
دروس من كربلاء
jaber.alomani14@gmail.com
تعد كربلاء من أهم المدن التي ذكرها التاريخ الإسلامي؛ إذ إنها ليست مجرد مدينة عادية رسمت على الخارطة العالمية؛ بل هي من أبرز المعالم الخالدة التي ارتبط اسمها بأعظم فاجعة في التاريخ، وذلك عندما قُتل على أرضها سبط رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وريحانته من الدنيا الإمام الحسين ومعه أهل بيته وأصحابه. واقعة تعد من أهم الوقائع التاريخية التي وقعت في التاريخ؛ يوم العاشر من شهر محرم الحرام سنة 61 للهجرة، والتي فيها تجسد الحق وزهق الباطل.
في واقعة الطف تمثل صوت الحق في شخص الإمام الحسين بن علي، بينما تمثل صوت الباطل في أعداء الله ورسوله، فأصبحت كربلاء رمزًا للحق والتضحية والعدل، والإلهام والإصلاح، بل واستطاعت عبر العصور المتعاقبة أن تقدم للأمة دروسًا عظيمة تستحق أن تدرس في مدارس وجامعات الأمة العربية والإسلامية.
فيا ترى ما أهم تلك الدروس المستفادة من واقعة كربلاء، والتي ينبغي الاستفادة منها وعدم تجاهلها؟
الدرس الأول: الانتصار ليس مرهونا بالكثرة العددية
وهو ما تجسد في ملحمة كربلاء الخالدة، ويتبين ذلك جليا للباحثين والمتأملين الذين يقرأون الحقائق بعين الإنصاف، فالحسين وقف في واقعة الطف مع قلة قليلة من المؤمنين الأشاوس من أنصاره الذين قدموا له من أجل الدفاع عن الإسلام كل ما يملكونه من مال وأولاد وعتاد، وهم يقفون أمام جيش ظالم جرار لا يعرف من الدنيا إلا الظلم والتكبر والغطرسة، ومع كل ذلك كانت الغلبة لصوت الحق رغم التضحيات التي قدمها الإمام الحسين مع أهل بيته وأصحابه، وانتصر الدم على السيف. قال الله تعالى: {
كَم مِّن فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ
}.
الدرس الثاني: مصير الظالمين الهلاك
اليوم عندما نتأمل الأسماء الظالمة التي شاركت في مقتل الإمام الحسين وأهل بيته، نجد أن الله تعالى عاقبهم في الدنيا قبل الآخرة، بما سفكوا من دماء زكية، وأما الحسين بن علي وأصحابه الكرام الأوفياء فقد بذلوا مهجهم لنصرة الإسلام؛ مما جعل من أسمائهم لامعة ومشرقة تتردد في الأسماع عبر التأريخ.
الدرس الثالث: التضحية من أجل القيم والمبادئ الإنسانية
وهي من أهم الدروس والعِبر التي قدمتها لنا كربلاء؛ فالقيم الإنسانية تستحق من الجميع أن يضحوا من أجلها بالغالي والنفيس، كما ضحى الإمام الحسين بنفسه وأولاده وأصحابه من أجل إعلاء كلمة الحق واحترام مكانة الأمانة والعدل والرحمة والصدق والمساواة وغيرها من الصفات النبيلة التي حث عليها الإسلام، والتي من خلالها يتم الحفاظ على الخير والرفاهية الإنسانية في المجتمع.
الدرس الرابع: الثبات على المبدأ
المتأمل في مواقف الإمام الحسين في واقعة كربلاء، يتضح له جليًا حجم العروض المادية والدنيوية التي قدمها له الأعداء في محاولة منهم لزعزعة مبادئه وقيمه ومواقفه البطولية والإنسانية، ومع كل تلك العروض المغرية والتهديدات المتكررة بإراقة دمه ودماء أهل بيته ومن معه، ولكنه كان ثابتاً ومتمسكاً بمبادئه وقيمه التي آمن بها وسار عليها.
الدرس الخامس: كرامة الإنسان أعز من الحياة وما فيها
تُعد الكرامة الإنسانية قيمة أساسية متأصلة في واقع كل فرد من أبناء المجتمع، فلا يجوز المساس بها أو الانتقاص منها، بل ولا يصح أن يتنازل عنها الإنسان مهما كانت الظروف، وهو ما أثبته ودافع عنه الإمام الحسين في واقعة كربلاء إلى آخر لحظة من حياته، حيث كان يقول: "إِنِّي لاَ أَرَى اَلْمَوْتَ إِلاَّ سَعَادَةً، وَاَلْحَيَاةَ مَعَ اَلظَّالِمِينَ اَلْبَاغِينَ إِلاَّ بَرَمًا"، فما أجمل الإنسان عندما يكون صاحب عزة وكرامة.
الدرس السادس: أن يكون الولاء لله فوق كل ولاء واعتبار
ويتجلى هذا المفهوم واضحا في شخصية الإمام الحسين، الذي جسَّد ولاءه لله الواحد الأحد أثناء صراعه مع الظلم والظالمين، وليس للسلطة أو لتحقيق مكاسب دنيوية، كما يتضح ذلك في قوله عند توجهه إلى كربلاء: "أَنِّي لَمْ أَخْرُجْ أَشِرًا وَلاَ بَطِرًا وَلاَ مُفْسِدًا وَلاَ ظَالِمًا وَإِنَّمَا خَرَجْتُ لِطَلَبِ اَلْإِصْلاَحِ فِي أُمَّةِ جَدِّي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ أُرِيدُ أَنْ آمُرَ بِالْمَعْرُوفِ وَأَنْهَى عَنِ اَلْمُنْكَرِ".
وأخيرًا.. علينا أن نفهم كربلاء جيدًا؛ فهي ليست مجرد معركة عادية؛ بل هي ملحمة عظيمة حملت معاني الفداء والصمود والوفاء والإخلاص؛ فأصبحت منهج حياة يدعو الناس للإصلاح ومحاربة الفساد والفاسدين، ومواجهة الظلم والظالمين، والاعتراف بالحق، وأن الحق لا يقاس بالعدد؛ بل بقيمته الحقيقية والمعنوية التي تأتي من خلال الإيمان بالله والتخلق بأخلاق أهل "لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله".
** عضو الجمعية العُمانية للكتاب والأدباء

جرب ميزات الذكاء الاصطناعي لدينا
اكتشف ما يمكن أن يفعله Daily8 AI من أجلك:
التعليقات
لا يوجد تعليقات بعد...
أخبار ذات صلة


جريدة الرؤية
منذ 8 ساعات
- جريدة الرؤية
وزراء الاجتماع
د. صالح بن ناصر القاسمي بعض اللقاءات التي تجمعك مع بعض القامات الفكرية، وما يدور في تلك اللقاءات من نقاشات، تجعلك تقف أمام مشاهد قلَّ أنْ تلاحظها بتلك الصورة، لولا احتكاكك بتلك العقول، التي حباها الله بميزة القراءة الناقدة المتفحصة والمتأنية قبل إطلاق تصوراتها المبنية على اقتناع بأفكارها تجاه القضايا المجتمعية. ولا شك أن تلك التصورات لم تكن ناتجة فقط عن عملية القراءة والمطالعة، بل هي نتيجة امتلاك عقلية نقية حباها الله بميزات استثنائية، تجعلها تفرز تصورات قابلة للفهم وهي أقرب للواقع، بحيث تمكن المتلقي من فهمها وتقبلها بصورة سهلة وبسيطة. نعم، كم هي ذات فائدة مثل تلك اللقاءات وما ينتج عنها من تنوير للعقول، واكتساب المعرفة التي ربما كانت أفضل من اكتسابها بطرق أخرى، وذلك لسهولة وبساطة التلقي، ولوجود تلك الكاريزما التي لديها القدرة على التأثير والإلهام. وفي أحد تلك اللقاءات دار النقاش حول ما الذي يجعل بعض الشخصيات تتمتع بمزايا وصفات إيجابية، وسمات أخلاقية، تميزهم عن الآخرين، بل تجعلهم محطة ومهوى لجذب قلوب واستحسان كل من يعرفهم ويخالطهم، ويحرص على اللقاء بهم، بل ويلجأ إليهم متى ما ضاقت بهم الأحوال. والسؤال المطروح: هل للبيئة تأثير في تكوين تلك الشخصيات؟ أم أن للجينات الوراثية تأثيرا في ذلك؟ وإذا كان للبيئة تأثير فلماذا لا تتشابه الشخصيات في المحيط الواحد؟ أسئلة جديرة بالتفكر -لا شك في ذلك- فمن المعلوم أن البيئة المحيطة ذات تأثير مباشر على تكوين شخصية الإنسان، ونعني هنا: البيئة بمعناها الطبيعي؛ أي الحياة على الشواطئ، والصحاري، والجبال، هذه البيئات التي تنعكس بشكل مباشر على شخصيات الناس التي تقطنها. ناهيك عن المؤثرات الأخرى مثل التعليم والثقافة العامة للمجتمعات في تلك البيئات. ما يعنينا هنا هو التأكيد على أن البيئة لها انعكاس مباشر على شخصية الإنسان، وذلك التأثير يظهر أثره على تصرفات وتعاملات الإنسان بحسب كل بيئة، مثل صفات الكرم، والأمانة، والتسامح، وتقبل الآخر، والصبر، وغيرها من الصفات، ولا شك أيضًا أن هناك صفات تُعد سلبية بحسب تقييم وتقدير المتعامل مع تلك الشخصيات. ومن خلال ذلك المعترك البيئي المادي، والموروث الثقافي والأخلاقي، تبرز على الساحات تلك النماذج من الشخصيات الإنسانية المميزة النادرة، وهو ما جعل أحد المحاورين يطلق عليها -وزراء الاجتماع- وهو مصطلح، وبحسب ما يتضح، أنه من إبداعات ذلك العقل الرائع، وهو في الحقيقة مصطلح استوقفني وشدني ووجدتني أخط هذه الأسطر لنتناوله ولو بشيء من التوضيح. ببساطة شديدة.. فإنَّ شخصيات وزراء الاجتماع هي تلك الشخصيات التي تتمتع بدماثة الأخلاق، وطيبة النفس، والكرم، والصبر، ونقاء الفطرة، وحسن العشرة، بالإضافة إلى امتلاك بشاشة الوجه، وطلاقة اللسان. مثل هذه الشخصيات، تجدها دائمًا حريصة كل الحرص على التواصل المجتمعي في المناسبات بشكل عام، مع حرصها على التواصل الفردي بشكل خاص، هذا التواصل الخالي من المصلحة الشخصية، والنفاق المجتمعي- كما يُطلق عليه- عند البعض. وغالبًا ما تكون هذه الشخصيات محورية في مجتمعها، وتمثل محل جذب إليها دون تكلف أو حتى تعمد الجذب، وإنما هي فطرة وسجية لديها. وغالبًا ما تكون مثل هذه الشخصيات تتمتع بصفة الكرم والبساطة. هناك جانب آخر مضيء لهذه الشخصية، إنه جانب التسامح غير المتكلف مع الآخر، فهو لا يتوقف كثيرًا عند الأخطاء والزلات، فتجده يعاشر من أخطأ في حقه وكأن شيئًا لم يحدث، فيلاقيه بوجه طلق ويبدأه بالسلام والتحية، بل أحيانًا يبالغ في إكرام من أخطأ في حقه. وقد روى لي صاحب مصطلح "وزراء الاجتماع" عن قصة حدثت عند أصحاب إحدى تلك الشخصيات؛ حيث تنامى إلى مسمعه أن أحد الأشخاص تكلم في شخصه كلامًا مسيئًا، وما هي إلا أيام معدودة حتى وجه له دعوة لزيارته في منزله وكأن شيئًا لم يحدث بينهما، إنها الشجاعة الأخلاقية في أبهى صورها، والنفس النقية التي لا تعرف الحقد والضغينة. إنهم حقًا وزراء اجتماعيون بطبيعتهم، بثقلهم الأخلاقي، ولكون هذه المناصب -وزراء الاجتماع- من يتولاها هم أناس قليلون؛ فإنهم حقًا يستحقون هذه المناصب عن جدارة واستحقاق، فليس من السهولة في هذا الوقت المتسارع الأحداث، المليء بالآفات النفسية والأخلاقية، أن نجد مثل هؤلاء بكل سهولة، ومع هذا لا يخلو منهم مجتمع، تجدهم مثل النور الذي يُستضاء به في العتمة. ولعل أجمل ما يميز هؤلاء، أن وجودهم في المجتمع يشبه وجود الجذور العميقة للشجرة، تلك الجذور التي قد لا نراها، ولكنها تحفظ الشجرة من السقوط في وجه الرياح، وتغذيها بالماء حين تجف الأرض. إنهم يربطون الماضي بالحاضر، ويحافظون على الخيط الرفيع الذي يمنع القلوب من التباعد، ويصونون حرارة العلاقات الإنسانية وسط برودة الحياة المادية المتسارعة. وحين يرحلون، نشعر وكأن جزءًا من ملامح المجتمع قد غاب، لا لكونهم أشخاصًا عاديين، بل لأنهم كانوا يمثلون صمامات الأمان التي تهدئ النفوس، وتعيد التوازن حين تميل الكفة إلى الصخب أو الخصام. ألا يخطر على بالنا ونحن نتحدث عن مثل تلك الشخصيات آباؤنا وأجدادنا الذين كانوا على قدرٍ عالٍ من التسامح، وعلى مرتبةٍ رفيعة من الحكمة، ومكانةٍ مرموقة لم يكونوا يبحثون عنها؛ وإنما فرضت حضورها في المجتمع، وحظيت بما حظيت من احترامٍ وتقديرٍ في أوساط فئات المجتمع. والسؤال هنا: هل سيأتي زمن تختفي فيه مثل هذه الشخصيات من مجتمعاتنا؟ أم أن بيت الطين لا يخلو من الطحين؟ بحسب المثل السائر. إنَّ الخطوة الأولى التي ينبغي علينا الاهتمام بها، لكي نحافظ على وجود مثل هذه الشخصيات في مجتمعنا، بل وزيادة عددها، لإيماننا بأن هذه الشخصيات هي ميزان التوازن لمجتمعنا، أن نكرس اهتمامنا بغرس مبادئنا وقيمنا الأخلاقية في الناشئة، سواء في مدارسنا، وجامعاتنا، ومجالسنا العامة والخاصة، فمجتمعنا له تلك النكهة الخاصة به، والسمت الذي يشعرك بالاطمئنان والأمان. ونأمل أن يُصبح جميع أفراد مجتمعنا وزراء اجتماعيون؛ فليس ذلك على الله بعزيز. فبقدر ما تشرق الشمس فتمنح الأرض دفئها، يشرق هؤلاء في قلوبنا فيمنحونها سكينة وسلامًا، وبقدر ما يروي الغيم الحقول بالماء، يروون الأرواح بحسن الخلق وجميل العشرة، فإذا غابوا، بقي عبيرهم في الأفق شاهدًا أن النبل لا يزول، وأن الخير مهما تراجع، لا ينطفئ نوره أبدًا.


جريدة الرؤية
منذ 8 ساعات
- جريدة الرؤية
الوسطية.. ميزان الحياة ومفتاح السعادة
د. ناصر بن علي الجهوري في عالم يتأرجح بين الإفراط والتفريط، تبرز الوسطية كنمط راقٍ للعيش المتوازن، لا هو انحياز للمبالغة، ولا هو انجراف نحو الإهمال، بل هو طريق مستقيم منير يحقق للإنسان راحته النفسية، ويمنحه القدرة على التفاعل الإيجابي مع واقعه ومع تفاصيل الحياة. قبل الخوض في تفاصيل الوسطية، من المهم التفريق بينها وبين مفاهيم قريبة مثل التوازن والاعتدال والاعتراف بالاختلاف؛ فالتوازن يشير إلى حالة من التساوي بين عناصر معينة، بينما الاعتدال هو مظهر من مظاهر الوسطية يتمثل في الاعتراف بالمقاييس الصحيحة للأمور دون مبالغة أو تفريط. أما الاعتراف بالاختلاف فهو احترام وتقدير التنوع في الآراء والسلوكيات، وهو أحد أبعاد الوسطية التي تسمح بالتعايش السلمي بين الأفراد والمجتمعات. إذن، الوسطية ليست مجرد حالة توازن جامدة، بل هي فلسفة شاملة تجمع بين الحكمة والمرونة والاعتدال، وتُفضي إلى حياة متكاملة متزنة. وفي السياق ذاته، فإن الوسطية ليست حكرًا على جانب بعينه، بل هي قيمة إنسانية راقية تعززها الحضارات الإنسانية عبر العصور، وليست فقط مبدأً دينيًا؛ إذ نجدها متجذرة في مختلف الثقافات التي سعت إلى بناء مجتمعات متماسكة ومتعايشة، حيث الكفة التي توازن الميزان، لا تميل إلى جانب على حساب آخر، بل تحفظ استقرار النظام العام في الحياة. في تعاليم الدين الإسلامي الحنيف، الوسطية قيمة جوهرية؛ فهي ترفض الغلو والتسيب، وتدعو إلى التوازن بين متطلبات الروح والجسد، وبين الحقوق والواجبات. قال الله تعالى: " وَكَذَٰلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا " (البقرة: 143)؛ أي أمة عادلة معتدلة. وعلاوة على ذلك، فإن هذا المنهج يُشجع على التسامح والتفاهم في الحياة الاجتماعية، مما يسهم في بناء جسور المحبة والتعاون بين الناس. ومن الأمثلة التي تُعزِّز هذا المفهوم، أن الفكر المتزن والمعتدل لا يحصر نفسه في رأي واحد ولا يرفض كل ما سواه؛ بل ينفتح على التنوع والتعددية ويختار ما هو أصلح وأقرب للحقيقة. وهو يمنح الإنسان القدرة على الحوار البنّاء، وتقبل الرأي الآخر، وعدم مصادرة الفكر، ويجنبه التطرف والتشدق في تبني الأفكار أو رفضها. كما إن السلوك المعتدل يظهر في التعامل مع الآخرين بإنصاف واحترام، دون إفراط في الثقة يعرّض صاحبه للاستغلال، ولا تفريط يولّد الجفاء والانعزال. والوسطية تتطلب وزن الأمور بعدالة، فنحسن لمن يستحق الإحسان، ونحذر ممن يُخشى شره، دون أن نفقد إنسانيتنا. وفي الجانب العملي من الحياة، يحتاج الجسد كما يحتاج الروح، إلى توازن دقيق بين العمل والراحة. الإفراط في العمل قد يؤدي إلى الإنهاك والتعب المزمن، بينما الإفراط في الراحة يولد الكسل وفقدان الإنتاجية. الوسطية هنا تشبه الكفة التي توازن الميزان، بحيث نحقق الإنجازات والنجاحات دون أن نفقد صحتنا أو حياتنا الاجتماعية. وفي السياق ذاته، فإن التوازن البيئي جزءٌ لا يتجزأ من فلسفة الوسطية؛ فكما إن الإنسان يحتاج إلى موارد الطبيعة للعيش، فإن عليه مسؤولية الحفاظ عليها لاستدامة الحياة وللأجيال القادمة. ولا شك أن الإفراط في استنزاف الموارد أو الإهمال في حمايتها يخلّ بالنظام البيئي، ويهدد التنوع الحيوي الذي هو أساس الحياة على الأرض. الوسطية البيئية تعني أن نستفيد من خيرات الأرض دون إسراف، ونستخدم التقنيات والموارد بوعي، ونسهم في إعادة التدوير والحفاظ على نظافة البيئة، حتى نحافظ على هذا الكوكب كبيت مشترك لكل الكائنات الحية. مما سبق.. يتضح لنا أن الوسطية ليست ضعفًا ولا حيادًا سلبيًا؛ بل هي قوة الحكمة التي تُمكِّن الإنسان من أن يعيش حياة مستقرة، متصالحة مع ذاته ومع الآخرين. إنها الكفة التي توازن ميزان الحياة، وتمكننا من الصمود في وجه تحديات العصر. والتوازن في مختلف مناحي الحياة هو الضمان الحقيقي للنجاح والسعادة، وهو ما يجعل الوسطية منهجًا صالحًا لكل زمان ومكان، ومنهجًا تُحتذى به عبر حضارات البشر وتقاليدهم في كل بقاع الأرض.


جريدة الرؤية
منذ يوم واحد
- جريدة الرؤية
"البيت العود" في مطرح
أنور الخنجري alkhanjarianwar@ كان صباحًا من تلك الصباحات التي تنبض بالحياة في المناطق الساحلية، حيث تعانق أشعة الشمس صفحة الماء الصافية، فتبدو كمرآة شفافة تمتد في الأفق، متجاوزة اليخوت السلطانية والسفن السياحية الفاخرة وقوارب الصيادين التي تتناثر على ساحل سوق الأسماك في مطرح. هناك، في تلك البقعة المعروفة بـ"الشارع البحري" أو "الكورنيش"، وفي هذه المدينة العريقة التي كانت في زمن ما مرسى لأساطيل البرتغاليين، والإسبان، والعثمانيين، والفرنسيين، والهولنديين، والبريطانيين، تستعرض قواها أمام صمود الأسطول العُماني الفذ، إلى جانب تلك السفن التجارية القادمة من شرق المعمورة وغربها، وما تحمله في خاناتها من سلع وبضائع خاصة بالتجار العمانيين، وجلها كانت ترد عن طريق وكلاء الشحن المحليين ومنهم الحاج علي بن عبداللطيف فاضل، التاجر والوجيه المطرحي البارز، الذي يعود إليه الفضل -بعد الله سبحانه وتعالى- في بناء هذا الصرح المعروف بـ"البيت العود" أو "بيت الحاج علي" كما يسميه عامة الناس، و"البيت العود" بالمصطلح العماني هو البيت الكبير أو بيت كبير العائلة، ويعود تاريخ تشييده لأكثر من 100 عام. يصعب على الزائر أن يخطئ رؤية هذه الأيقونة المعمارية المطلة على شاطئ مطرح، بواجهتها البحرية الخلابة، وشرفاتها الواسعة، وأقواسها الضخمة، ونوافذها الخشبية المطلية باللون الأزرق، ومشربياتها المتقنة، التي تثير الحيرة والتأمل؛ حيث يقف الزائر أمامها متأملًا حائرًا بين ماضٍ يبدو كأنه خرج من صفحات التاريخ، وحاضر لا يخلو من ملامح تجربة فريدة في هندسة البناء، مما يثير تساؤلات عدة؛ هل هي عمارة عُمانية؟ أم هندو - أوروبية؟ أم مستلهمة من طراز البيوت الشاطئية الانجلو - فرنسية، أو تلك المطلة على مضيق البوسفور؟ كثيرة هي التساؤلات، لكن هذه التفاصيل الدقيقة هي التي تمنح مطرح نكهتها الخاصة، ولولاها لكان الشاطئ كبقية الشواطئ، بمياهه الفيروزية ورماله الناعمة. لكنه لم يكن كذلك؛ لقد كان مسرحًا لتجربة حضارية فريدة، انصهرت فيه ثقافات وخلفيات وأعراق متعددة، لتشكل أول مدينة اقتصادية في البلاد، لها قوانينها وتعاملاتها التجارية الخاصة. وفي هذا السياق، مارسَ الحاج علي بن عبداللطيف فاضل وذريته دورًا محوريًا في تاريخ المدينة، إذ كانت لهم وكالات تجارية واسعة مع تجار الأسواق المحلية والعالمية، ومع شركات ما وراء البحار في آسيا وإفريقيا وحتى أوروبا وأمريكا. فقد شملت وارداته وصادراته سلعا مختلفة من كل تلك المناطق، وكان شهبندر التجار هذا محل تقدير ومكانة من الحكام والأعيان، ومنهم السلطان سعيد بن تيمور، الذي حل ضيفًا مرحبًا به في "البيت العود" في أواخر أربعينيات القرن الماضي وبصحبته عدد من أصحاب السمو والأعيان والتجار، في مناسبة لا تزال حاضرة في ذاكرة بعض أبناء مطرح الذين غمرهم الفخر والغبطة بمقدم السلطان. كما استقبل "البيت العود" في العهود السابقة شخصيات ورموزا سياسية واقتصادية وتجارية في المجتمع المحلي والخليجي، منهم على سبيل المثال الشيخ عبدالله السالم الصباح الذي حل ضيفًا على وليمة أقامها على شرفة الحاج علي في عام 1950؛ أي قبل أن يصبح الشيخ أميرًا على دولة الكويت، إضافة إلى خطّار آخرين من مختلف الأجناس والجنسيات. كما شهدت جدران البيت العديد من اجتماعات أهل الحل والعقد في مطرح، وجرت في قاعاته الواسعة العديد من الصفقات والعقود التجارية والعائلية. لكن الزمن لم يعد هو الزمن؛ فالمدن قد تبدلت، والوجوه تغيّرت، وبقي الحنين إلى الماضي حلمًا طويلًا، إلى أن بدأ يتجلى واقعًا ملموسًا. ففي قلب مدينة مطرح؛ حيث تتعانق طموحات المال والأعمال مع تحديات الواقع، بزغ اسم "البيت العود" من جديد، برؤية لا تنتمي إلى الماضي ولا تحاكي الحاضر، بل ترسم ملامح مستقبل ما يزال يتشكل. ويقف "البيت العود" اليوم على ذلك الشريط الساحلي الممتد بين مسقط ومطرح، مبنى من طابقين، بمدخل جانبي يعلوه باب خشبي أنيق بنقوش إسلامية جميلة، وجدران بيضاء تتخللها نوافذ زرقاء، كأنها تعلن عن لونٍ في لوحةٍ قديمة. أما في الداخل، فثَمّ مساحات رحبة، مؤثثة بذوق رفيع، تتوسطها صالات فاخرة بأبواب طويلة يكسوها الزجاج الملون. فإذا خرجت إلى الخارج، ألفيتَ شُرفات ظليلة لا متناهية، يُخيّل للناظر أنها تندمج مع الأفق وكأنها رأس بر ممتد داخل البحر الفسيح. يتكوّن البيت في الأصل من بيتين متراصين، تغطي مساحة بنيانه حوالي 1100 متر مربع، قام ورثة الحاج علي بترميمها وتجديدها بما يتلاءم مع متطلبات العصر، ليصبح "البيت العود" وجهة نادرة، تحاكي المتاحف الخاصة في كبرى مدن العالم. وهناك، تحت سقف ذلك البيت الكبير، التقيت بالرجل الذي يقف خلف هذا المشروع الطموح رضا ابن الحاج علي العبد اللطيف، رجل تجاوز منتصف العمر، يحمل في ملامحه صلابة واضحة، وقد خاض تجارب عديدة في الحياة والأسفار. بدا هادئًا، واقعيًا، يتحدث بلغة بسيطة واضحة، بعيدة عن الزخرف والتكلف. شرح لنا، نحن الضيوف، عن تاريخ البيت وتفاصيل إحيائه، بلغة يميزها الاتزان والدقة، في تعبير صادق عن رؤية حقيقية لإحياء "البيت العود" مع فريق عمل آمن بفكرته حتى تحققت. وهكذا، بعد مرور حوالي مائة عام على تشييده، يعود "البيت العود" إلى الحياة من جديد، تحفة معمارية تستعيد أمجادها بهدوء وأناقة، شاهدة على عراقة مطرح وعبقرية الإنسان العُماني حين يتلاقى الوفاء بالتاريخ مع طموح المستقبل. وفي هذا المقام لا يسعني إلا الاستشهاد بالأبيات الشعرية المحفورة على باب المدخل الرئيسي للبيت والتي تقول: هذه الدار ما تزال سعيدة لا تراها العيون إلا مشيدة كلما رمّها العدو بليلٍ ردّها الله فاستقامت جديدة