
"لا أريد لابني أن يموت": لماذا أعاد الأردن 17 طفلاً فلسطينياً لقطاع غزة؟
BBC
تعيش نهاية في قلق دائم على حياة طفلها بعد أن أعيد من الأردن إلى قطاع غزة، بعد شهرين تقريباً من سفره ليتلقى العلاج.
سافر محمد في الرابع من مارس/آذار الماضي مع 28 طفلاً آخرين، ضمن مبادرة ملكية أردنية لعلاج 2000 من أطفال غزة، أُعلن عنها خلال الهدنة التي بدأت منتصف يناير/كانون الثاني واستمرت نحو شهرين، قبل أن يُستأنف القتال.
وفي مساء 12 مايو/أيار الجاري، أُبلغت نهاية وأهالي 16 طفلاً آخرين بأنهم سيُعادون جميعاً إلى قطاع غزة. وفي اليوم التالي، تم إجلاء مجموعة جديدة مكونة من أربعة أطفال مرضى من غزة إلى الأردن.
تعترف العائلات بأنها تلقت رعاية جيدة خلال فترة وجودهم في الأردن، إلا أنها تقول إن إعادة أطفالهم إلى غزة تمّت على غير رغبتهم، وإن أطفالهم لم يستكملوا علاجهم، وهو ما تنفيه السلطات الأردنية مؤكدة أن الأطفال تلقوا الرعاية الطبية اللازمة واستكملوا علاجهم.
"لا أريد لابني أن يموت"
بصوت يخنقه البكاء تقول الأم إن طفلها محمد، المصاب بالربو وحساسية شديدة تجاه الطعام والروائح، لم يُكمل علاجه ولا يزال بحاجة إلى متابعة مستمرة. وتضيف أنهم خرجوا من مستشفى عمّان على أساس نقلهم إلى مكان سكني، لكنهم صُدموا بقرار إرجاعهم إلى غزة وسط الحرب، مما يعرّض حياة طفلها إلى خطر كبير من جديد.
BBC
تعيش نهاية في قلق دائم على حياة طفلها منذ عودتهم إلى القطاع
"تركت أولادي وزوجي هنا، عاشوا الويل. كنت في الأردن وقلبي وعقلي معهم هنا. تحمّلنا كل ذلك حتى يتم علاج طفلي، فكيف يعيدوننا قبل أن يستكمل علاجه؟ وإلى ماذا نعود؟ إلى الجحيم والجوع والحاجة؟"، تتساءل الأم.
تتحدث نهاية بينما تطغى أصوات المسيّرات الإسرائيلية على صوتها، وابنها يزحف نحو موقد مشتعل تستخدمه العائلة للطهي داخل الخيمة.
"لا أريد لابني أن يبقى هنا، أنا وصلت لمرحلة في علاج ابني كنت راضية عنها، عودتنا هنا ستعيده لنقطة الصفر، لا أريد لابني أن يموت"، تنفجر نهاية في البكاء وهي تتحدث.
"نيفين لن تنجو في خيمة"
BBC
في إحدى خيام مخيم الشاطئ شمالي قطاع غزة، يحاول والدا الطفلة نيفين أبو دقة، البالغة من العمر سبعة أشهر، تهدئتها.
وُلدت نيفين خلال فترة الحرب وتُعاني من ثقب في القلب. خضعت لعملية جراحية ناجحة أثناء إقامتها في الأردن، غير أن والدتها، إيناس أبو دقة، تقول إن حالة نيفين الصحية "لم تتحسن بعد، وما زالت بحاجة إلى العلاج، ولن تتمكن من البقاء على قيد الحياة في ظل العيش داخل خيمة".
تقول إيناس لبي بي سي: "وزن الطفلة لا يزداد؛ عمرها 7 أشهر، ووزنها لم يصل بعد إلى 4 كيلوغرامات. أيّ عارض صحي تتعرض له يؤدي إلى اختناقها وتغيّر لونها إلى الأزرق. حالتها خطيرة وقد تُهدد حياتها".
لا تتوقف الطفلة الصغيرة عن البكاء، بينما تتساءل والدتها بقلق: "غادرنا خلال الهدنة، فكيف نعود الآن في ظل الحرب؟".
بجوارها، يحكي والد الطفلة، هيثم أبو دقة، كيف عانى ليحصل على فرصة لعلاج ابنته بالخارج: "توجهت إلى كل المختصين، وإلى وزارة الصحة، تعبت بما فيه الكفاية، واصلت السعي، حتى ظهر اسمها للعلاج في مستشفى الأردن التخصصي".
ويضيف الأب: "كان الأطباء يهتمون بها كثيراً، لكن ابنتي لم تُكمل علاجها. فوجئتُ بقرار إعادتها من دون أي إنذار مسبق. كيف تعود إلى مكان يفتقر تماماً إلى الرعاية الصحية، والحليب، وأبسط مقومات الحياة؟".
أثار قرار إعادة الأطفال إلى قطاع غزة في ظل الحرب الكثير من التساؤلات، خاصة في ضوء تأكيد مسؤول في وزارة الصحة بالقطاع، تحدّث إلى بي بي سي بشرط عدم الكشف عن هويته، بأن الأطفال ما زالوا بحاجة إلى العلاج والرعاية المستمرة، محذراً من أن إعادتهم في هذه الظروف تشكل خطراً كبيراً على حياتهم.
"تثبيت للفلسطينيين على أرضهم"
في الجانب الآخر، نفت الحكومة الأردنية في رد على أسئلة لبي بي سي "الادعاءات بطرد المرضى" مؤكدة أن قرار إعادة الأطفال اتُخذ بعد استكمال علاجهم في المستشفيات الأردنية. واعتبرت أن هذا القرار ينسجم مع موقف المملكة الداعم لبقاء الفلسطينيين على أرضهم ورفضها المشاركة بأي شكل في تهجيرهم.
وقالت الخارجية الأردنية في ردها على بي بي سي إن "هؤلاء المرضى أُبلغوا منذ البداية عند مجيئهم إلى الأردن بأن فترة وجودهم مرهونة باستكمال العلاج، وأنهم سيعودون فور انتهاء علاجهم".
وقالت إن الأردن لن يتمكن من استقبال دفعة جديدة من المرضى دون إعادة الدفعة الأولى لـ"أسباب سياسية ولوجستية"، مشيرة إلى أن المملكة استقبلت دفعة جديدة من المرضى "بعد يوم واحد من عودة المصابين والمرضى الذين تلقوا العلاج".
وأكدت الخارجية الأردنية في ردّها: "المرضى أُخذوا وأُعيدوا بنفس الظروف، فلم يؤتَ بهم في وقت رخاء وأعيدوا وقت حرب. نحن تبرعنا بعلاج مجموعة من الأطفال ورحبنا باستقبال عدد من ذويهم المرافقين لهم، وقد تمّت معالجة هؤلاء الأطفال من الدفعة الأولى بينما بقي آخرون من ذات الدفعة لعدم انتهاء علاجهم".
"عُدنا صِفرَ اليدين"
في رحلة عودتهم، اشتكى أهالي الأطفال العائدين من الأردن من سوء معاملة الجانب الإسرائيلي، مشيرين إلى مصادرة جميع متعلقاتهم، بما في ذلك الأموال، والأدوية، وحليب الأطفال، والملابس.
تقول نهاية: "كنّا وحدنا من دون أي تنسيق عندما وصلنا إلى معبر كرم أبو سالم، حيث تم تسليمنا للجيش الإسرائيلي، الذي بدأ بسبّنا وشتمنا وتهديدنا بالضرب".
وتضيف "أخذوا كل شيء كان معنا، أموالنا وهواتفنا ولم يتركوا معنا أي شيء. تركنا كل متعلقاتنا في الحافلة التي عادت إلى الأردن".
نقلت إيناس أبو دقة الشكوى نفسها، موضحة أن الجنود صادروا حتى الأدوية التي كانت بحوزتها، وقالت: "أخذوا حتى حليب الطفلة. لم أتمكن من إطعامها أثناء الطريق، والآن لا أستطيع شراء الحليب لها".
لكن الجيش الإسرائيلي قال في رد لبي بي سي إنه "أثناء التفتيش الأمني للعائدين، عثر مع بعضهم على مبالغ نقدية غير مُصرّح عنها تتجاوز الحدود المسموحة، ومن ثم حُجزت الأموال المشتبه 'باستخدامها في أعمال إرهابية' داخل قطاع غزة لحين اكتمال التحقيق بشأنها".
لم يردّ الجيش الإسرائيلي على استفسار بي بي سي بشأن مصادرة الهواتف والأغراض الشخصية، بما في ذلك حليب الأطفال، أو حول مزاعم سوء المعاملة.
أدت الحرب المستمرة في غزة منذ أكثر من عام ونصف العام إلى تدهور حاد للمنظومة الصحية حيث توقفت العديد من مستشفيات القطاع عن تقديم خدماتها نتيجة القتال. بالإضافة إلى ذلك، يعاني القطاع من نقص حاد في الغذاء والأدوية والمستلزمات الطبية، مما جعل السفر للعلاج بالخارج حلماً للآلاف من المرضى في القطاع.
ويُعتقد أن هذه هي المرة الأولى منذ السابع من أكتوبر/تشرين الأول 2023 التي يُعاد فيها هؤلاء المرضى الذين تمكنوا من السفر للعلاج.

جرب ميزات الذكاء الاصطناعي لدينا
اكتشف ما يمكن أن يفعله Daily8 AI من أجلك:
التعليقات
لا يوجد تعليقات بعد...
أخبار ذات صلة


الوسط
منذ 4 ساعات
- الوسط
هل تحول اضطراب فرط الحركة ونقص الانتباه إلى "ترند" اجتماعي؟
Getty Images "لن تشعر بالملل أبداً لو كان لديك صديق من المصابين باضطراب فرط الحركة ونقص الانتباه ... نحن من نعيش الحياة بكاملها…نحن نحب الجدال والحديث ومشتتون…". هذه جمل من مقاطع فيديو قصيرة لاحقتني على منصة إنستغرام، تظهر أعراض اضطراب فرط الحركة ونقص الانتباه بطريقة مرحة، والبعض منها يبدو كمحتوى علمي أكثر جدية. وفي الدوائر المحيطة بي، وجدت الكثير من البالغين الذين يطبقون على أنفسهم أعراض فرط الحركة ونقص الانتباه (ADHD) المنتشرة في مقاطع الفيديو القصيرة. تقول لي لمياء (36 عاماً) -اسم مستعار بطلب منها- وتعيش في لندن وتعمل في مجال الإعلام، إنها وبسبب ما تعرضه وسائل التواصل الاجتماعي من أعراض، أصبحت تعتقد أنها مصابة باضطراب فرط الحركة ونقص الانتباه. وتنتظر لمياء دورها الذي قد يأتي بعد خمس سنوات لرؤية مختص نفسي يغطيه التأمين الصحي في البلد الذي تعيش فيه. لمياء ليست وحدها من تعاني من هذه الدوامة، إذ تقول الأخصائية النفسية سحر مزهر لبي بي سي، إنها لاحظت عبر محاضراتها التي تلقيها في جامعات أردنية أن أكثر من نصف الحضور يراجعونها لاعتقادهم أنهم مصابون باضطراب فرط الحركة ونقص الانتباه بسبب ما يعرض عبر وسائل التواصل الاجتماعي. وبحسب دراسة نشرت عبر المكتبة الوطنية للطب، التي تتبع المعهد الوطني للصحة في الولايات المتحدة، بالاعتماد على التركيبة السكانية العالمية لعام 2020، بلغ معدل انتشار النوع المستمر من اضطراب فرط الحركة ونقص الانتباه لدى البالغين 2.58 في المئة، في حين بلغ معدل انتشار النوع المصحوب بأعراض 6.76 في المئة، أي ما يعادل 139.84 مليون و366.33 مليون بالغ على مستوى العالم حتى ذلك العام. لكن ما تأثير وسائل التواصل الاجتماعي على خلق "ترند" ناتج عن التشخيص الذاتي لاضطراب فرطة الحركة ونقص الانتباه، وما أثر ذلك على الصحة النفسية؟ تأثير السوشيال ميديا PA سارة - فضلت عدم ذكر اسمها الحقيقي - أربعينية تعمل في مجال الإعلانات والتسويق الرقمي، عرفت في مرحلة متأخرة من العمر بأنها مصابة باضطراب فرط الحركة ونقص الانتباه. لكن توجهها للتحقق من ذلك مع طبيب نفسي في الأردن يعود لنصيحة من صديقتها المختصة في المجال أيضاً. تقول سارة إن لديها الخبرة الكافية لتعرف مدى تأثير وسائل التواصل الاجتماعي على المستخدمين، وأن ظهور النصائح والإعلانات المتعلقة بالاضطرابات والأمراض النفسية أو غيرها من الموضوعات للمستخدمين، يعود لنمط عمل هذه المنصات ومتابعتها لاهتمامات الأفراد. وتوضح أنها أصبحت تتعرض لمقاطع الفيديو القصيرة المتعلقة بفرط الحركة ونقص الانتباه، بعد مراجعتها للطبيب وبدء اهتمامها بالموضوع. وتحذر سارة، التي تعمل حالياً في قطر، من توجه كثيرين للتشخيص الذاتي، مما يعرضهم للاستغلال التجاري أو يدفعهم للاستسلام لأعراض قد لا تكون موجودة لديهم، مما يؤثر سلباً على مسار حياتهم اليومية. ويرى محمد العمري، طبيب عام ومختص في العلاج السلوكي، أن وسائل التواصل الاجتماعي ساهمت في زيادة الوعي باضطراب فرط الحركة ونقص الانتباه بين الناس، وأزالت إلى حد ما وصمة العار التي كانت مرتبطة به، إذ كان فرط الحركة ونقص الانتباه مرتبطاً في السابق بعدم القدرة على النجاح أو عدم الالتزام. لكن العمري، الذي يعمل في عيادة مايند كلينك في عمّان، قال لبي بي سي إن لوسائل التواصل الاجتماعي أثراً سلبياً أيضاً، إذ أدى انتشار الأعراض والتشخيص الذاتي، إلى زيادة كبيرة في أعداد الأشخاص الذين يريدون الحصول على تشخيص طبي، وهو ما أدى إلى زيادة الضغط على الهيئات الطبية. ويضرب العمري مثالاً بالولايات المتحدة الأمريكية كواحدة من الدول التي تواجه "إفراطاً في التشخيص"، مما يعني احتمالية التشخيص الخاطئ أيضاً. ويضيف: "في العام الماضي، أفادت مراكز السيطرة على الأمراض والوقاية منها بأن 11.4 في المئة من الأطفال الأمريكيين شُخِّصوا باضطراب فرط الحركة ونقص الانتباه، وهو رقم قياسي"، وهو ما جعل صحيفة نيويورك تايمز تتساءل في مقال لها: هل كنا نفكر في اضطراب فرط الحركة ونقص الانتباه بطريقة خاطئة؟ بينما تنقل صحيفة الإيكونومست البريطانية أنه يُعتقد بأن "نحو مليوني شخص في إنجلترا، أي 4 في المئة من السكان، مصابون باضطراب فرط الحركة ونقص الانتباه، وفقاً لمؤسسة نوفيلد ترست البحثية". ويشرح العمري أن التشخيص الخاطئ قد يعني الحصول على دواء لعلاج اضطراب فرط الحركة ونقص الانتباه المعني برفع نسبة الدوبامين، وتؤدي الأدوية المنشطة في حال كان الشخص مصاباً بالقلق على سبيل المثال وليس باضطراب فرط الحركة ونقص الانتباه، إلى زيادة في نبضات القلب وزيادة التوتر وغيرها من الأعراض. ويقول أيضاً إن التشخيص يعتمد على خبرة المعالج النفسي وليس فقط على أسئلة الاختبار المخصصة للفحص التي تنشرها أحياناً وسائل التواصل الاجتماعي، إذ تشترك أعراض اضطراب فرط الحركة ونقص الانتباه مع أعراض اضطرابات أخرى "مثل القلق، والاكتئاب الحاد، أو مع أعراض بعض الأمراض الجسدية الناجمة عن نقص في فيتامين ب 12 أو ب 6، أو فيتامين د". تتحدث بعض الدراسات عن أن التعرض لمقاطع الفيديو القصيرة، خاصة للأطفال بعمر صغير، يجعل قدرتهم على التركيز أقل، وكذلك الأمر بالنسبة للبالغين، مما يعني أن البعض قد يصاب بأعراض الاضطراب لأسباب بيئية وليس جينية، بمعنى أن إصابته بالأعراض لا تعني إصابته بالاضطراب، حسب العمري. وتتفق معه في ذلك الأخصائية مزهر، التي تعتقد أن كثيراً ممن يشخصون أنفسهم بسبب وسائل التواصل الاجتماعي باضطرابات نفسية مختلفة، من بينها اضطراب فرط الحركة ونقص الانتباه، "يحرمون أنفسهم من حياة صحية". وتلفت مزهر إلى أن كل فرد من حقه أن يحصل على الوقت الكافي وعبر مختصين للتحقق من حالته الصحية، مشيرة إلى أن الإجابة على أسئلة في استبيان للاستدلال على وجود الاضطراب لا تكفي وحدها. وتوضح أنه ليس من السهل تشخيص فرط الحركة ونقص الانتباه، وخاصة عند البالغين، لأن أعراضه قد تتشابه مع أعراض أمراض أخرى مثل نقص فيتامين د أو التعرض لصدمة أو توتر مستمر، مما يرفع نسبة هرمون الكورتيزول في جسم الإنسان فيشعر أنه في حالة تأهب. ويعرف اضطراب فرط الحركة وتشتت الانتباه بأنه "اضطراب في النمو العصبي، عادةً ما يُشخَّص لأول مرة في مرحلة الطفولة، وغالباً ما يستمر حتى مرحلة البلوغ. لكن بعض الأشخاص لا يُشخَّصون باضطراب فرط الحركة ونقص الانتباه إلا بعد بلوغهم. وتتضمن أعراضه صعوبة في الانتباه، وصعوبة في التحكم في السلوكيات الاندفاعية، وفرط النشاط"، بحسب تعريف منصة "ميدلاين بلاس" الأمريكية. ويوضح الموقع الإلكتروني للمعهد الوطني الأمريكي للصحة العقلية أنه "من الشائع أن يُظهر الأشخاص هذه السلوكيات أحياناً. لكن الفرق أنه بالنسبة للأشخاص المصابين باضطراب فرط الحركة ونقص الانتباه، تكون هذه السلوكيات متكررة وتحدث في مواقف متعددة، مثل المدرسة، أو المنزل، أو العمل، أو مع العائلة والأصدقاء". هل هو اضطراب أم اختلاف؟ Getty Images وبموجب الدليل التشخيصي والإحصائي للاضطرابات النفسية، يصنف فرط النشاط ونقص الانتباه - ADHD، تحت بند الاضطرابات المتعلقة بالنمو العصبي. لكن دراسات علمية حديثة ومختصين في علم النفس توجهوا حديثاً لرفض وصف سمات شخصية مثل الاندفاعية والتشتت وعدم الانتباه بالأعراض، وفضلوا اعتبار ذلك ضمن التنوع العصبي وأن العديد من المصابين بفرط الحركة ونقص الانتباه ليسوا "ناقصين" ولا "مضطربين". يعلق العمري على ذلك قائلا: "هناك نقاش في الأوساط الطبية فيما يتعلق بما إذا كان فرط الحركة ونقص الانتباه اضطراباً أم تنوعا أو اختلافا عصبيا، أي بمعنى أنه لا يوجد فيه خلل لكن المجتمع ليس مهيئا للتعامل معه، مثل الأشخاص الذين يستخدمون يدهم اليسرى بينما غالبية الأدوات مصممة لمن يستخدمون اليد اليمنى. هذه الدراسات دفعت سارة لاستكمال علاجها سلوكياً بمساعدة مختص نفسي، لكن دون الحصول على الأدوية المخصصة لاضطراب فرط الحركة ونقص الانتباه. تتحدث مزهر أيضاً عن الدراسات التي ترفض اعتبار فرط الحركة ونقص الانتباه اضطراباً. وترى أيضاً أن البيئة الحالية لم تعد مفتوحة كما كان الحال في السابق، وهو ما يؤدي لوجود الأطفال غالبية الوقت داخل الشقق إضافة لتعلقهم بوسائل التواصل الاجتماعي والألعاب الإلكترونية، مما يؤدي لظهور أعراض فرط الحركة ونقص الانتباه. لكن وجود الأعراض لا يعني بالضرورة الإصابة بالمرض. وتضيف "يجب أن نأخذ بعين الاعتبار كل الظروف المحيطة بالشخص، فلا نأخذ جزئية فقط ونقول إنه مصاب بفرط الحركة ونقص الانتباه". وتتابع مزهر أن "السلوكيات مكتسبة، فمثلاً من الممكن أن يكون سلوكي انفعالي، لكن ورثته من عائلتي. تشخيص الحالة يجب أن يتم بشكل دقيق للغاية". وتروي قصة إحدى الحالات التي تعاملت معها، حيث كانت الأم تعتقد أنها ابنها مصاب بفرط الحركة ونقص الانتباه، لكن تبين لاحقاً أن الأم تعاني من القلق والتوتر، وهو ما انعكس سلباً على سلوكيات طفلها. وفي مقال نشر عبر الموقع الإلكتروني لصحيفة نيويروك تايمز في ابريل/نيسان 2025، قالت الصحيفة إنه لا يوجد سبب وحيد للإصابة بفرط الحركة ونقص الانتباه، مشيرة إلى أنه ناجم عن تفاعل معقد بين العوامل الوراثية والبيئية. وتنقل الصحيفة عن دراسات حديثة أن أدمغة المصابين قد تعمل بطريقة مختلفة، لكن هذا لا يعني بالضرورة أن فيها خللاً، بل هو اختلاف في نمط التفكير. وتناقش صحيفة الإيكونومست في مقالها المنشور في أكتوبر/تشرين الأول 2024، أن فرط الحركة ونقص الانتباه لا يجب أن يعامل معاملة الاضطراب. وتقول وجهة النظر التي تنقلها الصحيفة إنه في الوقت الحالي، يُعامل اضطراب نقص الانتباه وفرط النشاط على أنه شيء إما أن يكون لديك أو لا. هذا النهج الثنائي للتشخيص له نتيجتان: الأولى هي أن معاملة الجميع كما لو كانوا مرضى تملأ أنظمة الرعاية الصحية... أما النتيجة الثانية، فتتمثل في التعامل مع الاضطراب على أنه خلل وظيفي يحتاج إلى علاج. وهذا يؤدي إلى إهدار هائل للإمكانات البشرية". وتضيف الصحيفة أن "إجبار نفسك على التكيف مع الوضع الطبيعي أمر مرهق، وقد يسبب القلق والاكتئاب. ومن الأجدى والأرخص تعديل الفصول الدراسية وأماكن العمل بما يتناسب مع التنوع العصبي". لماذا يريد البعض أن يكون مصاباً بفرط الحركة ونقص الانتباه؟ Getty Images ويلفت الطبيب محمد العمري إلى أن وسائل التواصل الاجتماعي ساهمت في أن تصبح هناك هالة خاصة بالمصابين باضطراب فرط الحركة ونقص الانتباه، إذ يوصفون بالمرح أو التميز، وأصبح البعض يميل للانتماء لمجتمعات من يحملون هذا التشخيص من أجل ملاحقة "الترند". في حين تعتقد مزهر أن البعض يرغب بأن يكون مصاباً باضطراب فرط الحركة ونقص الانتباه لتبرير بعض السلوكيات المتعلقة بعدم الانضباط. ويرى العمري أن البعض قد يسعى بين الأطباء والمختصين للحصول على تشخيص بإصابته بفرط الحركة ونقص الانتباه لأسباب متعلقة بالدراسة أو العمل، فمثلاً بعض مراجعيه كانوا من طلبة المرحلة الدراسية الثانوية في برامج دولية، في حال تبين أنهم مصابون بالاضطراب يحصلون على وقت إضافي في الامتحانات. يشير العمري إلى أنه يتبين إصابة البعض بفرط الحركة ونقص الانتباه بالفعل ويتلقون العلاجات اللازمة، لكن النسبة الأكبر من مراجعيه يتبين في نهاية المطاف أن لديهم قلق وليس اضطراب فرط الحركة ونقص الانتباه.


الوسط
منذ 14 ساعات
- الوسط
"لا أريد لابني أن يموت": لماذا أعاد الأردن 17 طفلاً فلسطينياً لقطاع غزة؟
BBC تعيش نهاية في قلق دائم على حياة طفلها بعد أن أعيد من الأردن إلى قطاع غزة، بعد شهرين تقريباً من سفره ليتلقى العلاج. سافر محمد في الرابع من مارس/آذار الماضي مع 28 طفلاً آخرين، ضمن مبادرة ملكية أردنية لعلاج 2000 من أطفال غزة، أُعلن عنها خلال الهدنة التي بدأت منتصف يناير/كانون الثاني واستمرت نحو شهرين، قبل أن يُستأنف القتال. وفي مساء 12 مايو/أيار الجاري، أُبلغت نهاية وأهالي 16 طفلاً آخرين بأنهم سيُعادون جميعاً إلى قطاع غزة. وفي اليوم التالي، تم إجلاء مجموعة جديدة مكونة من أربعة أطفال مرضى من غزة إلى الأردن. تعترف العائلات بأنها تلقت رعاية جيدة خلال فترة وجودهم في الأردن، إلا أنها تقول إن إعادة أطفالهم إلى غزة تمّت على غير رغبتهم، وإن أطفالهم لم يستكملوا علاجهم، وهو ما تنفيه السلطات الأردنية مؤكدة أن الأطفال تلقوا الرعاية الطبية اللازمة واستكملوا علاجهم. "لا أريد لابني أن يموت" بصوت يخنقه البكاء تقول الأم إن طفلها محمد، المصاب بالربو وحساسية شديدة تجاه الطعام والروائح، لم يُكمل علاجه ولا يزال بحاجة إلى متابعة مستمرة. وتضيف أنهم خرجوا من مستشفى عمّان على أساس نقلهم إلى مكان سكني، لكنهم صُدموا بقرار إرجاعهم إلى غزة وسط الحرب، مما يعرّض حياة طفلها إلى خطر كبير من جديد. BBC تعيش نهاية في قلق دائم على حياة طفلها منذ عودتهم إلى القطاع "تركت أولادي وزوجي هنا، عاشوا الويل. كنت في الأردن وقلبي وعقلي معهم هنا. تحمّلنا كل ذلك حتى يتم علاج طفلي، فكيف يعيدوننا قبل أن يستكمل علاجه؟ وإلى ماذا نعود؟ إلى الجحيم والجوع والحاجة؟"، تتساءل الأم. تتحدث نهاية بينما تطغى أصوات المسيّرات الإسرائيلية على صوتها، وابنها يزحف نحو موقد مشتعل تستخدمه العائلة للطهي داخل الخيمة. "لا أريد لابني أن يبقى هنا، أنا وصلت لمرحلة في علاج ابني كنت راضية عنها، عودتنا هنا ستعيده لنقطة الصفر، لا أريد لابني أن يموت"، تنفجر نهاية في البكاء وهي تتحدث. "نيفين لن تنجو في خيمة" BBC في إحدى خيام مخيم الشاطئ شمالي قطاع غزة، يحاول والدا الطفلة نيفين أبو دقة، البالغة من العمر سبعة أشهر، تهدئتها. وُلدت نيفين خلال فترة الحرب وتُعاني من ثقب في القلب. خضعت لعملية جراحية ناجحة أثناء إقامتها في الأردن، غير أن والدتها، إيناس أبو دقة، تقول إن حالة نيفين الصحية "لم تتحسن بعد، وما زالت بحاجة إلى العلاج، ولن تتمكن من البقاء على قيد الحياة في ظل العيش داخل خيمة". تقول إيناس لبي بي سي: "وزن الطفلة لا يزداد؛ عمرها 7 أشهر، ووزنها لم يصل بعد إلى 4 كيلوغرامات. أيّ عارض صحي تتعرض له يؤدي إلى اختناقها وتغيّر لونها إلى الأزرق. حالتها خطيرة وقد تُهدد حياتها". لا تتوقف الطفلة الصغيرة عن البكاء، بينما تتساءل والدتها بقلق: "غادرنا خلال الهدنة، فكيف نعود الآن في ظل الحرب؟". بجوارها، يحكي والد الطفلة، هيثم أبو دقة، كيف عانى ليحصل على فرصة لعلاج ابنته بالخارج: "توجهت إلى كل المختصين، وإلى وزارة الصحة، تعبت بما فيه الكفاية، واصلت السعي، حتى ظهر اسمها للعلاج في مستشفى الأردن التخصصي". ويضيف الأب: "كان الأطباء يهتمون بها كثيراً، لكن ابنتي لم تُكمل علاجها. فوجئتُ بقرار إعادتها من دون أي إنذار مسبق. كيف تعود إلى مكان يفتقر تماماً إلى الرعاية الصحية، والحليب، وأبسط مقومات الحياة؟". أثار قرار إعادة الأطفال إلى قطاع غزة في ظل الحرب الكثير من التساؤلات، خاصة في ضوء تأكيد مسؤول في وزارة الصحة بالقطاع، تحدّث إلى بي بي سي بشرط عدم الكشف عن هويته، بأن الأطفال ما زالوا بحاجة إلى العلاج والرعاية المستمرة، محذراً من أن إعادتهم في هذه الظروف تشكل خطراً كبيراً على حياتهم. "تثبيت للفلسطينيين على أرضهم" في الجانب الآخر، نفت الحكومة الأردنية في رد على أسئلة لبي بي سي "الادعاءات بطرد المرضى" مؤكدة أن قرار إعادة الأطفال اتُخذ بعد استكمال علاجهم في المستشفيات الأردنية. واعتبرت أن هذا القرار ينسجم مع موقف المملكة الداعم لبقاء الفلسطينيين على أرضهم ورفضها المشاركة بأي شكل في تهجيرهم. وقالت الخارجية الأردنية في ردها على بي بي سي إن "هؤلاء المرضى أُبلغوا منذ البداية عند مجيئهم إلى الأردن بأن فترة وجودهم مرهونة باستكمال العلاج، وأنهم سيعودون فور انتهاء علاجهم". وقالت إن الأردن لن يتمكن من استقبال دفعة جديدة من المرضى دون إعادة الدفعة الأولى لـ"أسباب سياسية ولوجستية"، مشيرة إلى أن المملكة استقبلت دفعة جديدة من المرضى "بعد يوم واحد من عودة المصابين والمرضى الذين تلقوا العلاج". وأكدت الخارجية الأردنية في ردّها: "المرضى أُخذوا وأُعيدوا بنفس الظروف، فلم يؤتَ بهم في وقت رخاء وأعيدوا وقت حرب. نحن تبرعنا بعلاج مجموعة من الأطفال ورحبنا باستقبال عدد من ذويهم المرافقين لهم، وقد تمّت معالجة هؤلاء الأطفال من الدفعة الأولى بينما بقي آخرون من ذات الدفعة لعدم انتهاء علاجهم". "عُدنا صِفرَ اليدين" في رحلة عودتهم، اشتكى أهالي الأطفال العائدين من الأردن من سوء معاملة الجانب الإسرائيلي، مشيرين إلى مصادرة جميع متعلقاتهم، بما في ذلك الأموال، والأدوية، وحليب الأطفال، والملابس. تقول نهاية: "كنّا وحدنا من دون أي تنسيق عندما وصلنا إلى معبر كرم أبو سالم، حيث تم تسليمنا للجيش الإسرائيلي، الذي بدأ بسبّنا وشتمنا وتهديدنا بالضرب". وتضيف "أخذوا كل شيء كان معنا، أموالنا وهواتفنا ولم يتركوا معنا أي شيء. تركنا كل متعلقاتنا في الحافلة التي عادت إلى الأردن". نقلت إيناس أبو دقة الشكوى نفسها، موضحة أن الجنود صادروا حتى الأدوية التي كانت بحوزتها، وقالت: "أخذوا حتى حليب الطفلة. لم أتمكن من إطعامها أثناء الطريق، والآن لا أستطيع شراء الحليب لها". لكن الجيش الإسرائيلي قال في رد لبي بي سي إنه "أثناء التفتيش الأمني للعائدين، عثر مع بعضهم على مبالغ نقدية غير مُصرّح عنها تتجاوز الحدود المسموحة، ومن ثم حُجزت الأموال المشتبه 'باستخدامها في أعمال إرهابية' داخل قطاع غزة لحين اكتمال التحقيق بشأنها". لم يردّ الجيش الإسرائيلي على استفسار بي بي سي بشأن مصادرة الهواتف والأغراض الشخصية، بما في ذلك حليب الأطفال، أو حول مزاعم سوء المعاملة. أدت الحرب المستمرة في غزة منذ أكثر من عام ونصف العام إلى تدهور حاد للمنظومة الصحية حيث توقفت العديد من مستشفيات القطاع عن تقديم خدماتها نتيجة القتال. بالإضافة إلى ذلك، يعاني القطاع من نقص حاد في الغذاء والأدوية والمستلزمات الطبية، مما جعل السفر للعلاج بالخارج حلماً للآلاف من المرضى في القطاع. ويُعتقد أن هذه هي المرة الأولى منذ السابع من أكتوبر/تشرين الأول 2023 التي يُعاد فيها هؤلاء المرضى الذين تمكنوا من السفر للعلاج.


الوسط
منذ يوم واحد
- الوسط
"الرجال بلا مشاعر" ومعلومات مغلوطة أخرى لا نفهمها عن "الرجولة"
Getty Images من الشائع في مجتمعاتنا العربيّة أن ينشأ الأولاد في أسرٍ لا يُظهر فيها الآباء مشاعرهم بشكلٍ صريح. وإذا عبّروا عنها، فإنّ الغضب غالباً ما يكون الشعور الوحيد المسموح بإظهاره. وإن "تلصصنا" على المحادثات الخاصة لشابات في يومنا على إنستغرام، قد نجد هاجساً مشتركاً، وهو السخرية أو الغضب من من برود الرجال العاطفي، ولا مبالاتهم، والحيرة في كيفيّة التعامل معهم، وضرورة عرضهم على أطباء نفسيين. ورغم أنّ هذه المواد تبدو، في ظاهرها، نوعاً من المزاح البريء المنتشر على الإنترنت، إلا إنّها تسلّط الضوء على أزمةٍ أعمق، تتعلّق بطريقة تفاعل الرجال مع مشاعرهم، ومع الآخرين، في العلاقات التي تتطلّب قدراً من التعبير العاطفيّ. هناك اعتقاد سائد لا يزال راسخاً في ثقافتنا، أنّ الرجال لا يعبرون عن عواطفهم، أنهم "بلا مشاعر". ويرى كثيرون أنه من "المعيب" على الرجل أن يشكي همه، يفصح عن هشاشته أو مشاعره، فالرجال "لا يبكون". ولكن هذه الأفكار قد تكون خطيرة وتؤثّر على صحة الرجال النفسية والجسدية على المدى الطويل. فهل يعاني الرجال حقاً من "برود عاطفي"، أم أنه نتاج لتوقعات اجتماعيّة مفروضة عليهم؟ 1- "الرجال غير عاطفيين" واحدة من أكثر المعلومات المغلوطة شيوعاً التي تتردد في مجتمعاتنا هي أنّ الرجل "بطبيعته" أقلّ عاطفية، أو غير قادر على الإحساس العميق. هذه الفكرة، المتداولة على نطاقٍ واسع، تُعامل كحقيقة بيولوجية، وكأنّ الرجل مؤهّل للتعبير أو حتى الشعور. يرى المعالج النفسي هادي أبي المنى في حديث إلى بي بي سي عربي أن "واحدة من أبرز الصور النمطية المغلوطة في مجتمعاتنا هي الاعتقاد بأنّ التعبير عن المشاعر سلوكٌ "أنثوي"، وكأنّ المشاعر بطبيعتها ترتبط بالأنوثة. في المقابل، يُنظر إلى كتمان المشاعر أو تحمّل الألم بصمتٍ على أنه دليل على "الرجولة". هذا الربط القائم بين قمع المشاعر و"الرجولة" لا ينعكس فقط على الحياة العاطفية للرجال، بل على صحّتهم النفسيّة أيضاً، إذ يحرم كثيرون من فرصة العيش بتوازنٍ وهدوءٍ داخليّ، خوفاً من أن يساء فهم ضعفهم أو حساسيّتهم. يقول المعالج النفسي هادي أبي المنى في حديثٍ إلى بي بي سي عربي: "كثيراً ما يقال إنّ الرجال ليسوا عاطفيّين بما يكفي، أو أنّهم غير قادرين على الشعور بعمق، وبالتالي لا يعبّرون عن مشاعرهم بالطريقة نفسها المتوقعة من النساء. يعتقد أنّ هذا أمرٌ طبيعي، يولد به الذكر. لكن الحقيقة أنّ جميع البشر، رجالاً ونساءً، يتساوون في القدرة على الشعور وعمق الإحساس". ما الذي يحدث إذن؟ بحسب أبي المنى، فإنّ الرجل، وخصوصاً في مجتمعاتنا، "يتعلّم منذ الصغر ألّا يعبّر عن مشاعره بالكلام". هذا التعليم لا يلغي المشاعر، بل يدفنها، أو يعيد توجيهها. ويشرح المعالج النفسي أنّ هذه المشاعر "لا تختفي، بل تتحوّل وتظهر بطرقٍ أخرى، مثل الصمت، أو الغضب، أو الانغماس المفرط في العمل". عندما سألناه إن كان الانشغال بالعمل يمنح شعوراً مؤقّتاً بالراحة، أجاب: "على المدى القصير، نعم. لكن استبدال الشعور الأساسي بمشاعر أو أفعالٍ أخرى، يمنع الفرد من إدراك مشاعره وتحليلها، والاعتراف بها وفهمها والتعبير عنها، أي أنه يتجنّبها تماماً". ويشدّد أبي المنى على أنّ هذا التجنّب "ليس حلاً طويل الأمد، ولا يساهم في معالجة المشاعر أو حلّ المشكلة الأساسيّة". Getty Images 2- "الكلام لن يحلّ المشكلة" يشيرهادي أبي المنى إلى أنّ واحد من أكثر الأفكار المتكرّرة التي يسمعها من الرجال الذين يتجنّبون اللجوء إلى العلاج النفسي، هي أن "الحديث عن المشكلة لا قيمة له، لأنه لا يساعد في حلّها". لكنّه يوضح أنّ الحديث عن المشكلة هو بالضبط ما يشكّل جوهر العلاج النفسي. ويقول: "يسمح العلاج النفسي للشخص بالتحدّث عن مشكلاته ومشاعره، ويفهم ماذا يحدث معه، حتى لو لم يجد حلولاً فوريّة للمشكلة. ذلك يعطي فكرة عن كيفية التعامل مع مشاعره وتنظيمها". ويلفت إلى نقطة مهمّة غالباً ما تغفل: "حين يقوم الشخص بتسمية مشكلاته، يعطيه ذلك القليل من القوة أمامها". من جهتها، ترى المعالجة النفسية جيزيل صليبا أنّ تردّد الرجال في اللجوء إلى العلاج النفسي يرتبط ارتباطاً وثيقاً بصورة نمطيّة رُسّخت في أذهانهم منذ الصغر. وتقول لـبي بي سي عربي: "الرجال الذين يتخذون قرار اللجوء إلى معالج نفسي غالباً ما يكونون متردّدين جداً، بسبب اعتقادهم بأنّ ذلك يُعدّ ضعفاً أو يقلّل من رجولتهم". وتشرح قائلة: " دائماً ما يؤكّدون أنّ أحداً لا يجب أن يعلم بالأمر. يحصل ذلك لأنهم سمعوا منذ الصغر عبارات مثل: أنت رجل، عليك أن تكون قادراً على فعل كل شيء وحدك، أو حلّ كل شيء من دون مساعدة". وتضيف: "تجنّب التعبير عن المشاعر شائعٌ جداً بين الرجال، لأنّهم كأطفال قيل لهم إنّ البكاء أو التعبير عن التوتر أو الخوف أو الانزعاج، لا يليق بالذكور، وأن الرجال لا يفعلون ذلك". Getty Images عادةً ما يستهزئ مشجعو كرة القدم ببكاء لاعب الفريق المنافس باعتباره "ضعيف" و"كثير المشاعر" 3- "الوقت كفيل بحل كل شيء" لطالما سمعنا في الأمثال الشعبيّة والأغاني المتداولة بلغاتٍ عدّة أنّ "الوقت كفيل بحلّ كل شيء" أو "الزمن يُنسي". لكنّ الأبحاث أثبتت مراراً أنّ هذا الاعتقاد الشائع لا يستند إلى أساسٍ علميّ. ويشرح هادي أبي المنى أنّ تجاهل المشكلة أو الامتناع عن الحديث عنها لا يساهم في حلّها، بل يؤدّي إلى تفاقمها مع مرور الوقت. ويقول: "تجنّبنا الحديث عن أمرٍ ما يجعل المشكلة تتضخّم، فبدلاً من أن تختفي، تصبح أكثر تعقيداً". ويقدّم مثالاً توضيحيّاً قائلاً: "ليس بالضرورة أن تصاب أسناننا بالتسوّس كي نبدأ بتنظيفها. الحقيقة أنّنا ننظّفها كي لا تصاب بالتسوّس، أو تتفاقم المشكلة لاحقاً". ويشدّد على أهمية التدخّل المبكر، قائلاً إنّه "كلّما حصل التدخّل في وقتٍ أبكر، كلّما خفّت حدّة المشكلة، وتراجعت احتمالات امتدادها إلى جوانب أخرى من حياة الفرد". 4- "الرجال يتدبرون أمورهم بدون مساعدة" Getty Images ويشير هادي أبي المنى إلى أنّ أحد الأسباب الجذريّة وراء تردّد الرجال في طلب الدعم النفسي، هو أنّهم ببساطة لم يتعلّموا أنّ طلب المساعدة أمرٌ طبيعي. ويشرح أنّ الرجل، حين يبادر إلى طلب الدعم، "يحمَّل بالعار وينظر إليه على أنّه ضعيف"، لأنّ المجتمع يربط بين مفهوم "الرجولة" وبين الاستقلاليّة التامّة وعدم الحاجة إلى أحد. ويقول: "الصورة النمطيّة للرجل القوي، الذي يمكنه حلّ كل شيء بنفسه، والذي لا يحتاج ولا يطلب مساعدة، ما زالت مرتبطة اجتماعياً بفكرة الرجولة والقوة. في المقابل، ينظَر إلى الرجل الذي يطلب المساعدة أو يعبّر عن مشاعره على أنّه ليس رجلاً بما فيه الكفاية". هذه المعايير المغلوطة، كما يشير أبي المنى، تثير أسئلة كثيرة حول تأثير التوقّعات الاجتماعيّة غير المنطقيّة على الصحة العقليّة للرجال، وعلى قدرتهم في التفاعل مع أنفسهم والآخرين بصدقٍ وراحة. 5- "الرجل الناجح هو المتماسك دائماً" يؤكّد هادي أبي المنى أنّ النجاح الحقيقي لا يقاس بمدى التماسك الظاهري أو الصلابة الخارجيّة، بل يرتبط بالقدرة على تحقيق توازن داخلي يمكّن الفرد من فهم مشاعره ومشكلاته والتعامل معها بشكلٍ صحّي. ويضيف أنّ الوعي بالمشاعر والقدرة على تنظيمها هو ما يوفّر للشخص أدوات فعليّة للتقدّم بثبات، بينما أيّ اضطراب داخلي غير معالَج في التعامل مع الأفكار والمشاعر قد يعيق تطوّره الشخصي والمهنيّ على حدّ سواء. من جهتها، تلفت المعالجة النفسيّة جيزيل صليبا إلى أنّ بعض الأشخاص الذين يسعون إلى التحكّم الكامل بأنفسهم، ويحاولون أن يكونوا عقلانيّين طوال الوقت، إنّما يعبّرون عن تربية قائمة على تصوّرٍ خاطئ مفاده أنّ المشاعر أمرٌ سلبي. وتقول: "هناك من يعتقد أنّ عليه أن يهتم فقط بالعمل ويقمع أي وجود للمشاعر. هؤلاء غالباً ما نشأوا على فكرة أنّ الشعور هو ضعف، وأنّ الانشغال بالوجدان أمرٌ غير منطقي أو غير مجدٍ". هل تزيد التوقعات الاجتماعية من معاناة الرجل؟ Getty Images يجمع خبراء الصحة النفسية على أنّ تطوّر أي اضطراب نفسي أو مرض عقلي لا يحدث نتيجة عاملٍ واحد فقط، بل هو نتيجة تقاطع ثلاثة عوامل رئيسية: التكوين البيولوجي، والخلفيّة النفسية، والظروف الاجتماعيّة المحيطة. وفي هذا السياق، تؤكّد جيزيل صليبا أنّ كبت المشاعر والضوابط الاجتماعيّة غير المنطقيّة التي تُفرض على الرجال، قد تجعلهم أكثر عرضةً لتطوّر مشكلات في الصحة العقليّة. تقول إن هناك "ضغوطاً كبيرة يضعها المجتمع على الرجل، من بينها أنّه لا يجب عليه التعبير عن مشاعره أو التأثّر أو الحديث عن ذلك". هذه الضغوط لا تغيّر فقط من شكل التجربة النفسيّة، بل تؤثّر حتى على طبيعة الأعراض التي تظهر لدى الرجال. وتوضح: "نعتقد أن الاكتئاب مثلاً، يظهر لدى الجميع بشكل حزنٍ وانطواء. لكنّه يظهر لدى كثير من الرجال على شكل غضبٍ دائم، لأنّ التعبير عن الحزن غير مسموح به للذكور". وتضيف أنّ نسب الانتحار أعلى بكثير لدى الرجال مقارنةً بالنساء، قائلةً: "لكي يصل أحدهم إلى هذه المرحلة، فهذا يعني أنّه بلغ وضعاً نفسيّاً بالغ الصعوبة". وتفسّر هذه الأرقام بقولها: "النساء عادةً لا يواجهن مشكلة في التحدّث عن مشكلاتهنّ ومشاعرهنّ، بينما الرجال غالباً ما يحتفظون بكل شيء لأنفسهم ويكبتون الألم والمشاعر". Getty Images "أنت رجل لا يمكنك البكاء" تشير المعالجة النفسية جيزيل صليبا إلى أنّ نِسب استخدام المواد المخدّرة والإدمان على الكحول أعلى بكثير لدى الرجال مقارنةً بالنساء، كما أنّ اضطراب الشخصية المعادية للمجتمع، الذي يتميّز بأنماط سلوكية تتجاهل حقوق الآخرين وتعتمد على الخداع أو التلاعب والتهوّر، يظهر بشكلٍ أكبر لدى الذكور. هذا الاضطراب يكون مرتبطاً بعوامل بيولوجيّة وراثيّة بحسب هيئة الخدمات الصحية الوطنية البريطانية، إضافةً إلى تجارب الطفولة المؤلمة، مثل التعرّض للإهمال أو الإساءة العاطفية أو غياب أحد الوالدَين من الناحية الوجدانية. أما على الصعيد الجسدي، فيُجمع كلّ من صليبا وهادي أبي المنى على وجود علاقة موثّقة بين الكبت والتوتّر والإجهاد العاطفي من جهة، وظهور أمراض جسديّة من جهة أخرى. ويضرب أبي المنى مثالاً بمرضي الروماتيزم والفيبروميالجيا، حيث تساهم المشكلات العاطفية، بحسبه، في تفاقم الأعراض. ويقول: "تحريك الجسد، كالمشي أو التمارين الرياضيّة، يساهم كثيراً في تحسين الصحة النفسيّة. أما الكبت والتوتّر، فقد يؤدّيان إلى آلام جسديّة حقيقيّة، مثل الصداع أو ارتفاع ضغط الدم". وتنبه صليبا إلى خطورة التقليل من شأن التوتّر، وتقول: "في السنوات الأخيرة، نلاحظ تزايداً في الشكاوى الجسديّة التي لا يكون لها تفسير عضوي. ننسى في هذه الحالات أنّ الأمر لا يعني أننا بخير، بل أن التوتّر أو القلق قد تَسبّب فعلاً بمشكلة جسديّة حقيقيّة". وتشرح قائلة: "أظهرت الدراسات أنّ التوتّر قد يضعف المناعة، يؤثّر على صحّة القلب، يسبّب اضطرابات النوم، أو حتى اضطرابات الأكل، وكلّها ترتبط بعدم القدرة على التعامل مع مشاعرنا بشكلٍ صحّي". وتختم صليبا بنصيحة توجّهها إلى الأهل، وتحديداً إلى من يربّون أطفالاً ذكوراً: "جملة مثل 'أنت رجل، لا يمكنك البكاء'، كفيلة بأن تجعل الطفل عاجزاً عن التعامل مع مشاعره طوال حياته". وتضيف: "بدلاً من أن نصنع منه رجلاً أقوى، كما نتصوّر، نكون بذلك قد زرعنا فيه أزمة عاطفيّة عميقة وغياباً للراحة الداخليّة". وتؤكّد في النهاية: "لا يمكننا أن نمنع أحداً من أن يشعر. ما نفعله، هو أنّنا نجعل مهمّة فهم هذه المشاعر والتعامل معها أصعب بكثير".