
اكتب لتقرأ
يتردَّد في المجالس المخمليّة صدى مقولةٍ ظهرت في عهد النهضة: «لا تكتب حتى تقرأ»، ويُريدون بها أنَّ إمكانيةَ الكتابةِ متوقفةٌ على وجود القراءة. وأذكر -أيام الدراسات العليا عند أكاديميّ يلبس ثوبًا بنقوشٍ نهضويّة- أنَّ هذه المقولة تتردّد كثيرًا بلا سببٍ أحيانًا، وكُلُّ الطلابِ موافقون كأنَّ على رؤوسهم الطير، إلا زميلًا سأل: «أول كاتب في التاريخ، ماذا قرأ؟» وتعجبني بساطةُ اللحظةِ التي يعترض فيها هذا الزميل؛ لهذا سكتَ دكتور النَقد الروائي ثوان معدودة رافعًا نظارته من الأسفل ويحكّ عينيه، ثم تبصّر وقال: «أنا أقصد الكتابةَ الإبداعيّة، وليس فعل الكتابة نفسه». و رأيتُ -حينها- أنَّ إجابةَ الدكتور ناقصة، فقلتُ: إنَّ أول كاتب في التَاريخ قرأ صوتَ الطبيعةِ كما كتبَ طاليس «الماء أصل الوجود»، وقرأ صوتَ النَّفس كما قال سقراط «اعرف نفسك». حينها نظرتُ إلى زميلي فوجدتُ وجهَه ممتعضًا، وكأنَّه علم أنّي لم أكن مؤمنًا -إيمانا كاملًا خالصًا- بإجابتي، فهو يعرف أني متعصّب للكتابة، لكني لا أستطيع أن أدافع عنها بلا حجة، ومحبتي للكتابة -آنذاك- كعاشقٍ يُحِب امرأةً لكن لا يدري لِمَ.
وفي يومٍ كنتُ متجهًا إلى قاعةِ الدرس بممرات جامعة الملك سعود بعد مغيبِ الشمس بثوانٍ حيثُ الاكتئاب يُطلّ من النَّوافذ، تذكّرتُ أني قلتُ في تعليقي للدكتور: «كما كتبَ طاليس» ولا أدري كيف أُلْهِمتُها، لكنَّها صنعت فيَّ مرحلةَ البحث عن معنى الكتابة التي تجعل الإنسانَ قارئًا، وليس العكس، وقد أشغلني بالتفكير -آنذاك- لدرجةِ أني أصبحتُ أستمتع بقراءةِ كتبٍ متضادّة ومتنوعة في أجمل مكان في الرياض وهو المكتبة المركزيّة في جامعة الملك سعود، ولم يكن سؤالي في المكتبة: هل فعل الكتابةِ متأخّر عن لحظةِ التفكير أم يسبقه أم يتوازيان في لحظةٍ واحدة؟ بل كانَ السؤال هل يُمكن أن تكون الكتابةُ تفكيرًا أوليًا؟ وكانت إجابتي آنذاك أنَّ «من ذاقَ عرف»، أي عرفَ معنى أن تكون الكتابةُ هي القراءة المطلقة، وقلتُ حينها: «تُولَد القراءةُ الحقيقية إذا اعتاد العقلُ القراءةَ المطلقة/الكتابة»، وبهذا المعنى فالكتابةُ أولًا، وهي دعوة للناس: اكتبوا لتقرؤوا، وليس «اقرؤوا لتكتبوا»؛ فمن ليس بقارئ في المعنى المطلق لن تجعله القراءةُ العاديّة كاتبًا ألمعيًّا ألبتة.
ولم يكن قولي عن قراءةِ صوتِ الطبيعةِ -في المحاضرة ردًا على سؤال الزميل- إلا شيئًا انحفر في ذهني محبةً لطاليس الإغريقي آنذاك، لكنَّه فتح لي -لاحقًا في المكتبة المركزية- مجالًا لأعرفَ العلاقةَ بين الفنِّ الصيني والديانة البوذية التي علَّمت الناسَ أنَّ التأملَ لا يعدله شيء، والتَّأمل نوع من الكتابةِ التي سمَّتها المقالةُ هنا (القراءة المطلقة)، لهذا كانَ رهبانُ البوذيّة يتأملون الكلمات ويُقلّبونها على جمرِ ذكائهم للوصول إلى أعماق صوت الكلمة، فكلمة الماء لم يجعلوها مجردَ قول: (الماء أصل الوجود)، بل صنعوا منها مسارًا محسوسًا في الحياة، جعلَ الفنَّ الدينيَّ الصيني يرسم الماءَ والجبل والصخر؛ لتكون نصوصًا للقراءة، ولتكون الفنون المنحوتة والمرسومة إرثًا تتعاقبه الأجيالُ الفنيّةُ لتَبني عليه تأملًا جديدًا، وكلما صنع الفنانُ نصًا مختلفًا فهو قارئ مطلق، أما إذا اكتفى بتقليد التراث فهو قارئ عادي. إنَّ الصينيين -آنذاك- يكتبون الطبيعةَ أولًا في أذهانهم، ثم يَقرؤونها ويُقرئونها الناسَ مرسومةً ومنحوتة. وبهذا تكون قراءةُ الكاتب لكتابٍ ما، هي في الأصل قدح زناد الفكر بين كاتبين -غَرفَا من نبع واحد عميق الغور- وليس بين قارئ وكاتب، وستبطل -حينها- مقولة «اقرأ لتكتب»، وقد أبطلها الكاتبُ الأرجنتيني كاسارس حينما سُئِل: متى بدأتَ الكتابة؟، فقال: «لا شكَّ أنَّه قبل القراءة، بل قبل اكتشاف الأدب»، وإجابته تُحيل على مشروعه (أنطولوجيا الأدب الفانتازي)، والفانتازيا تُحيل على ما يُخالف الحقيقةَ، أو الشكّ بالواقع، أو الكذب، والكذب هو ما تدور عليه التَّصورات بأنَّ القراءةَ العادية للكتب المرصوصة في المكتبات تسبق الكتابة؛ إذ القسمة التاريخية: (قراءة وكتابة) هي نتيجة لكون الواقع كذبًا؛ فليس ثمة إلا الكتابة، وأما القراءة العادية فهي سلوك البشر لإخراج المكتوب، فهناك شيء قبل القراءة، قبل الواقع، إنَّه الكتابة، لكن بأيَّ معنى يُمكِن أن يكونَ هذا السابق للواقع؟ بمعنى المستقلّ عن التغيّرات التي تجري للناسِ أثناء القراءة العاديّة. وهذا المستقل هو صور الطبيعة الأولية الكامنة في أنفس كتَّابٍ أفذاذ، الصور التي تجعل المكتوبَ مفهومًا لقارئه. وقد أختصر القولَ بالتَّالي: إنَّ الكتابةَ المعروفةَ في الأذهان هي مرحلة ثالثة بعد القراءةِ من مصادر المعرفة كلها، لكن هذه القراءة العاديّة من مصادر المعرفة هي نتاج كتابةٍ أوليّة قام بها أفراد قليلون.
إذن جُعِلت القراءةُ شيئًا ثابتًا ذا مضمونٍ يُعادل الحقيقةَ، ومن ثمَّ جُعِلت الكتابةُ فَرعًا عن هذه الحقيقة. ولكن إذا استحضرنا أنَّ الواقعَ نفسَه كذبةٌ كقولنا: «الناس نيام إذا ماتوا انتبهوا»، واستحضرنا أنَّ مصدر هذه الكذبة اتفاقُ الذهن الإنساني على شيء يُسميه (اليقظة) في مقابل الأحداث التي تحصل في المنام أي بابتكار ثنائية (يقظة/منام) علمنا أنَّ من نتائج هذه الكذبة القسمةُ المعروفةُ (قراءة فكتابة) وعلمنا أنَّ ثمة شيئا يسبق الواقع الكاذب هو الكتابة الأولية التي قام بها أفراد قليلون لتشكيل الواقع الكاذب، ولا يُميز هذه الكتابة الأولية إلا مَن سعى لاختراق الحجاب الذي يسكن الجسد. وبهذه النتيجة تكون هذه المقالة تُراهن على أنَّ القراءةَ -في مفهومها العادي- فرع عن الكتابة الحقيقية، أما الكتابة الساذجة فهي بالتأكيد فرع عن القراءة.
التفاتة:
يا مَن تجلس -بلا فائدة كالعادة- في المحاضرات والندوات وتطوير الذات لا تقرأ قبل أن تكتب، فبالكتابة ستعرف ذاتك فعلًا ومن أنتَ، وماذا تريد وكيف كانت روحك تعرف الوجودَ قبل أن يعبث بمفاهيمها المثقفون؟ وبالكتابة تنبثق لك المَشاهدُ الأولى في اختراق الحجب نحو القراءة الفعلية الحقيقية.

جرب ميزات الذكاء الاصطناعي لدينا
اكتشف ما يمكن أن يفعله Daily8 AI من أجلك:
التعليقات
لا يوجد تعليقات بعد...
أخبار ذات صلة

سعورس
منذ 3 أيام
- سعورس
ثلوثية بامحسون تحتفي بمسيرة العالِم د. أحمد الضبيب
بحضور علمي وثقافي لافت، اختتم منتدى ثلوثية بامحسون الثقافي موسمه السادس والثلاثين مساء أمس الأول، بتكريم معالي الأستاذ الدكتور أحمد بن محمد الضبيب، أحد أبرز الوجوه العلمية في المملكة والعالم العربي، في احتفالٍ جمع بين الوفاء الرمزي والاحتفاء الفكري، وحضره نخب من المفكرين واللغويين والأكاديميين داخل المملكة وخارجها، حضورياً وافتراضياً. واستُهل الحفل بكلمة راعي المنتدى الشيخ عبدالله بن سالم باحمدان، الذي أشار إلى رمزية هذا الحفل الختامي، مؤكداً أن تكريم العلماء هو تكريم للقيم التي يمثلونها، وقال: "نتشرف في هذا الحفل بتكريم الدكتور أحمد الضبيب، القامة العلمية التي صنعت أثرها ووضعت بصمتها من خلال الإصرار وعمق الإنجاز، إذ لم يكن مجرد شاهد على التحولات، بل كان جزءًا من صناعتها." واستعرض الشيخ باحمدان محطات بارزة في مسيرة المحتفى به، بدءاً من دراسته وتحقيقه للتراث، وصولاً إلى دوره الإداري المؤسس في جامعة الملك سعود، ومشاركته الفاعلة في الجوائز العلمية والمجالس الثقافية. وختم كلمته بالثناء على المنتدى الذي ظل وفياً لرسالته الثقافية على مدار العقود، والدعاء لقيادتنا الرشيدة التي تولي الثقافة والعلماء اهتمامًا ورعاية دائمة. تلا ذلك كلمة مؤسس المنتدى الدكتور عمر بن عبدالله بامحسون، الذي أشار إلى أن تكريم الدكتور الضبيب يأتي ضمن تقليد أصيل تبناه المنتدى في كل موسم لتسليط الضوء على الرموز الوطنية، وقال: "نكرم اليوم علماً من أعلام اللغة العربية، قاد جامعة، وأسهم في تأسيس الجوائز، وترأس مناصب علمية مرموقة، لكنه ظل حاملاً لهمّ المعرفة ومجتهداً في خدمة التراث واللغة. كما استعرض سيرة الدكتور الضبيب، مشيراً إلى دوره في دعم الثقافة العربية، ومشاركاته العلمية في مجمع اللغة العربية بالقاهرة، فضلًا عن إنتاجه العلمي الواسع ومؤلفاته التي شكّلت مرجعًا للأجيال. وفي مشهد مؤثر، ألقى الدكتور أحمد الضبيب كلمة عبّر فيها عن امتنانه لهذا التكريم، واعتبره "وسامًا يعتز به"، وقال بتواضع يليق بالكبار: "أرى جهدي الذي قمت به هو جهد المقل، وكلما تقدمتُ في البحث اكتشفتُ مدى جهلي، كما قال تعالى: "وما أوتيتم من العلم إلا قليلاً". وخصّ بالشكر القائمين على المنتدى، والباحثين الذين قدموا ورقتين علميتين عن جهوده، مؤكداً أن شهادتهم غالية وإن كانت تحمل "نظرة المحب"، على حد وصفه. وختم كلمته بإعلاء قيمة المعرفة، والدعوة إلى التواضع أمام سعتها وأسرارها. أوراق علمية في التكريم : قراءة في السمت العلمي والبعد التربوي أثرت الحفل ورقتان علميتان نادرتان من حيث التحليل والامتداد الزمني، والتي استهلها أستاذ اللسانيات الدكتور إبراهيم الشمسان واستعرض مسيرة الضبيب معلماً ولغوياً ومحققا عبر شهادة أكاديمية وتربوية عن معلمه الدكتور الضبيب، وصفه فيها بأنه "سادن العربية، وأستاذ المعاجم، ورائد التحقيق العلمي". وقد استعرض الشمسان بأسلوب سردي جذاب، محطاتٍ من التكوين العلمي المبكر للمحتفى به، بدءاً من طريقته في تدريس الشعر الجاهلي، وتكليف طلابه بتحليل القصائد، ووصولاً إلى دوره البارز في دراسات اللهجات، والتحقيق، والمعاجم، والتراث، وبيّن من خلال أمثلة دقيقة كيف غرس الضبيب في طلابه منهجية البحث العلمي، والنقد، والتوثيق، واللغة الحية. تلاه الدكتور يحيى أبو الخير في ورقة بعنوان "سَمْت علمي متفرد بين الدراسات والهوية" استعرض فيها إسهامات الضبيب في علم اللغة الاجتماعي، والهُوية اللغوية، وقضايا العولمة، والتعريب، وتحقيق النصوص. كما سلّط الباحث الضوء على مؤلفات مركزية مثل اللغة العربية في عصر العولمة، والعرب والخيار اللغوي، ومعجم مطبوعات التراث، وبيّن كيف تبنّى الضبيب موقفًا منهجيًا صريحًا للدفاع عن الفصحى، وربطها بالسيادة الثقافية والتنمية المعرفية، كما عرض رؤاه في مواجهة التبعية اللغوية، ودعا إلى إعادة الاعتبار للسياسة اللغوية في التعليم والإدارة. واختتم الدكتور أبو الخير ورقته بتحليل دقيق لجهود الضبيب في تحقيق التراث، خاصة في كتبه التي تناولت منهج الشيخ حمد الجاسر، مؤكدًا أن الدكتور الضبيب قدّم نموذجًا فريدًا للباحث العربي الموسوعي، الجامع بين العمق العلمي والانفتاح المعرفي. منصة تتجدد ورسالة ثقافية مستمرة بهذا الحفل، رسّخ منتدى ثلوثية بامحسون مكانته كأحد أهم المنابر الثقافية المستمرة في المملكة، بتكريمه المتواصل لأعلام الوطن ممن أسهموا في نهضته العلمية والفكرية. ويأتي تكريم الدكتور الضبيب امتدادًا لمسيرة من العرفان قادها المنتدى منذ أكثر من ثلاثين عامًا، جامعًا بين الوفاء والتجديد، بين العلم والتأريخ، بين الشخصية والرسالة. جانب من التكريم لعدد من المثقفين د. أحمد الضبيب يلقي كلمته خلال الاحتفاء باحمدان وتكريم د. الضبيب بدرع تذكارية جانب من الحضور


الرياضية
منذ 5 أيام
- الرياضية
22 سبتمبر.. «شاتليه» يحتضن جائزة الكرة الذهبية
أعلن منظمو حفل توزيع جائزة الكرة الذهبية لأفضل لاعب في العالم، عن تنظيم الحدث في 22 سبتمبر من العام الجاري. وأوضح القائمون على الجائزة أن نسخة العام الجاري سيكون فيها عدد الجوائز المخصصة للنساء والرجال متساويًا للمرة الأولى. وأضافت مجلة «فرانس فوتبول» الفرنسية التي تقف خلف فكرة الجائزة الفردية الأكثر شهرة في عالم الكرة المستديرة والاتحاد الأوروبي لكرة القدم «يويفا» جوائز أفضل حارسة مرمى، وأفضل لاعبة شابة، وأفضل هدافة في نادٍ أو منتخب وطني العام الجاري، وذلك في حفل ينظم على مسرح «شاتليه» في باريس العاصمة الفرنسية. وأشار المنظمون إلى توزيع إجمالي 6 جوائز لكل من اللاعبين واللاعبات، بجانب استحداث جائزة جديدة هي جائزة «سقراط» للأعمال التي تعزز التضامن، وهي متاحة للرجال والنساء. وسيتم الإعلان عن المرشحين للجوائز في أوائل أغسطس المقبل. يُذكر أن فريق ريال مدريد الإسباني قاطع حفل توزيع الجوائز العام الماضي، بعدما علم النادي الملكي مسبقًا بعدم فوز البرازيلي فينيسيوس جونيور، مهاجمه، بجائزة أفضل لاعب التي كانت من نصيب الإسباني رودري، لاعب خط وسط مانشستر سيتي الانجليزي، إضافة إلى إحراز مواطنته أيتانا بونماتي، نجمة برشلونة جائزة أفضل لاعبة.


الرياض
١٣-٠٥-٢٠٢٥
- الرياض
رقميةالبودكاست أعاد لنا علاقتنا بالحكاية والصوت
خلال سنوات قليلة فقط، أصبح البودكاست جزءًا لا يتجزأ من تفاصيل الحياة اليومية التي يصعب تجاوزها؛ فلم يعد مجرد حوارات جادة أو لقاءات تفاعلية مطولة، بل تحوّل إلى مساحة قريبة تشبه المجالس السعودية، حيث تختلط الجدية بخفة الدم، والفكر بالبساطة، وتصبح التجربة الصوتية امتدادًا لحياة السعودي اليومية بكل ما فيها من تساؤلات وهموم وضحكات ومواقف. انطلق البودكاست عالميًا كوسيلة لكسر احتكار الإعلام التقليدي، لكن في السعودية حمل نكهة خاصة؛ هنا لا يجلس المستمع متوترًا أمام حوار ثقيل، بل يجد نفسه مستمعًا لحكاية تشبه مجلسًا عائليًا أو سمرًا بين أصدقاء؛ هذا ما يفسّر انجذاب السعوديين إلى هذا النوع من البودكاست، إذ يجدون فيه أصواتًا تشبههم ولغة تلامس يومياتهم. أحد أبرز الأمثلة في هذا المشهد هو بودكاست "سقراط" الذي تقدّمه شركة ثمانية، والذي استطاع خلال سنوات قليلة أن يحجز لنفسه مكانة استثنائية في قلوب وعقول السعوديين؛ وكذلك "فنجان" وأيضًا "أبجورة" و"ترند" و"كنبة" وغيرها من برامج البودكاست الرائعة التي تطرح قضايا عامة وموضوعات مجتمعية شيّقة ومفيدة ورائعة. ومما يميزها أنها لا تقع في فخ الجدية المفرطة، بل تقدّم نقاشات تنساب بسلاسة، وكأنك تجلس مع ضيف في مجلس وتستمع إليه وهو يروي قصة أو يشرح مشروعًا بلغة بسيطة وشخصية، هذا الأسلوب جعل البودكاست من أكثر القنوات الاتصالية تأثيرًا ومتابعة. الإحصائيات المحلية والعالمية تكشف حجم التحول؛ فقد أظهرت دراسة أصدرتها "ميديا مونيتور" السعودية في 2024 أن نسبة الاستماع للبودكاست ارتفعت بنسبة 57 ٪ خلال ثلاث سنوات فقط، وأصبح السعوديون من أكثر الشعوب العربية تعلقًا بهذا النوع من المحتوى. إقليميًا، أفادت بيانات "سبوتيفاي الشرق الأوسط" أن ساعات الاستماع للبودكاست زادت في الخليج بنسبة 35 ٪ خلال عامين، مع تصدّر السعودية في معدلات الاستماع والمشاركة. عالميًا، بحسب "بودكاست إنسايتس"، هناك أكثر من 700 مليون حلقة نشرت حتى عام 2024، فيما تؤكد "إديسون ريسيرش" أن 74 ٪ من المستمعين يشعرون أن مقدمي البرامج باتوا جزءًا من حياتهم اليومية. ما يميّز تجربة البودكاست السعودي أنه لا يكتفي بإعطاء المعلومة، بل ينسج حولها حالة من القرب والحميمية. المستمع لا يشعر أنه يتلقى درسًا أو يشاهد مؤتمرًا، بل يعيش القصة، يسمع الضحكة، يتوقف عند التعليق الذكي، ويخرج في النهاية بشيء من المعرفة مخلوط بمتعة أصيلة. التجارب الدولية مثل "ذا ديلي" من نيويورك تايمز و"هاو آي بيلت ذيس" لعبت دورًا في إلهام صناع البودكاست هنا، لكن السعوديين أعادوا تشكيل هذا الفن ليعبّر عن مزاجهم وخصوصيتهم الثقافية. اليوم، يتجاوز تأثير البودكاست مجرد الترفيه أو التعليم، بل يدخل في تفاصيل حياة الناس، من قراراتهم اليومية إلى اهتماماتهم الثقافية وحتى نقاشاتهم داخل البيوت والمجالس. وقد بدأت شركات ومؤسسات سعودية تدرك هذا التأثير، فصارت تنتج برامج بودكاست خاصة بها، بينما أطلقت الجامعات قنوات معرفية موجهة للطلاب والمجتمع. في النهاية، يبدو أن البودكاست في السعودية لم يكن مجرد موجة عابرة، بل هو تعبير صادق عن رغبة السعوديين في الإصغاء لبعضهم البعض في زمن يتسارع فيه كل شيء. ومع تطوّر الأدوات التقنية ودخول الذكاء الاصطناعي لتحسين تجربة الإنتاج والتحرير، من المتوقع أن نشهد مرحلة جديدة من الإبداع الصوتي تجعل من السعودية لاعبًا محوريًا في مشهد البودكاست الإقليمي وربما العالمي. البودكاست هنا لا يغيّر فقط طريقة استهلاكنا للمحتوى، بل يعيد رسم علاقتنا بالحكاية والصوت، كما لو أننا عدنا إلى أصل التواصل البشري: حكاية تُروى في مجلس، ومَن حولك ينصتون بشغف.