logo
د. احمد الخصاونة : جلالة الملك في البرلمان الأوروبي: صوت الحق في زمن الصمت

د. احمد الخصاونة : جلالة الملك في البرلمان الأوروبي: صوت الحق في زمن الصمت

أخبارنامنذ 12 ساعات

أخبارنا :
في زمنٍ يُخيّم عليه الضباب الأخلاقي، وتتراجع فيه المبادئ أمام سطوة المصالح الباردة، ويغدو الإنسان فيه مجرّد رقمٍ في نشرات الأخبار، وأداةً في معادلات السياسة القاسية، أطلّ جلالة الملك عبد الله الثاني ابن الحسين، حفظه الله ورعاه، من على منبر البرلمان الأوروبي في مدينة ستراسبورغ، أطلّ لا كقائد دولة فحسب، بل كضميرٍ حيّ، يُجسّد نُبل الموقف، وعمق الرؤية، وعبق التاريخ الأردني العريق في الدفاع عن الحق والعدالة.
لقد جاءت كلمة جلالته بمثابة وقفة ضمير في عالمٍ أنهكته الازدواجية، واستنزفته الحسابات الضيقة، فكان صوته صريحًا في زمن المُواربة، حازمًا في لحظة تردد، عادلًا في وقت ساد فيه الظلم، ومُلهمًا وسط ضجيجٍ عالمي تاهت فيه البوصلة الأخلاقية.
إنّها ليست المرة الأولى التي يُعبّر فيها جلالة الملك عن هموم الشعوب، وآمال المظلومين، ولكنها كانت لحظة فارقة، اختار فيها أن يُخاطب ضمير العالم من قلب أوروبا، ليدقّ جرس الإنذار، ويُذكّر الجميع بأنّ القيم ليست رفاهية، وأنّ العدالة ليست خيارًا انتقائيًا، بل واجبٌ إنساني لا يقبل التأجيل.
لقد جاء خطاب جلالته في لحظة فارقة من تاريخ البشرية، وفي وقتٍ عصيب تعاني فيه منظومة القانون الدولي من ارتباك خطير، وتتصدّع فيه المعايير الأخلاقية التي قامت عليها الحضارة الحديثة، ليُعيد التذكير بأن الصمت على المظالم هو شراكة في ارتكابها، وأن الحياد أمام الجرائم الكبرى هو انحياز ضد الضحايا، لا سيما إذا كان هؤلاء الضحايا شعبًا بأكمله يُسحق تحت نير الاحتلال والعدوان، كما هو حال الشعب الفلسطيني.
في خطابه التاريخي، لم يكن جلالة الملك يتحدث بلغة الإنشاء السياسي، بل بلغة الضمير الحيّ والرسالة الصادقة، مخاطبًا الأوروبيين من عمق تجربتهم الإنسانية، مُستحضِرًا اللحظات المظلمة التي أعقبت الحرب العالمية الثانية، حين اختارت أوروبا أن تنقذ نفسها من براثن الخراب عبر بناء سلام مستند إلى القانون، والتعاون، والكرامة الإنسانية. ومن هذا الاستدعاء التاريخي العميق، انطلقت رسالة جلالته لتقول إن ما يحدث اليوم في غزة ليس مجرد صراع، بل هو نكبة إنسانية ووصمة في جبين العالم، وإن التقاعس عن وقف هذا النزيف هو تفريط بالقيم التي قامت عليها الأمم المتحدة ومبادئ القانون الدولي الإنساني.
لقد أكد جلالته، بثباتٍ ووضوح، أن استمرار العدوان على قطاع غزة، وتجاهل الحقوق المشروعة للشعب الفلسطيني، وفي مقدمتها إقامة دولته المستقلة ذات السيادة على حدود الرابع من حزيران لعام 1967 وعاصمتها القدس الشرقية، لن يؤدي إلا إلى مزيد من التطرّف، وزيادة زعزعة الاستقرار في المنطقة والعالم. كما شدد على أن السلام لا يُبنى بالقوة وحدها، بل يقوم على العدل، وتُرسّخ جذوره بالتفاهم والاحترام المتبادل والاعتراف بالحقوق.
واللافت أن الخطاب لم يكن محل إعجاب فحسب، بل كان صدمة إيجابية داخل البرلمان الأوروبي، حيث قُوطع بالتصفيق الحار سبع مرات، في مشهدٍ نادر الحدوث في مثل هذه المحافل، دالّ على عمق التأثير، وصدق الموقف، وبلاغة الرسالة. وقد بدا واضحًا أن جلالة الملك لا يُخاطب جمهورًا سياسيًا فحسب، بل يُناشد الضمير الإنساني العالمي، ويوقظ إحساس المسؤولية التاريخية تجاه معاناة شعب محاصر، وأمة تتجرّع الظلم منذ أكثر من سبعة عقود.
إن موقف جلالة الملك من القضية الفلسطينية لم يكن يومًا موقفًا عابرًا أو ظرفيًا، بل هو موقف مبدئي راسخ تجذّر في الوجدان الهاشمي منذ الثورة العربية الكبرى، وترسّخ في ضمير الدولة الأردنية منذ تأسيسها، وامتدّ عبر عقود من النضال السياسي والدبلوماسي. وهو موقفٌ ليس فقط باسم الأردن، بل باسم العدالة، وباسم الإنسان، وباسم كل الأحرار الذين ما زالوا يؤمنون أن للحق مكانًا، وللمظلوم نصيرًا، وللصوت الحر قوة.
ونحن، في الأردن، شعبًا ومؤسسات، نقف خلف جلالة الملك وقفة الثابتين، نعتز برؤيته، ونفخر بشجاعته، وندعم جهوده المتواصلة في الدفاع عن القيم والمبادئ. وندعو، من هذا المقام، إلى تفعيل أدوات الدبلوماسية البرلمانية والشعبية على الصعيدين العربي والدولي، لترسيخ الرسالة الأردنية النبيلة، والعمل على تشكيل رأي عام عالمي ضاغط لإنهاء الاحتلال، ووقف آلة الدمار، وإحياء مسار السلام القائم على الحق لا على التفاوض المفرغ من مضمونه.
ختامًا، لم يكن خطاب جلالة الملك في البرلمان الأوروبي مجرد كلمة سياسية تُقال في مناسبة دولية عابرة، بل كان بمثابة وثيقة تاريخية ناطقة بالحق، تُضاف إلى سجلّ الأردن المشرف والمضيء في نصرة القضايا العادلة والدفاع عن المبادئ الإنسانية السامية. لقد ارتقى الخطاب فوق حدود الدبلوماسية التقليدية، ليحمل رسالة أمة بأسرها، نابضة بالكرامة، مشبعة بالألم، ومشرعة بالأمل.
تحدّث جلالته بلغة العقلاء، وبلسان الشعوب المقهورة، مُجسّدًا الضمير العربي الحيّ الذي لا يرضى بالظلم، ولا يصمت أمام الجور، ولا يتخلى عن مسؤوليته الأخلاقية والإنسانية في أحلك الظروف. لقد قرع جلالته جدران الصمت الدولي بقوة الحكمة والعدل، مُذكّرًا العالم بأنّ الصمت عن المعاناة ليس حيادًا، بل تواطؤ مع الألم، وأنّ العدالة لا تقبل التأجيل، ولا تُجزأ تحت أي ذريعة.
وفي هذا الموقف التاريخي المشرّف، يُجدد الأردن بقيادته الهاشمية المُلهمة حضوره المتميز على الساحة الدولية كصوتٍ عاقلٍ وشجاعٍ في زمنٍ تندر فيه الأصوات النزيهة. وإننا، إذ نُثمّن عاليًا هذا الدور القيادي والمسؤول الذي يضطلع به جلالة الملك عبد الله الثاني، نُدرك تمامًا أنّ هذا الصوت لا يُمثل الأردن فحسب، بل يُمثل كل من ينشد الحق، ويؤمن بالحرية، ويصبو إلى كرامة الإنسان.
نسأل الله العلي القدير أن يحفظ الأردن، وطنًا عزيزًا آمنًا، وأن يحمي قيادته الهاشمية المُباركة، التي ما توانت يومًا عن القيام بواجبها تجاه شعبها وأمّتها. ونسأله تعالى أن يبقى صوت الحق الأردني عاليًا، يُضيء عتمة العالم، ويهدي الحائرين إلى دروب الكرامة، والعدالة، والإنسانية، والسلام.

Orange background

جرب ميزات الذكاء الاصطناعي لدينا

اكتشف ما يمكن أن يفعله Daily8 AI من أجلك:

التعليقات

لا يوجد تعليقات بعد...

أخبار ذات صلة

المستشار الدكتور رضوان ابو دامس يكتب : ليس بغريب أن يحظى جلالته بهذا الترحيب :
المستشار الدكتور رضوان ابو دامس يكتب : ليس بغريب أن يحظى جلالته بهذا الترحيب :

أخبارنا

timeمنذ 33 دقائق

  • أخبارنا

المستشار الدكتور رضوان ابو دامس يكتب : ليس بغريب أن يحظى جلالته بهذا الترحيب :

أخبارنا : لم يشهد في تاريخ إتحاد البرلمان الاوروبي مثل هذا الإهتمام والإحترام والتقدير والإشادة والإستماع والمتابعة والإعجاب والوقوف والتصفيق المتكرر من الأعضاء المتواجدين بالقاعة التي عقد بها إجتماعهم الأخير في فرنسا ، إلا لزعيم الأردن جلالة الملك الهاشمي عبدالله الثاني المعظم خلال القاء كلمته التاريخية أمامهم ، والتي أعتبرت وثيقة سياسية وأخلاقية ومسار عمل دولي لمحاولة إنهاء الصراعات في الشرق الأوسط وتعطيل فتيلة الشراره المؤكده التي سوف تؤثر على دول الإقليم وعلى العالم سياسياً وإقتصاديا وإجتماعياً في حال إستمر الوضع الحالي كما هو عليه الآن ، علماً بأن كلمة جلالته تم تغطيتها من كافة وسائل الإعلام العالمي ، وقد تم ترجمتها بكافة اللغات لدول الإتحاد الأروبي ودول العالم المؤثره بالقرارات الدولية ، وتم مناقشة وتحليل هذا الخطاب التاريخي من قبل محلليبن سياسيين وعسكريين دوليين في أغلب وسائل الإعلام الرسمية وغير الرسمية والقنوات الفضائية المنتشره في الدول صاحبة القرار… أيها السادة هذا الزعيم يعتبره أصحاب السياسة والدبلوماسية الدوليين العقلاء أنمودج أخلاقي وسياسي محنك وناصح مطلع ومتابع للقضايا العربية والاسلامية والدولية بكل حيادية ، لا يوجد في قاموسه وخبراته أي مصطلح يصطدم مع حقوق الإنسان أو التمييز العنصري بكافة أشكاله، ولا يمكنه أن يقبل أن يساهم أو يشترك أو في أي مبادرة أو إقتراح أو خطط قد تخالف القانون والقرارات الدولية المتعلقة بحقوق ألشعب الفلسطيني واراضيه ، أو التدخل بطريقه مباشره أو غير مباشره بأي عدوان مهما كان هدفه الغير مشروع ، ومهما كانت قوة الجهة التي تقوم بطرحه تحت أي مبررات أو مصطلح مخالف للواقع وضمن ما يسمى حل سياسي مخادع الهدف الحقيقي منه التهجير وسلب حقوق الشعوب أو فرض أمر واقع لمصلحة سياسة دولة لها أطماع مهما كان حجمها أو نوعها أو فكر غامق اللون أو سلب حقوق كفلتها لهم المواثيق الدولية … كما أنه لم يشهد لهذا الزعيم صاحب الخبره الكبيره في العلاقات الدولية والسياسية أنه تدخل في شؤون أي دولة لإلحاق الضرر بها ولمقدراتها أو الإساءة لقيادتها او لمواطنيها مهما كان حجم الضغوط والتضحيات التي يتعرض لها … أو ألمغريات التي تقدم إليه … ولا يستغرب أحد أن يتم الترحيب به بحرارة عند زيارته لدول العالم من زعماء تلك الدول التي تتمتع بإستقرار وثبات وعقلانية في سياستها الخارجية … في الأمس القريب سمعنا وشاهدنا تصريحات رؤساء اللجان في الكونكرس ومجلس الشيوخ الأميركي بأن جلالته مرحب به دائماً للإجتماع معهم للإستماع إليه ومناقشة آلية ترسيخ العلاقات ومبادئ القانون والعدالة الدوليه لقضايا الشرق الأوسط ، وأن هذه اللقاءات لا تمنح في العاده إلا لزعماء قله وقد تكون معدومة في أغلب الأوقات ، بغض النظر الى ما قد يصدر بالتصريح أو التلميح من إدراه مؤقته لديهم من مواقف لا تحاكي الواقع السياسي الذي لا يتناسب مع حجم الكارته التي تتعرض اليها هذه المنطقه من العالم ….. حمى الله سيد هذه البلاد وولي عهده الأمين وكل مكونات هذه الدوحة الهاشمية العطره أنه سميع مجيب الدعاء . مستشار الدكتور رضوان ابو دامس

رسالة 'غريبة' من السفير الأمريكي لدى إسرائيل إلى ترامب تثير القلق بشأن توجهات نووية ضد إيران
رسالة 'غريبة' من السفير الأمريكي لدى إسرائيل إلى ترامب تثير القلق بشأن توجهات نووية ضد إيران

أخبارنا

timeمنذ 33 دقائق

  • أخبارنا

رسالة 'غريبة' من السفير الأمريكي لدى إسرائيل إلى ترامب تثير القلق بشأن توجهات نووية ضد إيران

أخبارنا : واشنطن- : أثارت رسالة بعث بها مايك هاكابي، السفير الأمريكي لدى إسرائيل، إلى الرئيس دونالد ترامب، جدلًا واسعًا وقلقًا في الأوساط السياسية والإعلامية الأمريكية، لما تضمنته من لهجة دينية متطرّفة وإيحاءات مثيرة بشأن قرارات مصيرية يُحتمل أن تتصل باستخدام القوة النووية. الرسالة، التي كشف عنها مؤخرًا ترامب عبر حسابه على منصات التواصل، جاءت بعد نجاته من محاولة اغتيال في مدينة بتلر بولاية بنسلفانيا، واحتوت على إشارات دينية و'نبوئية' تعكس توجهات مقلقة لدى السفير. وكتب هاكابي في رسالته: "السيد الرئيس، لقد نجّاك الله في بتلر، بنسلفانيا، لتكون أعظم رئيس خلال قرن، وربما في التاريخ. القرارات الملقاة على عاتقك لا أتمناها لأي شخص آخر… أؤمن أنك ستسمع صوت السماء، وهذا الصوت أهم من صوتي أو أي صوت آخر… أنا خادمك المعين في هذه الأرض، ولن أتخلى عن هذا الموقع. علمنا لن ينزل! لم تطلب هذه اللحظة، بل هي من طلبتك.' وتطرّقت الرسالة أيضًا إلى الرئيس هاري ترومان عام 1945، في تلميح واضح إلى قراره التاريخي باستخدام السلاح النووي ضد اليابان، وهو ما وصفته الكاتبة الصحافية كايتلين جونستون في مقال نقدي بأنه "من أكثر الأجزاء المخيفة' في النصّ. ورأت جونستون أن الرسالة تمثل مزيجًا من "الهوس الديني والتملّق المفرط'، مشيرة إلى أن استحضار تجربة ترومان "ليس بريئًا'، بل قد يعكس تفكيرًا داخليًا في الإدارة الأمريكية يميل نحو خيارات كارثية. وأكدت أن مجرد التلويح باستخدام السلاح النووي، في ظل ما وصفته بـ'ثقافة الهوس بنهاية العالم'، يُعدّ "أمرًا مرعبًا' في وقت تتجه فيه الإدارة الأمريكية نحو مواجهة مباشرة مع إيران. ليس خوفًا من النووي.. بل من فقدان السيطرة وفي تحليل أوسع، شدّدت جونستون على أن رفض واشنطن وتل أبيب لحصول إيران على السلاح النووي "لا ينبع من الخوف من استخدامه فعليًا، بل من فقدان القدرة على تغيير الأنظمة في المنطقة'. وكتبت: "الأمر لا يتعلق بالقنابل، بل بالهيمنة. إنهم يريدون إسقاط طهران لضمان السيطرة الإقليمية الكاملة. ولو لم تكن إيران تسعى لامتلاك السلاح النووي، لبحثوا عن ذريعة أخرى.' حرب العراق بنسخة أكثر غباءً وفي انتقاد لاذع، قارنت الكاتبة بين الأجواء الحالية وتلك التي سبقت حرب العراق عام 2003، مؤكدة أن "الرواية الرسمية الآن أكثر سذاجة ووضوحًا في زيفها'، لكنها لا تزال قادرة على التأثير في بعض الرأي العام. وأضافت: "في الماضي، حصل بوش على دعم شعبي بعد هجمات 11 سبتمبر/ أيلول. الآن، نحن أمام إدارة دعمت إبادة جماعية تُبث مباشرة منذ أكثر من عام ونصف، ويريدون من الجنود الأمريكيين القتال والموت من أجلها؟ لا مبرر لتكرار الكارثة ذاتها.'

المجالي يكتب: قراءة تحليلية لخطاب الملك أمام البرلمان الأوروبي
المجالي يكتب: قراءة تحليلية لخطاب الملك أمام البرلمان الأوروبي

جفرا نيوز

timeمنذ ساعة واحدة

  • جفرا نيوز

المجالي يكتب: قراءة تحليلية لخطاب الملك أمام البرلمان الأوروبي

جفرا نيوز - بقلم: حسين هزاع المجالي جاء خطاب جلالة الملك عبد الله الثاني أمام البرلمان الأوروبي في لحظة شديدة الحساسية من عمر النظام الدولي، في وقت مر به المجتمع الدولي بالعديد من الاضطرابات السياسية والتكنولوجية والاقتصادية؛ من جائحة فيروس كورونا، وتهديدات أمنية جديدة، وتسارع تكنولوجي غير مسبوق، إلى المعلومات المضللة التي تفشت بشكل مفرط، الى وقت يتسارع فيه تفكك منظومة القيم التي نشأت عقب الحرب العالمية الثانية، ويشتد فيه زخم النزاعات الإقليمية من أوكرانيا إلى غزة، مروراً بإيران، في ظل تحولات حادة في موازين القوى وتراجع خطير في الأداء الأخلاقي للمجتمع الدولي. وقد عكس الخطاب إدراكاً عميقاً من جلالته لطبيعة هذا المنعطف، فخاطب أوروبا من بوابة ضميرها التاريخي، مذكّراً إياها بأن قيامها من رماد الحرب قد ارتكز ليس فقط على إعادة بناء المدن، بل على إحياء منظومة قيم إنسانية كونية، شكلت أساس أمنها واستقرارها لعقود. الخطاب لم يكن عاطفياً أو إنشائياً، بل صيغ بدقة وصرامة استراتيجيتين، حيث رسم جلالة الملك مشهداً دقيقاً ومقلقاً لتحولات العالم، مستخدماً تعبيرات حاسمة مثل "فقدان البوصلة الأخلاقية" و"انهيار الحدود الأخلاقية"، وهي إشارات ذات دلالة عميقة في التحليل السياسي والأمني، لأن غياب المرجعية الأخلاقية في العلاقات الدولية يؤدي مباشرة إلى تآكل شرعية القانون، وصعود الفوضى والصراع المفتوح. كما أعاد جلالته ربط القيم الإنسانية بمفهوم الأمن العالمي، وهو طرح نادر في المشهد الدولي الراهن، الذي تنحو فيه القوى الكبرى نحو البراغماتية البحتة، متناسية أن أساس أمنها التاريخي لم يكن القوة العسكرية فقط، بل أيضاً منظومة القيم التي ضمنت احترام الإنسان وكرامته. وفي تحذير بالغ الدلالة، شدد جلالة الملك عبد الله الثاني على أن استمرار ازدواجية المعايير في التعامل مع الصراعات، وعلى رأسها القضية الفلسطينية، لا يهدد فقط بانهيار المنظومة الأخلاقية العالمية، بل ينذر بانهيار شامل للنظامين السياسي والأمني على مستوى العالم. وعندما قال إن الجرافات التي تهدم منازل الفلسطينيين "تهدم أيضاً الحدود الأخلاقية"، كان يوجه رسالة صريحة مفادها أن غياب العدالة ليس شأناً محلياً محصوراً في غزة أو الضفة الغربية، بل هو خطر عالمي مرتد، يزعزع ما تبقى من توازنات دولية ويهدد أمن الجميع دون استثناء. الخطاب حمل رسائل متعددة الاتجاهات، صريحة في ظاهرها، وعميقة في باطنها، تشكّل في مجملها خطاباً مُشفّراً موجهاً لكل طرف بلغته، يحمل ما بين السطور دلالات استراتيجية وأخلاقية بالغة الأهمية. فللأوروبيين، كانت الرسالة دعوة واضحة لاستعادة دورهم الأخلاقي والتاريخي، لا باعتبارهم قوة عظمى فحسب، بل كأمم نهضت من تحت رماد الحروب لتؤسس نظاماً إنسانياً قائماً على التعددية والعدالة. أما لإسرائيل، فقد وجّه جلالة الملك تحذيراً استراتيجياً محسوباً، مفاده أن استمرار الحرب واتساع رقعتها لتشمل إيران ينذر بانفجار إقليمي واسع النطاق، لا يمكن التنبؤ بمآلاته. وللمجتمع الدولي عامة، جاء الخطاب كمرآة تعكس حجم التناقض الصارخ بين المبادئ المُعلنة والممارسات الفعلية، خاصة في غزة، حيث باتت أفعال كانت تُعدّ قبل أعوام وحشية وغير مبررة — كقصف المستشفيات واستهداف المدنيين — واقعاً متكرراً لم يعد يثير حتى الاستغراب أو الاستنكار. من منظور أمني واستراتيجي، يمثل خطاب جلالة الملك إعادة ضبط دقيقة للبوصلة السياسية في المنطقة. فلقد سلط جلالته الضوء على الترابط العميق بين الأمن الإقليمي في الشرق الأوسط والأمن الأوروبي، ويؤكد أن استمرار الظلم في فلسطين ليس فقط مأساة إنسانية، بل تهديداً استراتيجياً لاستقرار النظام الدولي. فالمنطقة تقف على حافة غليان شعبي قد لا تتمكن الأنظمة التقليدية من احتوائه، ما لم يتم كبح جماح الظلم، واستعادة الأمل لدى شعوبها. وفي الوقت ذاته، أعاد جلالة الملك التأكيد على مكانة الأردن كدولة معتدلة وركن استقرار موثوق، يملك شرعية أخلاقية وتاريخية عميقة، وقدرة دبلوماسية على التوسط والبناء، لكن ضمنياً، فإن الرسالة كانت واضحة: لا تراهنوا فقط على الجغرافيا، بل على من بقي متمسكاً بالقيم. وقد طرح جلالته مسارين للعمل العالمي، أولهما دعم التنمية في المنطقة باعتبارها ضمانة للاستقرار، والثاني اتخاذ إجراءات منسقة لوقف الحروب، وفي مقدمتها الحرب في أوكرانيا، والصراع الفلسطيني – الإسرائيلي. وفي هذا السياق، لم يكن حديثه عن الدولة الفلسطينية حديثاً إنشائياً، بل طرحاً استراتيجياً يعتبر قيام الدولة الفلسطينية حقاً للشعب الفلسطيني، وأداة لتحقيق السلام العادل والأمن الشامل. ما يميز هذا الخطاب أنه لا يكتفي بتشخيص الواقع، بل يقدم قراءة ناضجة تستبطن توصيات جوهرية: أن على أوروبا أن تتجاوز التردد وأن تتوحد حول قيمها؛ وأن على العالم أن يقرر بوضوح ما إذا كان سيختار حكم القانون، أم قانون القوة والغلبة؛ وأن قضية فلسطين ليست ملفاً إنسانياً فقط، بل معركة على روح النظام الدولي نفسه. في المحصلة، لم يكن خطاب جلالة الملك عبد الله الثاني نداءً سياسياً تقليدياً، بل وثيقة حضارية واستراتيجية تضع المجتمع الدولي أمام مفترق حاسم: إما أن يستعيد إنسانيته، أو أن يواصل انحداره نحو العدمية. إنه خارطة طريق أخلاقية – أمنية لعالم مضطرب، لا يملك ترف التردد أكثر من ذلك. خطاب يحمل في طياته عمق القائد، وبعد نظر العسكري، وحكمة رجل الدولة، وهو في آنٍ معاً دعوة للتاريخ كي لا يعيد أسوأ فصوله.

حمل التطبيق

حمّل التطبيق الآن وابدأ باستخدامه الآن

هل أنت مستعد للنغماس في عالم من الحتوى العالي حمل تطبيق دايلي8 اليوم من متجر ذو النكهة الحلية؟ ّ التطبيقات الفضل لديك وابدأ الستكشاف.
app-storeplay-store