
كيف استعادت الدراما العراقية جمهورها بهذه المسلسلات؟
يتزامن هذا التحول مع بروز جيل جديد من الكتّاب والمخرجين العراقيين، الذين يقدّمون أعمالا درامية غنية ومتنوعة، تستلهم قصصها من الواقع اليومي، وتتناول قضايا تهم المواطن العربي وتعبّر عن همومه بأسلوب قريب وبسيط.
في ما يلي، نستعرض مجموعة من أبرز المسلسلات العراقية التي حجزت مكانا لها على الشاشات العربية والمنصات الرقمية:
"هوى بغداد" الرومانسية على الطريقة العراقية
كشف مسلسل "هوى بغداد" عند عرضه عام 2019 عن طفرة في الدراما الرومانسية التي كانت تميل إلى المبالغة من قبل، فجاءت حلقاته الـ15 لتحمل قصص حب منفصلة تكشف في طياتها أحوال الطبقات المجتمعية المختلفة والعادات والتقاليد في المحافظات العراقية، بدءا من العاصمة وصولا إلى الريف، مستخدما أسلوب تصوير مبتكر في استعراض المعالم السياحية والتاريخية في العراق.
والمسلسل من بطولة الممثل التركي ذي الأصول العراقية آسر ويست، والممثلة التونسية العراقية زهرة بن ميم، ومن إخراج وتأليف مهند أبو خمرة، الذي جمع قصصه في ما بعد داخل كتاب نُشر عام 2020 تزامنا مع معرض بغداد للكتاب.
يُذكر أن هناك جزءا ثانيا من المسلسل تم طرحه بعنوان "دجلة والفرات" في رمضان عام 2021، غير أنه لم ينل النجاح نفسه بسبب أزمات إنتاجية عديدة.
"العشرة" دراما عراقية توثق أوجاع الحرب
من أبرز الأعمال التي تناولت مرحلة الحرب من زاوية إنسانية خالصة، جاءت سلسلة "العشرة"، التي عرضت لأول مرة عام 2023، مستعرضة قصص 10 شهداء سقطوا خلال الحرب، ومعاناة ذويهم. وقد تميّز المسلسل بتجنّبه الخطاب السياسي والمشاهد العنيفة، وركز بدلا من ذلك على سرد درامي مؤثر يلامس الوجدان ويضيء على الألم الإنساني الذي خلفته الحرب في حياة العائلات.
وفي رمضان 2025، عادت السلسلة بجزء ثان بعنوان "العشرين"، وحقق هذا العمل نجاحا جماهيريا لافتا فاق الجزء الأول. وقد تميز بأسلوب سرد أكثر عمقا ونضجا، متجاوزا القوالب التقليدية في الدراما الحربية، ليستعرض قصص 20 شهيدا من ضحايا الإرهاب، ويكشف الأثر النفسي والاجتماعي على عائلاتهم بطريقة أقرب إلى التوثيق العاطفي منها إلى العرض السياسي.
جاءت السلسلة من بطولة الفنانة آلاء حسين والممثل خليل فاضل خليل، ومن تأليف ورشة الكاتب مصطفى الركابي، وإخراج علي حديد، الذي أضفى على العمل لمسة فنية مميزة أسهمت في جعله من أبرز إنتاجات الدراما العراقية السنوات الأخيرة.
"ليلة السقوط"
تناول مسلسل "ليلة السقوط"، الذي أُنتج عام 2023، تفاصيل المعاناة التي عاشها أهالي مدينة الموصل خلال فترة سيطرة الجماعات المسلحة، مستعرضا الأحداث القاسية التي امتدت بين عامي 2014 و2017. وقد ركّز العمل، عبر سرد درامي مكثف، على رحلة التحرير التي خاضتها القوات المسلحة العراقية، بالشراكة مع قوات البيشمركة والحشد الشعبي، ناقلا للمشاهدين لحظات استعادة المدينة وما رافقها من أمل بالخلاص بعد سنوات من الألم والمعاناة.
تميّز المسلسل بمشاركة نخبة من نجوم الدراما العربية، مما منحه بعدا جماهيريا واسعا. شارك في بطولته الفنان المصري طارق لطفي، إلى جانب النجمة الأردنية صبا مبارك، و3 من أبرز نجوم الدراما السورية: باسم ياخور، وكندة حنا، وميلاد يوسف. هذا التنوّع العربي أسهم في تعزيز البُعد الإنساني للقصة، وربط المشاهد العربي بتفاصيل الواقع العراقي.
قُدم المسلسل برؤية تأليفية للكاتب المصري مجدي صابر، الذي عمل على المشروع لأكثر من 3 سنوات، التقى خلالها عائلات الشهداء والمصابين وشهود العيان، مما أضفى على النص بعدا واقعيا عميقا. أما الإخراج فكان للمخرج السوري ناجي طعمة، المعروف بميوله إلى الواقعية، إذ استعان بمقاتلين حقيقيين في بعض المشاهد، وحرص على تقديم تفاصيل دقيقة وصادمة، مثل مشهد انفجار لغم حقيقي من مخلفات داعش، تم تصويره باستخدام تقنيات سينمائية خاصة، لكنه أدى إلى تدمير جميع الكاميرات المُستخدمة، مما أظهر حجم التحدي الذي واجهه فريق العمل.
ويُعد "ليلة السقوط" من أضخم الإنتاجات الدرامية في العالم العربي، إذ تخطت ميزانيته 5 ملايين دولار، إضافة إلى دعم لوجستي كبير من الحكومة العراقية تجاوز 10 ملايين دولار، ما مكّن صنّاعه من تقديم تجربة درامية مختلفة، توثق الحرب من زاوية إنسانية وفنية غير تقليدية.
"خان الذهب".. صراع العائلات
في رمضان 2023، عُرض مسلسل "خان الذهب" الذي قدّم تيمة الصراع العائلي بشكل مختلف، عبر دخول عالم الصاغة، في طرح درامي غير مسبوق في الدراما العربية. تميز العمل بحبكة متماسكة وكتابة عميقة للشخصيات من تأليف محمد حنش، مع أداء لافت من سامي قفطان وأميرة جواد وآخرين، وإخراج بهاء خداج.
وفي عام 2024، صدر الجزء الثاني بعنوان "خان الذهب.. البداية"، لكنه لم يلق النجاح نفسه، وتعرض لانتقادات بسبب جرأته وبعده عن واقع المجتمع العراقي. كما قُدمت نسخة سعودية منه بعنوان "بيت العنكبوت" في العام نفسه.
"دار المنسيين".. دراما إنسانية
في ظل غياب واضح لتناول قضايا كبار السن في الدراما العربية، جاء المسلسل العراقي "دار المنسيين" ليكسر هذا الصمت خلال الموسم الرمضاني الماضي، مسلطا الضوء على المعاناة النفسية والصحية للمسنّين داخل دور الرعاية، نتيجة التهميش الأسري وغياب الدعم من الأبناء.
يعالج العمل ظاهرة التفكك الأسري وتأثيرها المتصاعد في بعض المجتمعات العربية، من خلال سرد إنساني عميق ومؤلم.
المسلسل من بطولة ستار خضير، وستار علوان، ومحسن العلي، ومحمد هاشم، ومن تأليف مهند هادي، وإخراج حيدر الشامي.
"قطار الموت"
يحمل مسلسل "قطار الموت" طابعا توثيقيا مكثفا، إذ يعيد في 7 حلقات تسليط الضوء على واحدة من أكثر الفترات حساسية في التاريخ العراقي الحديث، وتحديدا عام 1963، الذي شهد انقلاب البعثيين على عبد الكريم قاسم، أول رئيس وزراء للجمهورية العراقية بعد سقوط النظام الملكي.
يركز العمل على حادثة "قطار الموت" المأساوية، التي أودت بحياة نحو 100 معتقل سياسي، اختنقوا داخل عربة نقل سيئة التهوية في أثناء ترحيلهم إلى أحد السجون.
المسلسل من بطولة باسم الطيب، وخليل إبراهيم، وأحمد الركابي، ومن تأليف علي صبري، وإخراج رعد مشتت.

جرب ميزات الذكاء الاصطناعي لدينا
اكتشف ما يمكن أن يفعله Daily8 AI من أجلك:
التعليقات
لا يوجد تعليقات بعد...
أخبار ذات صلة


الجزيرة
منذ 3 ساعات
- الجزيرة
مها الصغير تعتذر عن سرقة لوحة فنية.. وبرنامج "معكم منى الشاذلي" يرد: نحترم المبدعين الحقيقيين
في واقعة أثارت جدلا واسعا في الأوساط الفنية والإعلامية، اعترفت الإعلامية المصرية مها الصغير بخطئها بعد اتهامها بالاستيلاء على عمل فني ونسبه لنفسها خلال ظهورها ضيفة في برنامج "معكم منى الشاذلي". وقدمت اعتذارا علنيا قالت فيه: "أنا غلطت، غلطت في حق الفنانة الدانماركية ليزا، وفي حق كل الفنانين، وفي حق المنبر اللي اتكلمت منه، والأهم غلطت في حق نفسي.. مروري بأصعب ظروف في حياتي لا يبرر ما حدث، أنا آسفة وزعلانة من نفسي". من جانبها، تداركت إدارة برنامج "معكم منى الشاذلي" الموقف بإصدار بيان عبر صفحته الرسمية على فيسبوك، أكدت فيه أن اللوحة موضوع الجدل تعود للفنانة الدانماركية ليزا لاش نيلسون، وقالت: "نحترم المبدعين الحقيقيين، ونقدر إبداعاتهم الأصلية في كل المجالات". لوحة على الهواء بدأت الأزمة في بداية يونيو/حزيران الماضي، عندما ظهرت مها الصغير -الإعلامية ومصممة الديكور وطليقة الفنان أحمد السقا- ضيفة على برنامج "معكم منى الشاذلي" على قناة "ON E"، إذ تحدثت خلال اللقاء عن شغفها بالفنون التشكيلية، مشيرة إلى أنها تمارس هواية الرسم منذ سنوات، وعُرضت على الشاشة لوحة فنية قيل إنها من أعمالها، بعنوان "صنعت لنفسي بعض الأجنحة". لم تمر أيام حتى ظهرت الفنانة الدانماركية ليزا لاش نيلسون، عبر حسابها الرسمي على إنستغرام، لتفجر مفاجأة مدوية: "اللوحة التي ظهرت في البرنامج هي عملي الفني الذي رسمته عام 2019، واستُخدم في مناسبات عدة كرمز للكفاح من أجل الحرية.. لكن مها الصغير نسبت العمل لنفسها، والتلفزيون المصري لم يذكر اسمي، بل تجاهل أي إشارة إليّ". View this post on Instagram A post shared by Lisa Lach-Nielsen art (@ اتهامات بالسرقة الفنية وانتهاك الحقوق أكدت نيلسون أن مها الصغير لم تقتصر فقط على تقليد أسلوبها الفني، بل عرضت صورة لوحتها الأصلية ونسبتها إلى نفسها على الهواء، وهو ما اعتبرته انتهاكا واضحا لاتفاقية برن الدولية لحماية الملكية الفكرية، بالإضافة إلى القانون المصري. إعلان كما كشفت الفنانة الدانماركية عن أنها حاولت التواصل مع مها الصغير والقناة المنتجة للبرنامج، لكنها لم تتلقَ أي رد، فقررت نشر القصة بنفسها، مضيفة: "أشعر بالأسف، لأن فنانين مجهولين أو غير معروفين دوليا، يُعتدى على حقوقهم من دون أي اعتبار، لمجرد أنهم خارج دائرة الشهرة". تدخل المجلس الأعلى للإعلام وفي تطور رسمي، أعلنت لجنة الشكاوى بالمجلس الأعلى لتنظيم الإعلام في مصر استدعاء الممثل القانوني لقناة "ON E"، للتحقيق في الواقعة بعد أن تبين من رصد الإدارة العامة للمجلس عرض أعمال فنية منسوبة لغير أصحابها من دون التحقق من الحقوق الأصلية. توترات بين مها الصغير وأحمد السقا تأتي هذه الأزمة في ظل ظروف شخصية غير مستقرة تعيشها مها الصغير بعد انفصالها عن زوجها الفنان أحمد السقا، عقب زواج دام أكثر من 24 عاما. وقد أثمر زواجهما 3 أبناء: ياسين، ونادية، وحمزة. وتشهد العلاقة بين الطرفين توترا، وصل إلى أقسام الشرطة بعد بلاغ تقدمت به مها ضد أحمد السقا تتهمه بالتعدي عليها وعلى سائقها، ولا تزال القضية قيد التحقيق. كما أظهرت الواقعة حساسية الجمهور المحلي والدولي تجاه حقوق المبدعين، مما يؤكد ضرورة وجود آليات واضحة للتصحيح والاعتذار، ليس فقط من الأفراد، بل من المؤسسات الإعلامية أيضا. ورغم اعتراف مها الصغير علنا بالخطأ، واعتذار البرنامج الذي استضافها، فإن المساءلة القانونية والأخلاقية تبقى قائمة، خاصة في ظل وضوح الواقعة وعلنية التجاوز. فوفقا للقانون المصري وقوانين حماية الملكية الفكرية الدولية مثل اتفاقية برن، يعد نسب عمل فني لشخص آخر من دون إذن أو إشارة للمصدر الأصلي انتهاكا صريحا يعرض مرتكبه للمساءلة القانونية، التي قد تصل إلى غرامات مالية أو تعويضات للفنان المتضرر، وربما تشمل إجراءات جنائية في حالات التربح أو التكرار المتعمد. عودة قضية غادة والي إلى المشهد تُعيد أزمة مها الصغير إلى الأذهان واقعة سابقة مشابهة أثارت جدلا واسعا، بطلتها المصممة المصرية الشهيرة غادة والي، التي اتُهمت عام 2022 بالاستيلاء على أعمال الفنان الروسي جورجي كوراسوف، واستخدامها في تصميمات جدارية ضخمة بمحطة مترو كلية البنات بالقاهرة، من دون إذنه أو الإشارة إليه على أنه المصدر. حينها، نشر كوراسوف منشورات موثقة على حساباته الرسمية، مرفقا أعماله الأصلية إلى جانب صور الجداريات المنفذة في المترو، مؤكدا أن التصاميم المصرية نُفذت باستخدام لوحاته دون أي تعديل يُذكر. وقد أحدثت الواقعة صدمة في الأوساط الفنية والثقافية، ودارت حولها نقاشات حادة بشأن أخلاقيات التصميم واحترام حقوق الفنانين، خصوصا في المشروعات العامة. اللافت أن غادة والي لم تقدم اعتذارا رسميا، مما زاد من حدة الانتقادات. وأمام الضغط الإعلامي والدولي، اضطرت وزارة النقل إلى إزالة بعض التصميمات لاحقا.


الجزيرة
منذ 5 ساعات
- الجزيرة
عندما يصبح التصوير رثاء لأنفسنا
أُجرِي منذ عدة سنوات حوار مطوّل مع الناقدة والكاتبة والروائية والمخرجة سوزان سونتاغ. وقد تطرقت في حديثها لعدة موضوعات، من بينها ولعها بالصور والتصوير، حيث استشهدت بقول ويليام إيفينز: ربما كان اختراع الكاميرا أهم من المطبعة. تضمنت إفادات سونتاغ في ذلك الحوار عدة ملاحظات وفِكَر، أوحت إليَّ لاحقًا في تناص فكري بكتابة الخواطر والملاحظات أدناه عن التصوير. هذا مقتبس من الحوار الطويل مع سوزان سونتاغ: "سونتاغ: حاليًّا، لدى جميعنا صور نرى فيها أنفسنا ونحن في عامنا السادس، ونرى وجوهنا ملمِّحة إلى ما سنبدو عليه لاحقًا. وأيضًا لدينا نفس المعلومات عن والدينا وأجدادنا، توجد عاطفة غامرة في هذه الصور؛ إنها تجعلك تدرك لوهلة أنهم كانوا أطفالًا يومًا ما. أن يكون المرء قادرًا على رؤية نفسه أو والديه عندما كانوا صغارًا هي تجربة فريدة خاصة بعصرنا الحالي. لقد شكَّلت الكاميرا علاقات جديدة ومثيرة للأسى للناس مع أنفسهم، ومظهرهم الخارجيّ، وشيخوختهم، وفنائهم. إنه نوع من الرثاء لم يكن موجودًا أبدًا من قبل)." (انتهى اقتباس سونتاغ) نحن نفرح بالتقاط الصور لنا، ولكنا نشعر بشيء من الحزن عندما نشاهد صورنا بعد سنوات وقد تبدَّلت ملامحنا. كثيرًا ما تدفعنا رغبة قوية لكي نطلب التقاط الصور لنا، فما السر في ذلك؟ خواطر وتعليق للتصوير جانب أو ميزة مهمة، وهو أنه يرتبط بتصوير الأشياء الجميلة، أو الأشخاص الذين لهم مكانة محببة في قلوبنا، هذا بخلاف الجانب المهم من التصوير وهو الجانب التوثيقي. ولما كان تصوير الأشخاص يرتبط بالاهتمام بإبراز النواحي الجمالية في الأشخاص المراد تصويرهم، فلا غرابة إذن أن نهتم بأن نُظهر مكامن الجمال في صورنا؛ لذلك نحاول أن نختار أفضل زاوية للتصوير، ونتهيأ باتخاذ الوضعية والهيئة التي تحقق ذلك. نعم هي بضع دقائق، لكنها تكشف الكثير عن رغباتنا المكبوتة، وعن نرجسية خفية في دواخلنا، هي دقائق نكون فيها تحت رحمة الكاميرا ورحمة المُصوِّر الذي نرتضي أن نكشف له عن بعض سوءاتنا، وعن بعض العيوب البسيطة التي نحرص أن نخفيها. هذه بعض الخواطر النفسية التي يمكن أن تحتشد بها اللحظات بين التهيؤ لالتقاط الصورة وبين الانتهاء من أخذ اللقطة. بالطبع لست بعيدًا من ذلك الهوس الصحي بالتقاط الصور للآخرين، ولبعض الأماكن التي نرى أنها تستحق أن نلتقط صورًا بقربها. التقطت خلال فترة من فترات حياتي عدة صور بشكل عادي لأشخاص من الأصدقاء أو الأسرة كما يحدث عادة. وفي كثير من الأحيان كنت أتفاجأ بعد مرور سنوات أن تلك الصور اكتسبت قيمة توثيقية كبيرة، وأحيانًا تكون تلك القيمة التوثيقية مرتبطة بموت الشخص الذي تم تصويره؛ وتكتسب الصورة بالتالي قيمة وجودية كبيرة لارتباطها بالفقد، بسبب مفارقة الشخص المُصّوَّر للحياة. وهكذا تتوارى القيمة الجمالية للصورة، ولكنها تكتسب قيمة أخرى، قيمة تذكارية تتعلق بكونها صارت بديلًا افتراضيًّا لذلك الشخص. بالأمس كنت أقرأ رثاء صديق لي لزوجته التي توفيت، والتي كانت جارة لنا وتوفيت قبل عدة سنوات، ونشر صديقي في مقال الرثاء آخر صورة لزوجته الراحلة وهما في إحدى الحدائق، وكانت الصورة تعني له -كما ذكر- قيمة كبيرة. كان من ضمن التعليقات تعليقات صديقات وجارات الزوجة المتوفاة، فذكرت أخت الزوج (ابنة عم الزوجة أيضًا) أن تلك الصورة، التي هي آخر صورة لها قبل يوم أو أيام قليلة من وفاتها، كانت الراحلة قد طلبت أن يتم التقاطها، حتى تكون ذكرى لها بعد وفاتها كما قالت… وهكذا يصبح للصورة معنى وقيمة أكبر مما كان متوقعًا عند التقاطها. أذكر خلال جلسة مع أخي ووالد زوجته أن طرأت على ذهني فكرة أن آخذ له صورة، وفعلًا جلس وقمت بتصويره في عدة لقطات، فإذا بها تصبح بعد أن توفي بعد أشهر قليلة ذات قيمة توثيقية وأرشيفية جليلة. أحتفظ بصور أخذتها منذ سنوات لشارع بيتنا، وكان فيه جيران لنا يسكنون في مساكن الشرطة المواجهة لنا. وحدث أن تم هدم تلك المساكن بقرار مفاجئ لاستثمار تلك المساحة؛ فصارت تلك الصور مصدرًا لذكرى عزيزة لفترة الطفولة أو الشباب لمن كانوا يسكنون في تلك المساكن. هناك جانب آخر يتعلق بجمالية الصور، فنحن نفرح بالتقاط الصور لنا، ولكنا نشعر بشيء من الحزن عندما نشاهد صورنا بعد سنوات وقد تبدَّلت ملامحنا. كثيرًا ما تدفعنا رغبة قوية لكي نطلب التقاط الصور لنا، فما السر في ذلك؟ في اعتقادي، قد يكون ذلك بسبب النزعة النرجسية، التي تجعلنا نسعى لرؤية صور بديلة لذواتنا قد تكون أجمل من الواقع. هناك ملاحظة أخرى في ما يتعلق بالتصوير، وهي أن ملامحنا في الصور في الغالب لا تعجبنا، بينما نرى أن ملامح الآخرين أجمل في الصور.. فما هو السبب؟ يعلل علم النفس ذلك بالقول إننا اعتدنا على ملامح وجوهنا التي نراها بشكل دائم ومتكرر في المرآة، وبالتالي تكون مألوفة لدينا. والتكرار يولد الألفة التي تجعل الملامح مقبولة أو جميلة. بالإضافة إلى أننا حينما ننظر إلى أنفسنا يوميًّا في المرآة، يكون ذلك من خلال زاوية واحدة، وبالتالي نألف رؤية صورنا من تلك الزاوية. وفي المقابل، عندما نأخذ لأنفسنا الصور فإننا نتخذ وضعيات وزوايا غير معتادين عليها، فتظهر ملامحنا بشكل مختلف، لذلك لا تعجبنا صورنا. بينما تعجبنا صور الآخرين لأننا اعتدنا أن نراهم من خلال زوايا مختلفة. ما سبب ميل معظمنا للتصوير؟ هل يمكن أن يكون ذلك راجعًا لنزوع فطري للخلود في أنفسنا وفي الأشياء من حولنا، وبالتالي هي رغبة لوقف انسيابية الزمن للحظات نستمتع بها -ولو افتراضًا- بفكرة الخلود؛ وبالتالي قد تكون الرغبة في التصوير محاولة نتحدى بها فكرة الفناء التي تؤرق الإنسان؟ إعلان مهما يكن، فسيظل التصوير تلك الهواية التي يُشبع بها الإنسان المعاصر نرجسيته من خلال الحصول على صور لنفسه، تنال إعجابه ويحقق بها نرجسيته ولو مؤقتًا. وهكذا يكتسب التصوير على مر السنين المزيد من التكالب والاهتمام، حتى مع ظهور أدوات وتقنيات الفترة، وتزيين الصور وتحسينها، حتى وإن صارت مفارقة للملامح الأصلية. نقطة أخيرة.. في ما يتعلق بالحرب الراهنة في بلادنا، اكتسب التصوير أهمية موازية لأهمية العمليات العسكرية؛ وبالتالي صار مهمًّا لجميع الأطراف التي لها علاقة بالحرب بشكل مباشر أو غير مباشر، فقد صار التصوير مهمًّا للتوثيق، ولتأكيد الخبر أو نفيه.


الجزيرة
منذ 5 ساعات
- الجزيرة
ماريانا ماسا: كيف حررت الترجمة اللغة العربية من كهوف الماضي وقادتها إلى الحداثة؟
ما بين حياة اللغة وموتها، تمتد جسور وتشق معابر، وتخاض حروب هويات. وما بين خفوتها وسطوعها، تهدر المطابع بحورا من مداد الحبر، وتثمر المجامع ملايين المصطلحات، فتولد المعاجم وتوضع القواميس لفك شفرات اللغة الحائرة. في حروب اللغات، تجري صراعات وتحمى سباقات همها ضبط "الهويات القاتلة"، ونفي الادعاءات الفاضحة، وكشف الانتماءات الخادعة؛ فكلمة راقصة قد تعلن حربا، ومعنى متأرجحا تضيع بسببه حياة الملايين، وتجري من ورائه أنهار من الدماء. في نهايات القرن التاسع عشر، التقت لغتان -العربية والفرنسية- على أرض مصر، وكان لقاء الغرباء، ما بين نشوة اللغة الفرنسية المنتصرة وصدمة اللغة العربية المهزومة. كان لا بد من جسر تلتقي فوقه اللغتان، فكانت الترجمة. لعبت الترجمة في مطلع القرن التاسع عشر دورا محوريا في إرساء دعائم النهضة العربية الحديثة، وكانت ولا تزال همزة الوصل في مشروع إثراء اللغة العربية لغويا ومعرفيا، وأداة فاعلة في تطورها وتحررها من أغلال رسفت في قيودها قرونا طويلة. واللغة العربية هي نفسها التي سادت العالم عدة قرون خلال العصر العباسي، وكانت لغة العلم والمعرفة، وأسهمت في النهضة الأوروبية والثورة الصناعية من خلال ما قامت بنقله من علوم وفلسفة وطب، عبر الترجمة من اللاتينية واليونانية والفارسية. وحديثا، عبرت اللغة العربية إلى الحداثة على جسر لعبت "الترجمة" فيه دور البطولة، وكان لها باع طويل في تطور اللغة العربية وانتقالها من عصر الركود والاضمحلال إلى عصر النهضة والتقدم. وكثيرا ما راودنا هذا السؤال عن أثر الترجمة في النهوض باللغة العربية وتطورها، ولهذا التقينا ماريانا ماسا، الباحثة في الجامعة الكاثوليكية بميلانو الإيطالية، والمتخصصة في اللغة العربية وآدابها، التي أنجزت دراستها المهمة عن أثر الترجمة من الفرنسية على تطور اللغة العربية المعاصرة في القرن التاسع عشر. فمن خلال دراستها ثلاث عشرة لغة، استطاعت أن تخلص إلى أثر الترجمات على تطور اللغات عموما. درست الدكتورة ماسا تاريخ الترجمة والنصوص المترجمة، وتأثير الترجمة على مراحل حياة اللغة، وكيف أثرت على نشأتها وتطورها، بل وعلى موتها وحياتها. بحثت كيف اختفت اللغة اللاتينية من أوروبا وحلت مكانها لغات أخرى، وكيف تلاشت اللغة القبطية واندثرت بعد أن كانت لغة المصريين قبل الإسلام. كما رصدت أثر الترجمة على ميلاد اللغة وبعثها من جديد بعد أن كادت تموت، كما حدث مع اللغة العبرية الحديثة. لا خوف على اللغة العربية في مواجهة هجمات اللغات الأخرى. ولماذا لا يكتب العرب ويدرسون مناهجهم باللغة العربية اعتزازا بلغتهم وهويتهم؟ أما عن أثر الترجمة على تطور اللغة العربية، فكان واضحا من خلال المفردات اللغوية في المعاجم، وتطور بناء الجملة العربية. ومع انطلاق النهضة العربية والدفاع عن حقوق المرأة في المجتمع، اكتشفت الباحثة زيادة واضحة في الكلمات والأفعال والصفات المؤنثة، حيث أصبح للمرأة شأن جديد ومختلف عما كان عليه قبل القرن التاسع عشر. ولمست أيضا زيادة ملحوظة في استخدامات الفعل المضارع والمستقبل في مواجهة الفعل الماضي، كما استُحدثت في الكتابات العامة وفي الصحافة كثير من التعبيرات الجديدة التي لم يتطرق إليها الكتاب من قبل. في حوارها للجزيرة نت، قالت ماريانا ماسا إنه لا خوف على اللغة العربية في مواجهة هجمات اللغات الأخرى، وتساءلت: "لماذا لا يكتب العرب ويدرسون مناهجهم باللغة العربية اعتزازا بلغتهم وهويتهم؟". وطالبت بضرورة تكاتف علماء اللسانيات وخبراء البرمجيات للبحث في بناء قاعدة بيانات رقمية للغة العربية، تستطيع منها الاستفادة من ثورة الذكاء الاصطناعي في خدمة اللغة. وإلى تفاصيل الحوار: دراسة أثر الترجمة على تطور اللغة تتطلب معرفة قوية بأكثر من لغة وإجادتها، لماذا اخترت هذا المجال رغم صعوبته؟ أنا محبة للغات عموما، وأتقن ست لغات إتقانا تاما، وملمة بسبع لغات أخرى، ولهذا كان بحثي في تأثير الترجمة على تطور اللغة، الذي أخذني إلى دروب وطرق لم أتصور يوما ما أن أطرقها. درست أثر الترجمة في 13 لغة عالمية، ثم ركزت دراستي على اللغتين العربية والفرنسية في فترة فارقة من تاريخ مصر والمنطقة العربية، مع قدوم الحملة الفرنسية إلى مصر عام 1798 وبداية الصحوة العربية الحديثة، حيث كان هناك اتصال كبير بين مصر وفرنسا من خلال البعثات العلمية التي أرسلها محمد علي باشا وأبناؤه إلى فرنسا. كثيرا من اللغات كانت منطوقة فقط، فكان تأثير الترجمة عليها أن خلقت لها أبجديات لتصبح لغة كتابية تحتل مكانة لغة أخرى ماتت. على سبيل المثال، كانت اللغة اللاتينية منتشرة في كل دول أوروبا، ومع تطور اللهجات الأوروبية، اختفت اللاتينية وأصبحت تلك اللهجات لغات مكتوبة ومنطوقة كما نعرفها اليوم، في حين انقرضت اللغة اللاتينية ولم يعد لها وجود إلا في غرف الأبحاث اللسانية المتخصصة. كيف تصفين شكل اللغة العربية قبل وبعد هذا التأثر بالترجمة من الفرنسية؟ مع بداية القرن التاسع عشر، كان للترجمة من الفرنسية تأثير كبير على اللغة العربية، ولم يكن هناك سوى إشارات قليلة عن هذا التأثير وآلياته. ماذا حدث؟ وكيف حدث بالضبط؟ لم تكن هناك دراسات متعمقة في هذا التأثير. ورغم صعوبة الموضوع، فإنه كان في غاية المتعة؛ متعة أن ترى اللغة وهي تتطور وتنمو، وكيف كان شكلها قبل الترجمات الحديثة، ثم تطورها بهذا الشكل الذي نراه اليوم خلال رحلة استغرقت قرنين من الزمان تقريبا. رأيت أن كثيرا من اللغات كانت منطوقة فقط، فكان تأثير الترجمة عليها أن خلقت لها أبجديات لتصبح لغة كتابية تحتل مكانة لغة أخرى ماتت. على سبيل المثال، كانت اللغة اللاتينية منتشرة في كل دول أوروبا، ومع تطور اللهجات الأوروبية، اختفت اللاتينية وأصبحت تلك اللهجات لغات مكتوبة ومنطوقة كما نعرفها اليوم، في حين انقرضت اللغة اللاتينية ولم يعد لها وجود إلا في غرف الأبحاث اللسانية المتخصصة. وفي مصر، من حقنا أن نتساءل عن مصير اللغة القبطية، وهي من اللغات التي انقرضت، مع أنها كانت اللغة المنطوقة في مصر، وكانت لفترة هي لغة الكتابة، بينما كانت اللغة اليونانية هي اللغة المكتوبة والإدارية. وقد استطاع المترجمون نقل اليونانية إلى القبطية، وبعد عدة قرون ومع انتشار الإسلام، تعلم المصريون اللغة العربية لحاجتهم إلى شغل المناصب الإدارية، ثم ترجمت القبطية واليونانية إلى العربية ودخلت في التعاليم الدينية المسيحية، وبقيت اللغة القبطية مقتصرة على بعض السياقات الدينية داخل الكنيسة فقط. ذكرت أن الترجمة أسهمت في إحياء بعض اللغات، كيف حدث ذلك مع اللغة العبرية مثلا؟ من اللغات التي تم إحياؤها حديثا اللغة العبرية، لغة إسرائيل والأرض المحتلة. فقد انتبه المهاجرون الأوائل من اليهود، عندما نزلوا أرض فلسطين، إلى أنه لا وطن بلا لغة، فدرسوا إحياء اللغة العبرية، وهي لغة كانت مقتصرة على السياق والطقوس الدينية أيضا. وكثيرون لا يعرفون أن اليهود، كي يحيوا لغتهم، درسوا اللغة العربية وتطورها خلال القرن التاسع عشر، وقلدوا نظام اشتقاق الكلمات باللغة العربية لإبداع مفردات جديدة تعبر عن مفاهيم الحياة الحديثة، مثل "قطار" أو "سيارة" أو "طيارة". ولأنها من اللغات السامية مثل العربية، فقد درسوا حركة الترجمة من اللغات الأوروبية إلى العربية، وأخذوا نماذج كثيرة منها واشتقوا كلمات جديدة من الجذور العبرية الموجودة، وهكذا نجحوا في إحياء لغتهم القديمة. كثيرون لا يعرفون أن اليهود، كي يحيوا لغتهم، درسوا اللغة العربية وتطورها خلال القرن التاسع عشر، وقلدوا نظام اشتقاق الكلمات باللغة العربية لإبداع مفردات جديدة تعبر عن مفاهيم الحياة الحديثة، مثل "قطار" أو "سيارة" أو "طيارة". ولأنها من اللغات السامية مثل العربية، فقد درسوا حركة الترجمة من اللغات الأوروبية إلى العربية، وأخذوا نماذج كثيرة منها واشتقوا كلمات جديدة من الجذور العبرية الموجودة، وهكذا نجحوا في إحياء لغتهم القديمة. في نظرك، ومن رحلتك بين حياة اللغات وموتها، كيف ترين مستقبل اللغة العربية، وما الأخطار التي تهددها؟ أقول: لا خوف على اللغة العربية من الاختفاء في مواجهة هجمات اللغات الأخرى؛ فهناك ما لا يقل عن 400 مليون عربي يتحدثونها، وهناك اهتمام متزايد بها بسبب حركات الهجرة العربية المستمرة وشعور الأبناء والأحفاد بالحنين والارتباط بالعروبة. لهذا، تأسست المئات من مراكز تعليم اللغة العربية في المدن الأميركية والأوروبية. وفي الجامعة الكاثوليكية بميلانو، يوجد كثير من الطلاب الإيطاليين من أصول عربية يتطلعون لدراسة اللغة العربية. فلا خوف على اللغة العربية إطلاقا. لكن عندما ننظر إلى إحصائيات الإنتاج العلمي، فهو قليل جدا في مواجهة هيمنة اللغة الإنجليزية التي تكاد تحتكر لغة العلم الحديثة، حتى الإنتاج العلمي باللغة الإيطالية قليل جدا بالمقارنة. وفي دراسة عن الإنتاج العلمي باللغة العربية سنة 2008، كان أقل من 1% تقريبا. للنهوض باللغة العربية، أرى أن الحل يكمن داخل كل دولة، عبر النهوض بالإنتاج العلمي، والاعتزاز باللغة الوطنية، والتركيز على الدراسات اللسانية التي تساعد في تطور اللغة. فترة الدراسة التي قمت بها على اللغة العربية كانت مهتمة جدا بالتطور العلمي. ولكي لا نذهب بعيدا، المشكلة الأساسية موجودة في مناهج التعليم باللغة العربية. والسؤال: لماذا لا يكتب العرب ويدرسون مناهجهم باللغة العربية اعتزازا بلغتهم، ويتعلمونها بمنهج جديد؟ وهذا يدعوني للتساؤل: هل المناهج التي يتعلمها التلاميذ في المدارس مناسبة لهم؟ وهل هي مناسبة لهذه الازدواجية اللغوية بين الفصحى واللهجات؟ ما المصادر التي اعتمدت عليها في دراستك لإثبات تأثير الترجمة على اللغة العربية؟ لقد اشتغلت على دراسة تأثير الترجمة على تطور اللغة العربية من خلال المفردات اللغوية في المعاجم منذ زمن محمد علي باشا، وكان هناك تركيز كبير على الكتب المترجمة والمطبوعة في مطبعة بولاق التي أنشأها، ومنها كتب عن صناعة الملابس والطب والطب البيطري والتاريخ والجغرافيا، وكانت كلها كتبا متخصصة. وجدت أن كثيرا من الكلمات في اللغة الفرنسية لم يكن لها مقابل في اللغة العربية، وظهرت دراسات عن كيف تحررت اللغة العربية وانطلقت من عقالها لتسير في ركب الحداثة. ودرست كيف أثرت الترجمة على بناء الجملة العربية، وكيف تغيرت. القواعد العربية (النحو) لم تتغير، ولكن أسلوب الكتابة اختلف. إذا قرأنا نصا للجبرتي وآخر لقاسم أمين، فبالطبع أن الأسلوب اختلف. وتساءلت: لماذا اختلف الأسلوب؟ واستعملت في دراستي للإجابة عن هذا السؤال منهجا علميا اسمه "لسانيات المتون"، حيث جمعت عينات من النصوص، سواء ترجمت عن الفرنسية مباشرة في تلك الفترة، أم كتبها مثقفون عرب سافروا إلى فرنسا وتأثروا باللغة والثقافة الفرنسية، أمثال علي باشا مبارك، وصالح مجدي، وقاسم أمين، وكثير من الشوام الموجودين في مصر أمثال نجيب حداد وأديب إسحاق. وكان للصحافة الفرنسية دور في هذا التطور، فكان المثقفون العرب يقرؤونها، وعليه تأثرت أساليبهم في الكتابة بالأسلوب الصحفي الحديث. اشتغلت على دراسة تأثير الترجمة على تطور اللغة العربية من خلال المفردات اللغوية في المعاجم منذ زمن محمد علي باشا، وكان هناك تركيز كبير على الكتب المترجمة والمطبوعة في مطبعة بولاق التي أنشأها، ومنها كتب عن صناعة الملابس والطب والطب البيطري والتاريخ والجغرافيا، وكانت كلها كتبا متخصصة. وجدت أن كثيرا من الكلمات في اللغة الفرنسية لم يكن لها مقابل في اللغة العربية، وظهرت دراسات عن كيف تحررت اللغة العربية وانطلقت من عقالها لتسير في ركب الحداثة هل رصدت تغيرات لغوية محددة مرتبطة بالتحولات الاجتماعية في تلك الفترة؟ نعم، وجدت من تحليل النصوص التي كونتها زيادة وتكرارا في الصيغ المؤنثة؛ من أفعال وصفات وأسماء إشارة وأسماء موصولة. باستخدام منهج "لسانيات المتون" والأدوات التكنولوجية المتاحة، استطعت أن أحدد بدقة إحصائية عدد الأفعال والصيغ المؤنثة في كل مليون كلمة، ووجدت أدلة على زيادة نسبة تكرارها، وأربط هذا التطور في اللغة بظهور الخطاب النسوي في هذه المرحلة. فأحوال النساء لم يكن لها وجود كبير في النصوص العربية حتى جاء أشخاص مثل قاسم أمين ومن قبله رفاعة الطهطاوي. وهنا أطرح سؤالا للباحثين: هل هناك علاقة بين زيادة الألفاظ المؤنثة ونشوء الخطاب النسوي في هذه المرحلة في اللغة العربية؟ ووجدت ضمن بحثي زيادة ملحوظة في استخدامات الفعل المضارع. فمن خلال كتابات المؤرخ المعروف عبد الرحمن الجبرتي، الذي عاصر نهايات القرن الثامن عشر وبدايات القرن التاسع عشر، وجدت أن استخدامات الفعل الماضي أكثر بكثير من نسبة الأفعال المضارعة. ومع ترجمة بعض الأعمال الفرنسية، أصبح هناك توازن وتساو بين الأفعال الماضية والمضارعة، وهذا بتأثير من الترجمة والصحافة، لأن الخطاب المطروح لم يعد يهتم بالماضي فقط، بل بالحاضر وربما بالمستقبل، وهذه موضوعات لم يكن لها وجود من قبل. وجدت تعبيرات كثيرة كانت مستخدمة في الصحافة والكتابات العامة، جاءت مباشرة من اللغة الفرنسية، مثل عبارات: "بالنظر إلى"، "في الوقت نفسه"، "على الأقل"، "بالأحرى"، "بصفة كذا"، "تحت رعاية…". هذه تعبيرات استخلصتها بمساعدة عالم لغوي كبير هو عبد القادر المغربي، الذي لاحظ ظهورها في الكتابات العربية في القرن التاسع عشر وبدايات القرن العشرين، وقال إنها تأتي بتأثير مباشر من الترجمات الفرنسية وهل وجدت تعابير جديدة دخلت اللغة العربية بتأثير مباشر من الترجمة؟ من تحليلاتي اللغوية، وجدت تعبيرات كثيرة كانت مستخدمة في الصحافة والكتابات العامة، جاءت مباشرة من اللغة الفرنسية، مثل عبارات: "بالنظر إلى"، "في الوقت نفسه"، "على الأقل"، "بالأحرى"، "بصفة كذا"، "تحت رعاية…". هذه تعبيرات استخلصتها بمساعدة عالم لغوي كبير هو عبد القادر المغربي، الذي لاحظ ظهورها في الكتابات العربية في القرن التاسع عشر وبدايات القرن العشرين، وقال إنها تأتي بتأثير مباشر من الترجمات الفرنسية. وما فعلته أنا هو أنني بنيت هذا المتن التاريخي الكبير الذي تتراوح نصوصه من القرن الثامن عشر حتى القرن العشرين، وبحثت عن هذه العبارات في الفترة الأولى من الدراسة فلم أجدها، أما في النصف الثاني من القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين، صارت هذه العبارات موجودة وبقوة. وأثبت ما قاله الدكتور عبد القادر المغربي من خلال التكنولوجيات الحديثة المعروفة بـ"لسانيات المتون". كيف تعاملت مع رقمنة اللغة العربية، وما فرص الاستفادة من الذكاء الاصطناعي في خدمتها؟ لا بد من البحث عن حلول برمجية رقمية لا تأخذ في اعتبارها فقط الكم الهائل من المفردات، ولكن أيضا حركات التشكيل والإعراب. فمن مشاكل البحث التي واجهتني وأنا أستخرج النتائج من النصوص، أن تعريف الكلمة من حيث إعرابها ليس صحيحا دائما؛ فالكلمة تختلف من فعل إلى اسم إلى حرف حسب سياقها اللغوي. وهذا هو الصعب في رقمنة اللغة العربية، حيث الصعوبة كبيرة في قدرة البرامج الحاسوبية على تعريف الحركات العربية، وهذه هي الصعوبة الحقيقية التي نواجهها. لا توجد برامج أو قاعدة بيانات تستطيع ضبط الحركات بحسب سياق الجملة، ولهذا فالأمر يحتاج إلى مزيد من العمل والبحث بين خبراء الحاسوب وعلماء اللغة للتوصل إلى حل للمشكلة. اللغة العربية متأخرة جدا في عملية الرقمنة، إلا أن هناك جهودا كبيرة في بعض المراكز البحثية، أما تطبيقات الذكاء الاصطناعي، فإنها تُفقد العربية بلاغتها في الوقت الحالي اللغة العربية متأخرة جدا في عملية الرقمنة، إلا أن هناك جهودا كبيرة في بعض المراكز البحثية. ففي جامعة أبوظبي، يوجد أحدث نظام تعريفي حاسوبي للحركات العربية في "لسانيات المتون" اسمه (CAMEL) "جمل"، وقد اعتمدت على هذا المنهج. وهناك جهود أخرى كثيرة، مثل إتاحة المعجم التاريخي للغة العربية بالشارقة، الذي يعد إضافة كبيرة في دراسة تاريخ الكلمات، وقد اعتمدت عليه في دراسة تاريخ كلمات مثل "أمة"، "جمهور"، "كهرباء"، و"قنبلة"؛ حيث يحكي المعجم تاريخ الكلمة منذ أن استخدمت أول مرة، وكيف تطورت وتغيرت معانيها، وهذا دليل مهم جدا لكل من يدرس تاريخ اللغة. أما تطبيقات الذكاء الاصطناعي، فإنها تُفقد العربية بلاغتها في الوقت الحالي. أبحاث الذكاء الاصطناعي تتضمن جانبا كبيرا من التطبيقات على اللغة العربية وترجمتها، ولكن هذه النماذج اللغوية الكبرى دُربت، (مثل Gemini, ChatGPT, Claude AI)، باللغة الإنجليزية، فهي نماذج ذات تركيب يشبه اللغة الإنجليزية. الجملة العربية أحيانا تشبه الإنجليزية وأحيانا تختلف عنها، وعموما أرى أن اللغة العربية الناتجة عن هذه النماذج فاقدة لكثير من بلاغتها وفصاحتها. لكي نرتقي باللغة العربية عن طريق هذه الآليات الجديدة، لا بد من تدريب هذه النماذج بنصوص عربية بليغة فصيحة، وليس باللغة الإنجليزية. وكيف يتم ذلك؟ بالجمع بين المهارات اللغوية والحاسوبية، والتعاون بين خبراء اللسانيات وخبراء الحاسوب لإيجاد نموذج تدريب عربي كبير، حتى نجد نصوصا عربية تعطينا إجابات فصيحة لا نشعر أنها كتبت باللغة الإنجليزية. تموت اللغة عندما يهجرها أهلها والمتحدثون بها، وتموت عندما تستبدل بلغات أخرى، كما في حالة اللغة اللاتينية التي استبدلت باللغات الأوروبية. وكان للنصوص الدينية سبب في اختفاء اللاتينية، لأنه كان هناك احتياج لتوصيل هذا المحتوى الديني للشعب الأمي الذي لا يفهم اللاتينية. وفي ألمانيا وإنجلترا وفرنسا، تم إبداع لغات جديدة. وهذا التغيير استغرق قرونا ولم يحدث فجأة أخيرا، عن حياة اللغة وموتها، متى يمكن أن نقول بموت لغة ما، وما شروط إحيائها؟ تموت اللغة عندما يهجرها أهلها والمتحدثون بها، وتموت عندما تستبدل بلغات أخرى، كما في حالة اللغة اللاتينية التي استبدلت باللغات الأوروبية. وكان للنصوص الدينية سبب في اختفاء اللاتينية، لأنه كان هناك احتياج لتوصيل هذا المحتوى الديني للشعب الأمي الذي لا يفهم اللاتينية. وفي ألمانيا وإنجلترا وفرنسا، تم إبداع لغات جديدة. وهذا التغيير استغرق قرونا ولم يحدث فجأة. اتهم مارتن لوثر بالهرطقة من الكنيسة لأنه ترجم الإنجيل من اللاتينية إلى الألمانية المنطوقة. وفي إيطاليا في القرن الخامس عشر، كتب دانتي دراسة عن "بلاغة العامية"، حيث تناول الكتابة الأدبية بالعامية، وطرح تفوق اللغات الطبيعية الحية على اللاتينية، وهذا يعد تصرفا ثوريا في عصره. وهكذا، تموت اللغات بانصراف الناطقين بها عنها أو استبدالها بلغات أخرى. هذا ما حدث مع اللغة القبطية التي استبدلت بالعربية، وحدث مع اللغة التركية الحديثة ولكن قسريا عندما قرر كمال أتاتورك استبدال الأبجدية العربية باللاتينية، واستبدال كلمات من أصول عربية بأخرى من أصول تركية. كان هذا قرارا سياسيا، ورأى أتاتورك، وهو عالم لغة، في ذلك استقلالا للأمة التركية بهوية بحتة، وطبق المناهج الدراسية باللغة التركية الجديدة. وهذا ما تم أيضا لإحياء اللغة العبرية في الأرض المحتلة، حيث تم تعميم المناهج الدراسية بالكامل باللغة العبرية الجديدة. هناك علاقة طردية بين تطور اللغة وزيادة عدد المتحدثين بها؛ فكلما زاد الإنتاج العلمي للغة ما، زاد عدد مستخدميها وتطورها. والعكس صحيح؛ فإذا هجر المتكلمون لغتهم، ماتت وذوت واندثرت.