف على عاداتها وتقاليدها، أضف إلى أنها تلعب دورًا محوريًا في تكوين المخيلة وتغذية الحس الأخلاقي والإنساني لديه، مع مساهمتها الفعلية في ترسيخ الانتماء وتشكيل ملامح الهوية الفردية والجمعية له.
في هذا السياق، يتحدّث الشاعر والكاتب المسرحي العُماني عبدالرزّاق الربيعي عن الهوية والتكوين الثقافي للطفل من خلال الحكاية، حيث التفاعل والترسيخ، وما يمكن تفعيله والعمل عليه في هذا السياق والحديث، ويقول: تمثّل الحكايات الشعبية مصدرًا مهمًا في تشكيل هوية الطفل وتعزيز تكوينه الثقافي، من هنا تأتي خطورة التعاطي مع الحكايات الشعبية، التي هي نِتاج تجارب وخبرات متراكمة؛ فكثير منها خلّف جراحًا نفسية ظلّت راسخة في ذاكرة وطبقات اللاوعي لدى الأطفال، وخصوصًا الحكايات المخيفة التي تتحدث عن الجن والأشباح، والحيوانات المفترسة. وكثيرًا ما ظهرت للأطفال عند منامهم على هيئة كوابيس مسبّبة الفزع والخوف لهم، لأن تلك الحكايات من نتاج المخيال الشعبي، وهو مخيال يقوم على الفطرة والعقل الجمعي، لا على التفكير المنطقي. من هنا ينبغي غربلة تلك الحكايات وإعادة إنتاجها، وحذف غير المناسب منها، وهذا لا يتم إلا عن طريق الكتابة الإبداعية وتقريبها من أذهان الأطفال، وطرحها بأسلوب مشوّق، وجعلها محبّبة لهم. علينا اختيار الحكايات التي تعزّز القيم والأخلاق.
ويضيف الربيعي: أمثال هذه الحكايات من الضروري أن تبقى حيّة في الأذهان لكونها تمثّل هوية وطنية، ومن المفيد لنا أن نوصلها إلى النشء الجديد قبل أن تندثر، لكونها بقيت شفاهية، والكثير منها غير مدوّن. وفي ظل الانفتاح على العالم الخارجي، صارت الهويات الثقافية مهددة بالاندثار مع هبوب رياح العولمة. وإذا وجدنا بعض الحكايات فيها الصالح والطالح، فعلينا عدم تجاهلها، بل ينبغي وضع معالجات جديدة. ويكون واجبنا -ككُتّاب ومشتغلين في هذا الحقل- أخذ المناسب وترك غير ذلك، تجنبًا للأثر السلبي الذي تتركه تلك الحكايات على نفسية الطفل في المستقبل.
ولي تجربة في هذا المجال في مسرحية "كهرمانة"، في قصة "علي بابا والأربعون حرامي"، وهي من حكايات "ألف ليلة وليلة"، والكثير من حكايات "ألف ليلة وليلة "غير صالح للأطفال، علمًا أن أول مسرحية للأطفال في الوطن العربي مأخوذة من كتاب "ألف ليلة وليلة"، كتبها كامل الكيلاني سنة 1927، وعنوانها السندباد البحري. الكثير من الحكايات تقوم على السحر، والسخرية من البشر، والخيانة. وحين قرأت حكاية "علي بابا والأربعون حرامي"، لفتت نظري شخصية كهرمانة، فركّزت عليها، أما بقية الحكاية فقد وجدتُ فيها مشاهد دامية وقتلًا وخداعًا وسرقة، وهي لا تناسب الأطفال. لذا؛ قمت بتشذيبها وإضفاء طابع كوميدي على الشخصيات والأحداث، وفي النهاية التركيز على ذكاء وشجاعة كهرمانة، وهما الدرس المستفاد من المسرحية. وبذلك نضمن للعرض أن يساهم في تكوين شخصية الطفل، ودفعه للأمام، فالمسرح: "أقوى معلم الأخلاق، وخير دافع للسلوك الطيب، فدروسه لا تُلقن بالكتب، بل بالحركة المنظورة" -كما يقول مارك توين-.
قيمة أخلاقية ورمزية
أما الحكواتية اللبنانية سارة قصيّر الزين، فتتحدث عن الكيفية التي يمكن أن تُشكّل بها القصة / الحكاية، لتكون هدفًا يحمل قيمة أخلاقية ورمزية من خلال الصوت، لتتحوّل إلى الفكرة المراد التعبير عنها وصورة ذهنية متحرّكة لدى الطفل، مرورًا بالأدوات التي يجب العمل عليها ليكون الطفل أيضًا شريكًا في إنتاج المعنى الحقيقي المتعلق بالحكاية، وتقول: منذ القدم، شكّلت الحكاية محورًا أساسيًا في النسيج الثقافي العربي، حيث أدّت أدوارًا تتجاوز حدود التسلية إلى نقل القيم والمعرفة والتجربة الإنسانية عبر الأجيال. واحتلّت الحكاية الشفوية منزلة مرموقة في التربية، إذ كانت وسيلة لبناء الوعي الجمعي وتثبيت الهوية، من خلال مضامينها الرمزية وأشكالها التعبيرية. ومع تطوّر النظريات التربوية والنفسية الحديثة، تزايدت القناعة بأن الحكاية ليست أداة تعليم غير مباشر فحسب، بل منظومة متكاملة تُسهِم في تنمية الخيال، وتعزيز اللغة، وبناء الهوية الثقافية لدى الطفل.
وتضيف: تُعد الحكاية اليوم وسيطًا تربويًا وثقافيًا مركّبًا، قادرًا على تحويل الطفل من متلقٍّ سلبي إلى منتج للمعنى، ضمن تجربة تفاعلية تُفعّل قدراته التعبيرية والمعرفية. ويُعد الصوت في الحكاية أحد أبرز العناصر التي تُمكّن هذا التحوّل؛ فهو لا يُفهم بوصفه مجرد وسيلة لنقل الكلمات، بل كقناة حسّية معقّدة تُفعّل الجهاز العاطفي لدى الطفل. فنبرة الصوت، إيقاع الجمل، الوقفات، والهمسات، كلها عناصر تُحوّل الكلمات إلى مشاهد داخلية حيّة. فحين يستمع الطفل إلى صوتٍ يرتفع عند ذكر لحظة خطر، أو يهبط عند توصيف حالة حزن، توجد لديه صورة ذهنية تُشبه 'المشهد السينمائي' في الذاكرة. وبهذه الطريقة، يتحوّل الصوت إلى لغة رمزية ثانية، تُترجم المفردات إلى إدراكات بصرية وعاطفية، وتُعزز من عمق التفاعل مع القصة.
وتؤكد بالقول: إن هذه الصورة الذهنية ليست جامدة، بل هي متحرّكة ومتجددة، تُعيد تشكيل نفسها وفق تجارب الطفل ومخزونه الثقافي، ما يسمح للحكاية بأن تتجاوز زمنها النصي لتعيش في وجدان الطفل كخبرة متجددة تُسهم في بناء هويته ووعيه القيمي والنفسي. غير أن هذا الدور لا يكتمل دون أدوات تُشرك الطفل في بناء المعنى، مثل: السرد التفاعلي، وإعادة التمثيل، والتحليل الرمزي، والوسائط المتعددة، والكتابة الإبداعية، فمن خلال هذه الوسائل، يُمكن للحكاية أن تكون أداة لتوليد المعنى لا تلقينه.
وتوضِّح: في السياق العُماني، تزخر الذاكرة الشعبية بحكايات مثل: "غرنوق وسعدة" و"سعلوه في الوادي"، وهي نماذج قابلة لإعادة التوظيف ضمن مقاربات حديثة تعزّز من حضور الطفل كفاعل ثقافي، يُنتج المعنى ويُعيد بناء علاقته بجذوره وقيم مجتمعه.
التأثير على الهوية
وتتحدث الحكواتية الفلسطينية دينيس أسعد عن الحكواتي، وكيف يمكن أن يكرّس صوته الحسّي الظاهر ليصبح الوسيط الحيوي بين العالم الخارجي وخيال الطفل، والممكّنات التي يمكن أن يُعمل عليها لإدخال الطفل في علاقة شخصية ووجدانية مع شخصيات الحكاية: تناقُل القيم المسيطرة في أي مجتمع، الإيجابية منها والسلبية، والعادات الاجتماعية من جيل إلى جيل، كانت -وما زالت- من أهم وظائف الحكواتي عبر العصور، فمن خلال اختياره للحكاية وسردها بأسلوبه الخاص، مع التشديد على ما يعتبره الأهم من عناصر الحكاية، يُسهم الأمر في بلورة أفكار الأطفال، وبالتالي في التأثير على هويتهم الثقافية والوطنية، خاصة في حالتنا الفلسطينية.
وتضيف: لكل حكواتي أسلوبه الخاص في السرد، وينعكس الأمر على اختيار الحكاية التي أحبّها والتي تعكس القيم التي يؤمن بها ويرى أنها مناسبة لجمهوره، ومنها القيم الإنسانية والوطنية والدينية، مع تحرير نص الحكاية أدبيًا أولًا ليكون متكاملًا من ناحية ميزات الحكاية الشعبية الأدبية، وثانيًا -وهو الأهم- للتخلص من أي مقولة أو حدث عنصري في الحكاية. أضف إلى ذلك أن لغة السرد تعتمد على ثقافة الحكواتي وتجربته، وعلى ما ينوي ترسيخه في ذهن الأطفال من كلمات ومرادفات ومعلومات. مثال من حكاياتي: أنا أحاول إدخال تفاصيل المكان بهدف الحفاظ على صورة خريطة فلسطين الكاملة، من البحر إلى النهر، حيّة في قلوب أطفالنا، -وبالطبع هذا أضعف الإيمان-: "كان يا ما كان، يا مستمعات ويا مستمعين، في أجمل مروج فلسطين الواقعة بين الناصرة وجنين، وقبل الاحتلال..."، وأسأل الأطفال إذا كانوا يعرفون اسم المرج، وهكذا.
مع إتاحة الفرصة للجمهور لأخذ دور فعّال في سرد الحكاية، ويتم ذلك من خلال تكرار لازمة معيّنة في الحكاية عدة مرات، أو التوقف عند موقف معين وطلب رأي الأطفال فيه، مما يساعد على شعور الطفل بأنه مؤثر في مجرى الأمور في الحكاية. ولطالما اعتُبر إعادة سرد الحكاية من قبل الأطفال جزءًا من طقوس سرد الحكاية من قبل الجدّات والأجداد، لذلك من المهم إعادة سرد الحكاية مع الأطفال، وإعطاؤهم الفرصة لسردها بلغتهم الخاصة.
وتتابع: لقد طوّرتُ منهجية علمية عملية لإعادة سرد محور أحداث الحكاية بعدّة طرق: من خلال الحركة، ومن خلال اللمس، ومن خلال الصور، وهناك عناصر أخرى تؤثر في مساعدة الأطفال لتذويت الحكاية، بدايةً بما يرتديه الحكواتي.
أدة لتشكيل الوعي
وتتحدث المدربة العُمانية والمهتمة بالتربية وأدب وثقافة الطفل، زهرة بنت أحمد الجامعية، عن الحكاية "القصة" بوصفها أداة لتشكيل الوعي لدى الطفل، ومدى تأثير رمزيتها الشعبية أو التراثية في تكوين وتشكيل هويته الثقافية، كونها أداة من أدوات التربية الوجدانية لديه، وتقول: على مر الأزمان كانت الحكاية ولا تزال أحد الأدوات الأساسية لصياغة وتشكيل ما هو مرغوب ومنبوذ في المجتمعات، ولا تزال شخوص الحكايات وأبطالها باقية، رغم أننا في بعض الأحيان لا نستطيع الجزم بأنها كانت واقعة أو حقيقية، إلا أننا توارثناها منذ اللحظة التي وصلت إلى مسامعنا، فلا تزال تلك الدهشة التي اعترتنا في اللحظة التي سمعنا فيها حكايات نور الزمان المختبئ في جذع الشجرة الذي ينفتح كل ليلة لعروسه من الإنس ليكشف لها قصرًا ممتدًا، أو علاء الدين وهو يجوب الأرض محلقًا على بساطه السحري الطائر، أو مغارة علي بابا والأربعون حرامي، باقية حتى اللحظة. لا يزال يقيننا بأن الخير لا بد أن ينتصر، وبأن الشرير سيقع في شر عمله، وأن حفظ الأمانة فوز عظيم.
وتضيف: أن القصة -بلا شك- هي أحد أهم أدوات تشكيل الوعي، وترسيخ القيم والمبادئ، بدءًا بالقرآن الذي فيه سورة كاملة اسمها سورة القصص، وقوله تعالى: (نحن نقصُّ عليك أحسن القَصَصِ بما أوحينا إليك هذا القرآن وإن كنت من قبله لمن الغافلين) (الآية 3 سورة يوسف). ونحن نتحدث هنا عن منهج رباني أراده الله دستورًا للبشرية، هذا المنهج استخدم القصص كأحد أهم الوسائل لغرس القيم الربانية التي يريد لها الله أن تكون منهجًا للبشرية، لتبقى أكثر من 1400 سنة حتى الآن. فما الذي يجعل القصة أو الحكاية بهذه القوة، خصوصًا عندما نتحدث عن مرحلة الطفولة؟
وتؤكد: إن عالم الحكاية هو أحد أجمل العوالم التي يمكن للطفل أن يعيشها، حيث تبقى تفاصيله مغروسة في عقل الطفل، بدءًا بالوقت والرائحة ودفء صوت الحكواتي (أيًّا كان: الجدة، الأم، الأب، المعلم) والتفاصيل الصغيرة، حيث بمجرد وصول صوت الحكواتي إلى مسمعه تبدأ مخيلته في تشكيل الصور والشخوص والأماكن والأحداث، وتبدأ ملامح خارطته الإنسانية بالتشكُّل، ففي كل حكاية هناك بطل أسطوري يرى الطفل فيه نفسه، مشكّلًا بذلك أنموذجًا قيميًّا يرغب في أن يتقمّصه. وكل حدث في الحكاية يأخذ الطفل إلى أبعاد شعورية مختلفة؛ يغضب، ويتحمس، ويحزن، ويفكر، ويخاف، ويقلق مع اختلاف الشخوص، ولكنه بطبيعة الحال سيختار دوره الذي يريده لنفسه. وفي هذه المرحلة المباركة من عمر الطفل، هو لا يستمع لحكاية عابرة فحسب، بل هو يشكل الذكريات والروابط العصبية ومنظومته القيمية الخاصة في دماغه، الذي سيحتفظ بكل هذه المعلومات، والتي ستظهر في مراحل عمره القادمة كردود أفعال تجاه المواقف التي تحاكي الحكاية؛ لينبذ الظلم على سبيل المثال، ويمقت الكذب، أو ليتقمّص دور المفكر والعالِم ونهجه في الحياة. ستتضح له قدواته التي يرغب أن يسلك طريقها، والشخصيات التي يرغب بأن يتجنبها، ستحدد له دائمًا الدروب التي ينبغي له أن يسلكها، وستحدد أيضًا زاده وحمولته التي يرغب بأن يتزوّد بها في دربه. ليس ذلك فحسب؛ بل ليحاول أن يتقمّص هوية أبطال الحكايات التي نشأت في بيئته، ويفخر بها.
وتبيّن حديثها: يمكننا أن نقول إن الحكاية هي من أهم الأدوات التي يمكن للمربي أن يستخدمها لتشكيل الهوية والتربية الوجدانية للطفل، حيث إنها تثري حصيلة الطفل بنموذج قيمي وسلوكي يعبر عن خصوصية مجتمعه، مما يساهم بلا شك في تشكيل المنظومة الإنسانية للمجتمع. ولكن في خضم الانفتاح الكبير على العالم وثقافة الآخر، أجد بأنه لا بد لنا من العناية بهذا الأدب / أو الفن، والاشتغال عليه بشكل ممنهج لصناعة وتأصيل رموزنا الثقافية والفكرية في عقول النشء القادم، وذلك لا يتأتى إلا بالعمل المدروس والمنظم. اليوم تقلصت الأوقات التي يمتلكها المربون مع أطفالهم، وذلك بحكم طبيعة الحياة والانشغال، فنحن اليوم بحاجة إلى صناعة تواكب توجهات هذا الجيل، كإعداد برامج قصصية مرئية، أو تبني مشروع كتب تتضمن النماذج المشرفة للهوية الوطنية سواء من الجيل المنصرم أو الحالي، ولا بد أيضًا للأسرة أن تعي أن القصة والحكاية هي أحد أهم المفاتيح التي يمكنهم استخدامها لتشكيل هوية الطفل بدءًا من توجهاته وقيمه وثقافته وانتمائه، وذلك يعيدنا إلى ضرورة ما يقع تحت أعين أطفالنا أو مسمعهم، لأننا بلا شك سنحصده جميعًا بعد حين.

جرب ميزات الذكاء الاصطناعي لدينا
اكتشف ما يمكن أن يفعله Daily8 AI من أجلك:
التعليقات
لا يوجد تعليقات بعد...
أخبار ذات صلة


الجزيرة
منذ 19 دقائق
- الجزيرة
غزة تنزف بلا ضماد.. كارثة صحية في زمن التجاهل الدولي
منذ اندلاع الحرب الإسرائيلية الأخيرة على قطاع غزة في السابع من أكتوبر/تشرين الأول 2023، تجاوزت آلة الحرب حدود الاستهداف العسكري إلى تدمير مُمنهج لمؤسسات الرعاية الصحية، في مشهد يعيد تعريف "العدوان" ليشمل كل ما هو حي وممكن للنجاة. ولم يعد الموت في غزة نتيجة مباشرة للقصف وحده، بل هو كذلك ثمرة لانعدام الدواء، أو انقطاع الكهرباء عن حضّانة، أو تأخر سيارة إسعاف بسبب قرار عسكري. وبينما يُقصف الجرحى في أسِرّتهم، ويُعتقل الأطباء من ممرات الطوارئ، وتُمنع قوافل العلاج عند حدود موصدة، تتكشف في غزة معالم جريمة لا يُراد لها أن تكون مرئية: جريمة قتل ممنهج للصحة، والحياة ذاتها. كارثة طويلة الأمد وهذه المأساة لا تقف عند الحاضر، بل تحمل آثارا طويلة الأمد تهدد مستقبل القطاع عقودا، ومع خطر تفشي أمراض قاتلة مثل الكوليرا والحصبة وشلل الأطفال، ومع فقدان الكوادر الصحية المدربة التي كانت عمادَ النظام الصحي، بات من الواضح أن ما تدمّر لا يمكن تعويضه بسهولة، وأن النظام الصحي في غزة يحتاج إلى خطة إنقاذ تمتد عشرات السنين لإعادة بنائه وتأهيله. وبعيدا عن لغة الأرقام، يمكن رصد الكارثة من شهادات من تبقّى من الطواقم الطبية في المستشفيات، حيث لا ماء ولا تخدير ولا ضوء، يتخذ الطبيب قراره الأصعب: من يُنقَذ ومن يُترك لحتفه. وهذا المشهد، الذي لا يلتقطه الإعلام دائما، هو الوجه الأكثر قسوة للعدوان، وهو أن تُحمَّل ضحية أخرى مسؤولية اختيار الموت بين مرضى لا ذنب لهم سوى أنهم وُلدوا على هذا الشاطئ المحاصر. وتتعدى الكارثة البُنى التحتية، لتطال فكرة "الرعاية" ذاتها، وتتحوّل المستشفيات، من مساحات للشفاء، إلى أهداف عسكرية، تُقصَف وتُقتحم ويُختطف من فيها. ولم تكن الحماية التي توفرها اتفاقيات جنيف وقرارات الأمم المتحدة أكثر من حبر على ورق، وقد فشلت المؤسسات الدولية في ضمان الحد الأدنى من الأمان للمرافق الطبية، بينما اكتفت بيانات الإدانة بالصيغ المكرّرة، دون أن تترجم إلى خطوات لحماية الحق في العلاج. واستهداف المرافق الطبية جريمة حرب موثقة بموجب القانون الدولي الإنساني، لكن صمت العالم أمام هذه الانتهاكات المتكررة يعكس تواطؤا خطِرا. وغياب التحقيقات الدولية الجادة، وعدم تفعيل أدوات العدالة الدولية، يعمّق شعور الضحايا بأن الجرائم في غزة تُرتكب بلا عقاب. ولم تفعل محكمة الجنايات الدولية، التي يفترض أنها الذراع القضائية لردع الجرائم ضد الإنسانية، شيئا أكثر من التعبير عن "القلق". ما العمل؟ لا يحتاج القطاع اليوم فقط إلى مساعدة إنسانية، بل إلى اعتراف صريح بأن ما يجري هو انهيار قيمي عالمي، تُساق فيه حياة الناس رهينة للعبة السياسة وموازين القوة. ولهذا، لا بد من خطة إنقاذ عاجلة، قبل فوات الأوان، تقوم على أربعة محاور: الضغط الدولي: وقف الحرب وفتح المعابر فورا، وتفعيل قرارات مجلس الأمن، وتحرك فعلي من الأمم المتحدة والجامعة العربية. الإغاثة الصحية داخل غزة: تشمل توزيع أدوية منقذة للحياة، وتقديم دعم نفسي وتدريب الطواقم المتبقية، وصيانة المنشآت الطبية الطارئة بما تبقّى من قدرات. التحضير الإغاثي خارج غزة: عبر تجهيز مخازن إغاثة عاجلة في المناطق المجاورة، وتشكيل فرق طبية جاهزة للإدخال، ووضع خطط لإجلاء طبي منسق في الحالات الطارئة. خطة إعادة الإعمار الصحي: لا تقتصر على إعادة بناء المستشفيات، بل تمتد إلى تشمل تدريب الكوادر، واعتماد بنية رقمية مقاومة للأزمات تُتيح العمل في بيئات الحرب والدمار. ويتطلب ما دُمّر في القطاع، سنوات من العمل الدؤوب لترميمه، كما أن إعادة بناء المستشفيات لن تعيد ما فُقد من كفاءات بشرية نادرة، ولا تمحو الأثر النفسي العميق الذي زرعه هذا الخراب في نفوس الناجين. ولذلك فإن الحل لا يكمن فقط في إرسال المعدات أو بناء الجدران، بل في ضمان ألا تتكرر هذه الكارثة مرة أخرى. وهذا يضع مسؤولية أخلاقية وقانونية على عاتق المجتمع الدولي، تتمثل في حماية المنشآت الصحية بموجب القانون الإنساني، ودعم نظام صحي مستدام، والمساءلة الفعلية لكل من تورّط في تدميره. وفي ظل حرب تستهدف كل مقومات البقاء، فإن الدفاع عن حق الفلسطيني في العلاج، هو دفاع عن إنسانيّة العالم بأسره. والنتيجة اليوم كارثة صحية غير مسبوقة، وحرمان مليوني إنسان من الحق في العلاج هو جريمة ممنهجة، ويكشف أن الصمت الدولي ليس مجرد تقصير، بل تواطؤ فعلي. "الصحة حق إنساني، لا امتيازا" – هكذا قالت المفوضية السامية لحقوق الإنسان. و"الحق في الصحة ليس رفاهية، بل الحد الأدنى من الحياة"، كما كتبت طبيبة فلسطينية على جدار غرفة طوارئ مدمّرة في مستشفى شمال غزة. ولعل هاتين العبارتين تختصران كل ما يحاول هذا المقال قوله.


DW
منذ 20 دقائق
- DW
طهران تبدي مرونة.. وترامب يحذر نتنياهو من ضرب إيران – DW – 2025/5/28
حذرت الولايات المتحدة إسرائيل من توجيه أي ضربة لإيران قد تحبط المفاوضات الجارية معها حاليا بشأن ملفها النووي، فيما أبدت طهران استعدادها للسماح بزيارة مفتشين أميركيين من الوكالة الدولية للطاقة الذرية. د ب أ، رويترز، آ ف ب فلاح الياس د ب أ، رويترز، آ ف ب فلاح الياس د ب أ، رويترز، آ ف ب حققت المفاوضات بين الولايات المتحدة الأمريكية وإيران بعض التقدم على ما يبدو. وتجلى ذلك في التصريحات، التي صدرت الأربعاء (28 مايو/ أيار 2025). حيث أبدت طهران بعض المرونة حول تخصيب اليورانيوم وقبول مفتشين أمريكيين. وقال رئيس منظمة الطاقة النووية الإيرانية محمد إسلامي: "إذا أثيرت قضايا وتم التوصل إلى اتفاق وتم أخذ مطالب إيران في الاعتبار، فإننا سنعيد النظر في احتمال قبول مفتشين أميركيين" من الوكالة الدولية للطاقة الذرية. كما قال مصدران رسميان إيرانيان إن طهران ربما تعلق تخصيب اليورانيوم إذا أفرجت الولايات المتحدة عن أموال إيرانية مجمدة واعترفت بحق طهران في تخصيب اليورانيوم للاستخدام المدني بموجب "اتفاق سياسي" قد يُفضي إلى اتفاق نووي أوسع نطاقا. وأضاف المصدران لرويترز أنه بموجب هذا الاتفاق، ستُوقف طهران تخصيب اليورانيوم لمدة عام، وسترسل جزءا من مخزونها عالي التخصيب إلى الخارج، أو تُحوله إلى صفائح وقود نووي لأغراض نووية مدنية. والتوقف المؤقت عن التخصيب وسيلة لتجاوز الجمود الناجم عن تعارض الخطوط الحمراء لدى الجانبين، وذلك بعد خمس جولات من المحادثات بين وزير الخارجية الإيراني عباس عراقجي ومبعوث ترامب إلى الشرق الأوسط ستيف ويتكوف لحل نزاع مستمر منذ عقود حول برنامج طهران النووي. وأكد مسؤولون أمريكيون مرارا أن أي اتفاق نووي جديد مع إيران، ليحل محل اتفاق أبرمته طهران وست قوى عالمية في 2015، يجب أن يتضمن التزاما بوقف التخصيب الذي يعتبر وسيلة محتملة لتطوير قنابل نووية. "اتفاق نووي" بين واشنطن وطهران.. مسألة وقت فقط؟ To view this video please enable JavaScript, and consider upgrading to a web browser that supports HTML5 video ترامب يحذر نتنياهو وفي هذا السياق، أعلن الرئيس الأمريكي دونالد ترامب الأربعاء أنه حذر رئيس الوزراء الاسرائيلي بنيامين نتنياهو من ضرب إيران، معتبرا أن الأمر لن يكون "ملائما" في غمرة المباحثات مع طهران حول برنامجها النووي. وقال ترامب للصحافيين "أود أن أكون صادقا، نعم فعلت"، وذلك حين سئل عما إذا كان طلب من نتانياهو خلال مكالمة الأسبوع الفائت الإحجام عن القيام بعمل عسكري. وأضاف الرئيس الأمريكي: "قلت إنه لن يكون ملائما في الوقت الراهن" واصفا المحادثات الدقيقة الجارية بأنها "جيدة جدا". وتابع "أبلغته أن هذا لن يكون مناسبا الآن لأننا قريبون جدا من الحل. أعتقد أنهم يريدون إبرام صفقة، وإذا تمكنا من إبرام صفقة، فسننقذ أرواحا كثيرة". وأجرت إيران والولايات المتحدة جولة خامسة من المفاوضات في روما الجمعة، من دون الإعلان عن إحراز تقدم يُذكر، غير أنّهما أكدتا الاستعداد لإجراء محادثات جديدة، من دون أن يتم تحديد موعد لذلك. ويشكّل تخصيب اليورانيوم موضوع الخلاف الرئيسي. وكان ترامب قد سحب بلاده بشكل أحادي في عام 2018، خلال ولايته الأولى، من الاتفاق النووي المبرم مع إيران وأعاد فرض عقوبات على الجمهورية الإسلامية، بما في ذلك إجراءات ثانوية تستهدف الدول التي تشتري النفط الإيراني، ضمن سياسة "ضغوط قصوى" اتبعها في حق طهران. وأكد إسلامي أنه منذ ذلك الحين "رفضنا دائما المفتشين من الدول المعادية (لإيران) والذين تصرفوا بدون مبادئ"، معربا عن استعداده لمراجعة هذا الموقف. وتشتبه الدول الغربية، وفي مقدمها الولايات المتحدة وإسرائيل، العدو اللدود لإيران بنية طهران امتلاك سلاح نووي. لكن طهران تنفي أي طموحات نووية عسكرية. وتقول الوكالة الدولية للطاقة الذرية إن إيران تخصب اليورانيوم راهنا بنسبة 60 في المئة، متجاوزة الى حدّ بعيد سقف الـ3,67 في المئة الذي نص عليه الاتفاق النووي النووي مع القوى الغربية الكبرى. من جانبها، تؤكد طهران أنّها لم تعد ملزمة ببنود الاتفاق، بعد الانسحاب الأميركي منه. ويعتبر الخبراء أنه ابتداء من 20 في المئة، قد يكون لليورانيوم استخدامات عسكرية، علما أن التخصيب ينبغي ان يكون بنسبة 90 في المئة للتمكن من صنع قنبلة. وفي السياق، صرّح الموفد الأمريكي إلى الشرق الأوسط ستيف ويتكوف الذي يترأس وفد بلاده في المباحثات مع طهران، بأن الولايات المتحدة لا يمكنها أن تسمح لإيران بأن تملك ولو واحدا في المئة من القدرة على التخصيب. من جانبها، تؤكد طهران التي تدافع عن حقها في الحصول على الطاقة النووية المدنية، أنّ قضية التخصيب "خط أحمر" بالنسبة إليها، خلافا لبنود معاهدة منع انتشار الأسلحة النووية التي تعتبر إيران من الموقعين عليها. وفي موازاة دعوته القادة الإيرانيين بإلحاح إلى التوصل لاتفاق، يتوعّد ترامب بقصف إيران إذا فشل المسار الدبلوماسي. من جانبه، نفى مكتب نتنياهو الأربعاء ما أوردته صحيفة "نيويورك تايمز" الأمريكية، مؤكدة أنه يهدّد بإفشال المفاوضات بين طهران وواشنطن من خلال ضرب المنشآت النووية في إيران. وقال مكتب نتانياهو إنّها "أخبار كاذبة". وأشارت الصحيفة إلى مكالمة هاتفية واحدة على الأقل طغى عليها التوتر بين ترامب ونتانياهو على خلفية التهديدات الإسرائيلية، مضيفة أنّ المسؤولين الأمريكيين قلقون بشكل خاص من أن تقرّر إسرائيل ضرب إيران من دون إنذار سابق. تحرير: ع.غ


روسيا اليوم
منذ 20 دقائق
- روسيا اليوم
هل ينجح ترامب بوقف حربي غزة وأوكرانيا؟
وسط تصاعد الأزمات عالميا، يتبنى الرئيس الأمريكي مقاربة شعارها: أمريكا أولًا وعالم بلا حروب. في معالجة ملفات معقدة من أوكرانيا إلى غزة، ومن إيران إلى الصين، يطرح ترامب استراتيجية تقوم على وقف الحروب وتقليص التدخلات العسكرية، مع وعود بصناعة السلام بأسلوب خاص. في هذه الحلقة، نفتح ملف استراتيجية ترامب في التعامل مع الأزمات الدولية، وأدواته، وأهدافه، ونتائجها حتى الآن.. هذه المحاور وغيرها نناقشها مع ضيفنا من نيويورك /د. سمير التقي/ الباحث في معهد الشرق الأوسط.