
صحفي غزّي يروي قصة البحث عن حفنة طحين
يُجبَر الآباء على حمل أطفالهم وذويهم، فارين بهم من موت إلى موت، وهم يجرون خلفهم ما تبقى من فتات الطعام وبعض الأدوات البسيطة، ليقيموا "حياة" تحت خيام مهترئة مزقتها غارات الاحتلال الإسرائيلي بلا رحمة.
لكنني اليوم لا أكتب عن مأساة الآخرين، بل أحكي لكم قصتي؛ قصة معاناة عشتها بكل تفاصيلها، قصة نزوح أعيشها يوميا، وصراع من أجل البقاء.
سأكشف لكم عن تلك اللحظات التي كان فيها الموت أقرب إليّ من الأمل، عن محاولاتي المستميتة لتأمين رغيف خبز أو جرعة ماء لأطفالي، وسط النزيف المستمر، عسى أن تلامس كلماتي شيئا من الحقيقة التي تعترينا هنا في غزة.
رحلة إلى الجحيم
لا تتوقف المعاناة عند حدود النزوح من الديار، بل تبدأ رحلة البحث عن مأوى في رقعة ضيقة من غزة، لم يبقَ للفلسطينيين فيها سوى نحو 20% من الأرض بعد أن احتل الاحتلال بالنار والدم المساحة الكبرى من القطاع.
أما البحث عن الماء والطعام، فهو معركة أخرى أكثر قسوة. فمنذ مارس/آذار الماضي، تمنع إسرائيل وصول المساعدات إلى الغزيين بآلية منظمة، ابتدعت لها " مؤسسة غزة الإنسانية" المدعومة من أميركا أيضا، وتحولت محاولات الحصول على المواد الأساسية إلى فخاخ موت، أزهقت بسببها أرواح أكثر من 500 شخص وجرح الآلاف، حسب التقارير الحقوقية.
صار التجويع يدفعنا للسير طوعا نحو ساحات الموت، نمشى عدة كيلومترات تحت الشمس الحارقة، في مناطق صنفها الاحتلال "مناطق قتال خطيرة"، تمر في شوارع وأحياء سويت بالأرض.
وعند الاقتراب من مناطق توزيع المساعدات، نواجه عصابات قطاع الطرق، المسيرين بتوجيه ضباط مخابرات الاحتلال، حسب الشهادات الإعلامية، فيجنون حصاد الشاحنات التي أُجبر الاحتلال على إدخالها لغزة لأغراض سياسية ضيقة.
View this post on Instagram
A post shared by الجزيرة نت (@aljazeera.net)
من المؤلم أن تقف عاجزا أمام وقاحة اللصوص وقطاع الطرق، يحملون السلاح، بينما تحلق طائرات الاحتلال المسيّرة على ارتفاعات منخفضة فوق رؤوس آلاف الجائعين الذين يبحثون يائسين عن كيس الطحين أو بعض المواد الغذائية التي تجبر لشرائها بأسعار خيالية، فكيس الدقيق الذي يسطو عليه اللصوص، صار سعره 800 شيكل (أكثر من 200 دولار).
رحت أبحث من شارع ومن زقاق لآخر، برفقة ابني الذى أبى إلا أن يأتي معي ليساعدني في حمل ما أقدر على الحصول عليه من طعام مهما كلف الثمن، وليدافع عني بيديه العاريتين أمام اللصوص وقطاع الطرق الذين لم يسلم منهم لا طفل صغير ولا امرأة ولا شيخ كبير.
وبين رصاص الاحتلال وطائراته المسيرة ورصاص قطاع الطرق، وتهديداتهم، واعتداءاتهم، سِرت بين دوار التحلية شرق خان يونس وصولا لمنطقة الشيخ ناصر ودخولا إلى بني سهيلا، جميعها مصنفة بـ"مناطق قتال خطيرة"، لكني عدت خالي الوفاض بسبب عدم مقدرتي على مجاراة الأسعار الفاحشة، وكذلك معظم سكان غزة الذين باتوا يواجهون المصير ذاته.
والمفارقة الموجعة أن قطاع الطرق اتخذوا من مناطق القتال الخطيرة مقرا لأنشطتهم اللصوصية ومكانا لتخزين مسروقاتهم من الطحين والمساعدات التي تعمل على توفيرها مؤسسات الإغاثة الدولية، ليصبح مخزون الطعام حكرًا عليهم وتحت حماية الاحتلال نفسه.
عدت إلى أطفالي المجوعين بعد ساعات طويلة من البحث، خالي اليدين، لم أتمكن من الحصول فيها على أي طعام لهم، وباتوا ليلتهم يصارعون الجوع والقصف وحالة النزوح المفروضة عليهم.
اليوم التالي
سمعت من الناس أن في الجنوب الغربي من خان يونس -منطقة الإقليمي والشاكوش- أسعار الغذاء ما زالت معقولة نسبيا بفضل بعض المساعدات الأميركية، فانطلقت مشيا على الأقدام لمسافة تتجاوز 3 كيلومترات باحثا مرة أخرى عن طعام يسد جوع أطفالي، كنت أكرر لكل من ألقاه عبارة "طحين للبيع"، أبحث عن أي أمل، حتى وصلت قرب خطوط التماس، حيث تقصف دبابات الاحتلال المناطق القريبة من شمالي وغربي رفح.
أجبرت على التحرك من منطقة لأخرى، لعلي أتمكن من الحصول على طحين، أترقب خبرا عن فتح مركز "موراغ" لتوزيع المساعدات مع حلول المساء، رغم أن تلك الرحلات محفوفة دوما بمجازر ترتكبها قوات الاحتلال ومرتزقة الشركات الأمنية الأجنبية ضد طالبي المساعدات، فإن التجربة نفسها لا يمكن وصفها إلا بالمرعبة.
اتجهت إلى شارع المسلخ -يعرف أيضا بشارع الطينة- الذي يربط بين جنوب خان يونس بمنطقة المقابر ويمتد حتى شارع موراغ الفاصل بين خان يونس ورفح.
كان المشهد أمامي صادما بكل المقاييس، عشرات الآلاف من الأشخاص المجوعين من كل الفئات العمرية -الأطفال، النساء، الشبان، كبار السن- بعضهم يحمل سكينا في يده وآخرون يحملون أكياسا فارغة.
وصلت إلى منطقة ممنوع تجاوزها، وتجمع عشرات الآلاف تحت الشمس المحرقة، وتحركت مسيرتان للاحتلال فوق الجموع الذين تحرك بعضهم جنوبا عدة أمتار، وإذ بالآلاف أمامي يجرون هنا وهناك، ومنهم من ينبطح على الأرض أو يحتمي بكومة تراب.
سمعت صفير قذائف الدبابات لتسقط واحدة على بعد أمتار قليلة من الحشود الجائعة وتسقط ثالثة ورابعة، وشاهدت دبابة وناقلة جند وعددا من جيبات الهامر التابعة للجيش الإسرائيلي تتحرك إلى منطقة مرتفعة على بعد نحو 500 متر وتبدأ بإطلاق النار على كل من يتحرك، شاهدت أطفالا يصابون برصاص القناصة الذين اعتلى بعضهم السواتر الترابية. بقينا نحو ساعتين على وضعية الاحتماء، بينما أزيز الرصاص وصفير القذائف لا يتوقف.
وقبيل الساعة الـ5 عصرا، بدأ العشرات يلوحون بأكياسهم الفارغة البيضاء، لكن الدبابة والجنود واصلوا إطلاق النار. أدركت أن الهرولة نحو مركز المساعدات بدأت، فاندفعت مع عشرات الآلاف (أقدّرهم بـ100 ألف شخص على الأقل) أصطدم بهذا وذاك وأتعثر هنا وهناك بحجارة أو ركام منزل أو بجسد سقط متعبا، وقد غمرني غبار طيني منعني من التنفس واختنقت بشدة، فتوقفت لاهثا التقط أنفاسي.
واصلت دبابة الاحتلال وجنوده إطلاق النار على الحشود التي تجرى هائمة على وجهها ضمن مسارات موت محددة، حيث يُدفعون قسرا للجري لمسافات تصل بعضها إلى 3-5 كيلومترات في شوارع مدمرة تحيط بها أسلاك شائكة مرتفعة وقناصة.
ألقت الطائرات المسيّرة القنابل والرصاص، ليتجلى أمامك مشهد دموي ووحشي في مساحة ضيقة -لا تتجاوز 200 متر مربع- ألقيت فيها عشرات صناديق المساعدات، وسط أبراج مراقبة ورشاشات آلية تطلق النار، ومرتزقة يضع أحدهم علما أميركيا واضحا على صدره، وآخر يرتدي خوذة ويحمل مكبر صوت ويتحدث العربية بلهجة غير فلسطينية، بينما عشرات الآلاف يتدافعون للحصول على حفنة عدس أو أرز أو علبة من الصفيح فيها بقايا طعام.
وبين كل هذا، أطفال ونساء وكبار السن لا يمكنهم حتى الحصول على بقايا الكراتين الورقية والأخشاب ليتمكنوا من الاستفادة منها كوقود، يجمعون بقايا من حفنات طحين تناثرت على الأرض المغطاة بالطين والصخور أو حبات من العدس والأرز.
المشهد كان قاسيا مشحونا بسوداوية وحالة من الإحباط واليأس لم ألمسها طوال حياتي، وأنا أدخل منتصف العقد السادس من عمري (55 عاما).
ومع ذلك حاولت طول رحلة العودة من ساحة الموت والإذلال -التي يطلق عليها المساعدات الأميركية- أن أبحث عمن اشتري منه بعض الطحين والأرز لأطفالي المجوعين، وبدأت تقفز أمامي أرقام خيالية ممن تمكنوا من الحصول على المساعدات، وهم شبان تمكنوا من الوصول أولا للمساعدات وأخذوا منها كل ما يقدرون على حملة.
لأعود أخيرا لأطفالي ومعي فقط كيلوغرامان من الطحين حصلت عليهما بصعوبة شديدة من أحدهم الذي باعني إياها طبعا بسعر مرتفع مستغلا حاجتي الشديدة.
كان مشهد عشرات الآلاف الذين يلفهم الغبار والدخان وهم يعودون فارغي الأيدي من رحلة الموت مفجعا، وكثير ممن التقيتهم قال إنه يأتي يوميا ويعود بلا شيء، يحاول مرة تلو أخرى لعله يظفر بطعام لأسرته في نهاية كل نهار.
هنا غزة
غزة اليوم تغرق في دمائها، وأشلائها، وركام بيوتها، أما دوامة الأزمات فقد غمرت حتى أنفاسنا. أصبح التجويع هو الفاعل الأكبر، متقاطعا مع تدمير كل مقدرات الاقتصاد والزراعة، ليجد الفلسطيني نفسه في مواجهة غلاء فاحش، يقوده تجار كبار ينسقون مع الاحتلال لقاء رشاوى بملايين الشواكل، لجلب بضائع تُباع بأسعار خيالية أمام حركة شرائية منهارة.
وزاد من فداحة المشهد احتكار الصرافين السيولة النقدية وتحويلها لمشروع ربوي قاتل.
كل ذلك يحدث وسط تدمير منهجي لكل أدوات الصمود: من مطابخ توزيع الطعام، والمبادرين الشرفاء، إلى محطات توزيع المياه، وصولا لاختفاء الوقود والحطب، حتى صار الأطفال والنساء يبحثون في القمامة والشوارع عن قطع بلاستيك والنايلون لإشعالها للطهي، وحتى هذه أضحت سلعة غالية الثمن.

جرب ميزات الذكاء الاصطناعي لدينا
اكتشف ما يمكن أن يفعله Daily8 AI من أجلك:
التعليقات
لا يوجد تعليقات بعد...
أخبار ذات صلة


الجزيرة
منذ 37 دقائق
- الجزيرة
مسؤول أمني في حماس للجزيرة: نقاط المساعدات تستخدم لتجنيد متخابرين مع الاحتلال والالتقاء بهم
عاجل | مسؤول أمني في حماس للجزيرة: المخدرات تستخدم في توريط الشباب لإسقاطهم وربطهم أمنيا وتكليفهم بمهام تجسسية عاجل | مسؤول أمني في حماس للجزيرة: خطة المساعدات الإسرائيلية تنشر الفوضى وتخلق بيئة طاردة للحياة عبر زيادة المعاناة عاجل | مسؤول أمني في حماس للجزيرة: الاحتلال يعمل على خلق مشاكل وإطالتها لبروز عصابات إجرامية وتوجيهها لزعزعة الأمن عاجل | مسؤول أمني في حماس للجزيرة: خطة المساعدات تنشر الفوضى وتخلق بيئة طاردة للحياة عبر زيادة المعاناة التفاصيل بعد قليل..


الجزيرة
منذ 40 دقائق
- الجزيرة
إصابة جندي إسرائيلي والمقاومة تفجر دبابة وناقلة جند للاحتلال بخان يونس
قالت سرايا القدس -الجناح العسكري لحركة الجهاد الإسلامي – اليوم الخميس إن مقاتليها دمروا دبابة إسرائيلية بتفجير عبوتين من مخلفات الاحتلال، وسط مدينة خان يونس جنوبي قطاع غزة. من جانبها، أعلنت كتائب القسام -الجناح العسكري لحركة المقاومة الإسلامية (حماس)- أنها استهدفت ناقلة جند إسرائيلية بقذيفة "الياسين 105" -ظُهر أمس الأربعاء- في شارع المجمع الإسلامي بمدينة خان يونس، ورصد المقاتلون اشتعال النيران فيها وهبوط الطيران المروحي للإجلاء. في حين، أعلن جيش الاحتلال الإسرائيلي إصابة أحد جنوده بجروح متوسطة خلال معارك دارت أمس الأربعاء شمالي قطاع غزة. كذلك أعلن الجيش الإسرائيلي -أمس الأربعاء- مقتل جندي برتبة رقيب من الكتيبة 82 مدرعات، وإصابة قائد دبابة وجنديين بجروح خطيرة في عملية مركبة نفذتها المقاومة. وفي وقت سابق الأربعاء، أعلنت سرايا القدس -في بيان- استهدافها صباحا عشرات الجنود وآليات إسرائيلية في مربع الهدى شرق حي الشجاعية. وارتفعت حصيلة قتلى الجيش الإسرائيلي، منذ بداية حرب الإبادة، إلى 881 ضابطا وجنديا، إضافة إلى إصابة 6032، وفق معطيات الجيش على موقعه. وتواصل الفصائل الفلسطينية في غزة تصديها للجيش الإسرائيلي، الذي يشن بدعم أميركي حرب إبادة جماعية على القطاع منذ السابع من أكتوبر/ تشرين الأول 2023. وتتكتم إسرائيل، وفق مراقبين، على معظم خسائرها البشرية والمادية، وتمنع التصوير أو تداول الصور والمقاطع المصورة، وتحظر الإدلاء بمعلومات لوسائل إعلامية بشأن الخسائر، إلا عبر جهات تخضع لرقابتها المشددة.


الجزيرة
منذ 40 دقائق
- الجزيرة
الحرب المفروضة على إيران.. نقلة إستراتيجية في مواجهة إسرائيل
استفاق الإيرانيون صباح 13 يونيو/حزيران 2025 على صدمة غير مسبوقة في تاريخ بلادهم الحديث: إسرائيل تشن هجوما عسكريا مباشرا على الأراضي الإيرانية، وتنجح في اغتيال عدد من كبار القادة العسكريين والعلماء النوويين. لم يكن الهجوم خاطفا فحسب، بل امتد إلى عمليات تخريب داخلية، ومحاولات تأليب الشارع الإيراني على النظام. ومع ذلك، فإن إيران -التي لم تخض حربا شاملة منذ انتهاء حربها مع العراق عام 1988- لم تستسلم للصورة الأولية للضربة، بل تحوّلت سريعا من حالة دفاعية إلى مرحلة جديدة من الردع الإستراتيجي، فرضت فيها قواعد جديدة للمواجهة مع إسرائيل، غيّرت بدورها موازين القوى في المنطقة. ونشر مركز الجزيرة للدراسات ورقة تحليلية بعنوان " كيف أحدثت الحرب المفروضة على إيران نقلة إستراتيجية أمام إسرائيل ؟" للباحث حسن أحمديان، حاول فيها الوقوف عند تحديات الحرب، والخيارات التي واجهت طهران ، والاحتمالات المستقبلية بعد وضع الحرب أوزارها. صدمة البداية وتعدد الأبعاد الهجوم الإسرائيلي لم يكن عسكريا تقليديا فحسب؛ فإلى جانب الصواريخ والطائرات المسيّرة التي استهدفت منشآت حيوية في إيران، تم تنفيذ عمليات تخريب عبر مسيّرات تم تجميعها محليا، وفتح جبهات داخلية بمساعدة جماعات معارضة مثل "مجاهدي خلق". حاولت تل أبيب إحداث فوضى شاملة داخل إيران على أمل تقويض النظام من الداخل. لكن ما لم تحسبه إسرائيل جيدا هو استعادة طهران، وبسرعة لافتة، زمام القيادة والسيطرة. جاء الرد الأولي مساء اليوم نفسه بإطلاق صواريخ دقيقة استهدفت تل أبيب وحيفا، في عملية أطلق عليها " الوعد الصادق 3″. بذلك، خرجت إيران من حالة الصدمة إلى توازن تكتيكي أولي، ثم إلى إعادة تشكيل إستراتيجيتها بالكامل. فُرضت الحرب على إيران بأبعاد ثلاثة تخللها سوء تقديرات إسرائيلية أسهمت في تدارك إيران الوضع: البعد العسكري: باستهداف القيادات والمنظومات والأهداف العسكرية ومنظومة القيادة والسيطرة داخل إيران وهو ما استمر دون انقطاع رغم تراجع الإنجازات الإسرائيلية مع مضي الأيام الأولی من الحرب، وانتقال إيران من خانة رد الفعل إلی الفعل. البعد التخريبي: باستخدام سلاح خفيف ومسيّرات استهدفت شخصيات عسكرية ونووية ومضادات جوية، واستمرت في إشغال منظومات الدفاع الجوي في الأيام التالية. واستطاعت طهران تحييد الكثير من تلك القدرات طيلة الأسبوع الأول من الحرب. بعد محاولة إسقاط النظام: کان الأمل في إثارة بلبلة في الشارع الإيراني وتحريكه لمواجهة النظام وضرب التماسك الاجتماعي، إلا أن التماسك الداخلي والالتفاف حول العَلَم بدا واضحا منذ اليوم الأول وازداد مع استمرار الحرب. إعلان من "ضبط النفس" إلى "التناسب الإستراتيجي" على مدى سنوات، اتبعت إيران سياسة "ضبط النفس" في مواجهاتها مع إسرائيل حتى في ظل ضربات موجعة طالت مصالحها وحلفاءها في المنطقة. لكن العدوان الإسرائيلي في يونيو/حزيران 2025 أجبر طهران على التخلي عن هذا النهج، والانتقال إلى ما وصفه الخبراء بـ"التناسب الإستراتيجي"، أي الرد بالمثل على الضربات من حيث الأهمية والتأثير الإستراتيجي. استهدفت الصواريخ الإيرانية في الأيام التالية منشآت حساسة في إسرائيل، بما في ذلك مصفاة حيفا ومواقع استخباراتية تابعة للموساد ، إضافة إلى مراكز أبحاث متقدمة مثل معهد وايزمان. وكان هذا التحول يعني أن إيران لم تعد تضع سقفا لتصعيدها، بل تركت لتل أبيب وواشنطن مسؤولية تحديد حجم المواجهة، مع احتفاظ طهران بحق الرد الكامل. رد أميركي محسوب ورسالة سياسية في 22 يونيو/حزيران الماضي، دخلت الولايات المتحدة على خط الأزمة بشن ضربة محدودة استهدفت 3 مواقع نووية إيرانية. ورغم التهويل الإعلامي المصاحب للهجوم، فإن ما كُشف عنه لاحقا أن الضربة كانت منسقة مسبقا، وأُبلغت طهران بها، مما أتاح إخلاء المواقع وتقليل الأضرار. فهمت طهران الرسالة: لا رغبة أميركية في حرب شاملة. وظهر ذلك جليا في ردها، الذي لم يستهدف القواعد الأميركية في المنطقة مباشرة، بل نفّذت هجوما صاروخيا جديدا ضد أهداف إسرائيلية، واستخدمت صاروخ "كاسر خيبر" البعيد المدى لتوجيه ضربة رمزية إلى حيفا. بهذه المعادلة، أصبح واضحا أن المواجهة محصورة إسرائيليا إيرانيا، وأن واشنطن لن تنجر إلى معركة شاملة رغم دعمها السياسي والعسكري لتل أبيب. أدرك رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو أن واشنطن لن تحارب عنه، وأنه أمام خيارين: الاستمرار في ضرب طهران وتلقي ردودها المتناسبة مع ضرباته. التراجع دون تحقيق أهداف حربه وقبول وقف إطلاق نار مع عدوه اللدود. ومساء رد طهران العسكري على واشنطن واتضاح التموضع الأميركي، قررت الحكومة المصغرة لنتنياهو قبول وقف لإطلاق النار. وظهرت الموازنة الجديدة بين إيران وإسرائيل القائمة علی موازنة التهديد. كانت الصورة السائدة عن إيران في الدول الغربية والمنطقة قبل بدء الحرب الإسرائيلية توحي بضعف إيران وحلفائها. تغيرت تلك الصورة نتيجة 3 تطورات: أولا: انتقلت طهران من "ضبط النفس" إلی "التناسب الإستراتيجي"، مما ترك رسم حدود المواجهة لإسرائيل والولايات المتحدة. وكانت الضربات الإيرانية تنتقي الأهداف المتناسبة مع تلك التي تستهدفها إسرائيل في إيران. تلك معادلة لم تكن قائمة قبل الحرب وفرض موازنة تهديد أجبرت إسرائيل علی القبول بوقف إطلاق النار دون تحقيق أهدافها المرجوة، وبموقف إستراتيجي أمام إيران أدنی مما كانت عليه قبل بدئها الحرب. ثانيا: بإظهار إيران القوة والدقة في استهدافاتها للأهداف المنتقاة في إسرائيل، تراجع خطاب وسياسة واشنطن في معاداة طهران ومطالبتها بالاستسلام غير المشروط. وبنأي ترامب الولايات المتحدة عن الحرب بين الجانبين إلا بشكل غير مباشر، اتضح أن علی إسرائيل تحمل أعباء المواجهة بمفردها والأمل بتغيير موازنة التهديد مع إيران أو القبول بوقف إطلاق نار. ثالثا: ومع تحقيق توازن التهديد ونأي واشنطن بنفسها، بدت طهران أكثر ميلا لجرّ إسرائيل لحرب استنزاف مؤلمة بدت واضحة في ضرباتها الأخيرة علی حيفا وتل أبيب وبئر السبع بصواريخ أقل عددا وأكثر فتكا. إيرانيا، لم تكن الحرب في هذه المرحلة خيارا لو لم تُجبَر طهران علی خوضها. أتت الحرب علی إيران بالكثير من الأثقال؛ فقد خسرت عددا مهما من قادتها العسكريين وعلمائها النوويين، كما راح ضحيتها عدد كبير من المدنيين. كما خسرت طهران جزءًا مهما من قدراتها الدفاعية إثر استهدافات إسرائيلية أو عمليات تخريب داخلية. رغم التكاليف الباهظة التي دفعتها إيران، فإن الحرب جلبت لها مكاسب إستراتيجية مهمة يمكن تلخيصها في التالي: تعزيز الردع الهجومي: أظهرت طهران دقة وقدرة صاروخية عالية، أجبرت إسرائيل على التراجع، وقبول وقف إطلاق النار بشروط لم تكن في مصلحتها. تحسين الوضع التفاوضي النووي: فشلت الضربات في إيقاف البرنامج النووي الإيراني، مما يمنح طهران أوراق قوة إضافية على طاولة التفاوض مع القوى الغربية. توحيد الصف الداخلي: ظهر الالتفاف الشعبي حول القيادة بوضوح، مما يمنح النظام دعما سياسيا نادرا أمام أي تسويات مستقبلية. اكتساب خبرة قتالية جديدة: خاضت إيران معركة ذات طابع تكنولوجي معقّد ضد خصم عالي التسليح، مما وفر لها خبرة عسكرية نوعية. ما بعد الحرب.. الطريق السياسي المرحلة القادمة ستكون حاسمة لإيران. فهي مطالبة بترجمة المكاسب العسكرية إلى إنجازات سياسية، سواء في مفاوضات الملف النووي، أو في تعزيز علاقاتها الإقليمية والدولية. بالمقابل، من المرجح أن تحاول إسرائيل عرقلة هذه الخطوات عبر الدبلوماسية، أو من خلال خروقات محتملة لوقف إطلاق النار، مما سيُبقي احتمالات التصعيد قائمة. في هذا السياق، تبدو إستراتيجية "التناسب الإستراتيجي" التي أرستها طهران باقية كأداة ردع جديدة، تضع حدودا واضحة لأي عدوان عليها، وتُعيد رسم العلاقة مع إسرائيل، ليس فقط في ميدان المعركة، بل على مستوى معادلات الأمن الإقليمي برمته.