
الشرق الأوسط عند مفترق طرق
تدخل المنطقة لحظة فارقة تقترب من حسم تاريخي طويل التأجيل، وسط انهيار تدريجي لمحور شمولي لطالما تغذّى على الآيديولوجيا والميليشيات وتصدير الأزمات. فالمشروع الإقليمي الذي استثمر لسنوات في الفوضى والسيطرة بالوكالة بدأ بالتراجع، ليس فقط تحت وطأة الضغوط الإقليمية والدولية، بل بفعل التآكل الداخلي في أدواته وشبكاته، حيث تتكشف هشاشته أمام اختبارات الدولة الحديثة وممكنات التغيير العميق. ولم تعد الشعارات المكرّرة، ولا القوة الميليشياوية قادرتين على إنتاج استقرار أو بناء سيادة حقيقية، بل أصبح ذلك عبئاً على الشعوب، وعقبة أمام اللحاق بموجة التحديث والإصلاحات المؤسسية التي باتت خياراً لا مفر منه.
وفي مواجهة هذا الفراغ، تتقدّم دول الاعتدال، وفي مقدّمتها السعودية، بنموذج بديل يعيد الاعتبار لمنطق دولة المواطنة، ويقدّم مقاربة أمنية تنموية متكاملة تتجاوز المعالجات الظرفية أو الخطابات الآيديولوجية الجوفاء، نموذج يربط بين الاستقرار ومكافحة التطرف من جهة، وبين التنمية المستدامة وبناء تحالفات واقعية من جهة أخرى، من دون الارتهان للمظلات الخارجية أو التورط في محاور متصارعة. لقد أفرزت هذه الرؤية مساراً استباقياً ومتعدد المسارات، تُبنى فيه السياسات على إدارة الفراغات التي خلّفها انسحاب اللاعبين الدوليين، لا سيما في سوريا ولبنان، وعلى تفكيك منطق التبعية والوكالة الذي كان السمة الأبرز للمشروع الإيراني منذ بداياته.
وفي هذا السياق، لا يمكن فهم التحولات الجارية في لبنان وسوريا إلا بأنها جزء من هذا الانتقال نحو شرق أوسط جديد. ففي لبنان، ورغم استمرار التعثّر في بناء دولة مركزية تتجاوز نموذج «الدولة داخل الدولة»، بدأت بنية «حزب الله» تتعرض لتآكل غير مسبوق، نتيجة لمعادلة أمنية إقليمية جديدة تفرضها الوقائع لا التوازنات القديمة. ومع انتخاب قيادة سياسية لبنانية أكثر توافقاً مع منطق الدولة، وبروز دعم دولي صريح لاستعادة القرار السيادي، يتحول الجنوب اللبناني من ساحة نفوذ إيرانية إلى منطقة اختبار حقيقي لجدوى إعادة التأسيس الجديد المبني على المواطنة.
في المقابل، تخوض سوريا اليوم معركة مزدوجة: مواجهة بقايا «تنظيم داعش»، وإعادة هيكلة مؤسسات الدولة ضمن مسار شديد التعقيد، سواء في استيعاب كل المكونات أو التخلص من حالة الثورة للدولة، وعلى رأس ذلك ملف المقاتلين الأجانب، وسوريا تسع السوريين دون تمييز.
ما يعقّد هذا المشهد هو الفراغ الذي خلفه الانسحاب الأميركي، وتراجع قدرة الشركاء المحليين، خصوصاً قوات سوريا الديمقراطية، على ضبط السجون والمخيمات التي تضم آلاف المتشددين وعائلاتهم. وتدل المؤشرات على نمط جديد من التمرد المرن، كما ظهر في هجوم الميادين الأخير، ما يشي بأن التنظيم يتأقلم مع المتغيرات ويستغل الثغرات؛ لذا فإن تحدي «داعش» لم يعد شأناً محلياً، بل هو تهديد إقليمي يتطلب تنسيقاً متعدد الأطراف، لا سيما مع الانكشاف الأمني في مناطق مثل دير الزور ومحيطها.
من هنا، تبرز أهمية النموذج السعودي بوصفه رافعة إقليمية لإعادة صياغة تحالف مكافحة الإرهاب، لا بوصفه التزاماً أمنياً، بل بأنه جزء من مشروع إقليمي أوسع يعيد إنتاج الاستقرار من خلال عدوى النموذج الناجح، ومن هنا فإن قراءة الحضور السعودي في دعم الإدارة السورية المؤقتة من زاوية أمنية وكيف قدمت فرصة ذهبية في الرهان على الاستقرار، وحث المجتمع الدولي وإدارة ترمب على رفع العقوبات في بُعده الأمني فحسب خطأ كبير، لأن ذلك يُعبّر عن تحول كبير ونوعي في فهم طبيعة التهديدات وأدوات مواجهتها، عبر دمج الملفات الأمنية والسياسية، وتفكيك بيئة الحواضن الفكرية والاجتماعية للتطرف.
على عكس تجارب سابقة اتكأت على القوة الصلبة دون معالجة جذرية، يقدّم النموذج المعتدل السعودي مقاربة تنموية، تدمج الأمن بالإصلاح، والسيادة بالاستثمار في الداخل.
إلا أن نجاح هذا المسار يظل مشروطاً بقدرة دمشق على إثبات الجدارة والالتزام، خصوصاً في إدارة ملف السجون والمخيمات، وتحقيق نوع من التفاهم مع قوات سوريا الديمقراطية، لا على أساس الإقصاء أو الإلغاء، بل من خلال تعاون واقعي يقدم مصلحة سوريا.
وفي السياق ذاته، فإن المقاربة للملف السوري يجب أن تتسم من الدول المؤثرة بحساسية وتعالٍ على المصالح الضيقة.
نحن أمام اختبار تاريخي لقدرة الشرق الأوسط على إنتاج معادلته الأمنية والسياسية من داخل نسيجه، بعيداً عن الهيمنة أو التدخلات الفوقية. فإذا نجحت دول الاعتدال، وفي مقدّمتها السعودية، في تحويل هذا الزخم إلى منظومة دائمة لتثبيت الاستقرار، وإذا استطاع لبنان أن يُعيد ترميم مؤسسات الدولة دون الخضوع لمنطق السلاح الموازي وكيانات ما دون الدولة، وسوريا أيضاً التي أمامها تحدي إعادة رسم أولوياتها الأمنية بالشراكة لا بالإقصاء، فإننا سنكون أمام شرق أوسط جديد لا يشبه الخرائط القديمة، بل يتجاوزها نحو واقع براغماتي أكثر قدرة على الصمود والشراكة، بعيداً عن شبح الانهيار الذي سيكون إن حدث، لا قدر الله، حلقة قاتمة من حلقات العنف التي ستعيد المنطقة إلى سرديات الفوضى مجدداً.
هاشتاغز

جرب ميزات الذكاء الاصطناعي لدينا
اكتشف ما يمكن أن يفعله Daily8 AI من أجلك:
التعليقات
لا يوجد تعليقات بعد...
أخبار ذات صلة


صحيفة سبق
منذ 41 دقائق
- صحيفة سبق
خدمات ولوجستيات ومتابعة دقيقة.. مشعر منى يشهد تصعيدًا آمنًا ومريحًا للحجاج
وسط أجواء روحانية وتنظيم محكم، اكتمل صباح اليوم بنجاح تصعيد آلاف الحجاج من جنسيات متعددة إلى مشعر منى، تزامنًا مع يوم التروية، وذلك بجهود ميدانية شارك فيها الكوادر السعودية المؤهلة لخدمة ضيوف الرحمن، وبالتعاون مع الجهات الأمنية والتنظيمية، ضمن خطة تشغيلية دقيقة تضمن انسيابية الحركة وراحة الحجاج في كافة المراحل. وأكد وائل عقيلي، رئيس مجلس ركين لخدمات الحجاج، أن كوادر سعودية مؤهلة تتشرف هذا العام بخدمة حجاج من سبع دول هي: إندونيسيا، بنجلاديش، فيتنام، كمبوديا، كازاخستان، باكستان، الهند، ونيجيريا، لافتًا إلى أن فرق العمل نفذت مهامها الميدانية بكفاءة، شملت التنظيم، المتابعة، والإشراف المباشر على تنقل الحجاج بين المواقع. وأوضح أن عملية التصعيد إلى مشعر منى جرت بكل يُسر وسلاسة، وسط بيئة آمنة ومخيمات متكاملة التجهيزات، تتوفر فيها الخدمات الطبية واللوجستية، ويديرها طواقم مدرّبة تسعى لتأمين أعلى معايير الراحة والسلامة للحجاج. وفي ذات السياق، أشار الأستاذ محمد أمين أندرقيري، رئيس مجلس "سنا"، إلى أن ما تحقق من نجاح في تصعيد الحجاج هذا اليوم يعكس مستوى التكامل بين الجهات الخدمية والتنظيمية، ويجسد الصورة الحضارية التي تقدمها المملكة في إدارة الحشود وتيسير أداء المناسك، مؤكدًا أن "سنا" سخّرت كافة إمكانياتها لخدمة ضيوف الرحمن وتوفير بيئة مريحة وآمنة لهم. مؤكدين استمرار الجهود لتقديم خدمات متميزة لضيوف الرحمن، بما يواكب تطلعات القيادة الرشيدة، ويعكس الصورة المشرّفة للمملكة في خدمة الحجاج من مختلف أنحاء العالم.


عكاظ
منذ 42 دقائق
- عكاظ
بدءاً من الشهر القادم.. رفع استقطاع معاش التقاعد إلى 9.5% على الموظفين الجدد
تابعوا عكاظ على تبدأ المؤسسة العامة للتأمينات الاجتماعية، اعتباراً من شهر يوليو القادم، تطبيق الرفع التدريجي في نسبة استقطاع المعاش التقاعدي على الموظفين السعوديين الجدد الملتحقين بنظام التأمينات بعد تاريخ 3/7/2024، إذ سترفع نسبة استقطاع معاش التقاعد إلى 9.5% من إجمالي الأجر الخاضع للاشتراك ويشمل (الأجر الأساسي، وبدل السكن، والعمولات الشهرية)، بعد أن كانت نسبة الاستقطاع السابقة 9%، مع الإبقاء على استقطاع «ساند» بنسبة 0.75% من الأجر الخاضع للاشتراك، ليبلغ إجمالي الاستقطاع الشهري على الموظف 9.75%. كذلك سترتفع نسبة الاستقطاع على أصحاب العمل من 9% إلى 9.5% للمعاش التقاعدي، إضافة إلى 2% لبدل المخاطر، و0.75% لـ«ساند»، ليصل إجمالي الاستقطاع الشهري على صاحب العمل إلى 12.25%. وسيستمر رفع نسب استقطاع (معاش التقاعد) بشكل تدريجي بمقدار 0.5% سنوياً في بداية شهر يوليو من كل عام حتى عام 2028، لتصل في نهاية هذه الفترة إلى 11% لكل من الموظف وصاحب العمل. يذكر أن الحد الأدنى لسن التقاعد المبكر للمشتركين في النظام الجديد هو 55 سنة ميلادية. وأعلنت «التأمينات» عبر موقعها الإلكتروني، أن من شروط الحصول على معاش التقاعد وجود 30 سنة خدمة (360 شهراً) للمتقاعد، مع توقفه عن العمل الخاضع لأحكام النظام عند رغبته الحصول على المعاش التقاعدي. وأوضحت أن سن التقاعد في النظام الجديد 65 سنة ميلادية، على أنه يمكن التقاعد قبل هذا السن بـ10 سنوات فقط. أخبار ذات صلة وأشارت أن النظام الجديد سيشمل كافة الملتحقين الجدد بسوق العمل، ممن ليس لديهم مدد اشتراك سابقة على نظام التقاعد المدني أو التأمينات الاجتماعية. * استقطاعات معاش التقاعد للسعوديين: - المشتركون بعد تاريخ 3/7/2024 - 9.5 % لمعاش التقاعد - 2 % بدل مخاطر - 0.75 % ساند /*.article-main .article-entry > figure img {object-fit: cover !important;}*/ .articleImage .ratio{ padding-bottom:0 !important;height:auto;} .articleImage .ratio div{ position:relative;} .articleImage .ratio div img{ position:relative !important;width:100%;} .articleImage .ratio img{background-color: transparent !important;} التأمينات الاجتماعية

عكاظ
منذ 42 دقائق
- عكاظ
«لولو» تفتتح فروعاً جديدة بالقرب من المشاعر المقدسة لتعزيز تجربة الحجاج
/*.article-main .article-entry > figure img {object-fit: cover !important;}*/ .articleImage .ratio{ padding-bottom:0 !important;height:auto;} .articleImage .ratio div{ position:relative;} .articleImage .ratio div img{ position:relative !important;width:100%;} .articleImage .ratio img{background-color: transparent !important;} مع اقتراب موسم الحج وبدء توافد ضيوف الرحمن، أكدت المملكة جاهزيتها لاستقبال أكثر من 1.3 مليون حاج قادمين من مختلف دول العالم، لأداء مناسك الحج خلال الفترة من 4 إلى 9 يونيو. وتواصل الجهات المعنية جهودها لتوفير تجربة آمنة وتنظيمية وروحانية شاملة للحجاج. وفي هذا الإطار، أعلنت مجموعة لولو عن افتتاح عدد من فروعها التجارية الجديدة في المشاعر المقدسة (منى، عرفات، ومزدلفة)، بالشراكة مع شركة كدانة للتنمية والتطوير، وتحت إشراف الهيئة الملكية لمدينة مكة المكرمة والمشاعر المقدسة. وبدأت الفروع عملها فعلياً لتقديم خدمات أساسية تشمل المواد الغذائية، المشروبات، ومنتجات العناية الشخصية، ضمن بيئة منظمة وسهلة الوصول. وتم توقيع الاتفاقية التي تدعم هذه المبادرة بين الأستاذ محمد المجماج، المدير التنفيذي لشركة كدانة، والأستاذ بشار ناصر البشر، المدير الإداري التنفيذي لمجموعة لولو. وتنسجم هذه الخطوة مع مستهدفات رؤية السعودية 2030، والتي تسعى إلى رفع جودة الحياة وتفعيل دور القطاع الخاص في تطوير الخدمات المقدمة لضيوف الرحمن. وتُعد الشراكة نموذجاً عملياً للتكامل بين القطاعين العام والخاص في دعم المنظومة الخدمية للحج. أخبار ذات صلة وتعمل «كدانة» ضمن إستراتيجية شاملة تهدف إلى تحديث وتطوير الأسواق المحيطة بالمشاعر، وتحويلها إلى بيئة تجارية منظمة وبنية تحتية حديثة تخدم الحجاج بشكل أفضل. ويُتوقع هذا العام أن يؤدي أكثر من 122 ألف حاج من الهند مناسك الحج، من بينهم أكثر من 16 ألفاً من ولاية كيرلا. وتلبي متاجر لولو الجديدة احتياجات هذه الشرائح المتنوعة من الحجاج، من خلال تواجدها في مواقع إستراتيجية قرب المشاعر. ومع انطلاق عمليات البيع فعلياً، تصبح لولو من أوائل الجهات التجارية الكبرى التي تبدأ العمل داخل نطاق المشاعر، تأكيداً على التزامها بالتميز في الخدمة والدعم المجتمعي.