
زيارة جديدة إلى "ماركس"
يعد كتاب «قراءة ماركس» من أهم الأعمال التي تناولت فكر كارل ماركس؛ إذ يُقدِّم قراءة جديدة لفكره مستخدمًا أدوات التحليل النفسي والفلسفة والمجتمع. الكتاب، الذي شارك في كتابه ثلاثة من كبار دارسي «ماركس» (سلافوي جيجك وفرانك رودا وأجون حمزة) غني بالمعلومات والتحليلات، ويوفر للقارئ فهمًا عميقًا لفكر أحد أهم المفكرين في التاريخ .
الشاهد أن نقد «ماركس» للاقتصاد السياسي يعتبر مُهمًا لفهم أزمة الرأسمالية المعاصرة. وهذا التناول الجريء يُقدِّم تفسيرًا جذريًا جديدًا للماركسية، يوضح ويُثبت فشل الليبرالية الجديدة. يطرح الباحثون الثلاثة رؤية عميقة تؤسس لسياسات تحررية جديدة، كما يُقدِّمون لنا مناهج جديدة لشرح أزمة الرأسمالية المعاصرة وتفسيرها، وتوضيح كيفية التصدي للأصولية بجميع أشكالها.
يتجنب الكتابُ -الذي يقع في 122 صفحة من القطع المتوسط- الخوض في المقارنات المبتذلة بين الرؤية العالمية لماركس والمشهد السياسي المعاصر. وُيثبت المؤلفون أن الكشف الحالي عن أفكار «ماركس» وقيمة الفكر الماركسي يمكن أن يُشرَح ويُقدَّم بطريقة أفضل بوضع أفكاره الرئيسية في حوار مع أولئك الذين سعوا لأن يحلوا محله.
ولعل أحد الصعوبات في قراءة «ماركس» في وقتنا الحالي ليست في تقييم مدى صلاحيتها أو مدى معاصرة نقده للاقتصاد السياسي، كما في عكس جوهر منهج القراءة. قراءة «ماركس» بأثر رجعي تعني تقديم قراءة يعهد فيها إلى «ماركس» بالإجابة على منتقديه.. أولئك الذين أعلنوا أن تحليله لا صلة له بعصرنا الحالي. مثل تلك القراءة لماركس لا بدَّ من ربطها وقرنها بأحد طروحاته وفرضياته الأساسية، وهي بالتحديد فرضية أن الرأسمالية عالمية بالفعل، وأن واقع الرأسمالية قد وصل إلى قمته. لماذا؟ لأن واحدة من أهم الجدليات الهيغلية الأساسية مكوّنة من توضيح أن الحدود أو/ والتضاربات والتناقضات تظهر بدقة ووضوح في ذات لحظة الإدراك الكامل لفكرة معينة.
وحيث أن الرأسمالية الحالية لا تواجه مخاطر خارجية (كتلة شيوعية على سبيل المثال) فإن المخاطر على الرأسمالية في هذه الحالة تأتي من داخلها، أي من تناقضاتها الداخلية. وهنا يبزغ السؤال: ماذا يحدث لفكرة معينة حين تصل إلى قمة تحققها الفعلي؟
وحتى نضعها في صياغة أكثر تبسيطًا، فإن نظرية الأنطولوجيا الموجهة تحافظ وتدافع عن استقلال الأشياء الذاتي، مهما تكن خصوصية العلاقة التي تحدث بها، سواء علاقة بشرية، أو طبيعية، أو غيرها من علاقات. هذا جانب من استراتيجية كشف زيف مركزية البشر. لكن، بقدر ما تتعرَّف القراءة الماركسية على مثل ذلك الوضع، فإن هذا أيضًا سبب في أنه لا يوجد مكان ولا مساحة للموضوع في هذا التعرف النظري. وبهذا المعنى والصدد، فإن نظرية الأنطولوجيا الموجهة تتضمن أن التغير من الممكن أن يحدث فقط حتى يكون هناك تشويش واختلال من الخارج في صور الأشياء. مشكلة نظرية الأنطولوجيا الموجهة هي في أن مقدماتها المنطقية تسعى إما إلى الإكمال والإضافة أو الحلول محل العلم الحديث بشكل قديم عن كيفية الأشياء، واقعيًا، في ذاتها.
ويرى الباحثون الثلاثة أن قراءة تحليل «ماركس» للاختزال المكون للاقتصاد الرأسمالي تتوافق مع ذات نهج كهف أفلاطون الرمزي وتجبرنا على التصدي لتبعاته المدهشة: لا للموضوع السابق افتراضه فقط عن التاريخ، بل لواحد من النتاج الشبحي لنظام الكهف؛ إضافة إلى ذلك، يعقد هذا على الفور سؤال ما الذي يمكن أن يعنيه الخروج من الكهف، أي يعقد المشكلة الرئيسية والأساسية للتحرر. لماذا تعد هذه مشكلة؟ لقد فرَّق هيدغر في قراءته لكهف أفلاطون الرمزي بين «مختلف أماكن المعيشة» (لينين، The State and Revolution) المحتملة والتي لا بدَّ لمختلف الأشخاص أن يمروا من خلالها ويعبروها في طريقهم للتحرر والخروج من الكهف. المكان الأول هو حيث يعيشون مكبلين في الكهف، لكن يظهر السؤال الحقيقي والمشكلة الحقيقية عند نزع القيود والأغلال عنهم، فحيث إن المساجين المقيدين أصبحوا الآن أحرارًا بمعنى ما» (لينين، المرجع السابق)، إلا أنهم يظلون متمسكين بفكر الأشباح والظلال الذي ألفوه. هذا لأن المرء «طالما لا يواجه شيئًا سوى ظلال وأشباح، فإن هذا يأسر التحديق والرؤية لديه» (جورجيو أغامبين، Profanations).
إذن كيف نحرر السجناء من هذا القيد والشبق النفسي؟
يحدث هذا فقط حين «ينقل المسجون إلى خارج الكهف» (لينين، المرجع السابق)، حين يصبح حُرًا خارجه.
من منظور الجمع بين قراءة «ماركس» و«هيغل»، ثمة بُعدٌ آخر: وهو عن ديالكتيك «هيغل» الشهير عن العبد والسيد في علاقته بالفكر الماركسي. وربما كان هذا أحد أعمدة إعادة بناء الفكر الماركسي ليلائم عصرنا. ليس الهدف مجرد العودة إلى «هيغل» (من «ماركس»)، وبالتالي نميز ونُعلي الظاهراتية على المنطق، ولكن لنقرأ «ماركس» من منظور «هيغل». أو بصياغةٍ أخرى، ما الذي كان سيكتبه «هيغل» لو كان قد قرأ «رأس المال» لماركس. هناك شبه إجماع بين الفلاسفة، والماركسيين، وغير الماركسيين على حدٍ سواء أن رأس المال ربما ارتبط من بعد «ماركس» بهيغل، وبخاصة كتاب «هيغل»: «علم المنطق». في رسائل كثيرة كتبها «ماركس» إلى «إنغلز» يعترف «ماركس» ذاته بهذا؛ وضمن أشياء أخرى أقر بها، قال إن نظريته عن الربح تحتاج إلى إعادة صياغة اعتمادًا على ما جاء في كتاب «علم المنطق» لهيغل. ولكن، لا يرى كثير من فلاسفة القرن العشرين الماركسيين «ماركس» كمصدر أصيل لكل فكره الماركسي، وينظرون بدلًا من ذلك إلى سبينوزا كمصدر لفلسفة تتوافق وتتساير بشكل أفضل مع نقد «ماركس» للاقتصاد السياسي. وطبقًا لأكثر الفلاسفة الماركسيين بطولة وعداءً لهيغل، فإنهم يرون أن لويس ألتوسير وسبينوزا هما السلفان الأصليان الحقيقيان لماركس اللذان أخذ عنهما.

جرب ميزات الذكاء الاصطناعي لدينا
اكتشف ما يمكن أن يفعله Daily8 AI من أجلك:
التعليقات
لا يوجد تعليقات بعد...
أخبار ذات صلة


مصراوي
٠٥-٠٥-٢٠٢٥
- مصراوي
زيارة جديدة إلى "ماركس"
يعد كتاب «قراءة ماركس» من أهم الأعمال التي تناولت فكر كارل ماركس؛ إذ يُقدِّم قراءة جديدة لفكره مستخدمًا أدوات التحليل النفسي والفلسفة والمجتمع. الكتاب، الذي شارك في كتابه ثلاثة من كبار دارسي «ماركس» (سلافوي جيجك وفرانك رودا وأجون حمزة) غني بالمعلومات والتحليلات، ويوفر للقارئ فهمًا عميقًا لفكر أحد أهم المفكرين في التاريخ . الشاهد أن نقد «ماركس» للاقتصاد السياسي يعتبر مُهمًا لفهم أزمة الرأسمالية المعاصرة. وهذا التناول الجريء يُقدِّم تفسيرًا جذريًا جديدًا للماركسية، يوضح ويُثبت فشل الليبرالية الجديدة. يطرح الباحثون الثلاثة رؤية عميقة تؤسس لسياسات تحررية جديدة، كما يُقدِّمون لنا مناهج جديدة لشرح أزمة الرأسمالية المعاصرة وتفسيرها، وتوضيح كيفية التصدي للأصولية بجميع أشكالها. يتجنب الكتابُ -الذي يقع في 122 صفحة من القطع المتوسط- الخوض في المقارنات المبتذلة بين الرؤية العالمية لماركس والمشهد السياسي المعاصر. وُيثبت المؤلفون أن الكشف الحالي عن أفكار «ماركس» وقيمة الفكر الماركسي يمكن أن يُشرَح ويُقدَّم بطريقة أفضل بوضع أفكاره الرئيسية في حوار مع أولئك الذين سعوا لأن يحلوا محله. ولعل أحد الصعوبات في قراءة «ماركس» في وقتنا الحالي ليست في تقييم مدى صلاحيتها أو مدى معاصرة نقده للاقتصاد السياسي، كما في عكس جوهر منهج القراءة. قراءة «ماركس» بأثر رجعي تعني تقديم قراءة يعهد فيها إلى «ماركس» بالإجابة على منتقديه.. أولئك الذين أعلنوا أن تحليله لا صلة له بعصرنا الحالي. مثل تلك القراءة لماركس لا بدَّ من ربطها وقرنها بأحد طروحاته وفرضياته الأساسية، وهي بالتحديد فرضية أن الرأسمالية عالمية بالفعل، وأن واقع الرأسمالية قد وصل إلى قمته. لماذا؟ لأن واحدة من أهم الجدليات الهيغلية الأساسية مكوّنة من توضيح أن الحدود أو/ والتضاربات والتناقضات تظهر بدقة ووضوح في ذات لحظة الإدراك الكامل لفكرة معينة. وحيث أن الرأسمالية الحالية لا تواجه مخاطر خارجية (كتلة شيوعية على سبيل المثال) فإن المخاطر على الرأسمالية في هذه الحالة تأتي من داخلها، أي من تناقضاتها الداخلية. وهنا يبزغ السؤال: ماذا يحدث لفكرة معينة حين تصل إلى قمة تحققها الفعلي؟ وحتى نضعها في صياغة أكثر تبسيطًا، فإن نظرية الأنطولوجيا الموجهة تحافظ وتدافع عن استقلال الأشياء الذاتي، مهما تكن خصوصية العلاقة التي تحدث بها، سواء علاقة بشرية، أو طبيعية، أو غيرها من علاقات. هذا جانب من استراتيجية كشف زيف مركزية البشر. لكن، بقدر ما تتعرَّف القراءة الماركسية على مثل ذلك الوضع، فإن هذا أيضًا سبب في أنه لا يوجد مكان ولا مساحة للموضوع في هذا التعرف النظري. وبهذا المعنى والصدد، فإن نظرية الأنطولوجيا الموجهة تتضمن أن التغير من الممكن أن يحدث فقط حتى يكون هناك تشويش واختلال من الخارج في صور الأشياء. مشكلة نظرية الأنطولوجيا الموجهة هي في أن مقدماتها المنطقية تسعى إما إلى الإكمال والإضافة أو الحلول محل العلم الحديث بشكل قديم عن كيفية الأشياء، واقعيًا، في ذاتها. ويرى الباحثون الثلاثة أن قراءة تحليل «ماركس» للاختزال المكون للاقتصاد الرأسمالي تتوافق مع ذات نهج كهف أفلاطون الرمزي وتجبرنا على التصدي لتبعاته المدهشة: لا للموضوع السابق افتراضه فقط عن التاريخ، بل لواحد من النتاج الشبحي لنظام الكهف؛ إضافة إلى ذلك، يعقد هذا على الفور سؤال ما الذي يمكن أن يعنيه الخروج من الكهف، أي يعقد المشكلة الرئيسية والأساسية للتحرر. لماذا تعد هذه مشكلة؟ لقد فرَّق هيدغر في قراءته لكهف أفلاطون الرمزي بين «مختلف أماكن المعيشة» (لينين، The State and Revolution) المحتملة والتي لا بدَّ لمختلف الأشخاص أن يمروا من خلالها ويعبروها في طريقهم للتحرر والخروج من الكهف. المكان الأول هو حيث يعيشون مكبلين في الكهف، لكن يظهر السؤال الحقيقي والمشكلة الحقيقية عند نزع القيود والأغلال عنهم، فحيث إن المساجين المقيدين أصبحوا الآن أحرارًا بمعنى ما» (لينين، المرجع السابق)، إلا أنهم يظلون متمسكين بفكر الأشباح والظلال الذي ألفوه. هذا لأن المرء «طالما لا يواجه شيئًا سوى ظلال وأشباح، فإن هذا يأسر التحديق والرؤية لديه» (جورجيو أغامبين، Profanations). إذن كيف نحرر السجناء من هذا القيد والشبق النفسي؟ يحدث هذا فقط حين «ينقل المسجون إلى خارج الكهف» (لينين، المرجع السابق)، حين يصبح حُرًا خارجه. من منظور الجمع بين قراءة «ماركس» و«هيغل»، ثمة بُعدٌ آخر: وهو عن ديالكتيك «هيغل» الشهير عن العبد والسيد في علاقته بالفكر الماركسي. وربما كان هذا أحد أعمدة إعادة بناء الفكر الماركسي ليلائم عصرنا. ليس الهدف مجرد العودة إلى «هيغل» (من «ماركس»)، وبالتالي نميز ونُعلي الظاهراتية على المنطق، ولكن لنقرأ «ماركس» من منظور «هيغل». أو بصياغةٍ أخرى، ما الذي كان سيكتبه «هيغل» لو كان قد قرأ «رأس المال» لماركس. هناك شبه إجماع بين الفلاسفة، والماركسيين، وغير الماركسيين على حدٍ سواء أن رأس المال ربما ارتبط من بعد «ماركس» بهيغل، وبخاصة كتاب «هيغل»: «علم المنطق». في رسائل كثيرة كتبها «ماركس» إلى «إنغلز» يعترف «ماركس» ذاته بهذا؛ وضمن أشياء أخرى أقر بها، قال إن نظريته عن الربح تحتاج إلى إعادة صياغة اعتمادًا على ما جاء في كتاب «علم المنطق» لهيغل. ولكن، لا يرى كثير من فلاسفة القرن العشرين الماركسيين «ماركس» كمصدر أصيل لكل فكره الماركسي، وينظرون بدلًا من ذلك إلى سبينوزا كمصدر لفلسفة تتوافق وتتساير بشكل أفضل مع نقد «ماركس» للاقتصاد السياسي. وطبقًا لأكثر الفلاسفة الماركسيين بطولة وعداءً لهيغل، فإنهم يرون أن لويس ألتوسير وسبينوزا هما السلفان الأصليان الحقيقيان لماركس اللذان أخذ عنهما.


اليوم السابع
٠٥-٠٥-٢٠٢٥
- اليوم السابع
ميلاد كارل ماركس.. كيف كانت طفولته
تمر اليوم ذكرى ميلاد المفكر الشهير كارل ماركس ، إذ ولد في مثل هذا اليوم 5 مايو عام 1818، في مقاطعة الراين بألمانيا، وهو عالم اجتماع ومؤرخ واقتصادي نشر واستطاع أن يملأ الدنيا بأفكاره ونسبت إليه " الماركسية"، نشر مع فريدريك إنجلز عام 1848 بيان الحزب الشيوعى المعروف باسم البيان الشيوعي ، وهو الكتيب الأكثر شهرة في تاريخ الحركة الاشتراكية كما أنه كان مؤلف كتاب رأس المال وتشكل هذه الكتابات وغيرها لماركس وإنجلز أساس جسد الفكر والاعتقاد المعروف بالماركسية. تم تعميد كارل عندما كان عمره ست سنوات وعلى الرغم من أن كارل في شبابه كان متأثرًا بالدين بدرجة أقل من تأثره بالسياسات الاجتماعية النقدية والراديكالية في بعض الأحيان للتنوير إلا أن خلفيته اليهودية عرّضته للتحيز والتمييز الذي ربما أدى به إلى التشكيك في دور الدين في المجتمع وساهم في رغبته للتغيير الاجتماعي وفقا لموسوعة بريتانيكا. تلقى ماركس تعليمه من 1830 إلى 1835 في المدرسة الثانوية في ترير بألمانيا وأظهرت كتابات ماركس خلال هذه الفترة روح الإخلاص المسيحي والتوق إلى التضحية بالنفس من أجل البشرية وفي أكتوبر 1835 التحق بجامعة بون وكانت الدورات التي حضرها حصرية في العلوم الإنسانية، في مواضيع مثل الأساطير اليونانية والرومانية وتاريخ الفن. شارك في الأنشطة الطلابية المعتادة، وخاض مبارزة، وقضى يومًا في السجن لكونه في حالة سكر وعدم انتظام، ترأس نادي تافرن ، الذي كان على خلاف مع الجمعيات الطلابية الأرستقراطية وانضم إلى نادي الشعراء الذي ضم بعض النشطاء السياسيين وكانت الثقافة الطلابية المتمردة سياسياً بالفعل جزءًا من الحياة في بون، تم القبض على العديد من الطلاب، وكان البعض منهم يتعرضون للطرد في عهد ماركس، ولا سيما نتيجة محاولة الطلاب تعطيل جلسة البرلمان الفيدرالي في فرانكفورت، غادر ماركس بون بعد عام، وفي أكتوبر 1836 التحق بجامعة برلين لدراسة القانون والفلسفة. كانت تجربة ماركس الحاسمة في برلين هي تقديمه لفلسفة هيجل على الرغم من أنه في البداية شعر بالاشمئزاز تجاه مذاهب هيجل وقد كتب لوالده:"من انزعاج شديد من الاضطرار إلى صنع صنم لوجه أبغضه". كان الضغط الهيجلي في الثقافة الطلابية الثورية قوياً، وانضم ماركس إلى مجتمع يسمى نادي الأطباء، والذي شارك أعضاؤه بشكل مكثف في الحركة الأدبية والفلسفية الجديدة وبدأ الهيجليين الشباب بالتحرك نحو الإلحاد وتحدثوا أيضًا عن العمل السياسي. في يناير 1842، بدأ ماركس في المساهمة في صحيفة تأسست حديثًا في كولونيا، وهي Rheinische Zeitung وقد أدان الرقابة باعتبارها شرًا أخلاقيًا وتحدث كثيرا عن حرية الصحافة. بعد أربعة أشهر من زواجه انتقل اإلى باريس التي كانت آنذاك مركز الفكر الاشتراكي والطوائف التي سميت الشيوعية وهناك أصبح ماركس ثوريًا وشيوعيًا وبدأ في الارتباط بالمجتمعات الشيوعية للعمال الفرنسيين والألمان وكانت أفكارهم، في رأيه، "فجّة تمامًا وغير ذكية"، لكن شخصيتهم حركته حيث كان يقول: "أخوّة الإنسان ليست مجرد عبارة بل هي حقيقة من حقائق الحياة" كتب عام 1844 ؛ المخطوطات الاقتصادية والفلسفية ولم تُنشر هذه المخطوطات منذ حوالي 100 عام ، لكنها مؤثرة لأنها تُظهر الخلفية الإنسانية لنظريات ماركس التاريخية والاقتصادية اللاحقة التى رسخها فى كتبه الشهيرة فيما بعد.

الدستور
٠٥-٠٥-٢٠٢٥
- الدستور
"بين الفلسفة والسياسة".. كيف صنع كارل ماركس فكرًا غيّر العالم؟
في مثل هذا اليوم وتحديدا 5 مايو لعام 1818، وُلد كارل ماركس في مدينة ترير الألمانية، ليصبح أحد أكثر المفكرين تأثيرًا في التاريخ الحديث، فلم يكن "ماركس" مجرد فيلسوف أو اقتصادي، بل كان ثوريا حمل في كتبه ومقالاته نداءً لتحرير الإنسان من الاستغلال، واضعا أسس نظرية ما زالت تُلهب الجدل وتثير الإعجاب أو النفور حتى يومنا هذا؛ "الماركسية". من ترير إلى برلين: ميلاد العقل المتمرّد نشأ كارل ماركس في أسرة يهودية تحوّلت للمسيحية لأسباب اجتماعية، لكنه لم يكن يومًا أسيرًا لعقيدة أو طائفة، فقد تأثّر منذ صغره بأفكار التنوير ونزعة الشك، وشرع في دراسة القانون والفلسفة متنقلا من بون إلى برلين، حيث التقى بفكر هيجل، ثم تمرّد عليه لاحقًا، وانضم إلى "الهيجليين الشباب"، لكنه كان يبحث عن فلسفة لا تكتفي بتفسير العالم بل تغيّره. في تلك الأجواء، تشكّل وعيه السياسي، وبدأت بذور نقده للرأسمالية تنمو، خاصة بعد قراءته لأعمال لودفيج فيورباخ، الذي أزاح الروح لصالح المادة، فقرر "ماركس" أن يجمع بين جدلية هيجل ومادية فيورباخ ليبدأ مشروعه الفكري الثوري. الصحفي المنفي.. الباحث عن الحقيقة في عيون الفقراء في عام 1842، تولّى كارل ماركس رئاسة تحرير صحيفة "الراينيشه تسايتونج"، وهناك بدأ يصطدم بقوة مع الرقابة البروسية بسبب مقالاته الجريئة عن الفقر والحرية والعدالة، ومع إغلاق الصحيفة، بدأ رحلة المنافي التي شكّلت مسيرته: من باريس إلى بروكسل، ثم إلى لندن التي قضى فيها بقية حياته. في باريس، بدأ "ماركس" أول احتكاك مباشر بالحركات العمالية والشيوعية، وهناك كتب أولى مخطوطاته الفلسفية الاقتصادية، ليعلن أن جوهر الإنسان لا يتحقق إلا في عمله، وأن الرأسمالية تغترب بالإنسان عن نفسه. ماركس وإنجلز... رفيقا الفكر والثورة التقى كارل ماركس عام 1844 برفيقه الفكري والسياسي فريدريك إنجلز، فبدأ تحالف فكري قلّ نظيره في التاريخ. معًا، كتبا في عام 1848 كتيّبًا صغيرًا سيُغيّر العالم: البيان الشيوعي، الذي صدّر بجملة لا تُنسى: "إن تاريخ كل المجتمعات حتى يومنا هذا هو تاريخ صراعات الطبقات". لم يكن البيان مجرد دعوة ثورية، بل خلاصة نظرية في فهم آليات التاريخ والاقتصاد والمجتمع. ومع اشتعال الثورات الأوروبية في العام نفسه، شارك ماركس بفعالية في ألمانيا، لكن الهزيمة أعادته إلى المنفى. سنوات العزلة... وولادة "رأس المال" استقر كارل ماركس في لندن منذ 1849، وعاش سنوات من الفقر المدقع، مات خلالها بعض أبنائه جوعًا ومرضًا، لكنه لم يتخل عن مشروعه الفكري، وبدعم دائم من إنجلز، بدأ في كتابة مؤلفه الأضخم: "رأس المال"، الذي نُشر جزءه الأول عام 1867، بينما ظل الجزءان الثاني والثالث حبيسي أوراقه حتى نشرهما إنجلز بعد وفاته. في هذا العمل، حلّل "ماركس" آليات النظام الرأسمالي، كاشفًا التناقض بين العمل ورأس المال، ومبينًا كيف تؤدي علاقات الإنتاج إلى تراكم الثروة لدى القلة وتفقير الأغلبية. اعتبر ماركس أن التغيير لا يأتي من الأخلاق أو الأمنيات، بل من حتميات مادية وتاريخية تنبع من تطور قوى الإنتاج. ماركس الأممي... وقصة كومونة باريس في ستينيات القرن التاسع عشر، عاد "ماركس" إلى النشاط السياسي من خلال تأسيس الأممية الأولى (1864)، حيث صاغ بيانها التأسيسي، ودعا إلى وحدة الطبقة العاملة على مستوى العالم، وعندما اندلعت ثورة كومونة باريس عام 1871، وقف إلى جانبها، وكتب مدافعًا عنها في عمله الشهير "الحرب الأهلية في فرنسا". رأى في الكومونة أول نموذج لدكتاتورية البروليتاريا، أي حكم الطبقة العاملة، بديلا عن استبداد البرجوازية. رحيل كارل ماركس توفي كارل ماركس في لندن يوم 14 مارس 1883، ولم يحضر جنازته سوى أقل من 20 شخصا، ولكن الرجل الذي مات معدما، ترك وراءه أفكارا غيّرت وجه القرن العشرين، وكانت وراء تأسيس حركات، وثورات، وأحزاب، ودول.