
أزمتي مع كليوبترا
بُعيد وصول عائلة والدي من فلسطين إثر النكبة عام 1948، إلى بيروت، اضطرت العائلة أن يعمل أبناؤها، الفتيات والفتيان. وكان من نصيب والدي أن يمتهن النجارة، ويبدو أنّها توجيهات جدي، الذي كان وأشقاؤه من أشهر النجارين في عكا، ولاحقاً حيفا.
التحق والدي بالمدرسة في بيروت، لكنّه ترك الدراسة في وقت مبكِّر، وعمل فتى في ورش النجارة، ليُعيل العائلة. حلَّ العيد ولم يكن في جيب والدي المال الكافي ليخرج مع أصدقائه، وهذا طبيعي لأنه يعيل العائلة، فاقتنى بما يملك من مال قليل، كتاباً ضخماً يحكي قصّة "كليوبترا". فهل اشترى والدي الكتاب لأنه رخيصٌ فحسب، أم ليستوعب الأيّام الثلاثة من العيد، أم أغرته كليوبترا الجميلة؟ وهل كانت صورتها على غلاف الكتاب؟ ربما أحجم والدي عن ذكر هذا السبب، لأنني سأخبر والدتي؟ سيبقى السبب لغزاً، ويا ليتني سألت.
حبس والدي نفسه ثلاثة أيّام متواصلة، مع "كليوباترا"، يقرأ الكتاب ليل نهار، حتى انتهت أيّام العيد الثلاثة. أما عن الحجّة التي أخبرها لأصدقائه عن سبب غيابه في العيد، فستبقى سرّاً مخبوءاً لأنني لم أسأل أيضاً.
أخبرني والدي هذه القصّة، وكنت فتى في ذلك الوقت. تساءلت في نفسي: ما هو المحفّز في هذه القصّة؛ أن يحبس فتى نفسه في أيام العيد في المنزل مع كتاب، فيما أصدقاؤه، يمرحون ويسرحون! كيف استطاع أن يجد في الكتاب السلوى، بعيداً عن أصدقائه؟ لماذا لم يحزن وتُصبْهُ كآبة ما؟
كان والدي عاملاً في النهار، ومثقّفاً في الليل
ربما حزنوا (والدي وأقاربه) بما فيه الكفاية بعد ضياع عكا، والمنزل، وورشة جدي للنجارة، فما عاد للأحزان الأخرى مكان. بل هي أيضاً الظروف القاهرة التي تفرض نفسها على كلّ البشر، لكنني عرفت ما يقصد والدي بعد سنوات طويلة، عن قيمة الكتب.
استمر والدي باقتناء الكتب، وهو يمتهن النجارة، وطرق أبواباً كثيرة من أبواب الثقافة، من الأدب النثري، إلى الشعر، وقرأ كتب التاريخ، والسياسة. وكانت مجالسه مزيجاً من هؤلاء جميعاً، فهو عامل في النهار، ومثقّف في الليل. وأذكر في إحدى المرّات أنّ طالبة جامعية في القرية التي كنّا نسكن فيها، استعارت من مكتبة والدي كتاب "الأجنحة المتكسرة" لجبران خليل جبران.
تعلَّق بمجلة "المختار"، صغيرة الحجم، ومجلة "العربي" الكويتية، التي لم يخلُ منزلنا من أعدادها الكثيرة، وكان يقرأ في الليل، على ضوء المصباح الغازي، عندما كنا نسكن في مدينة بعلبك، في ثمانينيات القرن الماضي، بسبب الانقطاع شبه الدائم للكهرباء، وكما كان يقتني الكتب، كانت الكتب تجده في الطرقات، وهي متناثرة بعد أن رماها أصحابها، فيعود بتلك الكنوز إلى البيت.
تنقلنا بين منازل عدّة، ودائماً كانت مكتبة والدي تُرافقنا أينما حللنا. وانتقلت تلك العادة إلى مكتبتي الصغيرة، التي كوَّنها والدي لي عبر شرائه الكتب، باللغة العربية والإنكليزية. وبعد مرور سنوات طويلة من القراءة، غادرها، لكنه كان يكتب أبياتاً من الشعر بين الفينة والأخرى.
لكن يبدو أنّ كليوبترا، لم تكتف من والدي، بل انتقلت عدوى القراءة إليّ بالوراثة، وتحولت لاحقاً إلى شغف وسلوى، خصوصاً بعد أن هاجر الكثير من أصدقائي اللاجئين الفلسطينيين إلى خارج لبنان، وتعزّزت أكثر بعد عملي في الإعلام والصحافة.
أين تكمن أزمتي مع كليوبترا؟
أورثني والدي حبّ القراءة، لكنه لم يورثني منزلاً، وأصبح تنقلي بين بيوت الإيجار كلّ سنوات عدّة، هماً مؤرِّقاً لنقل مكتبتي، فما عدت أهتم لنقل الأثاث كما أهتم بنقل المكتبة. وكان من المفترض، بي وبأمثالي، أن نلجأ إلى القراءة عبر الألواح الإلكترونية، أو عبر تطبيقات القراءة، إلّا أنّ هذا لم يحصل، فما زلت كعهد والدي مع الكتاب الورقي، ويبدو أنّ كليوبترا تأبى ذلك.
لو قرّر والدي أن يفعل شيئاً غير الانفراد بكليوبترا، ألم أكن مرتاحاً الآن من الكتب وهموم نقلها؟
تنقلت في منازل عدّة، وكانت المكتبة رفيقة الدرب. وعندما تزوجت وانتقلت إلى مخيّم برج البراجنة للاجئين الفلسطينيين، كان لديّ هم كبير، يتمثّل بكيفيّة نقل مكتبتي من منزل أهلي إلى المخيّم، حيث لا يمكن لشاحنة أن تدخل أزقته. وما زاد الطين بلّة، أنّ أونروا كانت تحفر الطرق بجانب المنزل، لتغيير البنية التحتية. وبالتالي، كان مرور شخص على رجليه فيه صعوبة، فكيف بنقل مكتبة؟ لكن ما باليد حيلة، اضطررت للتخلّص من بعض الكتب الموسوعية التي يمكن الاستعاضة عنها بالمواقع الإلكترونية، ونقلنا المكتبة بأعجوبة.
بعد سنوات لاحقة، ازداد حجم المكتبة، وما زالت المشكلة كما هي؛ كلّ سنوات عدّة أغادر منزلاً إلى آخر، وتلحقني مكتبتي. وحتى عندما غادرت منزلي مؤقّتاً في الضاحية الجنوبية لبيروت بعد العدوان على لبنان، إلى منطقة أخرى، كنا نجهّز أمتعتنا للمغادرة، رافقتني مجموعة لا بأس بها من الكتب، لكن المكتبة الأساسية بقيت في المنزل، ولم أعد أفكر طوال الحرب إلّا بها، واضطررت للنزول إلى الضاحية من جديد أثناء الحرب للحصول على المزيد من الكتب.
أستعدّ هذه الأيام لمغادرة المنزل، فما عادت الإيجارات في بيروت تتناسب ودخلي المالي، بسبب ارتفاعها بعد الحرب، وعاد الهمُّ من جديد لتوضيب الكتب، فضلاً عن تذمّر عائلتي وشكواهم من تلك "البلية". عندما سُئل الكاتب الكبير عباس محمود العقّاد، لماذا لم تغادر منزلك، كان يقول: كيف سأنقل المكتبة، الآن أستطيع أن أصل إلى أي كتاب أقرؤه، وكيف سأنقل منزلي؟ من سيرتب المكتبة غيري؟
يا ترى، لو قرّر والدي أن يفعل شيئاً غير الانفراد بكليوبترا، ألم أكن مرتاحاً الآن؟

جرب ميزات الذكاء الاصطناعي لدينا
اكتشف ما يمكن أن يفعله Daily8 AI من أجلك:
التعليقات
لا يوجد تعليقات بعد...
أخبار ذات صلة


BBC عربية
منذ 12 ساعات
- BBC عربية
جدل حفل "دي جي سنيك" في الجزائر
تشهد منصات التواصل الاجتماعي الجزائرية جدلا واسعا بسبب حفل لـ"دي جي سنيك" المشهور في مجال الموسيقى الإلكترونية. من جهة، هناك مطالبات بإلغاء الحفل، خاصة من برلمانيي "حركة السلم" الإسلامية بسبب الأوضاع في قطاع غزة. ومن جهة أخرى، فرح جزائريون بخبر الحفل ودافعوا عن إقامته كون "سنيك" معروف بوقوفه إلى جانب الفلسطينيين. ويأتي هذا الجدل وسط شائعات عن إلغاء الحفل ولم يؤكد حتى الآن موعد إقامته. يمكنكم مشاهدة الحلقات اليومية من البرنامج الساعة الثالثة بتوقيت غرينيتش، من الإثنين إلى الجمعة، وبإمكانكم أيضا الاطلاع على قصص ترندينغ بالضغط هنا.


العربي الجديد
منذ يوم واحد
- العربي الجديد
الموسيقار السوفييتي آرام خاتشادوريان في دمشق
في الأول من مايو/أيار عام 1978، رحل الموسيقار الأرميني السوفييتي آرام خاتشادوريان، وفي ذلك الصيف كنتُ مصادفةً في مدينة دمشق ، قادماً من إدلب لحضور معرض دمشق الدولي، وقد حللتُ ضيفاً عند أخي الكبير الذي كان يدرس الصيدلة في جامعة دمشق. كانت دمشق آنذاك شامة على خد الزمان. سبحان الله الذي جعل فيها زرعاً أجناساً يُسقى بماء واحد، فجعل قطوف عنبها دانيةً لأحبّائه، والعنب في غوطة دمشق صنوف كثيرة. وذكر المصري الدمشقي من علماء القرن التاسع محمد البدري في كتابه المؤلَّف قبل خمسة قرون نزهة الأنام في محاسن الشام، أن في غوطة دمشق أكثر من خمسين صنفاً من العنب. رحم الله جدّي عثمان بن محمد دحنون، حين زار الشام في منتصف سبعينيات القرن العشرين، وكنتُ معه. لا يزال صدى "سلامٌ من صَبا بردى أرقُّ/ ودمعٌ لا يكفكفُ يا دمشقُ"، ونسمات الغوطة، وخيراتها تعبق في الذاكرة. في تلك الزيارة القصيرة، أصرّ جدي أن نشتري له يومياً صنفاً من عنب الشام، وكان أوان العنب يومها. كم أسعده عنب الشام! فأثنى عليه، وهو الفلاح المجتهد الذي ظل مرابعاً بلا أرض، لأنه رفض أخذ حصته أيام التأميم والإصلاح الزراعي في ستينيات القرن العشرين، مدّعياً أن الأرض مَكْس (أي مغتصبة)، وقال: في الحديث "لا يدخل صاحب مَكْسٍ الجنة". أعجبه عنب الشام إعجاباً كبيراً، رغم أن براري إدلب أيضاً غنية بأصناف الأعناب. كانت الشام، ولا تزال، شاماً لكل زمان. وقد حباها الله بمحاسن كثيرة لا تُعدّ. نهر بردى ينساب متدفّقاً، والماء يرقص مع الضوء في نوافير بديعة عند مدخل معرض دمشق الدولي. وفيروز تصدح بصوتها الملائكي: "يا شام عاد الصيف متّئداً وعاد بيَ الجناحُ صرخ الحنين إليك بيْ أقلعْ ونادتني الرياحُ فأنا هنا جُرح الهوى وهناك في وطني جراح وعليك عيني يا دمشق، فمنك ينهمر الصباح أهلي وأهلك والحضارة وحّدتنا والسماح يا شام يا بوابة التاريخ تحرسكِ الرماحُ". في ذلك المساء، والنسيم العليل يعبق برائحة الياسمين الدمشقي، رافقتُ أخي الصيدلاني إلى صالة المسرح في المركز الثقافي السوفييتي، حيث كانت تُقام محاضرة عن الموسيقي الأرميني السوفييتي آرام خاتشادوريان، تليها مقاطع حيّة على البيانو لعازف سوفييتي من باليه " سبارتاكوس "، التي ألّف موسيقاها عام 1954. دخل المحاضر إلى الصالة، فصفّق له الحضور بحرارة. جلس على كرسي من الخيزران في وسط خشبة المسرح، ثم راح يتأمل هذا الجمع الغفير، فيهم الكبير والصغير، بل وحتى المقمّط في السرير. لاقط الصوت أمامه، لكن لا صوت. تنحنح، فسمعنا نحنحته. مدّ يده اليمنى إلى جيب سترته ناحية القلب، أخرجها على مهل، لكنها كانت فارغة. تنحنح مرة أخرى، ثم اقترب من لاقط الصوت وقال: "الظاهر من عجقتي نسيت أوراق المحاضرة في حمص" – طلع الأخ "حمصي"! – ثم استدرك مبتسماً: "ماذا نفعل الآن؟ على كل حال، سأحكي لكم ما تجود به القريحة. مساء الخير أولاً". كان آرام خاتشادوريان في الرابعة عشرة من عمره عند قيام العهد السوفييتي. درس الموسيقى في روسيا السوفييتية، وكان مُخلصاً للثورة البلشفية، يُنتج موسيقى تشرف على صياغتها المؤسسة الحزبية الرسمية. وبالنسبة لكثير من هواة الموسيقى غير المتعمقين، لم يكن خاتشادوريان سوى مؤلف لقطعة واحدة شهيرة هي "رقصة السيف"، لكن الحقيقة أوسع من ذلك بكثير. فقد ألّف طيلة حياته عدداً كبيراً من الأعمال الموسيقية المتنوعة، من سيمفونيات، وكونشرتوهات، وأعمال للباليه. "رقصة السيف" لا تنتمي لباليه "سبارتاكوس"، كما يظن البعض، بل هي جزء من باليه آخر شهير له بعنوان "غايانه" واللافت أن "رقصة السيف" لا تنتمي لباليه "سبارتاكوس"، كما يظن البعض، بل هي جزء من باليه آخر شهير له بعنوان "غايانه"، وتروي قصة فلاحة تعمل في تعاونية زراعية (كولخوز)، تعاني مأساة خيانة زوجها للوطن السوفييتي أثناء الحرب العالمية الثانية بتعاونه مع المحتل النازي. درس خاتشادوريان في البداية البيولوجيا في جامعة موسكو، قبل أن ينتقل إلى المعهد التربوي، وهناك سطع نجم شغفه الحقيقي بالموسيقى. وكان اللقاء المفصلي في حياته عندما التقى نيكولاي مياسكوفسكي في كونسرفاتوار موسكو، الذي اكتشف موهبته ودفعه نحو التخصص الجدي. من مجرد عازف على آلة التشيلو، أصبح خاتشادوريان لاحقاً مؤلف كونشرتو للتشيلو يُعد من أروع إنتاجاته، وتحوّل تدريجياً إلى واحد من أكثر المواهب الموسيقية وعداً في الاتحاد السوفييتي. ولعلّ النجاح الهائل الذي حققته باليه "سبارتاكوس" يعود في جوهره إلى تميّزها الفني، وقوة تعبيرها الموسيقي، حيث استطاع خاتشادوريان أن يدمج في هذا العمل كل ما اختزنته ذاكرته من موسيقى شعبية، وخصوصاً من الفولكلور الأرميني الثري والملون. لكن لا يمكن إنكار أن البُعد الأيديولوجي والبطولي للعمل، وهو تمرد العبيد بقيادة سبارتاكوس ضد الاستعباد والطغيان، شكّل عنصر جذب إضافي للجمهور، وأضفى على العمل مسحة ثورية تتماشى مع روح العصر السوفييتي. آرام خاتشادوريان لم يكن مجرد مؤلف "رقصة السيف"، بل موسيقياً شاملاً، ابن مرحلة، عايش تحولات القرن العشرين، وعبّر عنها بأدوات الفن. ومساء دمشق ذاك، تحت ياسمينها، كان تحية صادقة لهذا الفنان، وتذكيراً بأن الموسيقى، مثل دمشق، لا تنسى من مرّ بها وأحبها.


العربي الجديد
منذ يوم واحد
- العربي الجديد
سورية الصغرى في نيويورك.. جبران داخل متاهة بول أوستر
نيويورك مزيجٌ متناقضٌ من الجاذبية والسّأم، من النّشوة والخوف، مدينةٌ يحلم العالم كلّه بالوصول إليها ويتخيلها مدينة الفرص والتّطلعات الكبرى. هناك شيءٌ لا يقاوم في هذا المكان، شيءٌ يجذب الغرباء من كلّ ركن من أركان الكوكب بحثًا عن تحقيق الذات أو حتى مجرد أن يكونوا جزءًا من الحدث فيها. شبّهها الروائي الأميركي بول أوستر في روايته "ثلاثية نيويورك" بالمتاهة الوجودية والمشي في شوارعها يشبه سردًا غامضًا لا ينتهي، نصًا مفتوحًا مليء بالأسئلة حيث تختفي الهوية وسط زجاج المباني العاكسة والأبواب المغلقة فيقول واصفًا إياها بعيني دانيال كوين بطل الجزء الأول منها: "كانت نيويورك فضاءً لا ينضب، متاهة من خطوات لا نهاية لها، ومهما مشى، ومهما تعمق في معرفة أحيائها وشوارعها، كان دائمًا ما يتركه يشعر بالضياع"، أي أن نيويورك تعمل كمشهد نفسي رمزي تؤثّر على الشخصيات وتروّج لعزلة داخلية واغتراب هويّة والشخصية كانت تستخدم المشي وسيلة تهدئة ذاتية عبر امتلائها بالخارجيّات. ولعل من مشى في شوارع نيويورك يعلم مدى دقة هذا الوصف. لكنه أيضًا، احتفى في إحدى مقابلاته بفرادة نيويورك بوصفها مدينة تتجاوز حدود الانتماء الجغرافي، وذهب إلى حدّ التمني أن تنفصل عن الولايات المتحدة لأنه يراها "صورة مصغّرة للعالم كلّه" لا لأميركا فقط، ورغم أنها ظلت دومًا معلّقة بين قطبي الإعجاب والنفور في نظر أهل أمريكا أنفسهم، إلا أن حشودًا من الشباب في سائر الولايات يحلمون بفرصة للقدوم إليها. تؤثّر نيويورك على شخصياتها وتروّج لعزلة داخلية واغتراب هويّة نلحظ هذا الاغتراب الوجودي الذي ذكره أوستر عند الجيل الأول من أدباء المهجر العربي، الذين سكنوا نيويورك أواخر القرن التاسع عشر، في الحي السوري أو "سوريا الصغرى"، كتبوا فيها عن الوطن المفقود وعن الروح القلقة وعن الله والطبيعة والانبعاث الداخلي، ورغم سطوتها البصرية وانفتاحها الحداثي لم تكن ملهمة لهم، بل كانت مثقلة بهموم الغربة والانفصال، لم تكن موضوعًا يُفتَنون به أو يرمزون له، بل كانت كأنها مشهد جانبي في حكاية أعمق تُروى من الداخل. فجبران خليل جبران مثلاً، لم يذكر نيويورك مباشرة في مؤلفاته الأدبية، بل تسرّبت المدينة فقط في رسائله الخاصة إلى ماري هاسكل إذ وصفها بـ"المكان الغريب" الذي يفرض على المرء أن "يبدأ بالاجتماعي وينتهي بالمهني" من بين تفاصيل يومية أخرى تتعلق ببحثه عن شقة يسكنها. كذلك بقية أعضاء الرابطة القلمية مثل ميخائيل نعيمة وإيليا أبو ماضي، ظلّت المدينة غائبة عن نثرهم وشعرهم وكأن نيويورك لم تكن قادرة بعد على اختراق ذاكرتهم الأدبية المعلّقة بين الجبل والضيعة بين بيروت والشام لا بين برودواي ومانهاتن. كانوا هاربين من نوع آخر من المتاهات، متاهة القمع وتكميم الحريات، في ظل الحكم العثماني التي طاولت أجيالاً كثيرة، ومنظمة الرقابة والتجسس التي كانت تلاحق المفكرين والسياسيين، وزعماء الإصلاح والصحافيين، وتراقب الجرائد، ومع بدء الاحتلال الفرنسي كان طريق الخلاص أمام الناس عموماً آنذاك إما الثورة أو الهجرة التي لم تكن حقيقة هجرة بالمعنى المتعارف عليه، بل كانت فرارًا جماعيًا لمن استطاع سبيلاً. أما أعداد مجلة "كوكب أمريكا"، أول مجلة عربية في المهجر الأميركي التي أسسها نجيب عربيلي من عام 1892، فهي غنية بالقدر الذي يعطينا فكرة وافية عن تلك الحقبة، وقد تناولت شؤون المهاجرين العرب في الولايات المتحدة، وقضايا الدولة العثمانية، كما ناقشت موضوعات الهوية والدين والإصلاح والنهضة، وسعت إلى أن تكون جسرًا ثقافيًا بين المهجر والشرق العربي وقد حمل عربيلي فكرًا عروبيًا تنويريًا، مؤمنًا بالحرية ومعارضًا للاستبداد العثماني، فدافع عبر صحيفته عن حقوق العرب وربطهم بقضايا أوطانهم، مما جعله من أوائل من أسّسوا لخطاب الهوية العربية الحديثة في المهجر. ظلت نيويورك غائبة عن شعر الجيل الأول من أدباء المهجر وعند تصفح أعداد الجريدة نجد أخبار السلطنة العثمانية والسفينة المنطلقة من بيروت وأسماء ركابها وإعلانات وأحداث محلية عن المدينة وعن بقية المدن الأميركية وأحداث وقعت في مصر ولبنان وسورية، وفي باب "الوقائع" مثلاً نجد ملخص الجلسة الثامنة لجمعية الشبان السوريين في نيويورك التي تأسست في 6 نوفمبر/تشرين الثاني 1895، وتحت باب "صدى جرائد الشرق" عرض لأخبار من جرائد المشرق العربي في نصٍ سرديّ واحد، من جرائد الأهرام، الآداب، حديقة الأخبار، طرابلس الشام، لسان الحال، الهلال، وغيرها "اشتد البرد في مصر وأمطرت السماء رذاذًا وأوحلت الأزقة حتى امتنع فيها السلوك. ظهر داء الجدري في عكّا [..] دخل أحد الصوص إلى مكتب مدير جريدة الأحوال في بيروت فسلب بعض أشياء خفيفة". وفي أخبار العالم نرى أخبارًا من باريس والصين وبنما وباراغواي وبطرسبورغ وغيرها من البلدان، وكان لها إسهام هام في المحافظة على اللغة العربية والتجديد في الأدب العربي، والتعبير عن الذات بحرية، كما كانت ميداناً لأقلام الكتاب والشعراء إن كانت أعضاء الرابطة القلمية أو العصبة الأندلسية في أمريكا الجنوبية (البرازيل). توقّف صدور المجلة عام 1908، ومعه خفت صوت ذلك الجيل الأول من المهاجرين العرب الذين حملوا همّ الكلمة والهوية في المنافي، بينما لم يتمكّن الجيل التالي من الشباب العربي في المهجر، من إنتاج مشروع مماثل، بل لم يجد نفسه حتى منخرطًا في أيّ من الصحف العربية التي ظهرت آنذاك، كان يعيش واقعًا مختلفًا تمامًا عن آبائه، واقعًا طبعته الحرية لا القمع، والرخاء لا القسوة، جيلٌ لم يرث معاناة المنفى، بل ورث آفاقه الجديدة، ولذلك لم يعد يكتب من موقع الدفاع أو البحث عن هوية. ولعلّ ما بقي من تلك الحقبة الأدبية بامتياز هو محاولة استذكارها في المكان، ففي حديقة إليزابيث برجر يجري تنفيذ مشروع فني دائم يُكرّم الإرث الأدبي لـ"سورية الصغرى" بعد اثني عشر عامًا من الجهود المتواصلة، ليكون هذا أول نصب تذكاري في مدينة نيويورك يُكرّم مجتمعًا تاريخيًا في حديقة عامة. صمّمت المشروع الفنانة الفرنسية المغربية سارة أُحدّو بعنوان "القلم: شعراء في الحديقة"، بالقرب من موقع الحي السوري قديمًا على شارع واشنطن، وقد بدأ تنفيذه منذ عامين ولما ينتهِ بعد، ويتكوّن من منحوتة برونزية ذهبية اللون بطول يقارب تسعة عشر قدمًا وارتفاع يصل إلى سبعة أقدام تمثل كلمة "القلم" باستخدام أبجدية تجريدية غير مقروءة من ابتكار الفنانة، ومقعدين طويلين في الحديقة ستُزيَّن ظهورها بفسيفساء ملوّنة من نفس الأبجدية المجرّدة، تُجسّد رمزيًّا مقاطع من أعمال كتّاب سورية الصغرى مع أسمائهم على خلفية ذهبية. آداب التحديثات الحية الأدب فوق صفيح ساخن.. من هوراس إلى ماركيز