
تخفيف العقوبات الأميركية عن سورية: الدلالات السياسية
خفّفت وزارة الخزانة الأميركية العقوبات الأميركية المفروضة على سورية، مساء أول من أمس الجمعة، في خطوة واسعة تندرج ضمن استراتيجية أميركية تهدف إلى دعم الحكومة الانتقالية الجديدة بقيادة الرئيس أحمد الشرع، التي تواجه جملة تحديات ربما يلعب التعافي الاقتصادي دوراً مهماً في تجاوزها، وأصدر مكتب مراقبة الأصول الأجنبية (OFAC) التابع لوزارة الخزانة الأميركية ترخيصاً عاماً يتيح تعليقاً مؤقتاً للعقوبات الاقتصادية المفروضة على سورية، مع الحفاظ على بعض القيود المتعلقة بالأفراد والكيانات المدرجة في قوائم العقوبات. وبموجب هذا القرار، رُفع الحظر عن الشرع ووزير الداخلية أنس حسن خطاب، إضافة إلى الخطوط الجوية العربية السورية، ومصارف، ووزارات، ومؤسسات، ومرافئ. وذكر وزير الخزانة الأميركية سكوت بيسنت، في بيان، أمس الأول الجمعة، أنّ القرار جاء تماشياً مع
إعلان الرئيس دونالد ترامب
وقف جميع العقوبات الأميركية المفروضة على سورية، مؤكداً أن الترخيص العام الصادر عن مكتب مراقبة الأصول الأجنبية يجيز المعاملات المحظورة بموجب لوائح العقوبات المفروضة على سورية، بما يؤدي فعلياً لرفع العقوبات المفروضة عليها، وكان الرئيس الأميركي أعلن في الرياض في 13 مايو/أيار الحالي قراره الذي وُصف بـ"التاريخي"، رفع العقوبات الأميركية عن سورية، لأن "الشعب السوري عانى بما فيه الكفاية"، ولأن "الوقت قد حان لمنحهم فرصة للنجاح".
زيدون الزعبي: الخطوة الأميركية سيكون لها بالغ الأثر في تعزيز قدرة الحكومة
ترحيب سوري برفع العقوبات الأميركية
ورحبت وزارة الخارجية السورية، أمس السبت، بقرار أميركا إعفاء سورية من العقوبات المفروضة عليها، مشيرةً في بيان إلى أنها "خطوة إيجابية في الاتجاه الصحيح للتخفيف من المعاناة الإنسانية والاقتصادية في البلاد"، وكانت العقوبات الأميركية على سورية التي بدأت تدريجياً منذ عام 1979 وتوسعت خلال سنوات الثورة على نظام الأسد، تثقل الاقتصاد السوري ما أدى إلى تعميق الأزمات المعيشية للمواطنين السوريين. وتعد خطوة رفع العقوبات خطوة واسعة نحو التعافي الاقتصادي المتدرّج لسورية التي تواجه اليوم جملة تحديات تهدّد السلم الأهلي والاستقرار، وربما سيؤدي رفع العقوبات دوراً في تعزيز قدرة الحكومة الانتقالية على مواجهتها.
كذلك، رحّب وزير المالية السوري، محمد يُسر برنية، بالخطوات الأميركية، معتبراً في حديث لـ"العربي الجديد" أنها تطورات "محورية" في مسار تخفيف العقوبات المفروضة على سورية. وأوضح برنية أن هذه الخطوات من شأنها أن تفتح المجال أمام عودة الاستثمارات الأميركية، وتفعيل خدمات المصارف المراسلة مع نظيراتها السورية، وهو ما سينعكس إيجاباً على عملية
إعادة الإعمار
وتحديث البنية التحتية وتطوير القطاع المالي، كما أعرب برنية عن تطلع دمشق إلى اتخاذ مزيد من الإجراءات التي تتيح لسورية الوصول إلى التكنولوجيا الحديثة، وتحويل هذه التراخيص المؤقتة إلى وضع قانوني دائم، بما يدعم المسار الاقتصادي طويل الأمد، وشدّد الوزير بالتأكيد على التزام الحكومة السورية بمواصلة تطوير المنظومة المالية وتعزيز مبادئ النزاهة وإدارة المخاطر والحوكمة في القطاع المصرفي والمالي، لافتاً إلى أن "هذه التطوّرات تفتح الباب واسعاً أمام إعادة بناء سورية ومؤسساتها على أسس قوية ومستقرة".
اقتصاد عربي
التحديثات الحية
أبرزهم الشرع.. 28 شخصية ومؤسسة سورية رفعت عنهم واشنطن الحظر
من جهته، رأى الباحث السياسي زيدون الزعبي، في حديث مع "العربي الجديد"، أن تعليق العقوبات الاقتصادية الأميركية على سورية يحمل دلالات سياسية عدّة، مضيفاً: نحن أمام تشكيل شرق أوسط جديد أميركي بالمطلق، يتطلب دوراً أكبر للسعودية وتركيا بحكم الشراكة الاستراتيجية مع الولايات المتحدة. وأعرب عن اعتقاده أن الخطوة الأميركية تهدف إلى "كسب السعودية وإلى حد ما سورية من خلال هذه الخطوة"، مشيراً إلى أن "ذلك يقع في قلب استراتيجية الولايات المتحدة لمواجهة الصين"، وأشار الزعبي إلى أن الخطوة الأميركية سيكون لها بالغ الأثر في تعزيز قدرة الحكومة على مواجهة التحديات، مضيفاً: الإحساس أن هذه الحكومة مستقرة سيجعل خصومها أقل ثقة في محاولة تغييرها، وسيجعل حلفاءها أقل قلقاً عليها، وتابع: ستؤدي هذه الخطوة إلى استقرار اجتماعي في البلاد، وهي مسألة بالغة الأهمية في ظل الظروف الصعبة التي تمر بها البلاد، ناهيك عن الأثر الاقتصادي الذي سيبدأ برأيي من السعودية وقطر قبل أوروبا والولايات المتحدة، وهناك آثار سياسية واقتصادية واجتماعية هائلة للقرار الأميركي.
من جهته، اعتبر الباحث السياسي رضوان زيادة، في حديثه لـ"العربي الجديد"، أن هناك الكثير من "الدلالات السياسية" للخطوة الأميركية، مضيفاً: لا يمكن رفع العقوبات إلّا بقرار سياسي ومن ثم فإنّ هذه الخطوة تفتح الباب أمام تطبيع العلاقات الأميركية السورية، وتابع: سورية وُضعت على قائمة الدول الداعمة للإرهاب منذ عام 1979، ورفعها عن هذه القائمة يفتح الباب أمام فرص جديدة لجهة
قدوم الاستثمارات الأميركية إلى سورية
بحرية، فضلاً عن تعزيز العلاقات الاقتصادية والثقافية. وعن الانعكاسات الإيجابية على الداخل السوري، رأى زيادة أن رفع العقوبات "يعني عودة سورية إلى المجتمع الدولي والنظام المصرفي العالمي"، مضيفاً: كان يُنظر إلى سورية طيلة عقود على أنها دولة مارقة، والآن تغيرت هذه النظرة تماماً، ما يفتح أمام المغتربين السوريين للاستثمار في بلادهم من دون عوائق قانونية أو عقوبات.
محمد يُسر برنية: هذه التطورات تفتح الباب واسعاً أمام إعادة بناء سورية
وكانت العقوبات الأميركية على سورية اشتدت أكثر واتّسع نطاقها خلال العقد الأول من الألفية الجديدة، إذ فرضت الولايات المتحدة عقوبات أخرى على نظام بشار الأسد، لعلّ أبرزها الأمر التنفيذي 13399، الذي جاء رداً على اغتيال رئيس وزراء لبنان السابق رفيق الحريري في عام 2005 وفرض عقوبات إضافية ضمن حالة الطوارئ المعلنة. ومع بدء الثورة السورية في ربيع عام 2011، ورفض النظام التعاطي مع كل مبادرات الحل السياسي سواء الدولية أو الإقليمية أو العربية، ولجوئه إلى استخدام القوة لقمع معارضيه، صدرت أوامر تنفيذية جديدة قضت بفرض عقوبات تُضاف إلى ما سبقها، وهو ما أدى إلى فرض حظر اقتصادي شبه شامل، مَنَع أي صفقات أو تعاملات مالية مع النظام المخلوع، وحظر استيراد النفط السوري، ومنع أي استثمار أميركي في سورية.
عقوبات ما بعد اندلاع الثورة
في 29 إبريل/نيسان 2011، فُرضت أولى العقوبات على سورية بعد اندلاع الثورة في 15 مارس/آذار من العام عينه بإصدار الرئيس الأميركي (السابق) باراك أوباما أمراً تنفيذياً بتجميد ممتلكات المتورطين في الانتهاكات. ثم توالت العقوبات الأميركية المشدّدة على سورية، وصولاً إلى عام 2020 حين دخل "قانون قيصر" لحماية المدنيين السوريين حيّز التنفيذ، بعدما استغرق إنجازه نحو ستّ سنوات، ونص على فرض عقوبات على الأسد وأركان حكمه، وعلى أي جهة تقدم الدعم أو تتعامل مع النظام المخلوع. وجاء هذا القانون عقاباً لنظام الأسد جرّاء الانتهاكات الإنسانية التي ظهرت في
55 ألف صورة
مسربة وثقت جرائمه في السجون والمعتقلات في سورية. وصدرت حزم عقوبات عدّة بموجب هذا القانون استهدفت النواة الصلبة للنظام، ما أدى إلى إنهاكه ومحاصرته اقتصادياً، وصولاً إلى الثامن من ديسمبر/كانون الأول الماضي، الذي شهد سقوط هذا النظام الذي بقي في السلطة نحو 54 سنة. وأدت دول عربية أبرزها السعودية وقطر، إلى جانب تركيا دوراً في إقناع الإدارة الأميركية برفع العقوبات المفروضة على سورية، وهو ما يشكل بداية جديدة للدولة السورية على الصّعد كافّة، خصوصاً أن البنية التحتية في البلاد متهالكة إلى حد بعيد، وفي ظلّ انكماش الناتج المحلي الإجمالي السوري، وتراجع قيمة العملة المحلية إلى مستويات دنيا، ما ترك ملايين السوريين غير قادرين على تأمين احتياجاتهم الغذائية الأساسية.
تقارير عربية
التحديثات الحية
تحولات سورية ترافق رفع العقوبات الأميركية

جرب ميزات الذكاء الاصطناعي لدينا
اكتشف ما يمكن أن يفعله Daily8 AI من أجلك:
التعليقات
لا يوجد تعليقات بعد...
أخبار ذات صلة


القدس العربي
منذ ساعة واحدة
- القدس العربي
ما هي عملية «عربات جدعون» ولماذا اختيرت هذه التسمية التاريخية؟
الناصرة ـ «القدس العربي»:رغم الانتقادات العالمية المتتالية ضد إسرائيل في حرب الإبادة التي تواصلها على غزة منذ نحو 600 يوم وتصفها بعض الأوساط المحلية بـ «تسونامي سياسي» لكنها لا تتوقف. والاحتلال يستعد للتصعيد في حملة عسكرية جديدة تعرف بـ «عربات جدعون» بعد فشل الحملة العسكرية السابقة في إخضاع حركة حماس واستعادة المحتجزين. يتناول تقرير للمركز الفلسطيني للشؤون الإسرائيلية «مدار» هذه العملية العسكرية الإسرائيلية المرتقبة والمسماة «عربات جدعون»، والتي قد تكون من أكثر العمليات العسكرية الإسرائيلية إثارةً للجدل والخطورة تجاه قطاع غزة. منوّها أن هذه العملية لا تُعد مجرد تحرّك عسكري قتالي، بل تمثل، في حال تنفيذها، تحوّلاً نوعياً في الاستراتيجية الإسرائيلية، عبر الجمع بين المناورات البرية، والتطهير المكاني للسكان، وتوظيف سرديات دينية وتاريخية تمنحها بعداً رمزياً يخدم صعود اليمين الإسرائيلي في ظل تراجع حماسة الجمهور الإسرائيلي لمواصلة الحرب. العملية وأهدافها ويقول تقرير «مدار» إن عملية «عربات جدعون» ليست مجرد اقتراح، بل باتت خطة عسكرية جاهزة للتنفيذ وضعها رئيس هيئة الأركان إيال زامير وأقرّها المجلس الوزاري المصغّر في 4 أيار/مايو 2025، وهي بانتظار «ساعة الصفر» وإن كانت قوات الاحتلال قد شرعت منذ أيام التمهيد لها. يشار أن هذه العملية تأتي بعد انهيار اتفاق وقف إطلاق النار الذي بدأ في كانون الثاني/يناير، حيث جرى استئناف القتال في آذار/مارس 2025 عقب انتهاء موجات تبادل الأسرى وتعطيل رئيس حكومة الاحتلال نتنياهو لمساعي إتمام الصفقة. بموجب «مدار» تهدف العملية إلى فرض سيطرة عسكرية ميدانية على الأرض، بحيث تتمكن قوات الاحتلال من إدارة حركة السكان عبر إقامة مناطق عازلة (تشبه الغيتوهات)، يتم فيها تجميع المدنيين الفلسطينيين، ما يتيح للجيش حرية العمل العسكري في بقية أنحاء القطاع. ومن أهداف العملية أيضاً: 1) تفكيك سلطة حركة حماس عبر ضرب بنيتها التحتية ونزع سلاحها. 2) استعادة الرهائن الإسرائيليين، رغم أن هذا الهدف يحتل مرتبة متأخرة بحسب تسريبات إعلامية، ما أثار انتقادات حيال أولويات القيادة. 3) إعادة رسم الخريطة الأمنية والديموغرافية للقطاع، بما يخدم مصالح إسرائيل الاستراتيجية. طبقا للتقرير تتطلب الخطة تعزيزاً عسكرياً واسعاً داخل غزة، واستخدام معدات ثقيلة لتدمير الأنفاق والمواقع العسكرية، إلى جانب تنسيق عسكري ثلاثي بين القوات البرية والجوية والبحرية. كما تتضمن الخطة تنفيذ عملية تهجير منظمة لسكان شمال القطاع نحو الجنوب، خصوصاً إلى ما بعد محور موراغ، حيث تخطط إسرائيل لإنشاء «منطقة إنسانية» مبدئية تستوعب 100.000 شخص كمرحلة أولى، على أن يتم توسيعها تدريجياً. ماكنة دعائية بالعربية وسيتم توظيف أدوات دعائية بالعربية يقودها المتحدث باسم الجيش أفيخاي أدرعي لتشجيع السكان على «الإجلاء الطوعي» أما المساعدات الإنسانية الموعودة فستكون تحت السيطرة الإسرائيلية الكاملة بالتنسيق مع شركات أمريكية ومنظمات دولية مختارة، وفقاً لشروط أمنية صارمة. وسيُسمح فقط لممثل واحد من كل عائلة بالحصول على سلة غذائية أسبوعية (70 كغم) بعد اجتياز الفحص الأمني، ما يجعل الإغاثة أداة إضافية لإعادة تشكيل التوزيع السكاني في القطاع. دلالات التسمية وأساطير الحرب يحمل اسم العملية «عربات جدعون» دلالات دينية واستعمارية في آنٍ واحد، وجدعون هو قائد توراتي من سبط منشي، وردت قصته في سفر القضاة، حيث قاد 300 مقاتل لهزيمة جيش المديانيين الضخم بأمر إلهي وخطة عسكرية ذكية. سبق أن استخدمت إسرائيل هذه الرمزية في نكبة عام 1948، حين أطلقت «عملية جدعون» للاستيلاء على منطقة بيسان وتهجير سكانها الفلسطينيين. هكذا يتكرر توظيف الأساطير التوراتية لتأطير مشاريع الطرد والاستيطان، في إطار سردية استعمارية مقدّسة. وتروي القصة السردية التاريخية أن جدعون بدأ بـ 32.000 مقاتل، لكن الإله أمره بتقليص العدد: أولاً، سُمح للجبناء بالانسحاب، فغادر 22.000 رجل. ثم جرى اختبار الشرب من النهر، وتم اختيار من شربوا وهم واقفون ومتيقظون —300 فقط. هؤلاء خاضوا المعركة بإيمان ويقظة وانتصروا. ويوضح «مدار» أن هذه الرواية التاريخية تشبه الوضع الإسرائيلي بعد 7 أكتوبر: تعبئة قومية شاملة بدأت بشعار «معاً ننتصر»، ثم تراجعت تدريجياً مع طول أمد الحرب والخسائر، لينقسم المجتمع بين من يريد إنهاء الحرب في مقابل استعادة الأسرى، ومن يصرّ على استكمالها حتى «النصر». في هذا السياق، يظهر من تبقى من مؤيدي الحرب كـ»جنود جدعون»: أقلية متماسكة، مؤمنة، ترى نفسها في مهمة مقدسة رغم العزلة. وتتلاقى هذه السردية مع المخيلة الغربية عن «الحضارة في مواجهة الهمجية»، كما يتجلى في «فيلم 300» الهوليوودي (من إنتاج العام 2007)، الذي يصور قلة منظمة من الإسبارطيين تقاتل جحافل فارسية إيرانية «همجية». كذلك، يتم تصوير الجيش الإسرائيلي كقوة تحمل «النور» ضد «قوى الظلام»، في مشهد يُخفي العنف الواقعي ضد المدنيين، والطرد الجماعي، وتفكيك المجال السكاني الفلسطيني. ويخلص «مدار» للقول إنه في المجمل، فإن «عربات جدعون» ليست مجرد عملية عسكرية، بل هي مشروع سياسي- أمني- رمزي استعماري لإعادة صياغة السيطرة الإسرائيلية على غزة، باستخدام أدوات دينية وأسطورية تمنحها غطاءً رمزياً. إن خطورتها لا تكمن فقط في تداعياتها على المدنيين، بل في كونها تعيد إنتاج مفاهيم «الشرعية» و«السيطرة» عبر مزيج من الأسطورة والتفوّق العسكري، ما يشكّل تحدياً صارخاً للقانون الدولي ولمبادئ العدالة الإنسانية.


العربي الجديد
منذ 2 ساعات
- العربي الجديد
طلاب من أجل غزة... فشل مخطط ترامب للترحيل السريع
يتظاهر آلاف الطلاب ومئات الأساتذة للمطالبة بحظر استثمارات الجامعات الأميركية في إسرائيل، ووقف الدعم الأميركي للحرب على غزة، بينما يعتبرهم الرئيس ترامب وإدارته من "مؤيدي حماس". تعهد دونالد ترامب خلال حملته الانتخابية الرئاسية في عام 2024، وفي ذروة العدوان الإسرائيلي على قطاع غزة، بترحيل طلاب الجامعات الأميركية الذين يدعمون الحقّ الفلسطيني، ويتظاهرون للمطالبة بوقف الحرب في غزة ، ووصفهم بأنهم "إرهابيون". مع تنصيبه رئيساً للولايات المتحدة في 20 يناير/كانون الثاني الماضي، أطلق ترامب يد أجهزته الأمنية والقيادات الذين اختارهم لحكومته لتنفيذ رؤيته، كما أصدر أوامر تسمح بتنفيذ مخططاته، ومن بينها ترحيل الطلاب سريعاً إلى خارج البلاد، متجاهلاً إجراءات قانونية لازمة لإلقاء القبض عليهم، ومتجاهلاً أن مواد الدستور الأميركي تنطبق عليهم مثلهم مثل أي مواطن أميركي. اليوم، وبعد أكثر من أربعة أشهر على تولي ترامب الرئاسة، بدا واضحاً أن محاولات ترحيل طلاب الجامعات أو إلغاء تأشيراتهم، والقبض على بعضهم من منازلهم أو من الشوارع أو من داخل مبانٍ فيدرالية، لم تُفلح، ورغم نجاح إدارته في قمع الصوت السياسي للحاصلين على تأشيرة دراسة، إلّا أن الطلاب الأميركيين لا يزالون يواصلون رفع أصواتهم عالياً في الجامعات والشوارع، والأهم أن المعركة القانونية التي بدأها ترامب وإدارته ضد هؤلاء الذين تعهد بترحيلهم نهائياً وسريعاً، اتضح أنها لا تسير بالطريقة التي يتمناها الرئيس وأنصاره. قدمت مجموعات صهيونية "قوائم سوداء" للحكومة والكونغرس في شهر نوفمبر/تشرين الثاني الماضي، قدمت مجموعات ومنظمات صهيونية في مختلف أنحاء الولايات المتحدة ما اعتبرته "قوائم سوداء" للحكومة الفيدرالية والكونغرس، لمطاردة كل طالب أو عضو هيئة تدريس انتقد العدوان الإسرائيلي على قطاع غزة، أو تظاهر ضدّه. كانت هذه القوائم التي جُمعت على مدار عام كامل منذ بداية التظاهرات في الجامعات الأميركية، هي الأساس الذي بنى عليه ترامب وإدارته مخطط ترحيل طلاب الجامعات، وفي يناير الماضي، أرسلت مجموعة "بيتار" الصهيونية قائمة إلى البيت الأبيض ووزارة الأمن الداخلي وهيئة إنفاذ قوانين الهجرة والجمارك ووزارة العدل، تضم أسماء نحو 120 طالباً وباحثاً وعضو هيئة تدريس بجامعات مثل؛ كولومبيا وجورج تاون وترافتس وجورج واشنطن وبنسلفانيا وجونز هوبكنز ونيويورك وكاليفورنيا وكورنيل وغيرها. لاحقاً، كشفت المجموعة ذاتها لصحيفة "ذا غارديان" أنها أرسلت قوائم تضم أسماء آلاف الطلاب إلى إدارة ترامب، ووثقت المجموعة حالات الطلاب الذين جرى تضمين أسمائهم في القوائم، وكونهم يحملون تأشيرات دراسة أو إقامة، وليسوا مواطنين أميركيين. وقدمت مجموعة "كناري ميشن" الصهيونية التي تتعقب من ينتقدون إسرائيل، قائمة أخرى إلى إدارة ترامب، وأرفقت بها مقاطع فيديو وصوراً ومقالات كتبها الطلاب تظهر مشاركاتهم في تظاهرات أو فعاليات، أو كتابتهم على مواقع التواصل الاجتماعي للمطالبة بوقف العدوان الإسرائيلي على غزة، أو توجيه انتقادات إلى إسرائيل، ودعت إلى إلغاء تأشيرات هؤلاء الطلاب، والتزام الإدارة بالوعد الذي قطعه الرئيس الأميركي. وصلت هذه الصور والمقالات والفيديوهات إلى وزير الخارجية ماركو روبيو، وإلى مستشار البيت الأبيض ستيفن ميلر، ومبعثوت ترامب الخاص آدم بولر وآخرين. وتضمنت من بين كثيرين 4 أسماء صارت واجهة المعركة القانونية ضد إدارة ترامب، وهي المعركة التي طالت مدّتها على غير رغبة الرئيس، وهم محمود خليل ومحسن مهداوي وبدر خان سوري ورميساء أوزتورك. يدافع الطلاب عن زملائهم المعتقلين، 6 مايو 2025 (مايكل سانتياغو/Getty) كانت إدارة ترامب تدرك قبل بدء حملتها القمعية أن الإجراءات القانونية تستلزم وقتاً طويلاً للترحيل أو إلغاء التأشيرات، إذ كانت آخر مرة حاولت فيها إدارة أميركية إلغاء تأشيرات طلاب جامعات قبل ما يقارب 40 عاماً، وقد استغرق الأمر نحو 20 عاماً، قبل أن يلغي القضاء إجراءات الحكومة، ويسقط التهم، ويمنح الأشخاص الحق في الحصول على الجنسية الأميركية. لذا رتبت الإدارة أوراقها استعداداً للمعركة القانونية، وخرجت ببند نادر في القانون الأميركي استخدم مرة واحدة في التاريخ، يسمح لوزير الخارجية بترحيل الأشخاص بناء على تقديره أنهم يؤثرون على العلاقات مع دولة أخرى. توقعت إدارة ترامب، اعتماداً على هذا البند، أن خطتها لـ"الترحيل السريع" ستنجح، وأنه لا حاجة لكثير من الإجراءات لطرد الطلاب، وعبر ترامب شخصياً عن ثقته في نجاح ترحيلهم بناء على هذا البند، حتى لو انهم لجأوا إلى القضاء. ووجدت الإدارة في الباحث محمود خليل ، الذي يحمل بطاقة الإقامة الدائمة "الخضراء" هدفاً سهلاً تنطبق عليه جميع الشروط لترحيله، فقد ولد في مخيّم للاجئين الفلسطينيين في سورية لوالدَين فلسطينيَين، ولديه جنسيتان؛ سورية وجزائرية، وهو أحد قادة التظاهرات في جامعة كولومبيا، وفي حال نجاح ترحيله، سيكون من السهل ترحيل أي شخص آخر لديه تأشيرة دراسة أو عمل. تجاهلت قوات إنفاذ القانون الإجراءات القانونية اللازمة لإلقاء القبض على خليل، معتقدة أن الترحيل سيكون سريعاً، وتفاخر ترامب بالقبض عليه في مارس/آذار الماضي، على منصات التواصل الاجتماعي، قائلاً: "بسبب أوامري التنفيذية، تمكنت إدارة الهجرة من القبض على محمود خليل الطالب الأجنبي الراديكالي"، وزعم أنه "مؤيد لحركة حماس في جامعة كولومبيا"، وهي اتهامات نفاها محمود ومحاموه، بينما تعهد الرئيس أن اعتقاله يمثل بداية لمزيد من الاعتقالات لطلاب الجامعات الذين "شاركوا في أنشطة مؤيدة للإرهاب ومعادية للسامية". محسن مهداوي خلال حفل التخرج، 19 مايو 2025 (سلجوق أكار/الأناضول) صدق ترامب في تعهده، وجرى القبض على طالب فلسطيني آخر، وهو محسن مهداوي ، خلال جلسة في مبنى فيدرالي للحصول على الجنسية الأميركية، والقبض على باحثة الدكتوراه التركية بجامعة تاتفس، رميساء أوزتورك ، وعلى الهندي بدر خان سوري من جامعة جورج تاون، وهو زوج الفلسطينية الأميركية مفاز يوسف، المتهمة بالانضمام إلى حركة حماس. كان المشترك الوحيد في تلك الحالات أن إدارة ترامب خالفت الإجراءات القانونية، وسعت لنقل المحتجزين الأربعة إلى مراكز احتجاز في أريزونا أو تكساس، وهي ولايات تحكم فيها محاكم الهجرة بنسب كبيرة لصالح ترحيل المهاجرين. كان محسن مهداوي محظوظاً، إذ فصلته 9 دقائق فحسب عن موعد الطائرة، ما أدى إلى فشل محاولة ترحيله إلى خارج ولاية فيرمونت التي اعتقل بها، ورفع محاموه دعوى قضائية أوقفت نقله إلى خارج ولايته، ولاحقاً أفرج عنه القاضي. في حالة كل من رميساء وبدر سوري، أكد القضاة وقوع أخطاء إجرائية ارتكبتها الحكومة، رافضة المزاعم بعدم وجود أماكن كافية في ولاية ماساشوسيتس للأولى وفي فيرجينيا للثاني، وقضت بالإفراج عنهما مع استمرار نظر القضية. في جلسة الخميس 22 مايو/أيار، احتضن محمود خليل في مقرّ احتجازه بولاية أريزونا، ابنه لأول مرة بأمر القضاء، وعلى غير هوى الحكومة التي طلبت الفصل بينهما بحاجز زجاجي، ما دفع محاميه إلى تأكيد أنه يتعرض لـ"انتقام سياسي"، مطالباً بالإفراج عن الطالب الذي اعتقل في نيويورك، ويحاكم فيدرالياً في نيوجيرسي، بينما تحاكمه محكمة الهجرة بغية ترحيله في أريزونا. طلاب وشباب التحديثات الحية الجامعات الأميركية... تداعيات المنع والقمع على احتجاجات الطلاب إلى جانب هؤلاء الأربعة، شنت إدارة ترامب حملة قمع موسعة أدت إلى إلغاء نحو 1000 تأشيرة لطلاب جامعات خلال الشهرين الماضيين، فلجأ مئات الطلاب إلى القضاء، ورغم أن البيت الأبيض والخارجية الأميركية لا زالا يؤكدان أن هذا الإجراء ضمن سلطتهما، قامت وزارة العدل بإبلاغ قاضٍ فيدرالي رسمياً أنه تقرر إيقاف إلغاء تأشيرات طلاب الجامعات. ومع الإفراج عن ثلاثة من الطلاب الأربعة الموقوفين بالفعل، توجه الأربعة إلى محاكم فيدرالية للطعن على الإجراءات التي اتخذتها الحكومة ضدهم، ومحاولة إلغاء إقامتهم، وبينما لم تتهم السلطات الفيدرالية طلاب الجامعات بأيّ تهم، فإن إدارة ترامب تواصل مساعي ترحيلهم بناء على بند نادر في القانون، ما دعا محامين وخبراء دستوريين إلى تأكيد مخالفة ذلك للقانون والدستور. وأكد أستاذ القانون في جامعة جورج تاون، ديفيد كول، في مقال بمجلة "ذا نيويوركر"، عدم إمكانية ترحيل محمود خليل بناء على رأيه، وسخر من فكرة محاولة تطبيق هذا البند القانوني المهمل عليه وعلى طلاب الجامعات، وتوقع أن تصل القضية إلى المحكمة العليا، وأن يُفرَجَ عن الطلاب. ووجه مدير مركز التفاهم الإسلامي المسيحي بجامعة جورج تاون، نادر هاشمي، في تصريحات لـ"العربي الجديد"، انتقادات حادة لإدارة الرئيس دونالد ترامب لمحاولتها "إرهاب طلاب الجامعات، ومنعهم من التعبير عن آرائهم"، وقال إن "ما يجري حالياً يتنافى مع مبادئ الحريات والديموقراطية، ويستهدف إرهاب طلاب الجامعات لأنهم رفعوا صوتهم للمطالبة بوقف الإبادة الجماعية في غزة. في النهاية سينتصر الطلاب".


العربي الجديد
منذ 3 ساعات
- العربي الجديد
ما بين اللامركزية والفيدرالية في سورية
يختلط، في النقاشات السورية التي تلت سقوط نظام الأسد، الحديث عن الفيدرالية واللامركزية، كما لو أنهما مصطلحان مترادفان. تارّة تُتهم الفيدرالية بأنها مشروع تقسيم، وتارّة يُقارب الحديث عن اللامركزية كما لو أنه مجاز لغوي للفيدرالية، ما يجعل من أي دعوة إلى إعادة هيكلة العلاقة بين المركز والأطراف تهمة مسبقة بالانفصال. في الحالتين، يبدو أن المشكلة لا تكمن في المفاهيم نفسها، بل في السياق السياسي المُحمّل بالتوجّس، وفي ذاكرة السوريين التي لم تعرف من السلطة إلا شكلها المركزي الصارم. ولكن قبل أن نمضي في التقييم، من المفيد أن نفصل بين المفهومين، في جوهر علاقتهما بطبيعة الدولة، وبالسلطة، وبالهوية الوطنية. اللامركزية، من حيث التعريف العملي، هي توزيع جزئي للصلاحيات داخل الدولة الواحدة، بحيث تبقى السيادة موحّدة، ولكن تُمنح الوحدات الإدارية (بلديات، محافظات، مجالس محلية) القدرة على اتخاذ قرارات في قطاعات محدّدة كالصحة، والتعليم، والخدمات. أما الفيدرالية، فهي نظام سياسي– دستوري أكثر تعقيداً، تُوزّع فيه السيادة بين الحكومة المركزية والكيانات الفيدرالية، وتتمتع هذه الكيانات بدستور أو قوانين خاصة، أحياناً ببرلمان، وقوة أمنية، وقواعد مالية خاصة بها. والفرق هنا جذري، فالفيدرالية تعني أن الدولة مكوّنة من "وحدات سياسية" متمايزة، ولكنها متّحدة. أما اللامركزية فهي مجرّد إعادة توزيع للوظائف داخل بنية دولة موحّدة لا تتغيّر طبيعتها القانونية. كل محاولةٍ في سورية لطرح الفيدرالية تُقابل برفضٍ مسبق. ليس فقط لأن الفكرة مرتبطة في أذهان كثيرين بمشروع انفصال، لكن الخطاب الوطني نفسه بُني تاريخياً على مركزية الدولة بوصفها خط الدفاع الأول ضد أي محاولةٍ للتجزئة. ما يجعل من كلمة "الفيدرالية" ثقيلة في الوعي السياسي السوري، حتى قبل أن تُفهم بتفاصيلها. السؤال في سورية اليوم ليس كيف نمنع التقسيم، وإنما كيف نُنظّم واقعاً منقسماً أصلاً، ضمن عقد سياسي واضح، يضمن بقاء البلاد ضمن وحدة سياسية مع الاعتراف العملي بتعدّد مراكز القرار. ينبّهنا ديفيد هيلد، في قراءته لتحوّلات الدولة الحديثة، إلى أن المركزية الصلبة التي نشأت في القرن العشرين لم تعُد صالحة لعالم تعدديّ. إذ لم تَعُد السيادة تعني الاحتكار الكامل للقرار، وإنما القدرة على التنسيق بين مستويات السلطة المختلفة، بشرط المساءلة والشفافية. هذا تماماً ما تفتقده سورية، وهذا ما يجعل من اللامركزية اليوم شرطاً للتماسك. في التجربة الألمانية، لم تنتج الفيدرالية انقساماً، بل رسّخت التمثيل السياسي والاجتماعي على مستوى الولايات، وأوجدت نمطاً من "التنافس العادل" في تقديم الخدمات والتنمية. وفي العراق، رغم هشاشة الوضع الأمني، خفّف الاعتراف بكيانات متعدّدة (كردستان العراق نموذجاً) ضمن الدولة العراقية من حدّة المطالب الانفصالية. أما في لبنان، الذي لم يعلن يوماً عن كونه دولة فيدرالية، فغياب نظام لا مركزي حقيقي أو فيدرالي، جعل كل طائفةٍ تدير شؤونها عملياً خارج الدولة، ما ساهم في تآكل فكرة المواطنة الجامعة. العقل المركزي الذي ورثه الجميع من زمن الأسد ما زال يحكم الخيال السياسي رغم أن اللامركزية تُطرح اليوم وكأنها ابتكار حديث أو استجابة استثنائية لما بعد النزاعات، إلا أن جذورها تعود في التاريخ السوري إلى بدايات القرن العشرين. ففي 1922، وفي ظل الانتداب الفرنسي، طُرحت صيغة "الاتحاد السوري" بكونها ترتيبا إداريا ضمّ ثلاث وحدات: دمشق، حلب، والساحل. ورغم أن السياق كان استعمارياً ومشحوناً بنيات التقسيم، أشار هذا النموذج، ولو بشكل أولي ومشوَّه، إلى إمكانية إدارة الدولة بصيغٍ لا مركزية تمنح المحليات هامشاً من الصلاحيات. لكن المهم هنا ليس النموذج الذي فرضته سلطة احتلال، بل النقاشات التي أُثيرت في تلك المرحلة بشأن توزيع السلطات بين المركز والمحيط. فقد شهدت تلك اللحظة، على هشاشتها، ولادة تخيُّل سياسي في سورية عن إمكانات الحكم المحلي وتعدّد مستويات السلطة، وهو تخيُّل لم يُستكمل لاحقاً، لكنه ظلّ يلوح احتمالا مؤجّلا في ذاكرة التجربة السورية. يذكّرنا الفقيه الدستوري الفرنسي، موريس دوفرجيه، بأن اللامركزية ليست نصّاً قانونياً، بل علاقة ثقة بين الدولة والمجتمع المحلي، وهذه العلاقة لم تنشأ في سورية في غالب المراحل، فظلّ التوجّس من المجتمعات المحلية أقوى من الرغبة في منحها إدارة شؤونها. لا يكفي الحديث في سورية اليوم عن الفيدرالية بوصفها إعلاناً سياسياً، ولا عن الوحدة بوصفها قدراً مقدّساً. المطلوب إعادة تفكير جذرية في شكل الحكم، تُبنى على إدراك لتعدّد البنى الاجتماعية والثقافية، ولتفكك السلطة المركزية السابقة من دون قيام بديل شرعي متماسك. في هذا الفراغ، لا يمكن الركون إلى جهاز بيروقراطي مترهّل، ولا إلى مركزٍ يمسك الصلاحيات بلا أدوات فعالة. وحدها مقاربة عادلة وواقعية لإعادة توزيع السلطة يمكن أن تمنح السوريين فرصة لبناء دولة قابلة للحياة. ولا يزال ما طرحه بيير روسانفالون قبل عقدين عن "الدولة العادلة" صالحاً تماماً للسياق السوري، فالعدالة الإدارية شرط للثقة السياسية، وأي نظام لا يُعيد توزيع السلطة يصبح مع الوقت أداةً لتعميق الانقسام، ولو لم يكن يقصده. المطالبة بالفيدرالية لا تعني بالضرورة رفضاً للوحدة، كما أن عدم الثقة بالمركز ليس جريمة سياسية. ثمّة من يرى في الفيدرالية وسيلة لحماية خصوصيته، وثمّة من يراها أفقاً لتحقيق مواطنة أكثر توازناً وعدلاً. وفي الحالتين، أي صيغة حكم عادلة يجب أن تُبنى عبر تفاهم وتفاوض يعترف بأن السيادة عقد اجتماعي متجدد، لا امتيازاً مغلقاً في يد سلطة واحدة. وسواء سميناها فيدرالية، أو لامركزية موسّعة، أو عقداً إدارياً جديداً، يتركّز جوهر النقاش اليوم حول استعداد السوريين لاقتسام السلطة بشكل عادل، أم أن العقل المركزي الذي ورثه الجميع من زمن الأسد ما زال يحكم الخيال السياسي. لا يكفي الحديث في سورية اليوم عن الفيدرالية بوصفها إعلاناً سياسياً، ولا عن الوحدة بوصفها قدراً مقدّساً في الظروف الحالية التي تعيشها سورية، لا توجد هيئة دستورية منتخبة أو مجلس تأسيسي يمتلك الشرعية الكاملة لصياغة شكل نظام الحكم الجديد، لكن هذا لا يعني أن الخيار بين الفيدرالية أو اللامركزية يجب أن يُحسم بتفاهمات فوقية أو ميزان قوى مؤقت. تقتضي المرحلة الانتقالية تأسيس مسار سياسي واضح نحو عقد اجتماعي جديد، يبدأ بتشكيل هيئة تأسيسية ذات شرعية تمثيلية نسبية على الأقل، تُبنى من خلال عملية تشاورية موسّعة بين قوى المجتمع المدني، والمكوّنات المحلية، والمجالس المنتخبة أو شبه المنتخبة إن وجدت، وبإشرافٍ أممي أو جهاتٍ ضامنة للانتقال. وهذه الهيئة، وإن لم تكن "منتخبة بالكامل" في المعنى الدستوري التقليدي، إلا أنها يجب أن تستمدّ شرعيتها من توازن واقعي وتوافقي، ومهمّتها الأساس صياغة مسودة دستور انتقالي أو دائم، يُطرح لاحقاً للاستفتاء الشعبي، ويحدّد فيه شكل الدولة، نمط الحكم، وقواعد تقاسم الصلاحيات. ... يجب أن يُبنى اختيار الفيدرالية أو اللامركزية على قراءة دقيقة لبنية الدولة والمجتمع، لتوزّع السكان، ولطبيعة الموارد، ولتجارب العيش المشترك في الماضي القريب. الفيدرالية، حين تُبنى على التوافق، قد توفّر استقراراً ذاتياً لوحدات جغرافية أو ثقافية تشعر بالتهميش أو القلق، وتشيع شعوراً بالانتماء الطوعي للدولة الجامعة. أما اللامركزية الإدارية، فإنها تمنح المجتمعات المحلية القدرة على إدارة شؤونها اليومية من دون المساس بالبنية السيادية للدولة، وتُعدّ أداة مرنة لإعادة التوازن بين المركز والأطراف. في ظل سلطةٍ انتقاليةٍ هشّة، وبلد أنهكته المركزية العنيفة عقوداً، تبدو الحاجة ماسّة إلى فتح نقاش هادئ حول الخيارين، بوصفهما أدوات سياسية وإدارية يمكن أن تساهم في إنتاج عقد وطني جديد يُراعي التعدّد، ويعيد توزيع الثقة، ويجعل من الدولة حاضنة. الشكل النهائي يجب أن يُتوافق عليه عبر عملية تشاركية واسعة، ويُقرّ عبر دستور حيٍّ يكتبه السوريون بأيديهم، لا يُنسخ عن تجارب الآخرين، ولا يُصاغ لإرضاء قادة المرحلة الانتقالية.