logo
قصة نجاح .. أديداس وبوما وصراع أشقاء أعاد تشكيل صناعة الأحذية الرياضية

قصة نجاح .. أديداس وبوما وصراع أشقاء أعاد تشكيل صناعة الأحذية الرياضية

أرقام١٩-٠٤-٢٠٢٥

- لطالما شهدت ساحات الأعمال نزالات حامية الوطيس، حفرت أسماءها بأحرف من نور في سجلات التاريخ، كتلك المنافسة الشرسة التي جمعت بين "كوكاكولا" و"بيبسي"، أو الصراع المحتدم بين عملاقي صناعة الطائرات "إيرباص" و"بوينج".
- غير أن الحكاية التي بدأت فصولها في بلدة ألمانية وادعة بين شقيقين، سرعان ما تحولت إلى أسطورة دموية، قوامها الغضب العارم، والخيانة المرة، والابتكار.
- فملحمة "أديداس" و"بوما" لم تكن مجرد معركة تجارية تقليدية، بل كانت أتونًا لنزاع عائلي ضروس، سرعان ما تجسد في صورة من أشد صور الصراع ضراوة في تاريخ العلامات التجارية قاطبة.
البداية: من غرفة غسيل متواضعة إلى حلم رياضي طموح
- وُلد أدولف "آدي" داسلر عام 1900، وشقيقه الأكبر رودولف عام 1898، في بلدة هيرتسوجن آوراخ البافارية الهادئة.
للاطلاع على المزيد من المواضيع والتقارير في صفحة مختارات أرقام
- وبعد انتهاء الحرب العالمية الأولى، ووسط حالة من الفقر والدمار التي خيمت على البلاد، قرر آدي استغلال بقايا الجلود والملابس العسكرية لصناعة أحذية رياضية متينة.
- وفي عام 1924، انضم إليه شقيقه رودولف، ليؤسسا معًا "مصنع أحذية الأخوين داسلر"، حيث تولى آدي مسؤولية التصميم والإبداع، بينما ركز رودولف جهوده على المبيعات والتسويق.
- وسرعان ما لاقت منتجاتهما رواجًا واسعًا ونجحت في لفت الأنظار إليها، خاصة بعد أن استخدم العداء الأمريكي من أصل إفريقي جيسي أوينز أحذيتهما المميزة في أولمبياد برلين عام 1936، محققًا أربع ميداليات ذهبية مدوية، ومسقطًا بفوزه أسطورة "التفوق الآري" الزائفة التي روّج لها النازيون آنذاك.
- ورغم البداية المتواضعة في غرفة غسيل قديمة، سرعان ما حظيت منتجاتهما بإعجاب الرياضيين الألمان، بمن فيهم المدرب الأولمبي الذي أصبح من أوائل المتحمسين لها.
النازية والحرب: توترات سياسية وشخصية متصاعدة
- انضم الأخوان إلى صفوف الحزب النازي، ولكن بدرجات متفاوتة من الحماس والالتزام؛ فقد تعامل آدي مع الحزب كفرصة سانحة لترويج منتجاته على نطاق أوسع، أما رودولف فكان أشد تحمسًا واقتناعًا بمبادئ الحزب.
- زاد هذا التباين السياسي الواضح، بالإضافة إلى الصراعات الخفية حول النفوذ العائلي وتوزيع المسؤوليات بينهما، من حدة الخلاف المتنامي بين الشقيقين.
- تعمّقت هذه الخلافات بشكل ملحوظ خلال سنوات الحرب العالمية الثانية العصيبة، خصوصًا عندما رفض آدي بشكل قاطع توظيف أبناء شقيقته، الأمر الذي أثار حفيظة رودولف واستياءه الشديد.
- وتفاقم الوضع بشكل حاد خلال إحدى الغارات الجوية التي استهدفت المنطقة في عام 1943، عندما فسّر رودولف تعليقًا عابرًا صدر عن آدي على أنه إهانة شخصية موجهة إليه وإلى عائلته، وهو ما شكّل نقطة اللاعودة في علاقتهما المتدهورة.
الانقسام المرير: ميلاد عملاقين صناعيين متنافسين
- وفي عام 1948، وبعد سلسلة من الاتهامات المتبادلة بالعمالة للنظام النازي، وصل الخلاف بين الأخوين إلى ذروته، وانفصلا نهائيًا في خطوة غير مسبوقة.
- وعلى إثر هذا الانفصال، أنشأ رودولف شركته الخاصة التي أطلق عليها اسم "بوما"، بينما أسس آدي شركته الشهيرة "أديداس".
- وهكذا، وُلدت شركتان عملاقتان متنافستان في بلدة واحدة، على ضفّتي نهر واحد، ولكن يفصل بينهما بحر واسع وعميق من الخلافات والضغائن.
- وسرعان ما سعت أديداس إلى التوسع السريع في الأسواق، متحالفة مع العديد من المنتخبات الوطنية المرموقة، بينما ركّزت بوما استراتيجيتها على توقيع عقود حصرية مع أبرز الرياضيين العالميين.
"حروب الأحذية": تنافس محموم يمتد إلى كافة الميادين
- في خمسينيات وستينيات القرن الماضي، تحولت المنافسة الشرسة بين الشركتين إلى ما يشبه حربًا باردة ضروسًا.
- فقد حققت أديداس نجاحًا ساحقًا من خلال رعايتها للمنتخب الألماني الذي فاز بكأس العالم عام 1954، بينما برزت بوما من خلال دعمها لنجوم رياضيين لامعين مثل الأسطورة البرتغالية أوزيبيو والجوهرة البرازيلية بيليه.
- وفي بطولة كأس العالم عام 1970، تخلّت بوما عن اتفاق غير معلن مع أديداس يقضي بعدم التنافس على توقيع عقد مع بيليه، ونجحت في الظفر بتوقيعه في صفقة تاريخية كانت بمثابة لحظة ذروة في عالم - التسويق الرياضي، خاصة عندما طلب بيليه من الحكم وقتًا مستقطعًا لربط حذائه أمام أنظار ملايين المشاهدين حول العالم... وهو الحذاء الشهير "بوما كينج".
من أروقة المحاكم إلى ساحات الملاعب: صراع لا يعرف الهدوء
- لم تتوقف المنافسة الحادة بين الشركتين عند حدود الأسواق التجارية، بل امتدت لتشمل أروقة المحاكم، حيث تبادل الطرفان الاتهامات الصريحة بانتهاك براءات الاختراع.
- فكل ابتكار تقني جديد في عالم صناعة الأحذية الرياضية كان يُقابل بتحرّك قانوني مضاد وسريع من الطرف الآخر.
- وفي مدينة هيرتسوجن آوراخ نفسها، أصبح الانقسام بين الشركتين ملموسًا وواضحًا للعيان: فمن كان يعمل في شركة بوما كان يتجنب التعامل أو التواصل مع أي شخص يعمل في شركة أديداس.
- بل إن الفرق الرياضية المحلية كانت مدعومة بشكل كامل من إحدى الشركتين، وانقسم السكان المحليون بولائهم وانتمائهم بشكل حاد، حتى في أدق تفاصيل حياتهم اليومية.
الجيل الثاني: مصالحة محدودة وابتكار متجدد
- مع انتقال زمام القيادة في الشركتين إلى الجيل الثاني من العائلة، بدأت تظهر بعض مظاهر التقارب الحذر.
- فقد أسس هورست، ابن آدي، فرعًا ناجحًا لشركة أديداس في فرنسا، بينما قاد آرمين، ابن رودولف، مسيرة توسع شركة بوما في أسواق جديدة.
- ورغم أن المصالحة الكاملة بين العائلتين لم تتحقق قط، فإن الاحترام المتبادل بدأ يظهر تدريجيًا بين أفراد الجيل الثاني.
- وفي ثمانينيات القرن الماضي، تحولت الشركتان إلى شركات عامة مدرجة في البورصة، لتدخل بذلك مرحلة جديدة من التطور المؤسسي والتنافس العالمي، خاصة مع صعود علامات تجارية رياضية جديدة وقوية مثل "نايكي".
من مجرد أحذية رياضية إلى أسلوب حياة متكامل
- في العقود الأخيرة، لم تعد أديداس وبوما مجرد شركتين متخصصتين في صناعة الأحذية الرياضية فحسب، بل أصبحتا تمثلان نمط حياة رياضي متكامل، يجمع ببراعة بين عالم الرياضة والموضة والثقافة الشعبية.
- ومع الانتشار الواسع لمفهوم اللياقة البدنية كجزء أساسي من الحياة اليومية، استطاعت الشركتان التكيف بذكاء مع هذه التحولات العميقة، والبقاء في صدارة السوق العالمي شديد التنافسية.
- ورغم أن الشركتين لم تعودا تحت الإدارة المباشرة للعائلة المؤسسة، فإن الإرث التاريخي لا يزال واضحًا وجليًا في مقرهما الرئيسيين بمدينة هيرتسوجن آوراخ، التي بقيت رمزًا فريدًا لصراع لا يشبه أي صراع آخر في تاريخ العلامات التجارية.
خاتمة: حينما تمخضت الخصومة الشديدة عن أزهى صور الابتكار
- إن قصة أديداس وبوما ليست مجرد حكاية منافسة بين شركتين تجاريتين؛ بل هي مرآة عاكسة لتاريخ حافل بالعناد والإصرار، والابتكار المستمر، والعلاقات الإنسانية المعقدة والمتشابكة.
- ولولا هذا الصراع العائلي المرير، ربما لم يكن قطاع صناعة الأحذية الرياضية ليشهد هذا التطور الهائل والمتسارع الذي نعرفه اليوم.
- فمن مصنع صغير متواضع في بلدة ألمانية مغمورة إلى علامتين تجاريتين عالميتين تتنافسان بشراسة على قمة الصناعة... إنها بحق حكاية فريدة تُثبت أن أعظم الابتكارات والإنجازات قد تولد أحيانًا من رحم أعمق الخلافات وأشدها ضراوة.

Orange background

جرب ميزات الذكاء الاصطناعي لدينا

اكتشف ما يمكن أن يفعله Daily8 AI من أجلك:

التعليقات

لا يوجد تعليقات بعد...

أخبار ذات صلة

بول موران يعود في "جلاد إشبيلية" إلى علاقة نابليون بالنخبة المتنورة في بلاد الجوار
بول موران يعود في "جلاد إشبيلية" إلى علاقة نابليون بالنخبة المتنورة في بلاد الجوار

Independent عربية

timeمنذ يوم واحد

  • Independent عربية

بول موران يعود في "جلاد إشبيلية" إلى علاقة نابليون بالنخبة المتنورة في بلاد الجوار

حتى وإن كانت رواية بول موران الأكثر شهرة "الرجل المتعجل" (1941) قد حظيت بشهرة ومقروئية واسعتين في فرنسا، وطن الكاتب، كما في ترجمات أوروبية عديدة لها، كما حولت إلى فيلم من تمثيل آلان ديلون، وحتى إذا كان مارسيل بروست نفسه، قد كتب تقديماً حماسياً لواحدة من أولى المجموعات القصصية التي أصدرها هذا الكاتب باكراً منذ عام 1921، فإن موران لم يكن من الروائيين الفرنسيين الكبار. في أحسن أحواله، كان واحداً من مجموعة كتاب ظهرت في مرحلة ما بين الحربين لتسد فراغاً تصنيفياً، ظهر بين غلاة كتاب اليسار ومتطرفي كتاب اليمين في فرنسا، خلال تلك المرحلة. ويضم إلى جانبه كلاً من روجيه نيمييه وميشال ديون وأنطوان بلوندان وجاك لوران، وهم جميعاً على أية حال من كبار مبدعي الصف الثاني على شاكلة موران. ولكن، في المقابل تميز بول موران (1888 – 1967) بكونه كاتباً رحالة من طراز رفيع، وأيضاً بوصفه دبلوماسياً كبيراً في تاريخ الخارجية الفرنسية، لا سيما حين عين سفيراً لبلاده لدى سويسرا، خلال الحرب العالمية الثانية حين كانت السفارة لدى سويسرا تمثل "كل" الدبلوماسية الفرنسية. والحقيقة أن ثمة عملاً روائياً لموران نتناوله هنا، يمكنه أن يختصر بشكل أو بآخر صفاته الثلاث معاً، كروائي ورحالة ودبلوماسي همه الدفاع عن الفكرة الفرنسية حيثما تدعو الحاجة. وهذا العمل يحمل عنواناً شديد الإسبانية على أية حال هو "جلاد إشبيلية" صدر في عام 1951 ونال مكانة لا بأس بها في مضمار الرواية التاريخية الفرنسية حينذاك. ازدواجية فرنسية منذ البداية، قد يمكننا أن نقول إن "جلاد إشبيلية" ليست من الروايات الكبرى حتى في مجالها التاريخي، لكنها في المقابل رواية بالغة الأهمية بالنسبة إلى الرسالة الفكرية، وربما أيضاً السياسية التي تحملها. فهي أولاً وأخيراً تتناول قضية بالغة الأهمية والواقعية، كثيراً ما طرحت من حول الصورة "المزدوجة" التي لفرنسا في الخارج، لا سيما لفرنسا بوصفها دولة كولونيالية– استعمارية. ويمكن اختصار هذا الأمر هنا بتلك "الحيرة" التي تنتج لدى النخب الأكثر تنوراً وعقلانية في البلدان، بل لنقل: في المجتمعات التي يحدث لها في ظروف معينة، أن تقع تحت ربقة احتلال بالتالي، استعمار فرنسي ما، فتجد نخبتها الأكثر التصاقاً عادة بالثقافة الفرنسية والأكثر تجاوباً مع نمط العيش الفرنسي، تجد نفسها أمام حيرة بالغة مزدوجة النظرة، بين تطلع إلى ارتباط منطقي بفرنسا من ناحية ورفض وطني للاستعمار الفرنسي من ناحية أخرى. ولعل في إمكاننا هنا أن نعود بالذاكرة إلى الحملات النابليونية التي اجتاحت بلدانا مثل ألمانيا وإيطاليا وصولاً طبعاً إلى مصر، في خضم "انتصارات" الثورة الفرنسية وتنويريتها التي راقت للنخب في تلك البلدان، لكن هذه الأخيرة تراجعت عن ذلك الموقف ما إن تبين لها أن "التنوير على الطريقة النابليونية" هو استعمار حقيقي وغزو بأكثر مما هو نشر للثقافات العقلانية كما كان كبار نخبويي الإبداع الأوروبي وغير الأوروبي يتوقعون. ولنتذكر هنا مواقف مبدعين من طينة غوته وبيتهوفن... من دون أن ننسى كيف أن ليون تولستوي سيكون في "الحرب والسلام" من أفصح الذين عبروا عن كل ذلك. ولئن كنا نادراً ما طالعتنا مواقف فرنسية واضحة في هذا السياق، وطبعاً قبل انتفاضة المبدعين الجزائريين وعلى خطى جان بول سارتر، ضد الحرب الفرنسية في الجزائر والتي أتت لاحقة جداً، فإن رواية بول موران التي نحن في صددها هنا، تأتي وافية بالغرض في هذا السياق. بين إسبانيا وفرنسا لقد أشرنا قبل سطور إلى أن لرواية موران ثلاث صفات كونها تنتمي إلى ما تركه أدب الرحلات على مسار الكاتب الإبداعي وما فرضته عليه اهتماماته الدبلوماسية ولكن خصوصاً مكانة هذه الرواية في المسار الروائي للكاتب، ومن هنا تأتي أهميتها المطلقة في تاريخ هذا الكاتب الذي يبدو في بعض الأحيان منسياً، لكنه سرعان ما يطفو على واجهة الأحداث الأدبية في مناسبات معينة. المهم أن الرواية تدور أحداثها في إسبانيا بدايات القرن الـ19، خلال الحقبة التي غزا فيها نابليون هذا البلد المجاور بقواته، ليعين أخاه جوزيف ملكاً عليه. ونعرف تاريخياً طبعاً أن الإسبان انتفضوا في عام 1808 على ذلك التعيين، كما انتفضوا على الغزو النابليوني. لكن تلك الانتفاضة لم تكن على مزاج كل الإسبانيين، تماماً كما أن الغزو نفسه لم ينل إجماعاً إسبانيا لا تأييداً ولا مناوأة له. فالإسبان كما حال شعوب أوروبية وغير أوروبية كثيرة، كانوا ينظرون إلى المسألة نظرة نسبية تأخذ في حسبانها وعود الثورة الفرنسية ومنجزات العقلانية الفرنسية. وتفيدنا رواية موران بأن الأمر كله قد أحدث شروخاً بل تمزقات حتى داخل عائلات ومجتمعات واحدة لا سيما، في الرواية، في وسط عائلة أرستقراطية من إشبيلية هي عائلة الدون لويس الذي لتأييده الفرنسيين انطلاقاً من انتمائه إلى ثقافتهم، وجد نفسه يفر مع زوجته ماريسول إلى مدريد، كي يفلت من انتقام أحس أن الوطنيين المنتصرين في مدينته يتوعدونه به. وهناك في العاصمة نراه يحضر مؤيداً، تتويج جوزيف بونابرت ملكاً على إسبانيا. وفي غمرة ذلك التأييد يوافق الدون لويس على خدمة الملك الجديد بل ينضم إلى حاشيته ويرافقه إلى منطقة فكتوريا في بلاد الباسك، مرحباً هناك بوصول جيوش نابليون التي أتت لمقاومة الانتفاضة الإسبانية وتوطيد السيطرة الفرنسية على هذا البلد. وهنا في وسط زخم تلك الأحداث السياسية وإذ بتدخل الإنجليز لتبديل ما استجد من أوضاع، تترك ماريسول الدون لويس عائدة بغضب إلى إشبيلية، حيث يكون الإنجليز قد طردوا الفرنسيين وسيطروا على الإسبان الذين يفترض أن يكونوا حلفاءهم الآن. ولكن في وقت كان فيه الدون لويس يسعى إلى الانضمام إلى زوجته تختفي هذه بطريقة غامضة. اقرأ المزيد يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field) دلالات سياسية من الناحية الروائية، يكاد يكون ما اختصرناه أعلاه في عدد محدود من العبارات، كل ما يحدث في الرواية بالنسبة إلى المسار العائلي الذي يتوخى بول موران التعبير عنه، لتوصيف ردود الفعل "المحلية" الإسبانية تجاه الحراك الفرنسي، الذي ينظر إليه، كما في الواقع التاريخي، تلك النظرة المزدوجة. غير أن المهم هنا هو ذلك التوصيف السياسي المستند إلى التاريخ الواقعي الذي جعل همه تصوير تلك النظرة، التي ربما من خلال هذه الرواية مثلاً ومن خلال رصد بول موران لدلالاتها السياسية، حيث يمكننا ليس فحسب، وعلى سبيل المثال، أن نفهم ما لم يبدُ واضحاً تماماً في حوارات "الحرب والسلام"، بصدد الموقف من فرنسا، الذي عبر عنه تولستوي في تلك الرواية الكبيرة كتمزق روسي بين تعاطف مع الفكرة الفرنسية والممارسات النابليونية، واستطراداً أن نفهم تماماً اندفاع مبدع ألماني كبير كبيتهوفن ممزقاً نوطات كونشرتو كان يكتبه لتمجيد نابليون، ما إن وصلت جيوش هذا الأخير غازية الأرض الألمانية. فهنا في "جلاد إشبيلية" ومن دون أن يتخلى عن فرنسيته ومن دون أن يلقي بأية لائمة على أولئك الذين قاوموا نابليون، ولكن من دون أن يجعل من الدون لويس نفسه موضع ملامة أو عتاب حتى، ها هو الكاتب الفرنسي الدبلوماسي الذي يعرف إسبانيا معرفة جيدة كرحالة راصد حاد النظرة، ها هو يمجد الذهنية الإسبانية بصرف النظر عن نظرتها إلى الجيران الفرنسيين، مركزاً على سمو تلك النظرة، غير ناس أن إسبانيا هي في تاريخها الخاص أرض التناقضات لا سيما انطلاقاً من كون شعبها محتلاً من قبل شعوب أخرى، إسبانيا المسلمة، ومحتلاً لمناطق لها تاريخها هي الأخرى، احتلال إسبانيا قبل قرون أميركا الجنوبية، وهو ما يوفر لهذا الدبلوماسي ذي النزعة التحليلية الإنسانية وذي الاهتمام البادي بسيكولوجيا الشعوب، فرصة طيبة للغوص في تحليل الذهنية الإسبانية التي كان كثيراً ما يقول عنها، وفي مناسبات عديدة إنها واحدة من أكثر الذهنيات تعقيداً وتركيباً في أوروبا... وهو عبر عن ذلك بجملة فائقة الأهمية يضعها في واحد من فصول الرواية على لسان ابن عم للدون لويس، مناوئ للفرنسيين، إذ يقول بوضوح "إنني أفضل أن أرى في موطني بيرقاً يحمل هلال المسلمين على أن أرى علماً فرنسياً...".

«قطار الأطفال»... رحلة إنسانية إلى الزمن السينمائي الجميل
«قطار الأطفال»... رحلة إنسانية إلى الزمن السينمائي الجميل

الشرق الأوسط

timeمنذ 4 أيام

  • الشرق الأوسط

«قطار الأطفال»... رحلة إنسانية إلى الزمن السينمائي الجميل

يحار المايسترو أي حذاءٍ ينتعل قبل الوقوف على الخشبة لقيادة الأوركسترا. ولكن قبل الحذاء، عليه أن يردّ على اتّصالٍ من والدته ينبئه بوفاة والدته! نعم، للمايسترو والدتان ستتّضح هويّتاهما وقصتاهما لاحقاً. بهذا المشهد الذي يدور عام 1994، ينطلق فيلم «قطار الأطفال» (The Children's Train) على «نتفليكس». وما إن يقف المايسترو على المسرح حاملاً كمانَه أمام الحضور والعازفين، حتى تبدأ رجعة زمنيّة طويلة تروي حكاية «أميريغو سبيرانزا» المستوحاة من أحداث حقيقية، والمقتبسة عن رواية صدرت عام 2019 للكاتبة فيولا أردوني. وإذا كانت شخصية سبيرانزا متخيّلة، فإنّ القصة بتفاصيلها التاريخية والاجتماعية مستقاة من أرض الواقع. الفيلم الإيطالي يأخذ مشاهديه إلى الفترة الممتدّة ما بين 1944 و1946، أي إلى نهايات الحرب العالمية الثانية. كان سبيرانزا في الثامنة من عمره، يتعلّم العمليات الحسابية من خلال عدّ أحذية المارّة، بينما قدماه حافيتان. عصفت الحرب بمجاعتها وظلمها ودمارها بالجنوب الإيطاليّ، فتحوّل أطفال نابولي إلى متسوّلين يأكلون القطط إن جاعوا، ويلعبون وسط الركام، ويجمعون الخرق البالية لمساعدة أهلهم في المصروف. وسط هذه المأساة، تجد والدة أميريغو، «أنطونييتا»، نفسها عاجزة عن تأمين الطعام والرداء والتعليم لابنها الذي خسرت قبله ولداً. الأبُ سافر ولم يعد، فاضطرّت أنطونييتا للقيام بأي شيء من أجل سدّ جوع طفلها. ملصق الفيلم الإيطالي «قطار الأطفال» (نتفليكس) في تلك الأثناء، ينشط الحزب الشيوعي الإيطالي في مجال الاهتمام بضحايا الحرب. من بين مبادراته: «قطار السعادة» الذي يقلّ أطفالاً من الجنوب إلى الشمال، للمكوث لدى عائلاتٍ باستطاعتها أن تؤمّن لهم حياة لائقة، لبضعة أشهر على الأقلّ. بين أقاويل الجيران الذين يصرّون على أنّ «القطار الشيوعيّ» يأخذ الأطفال إلى المحارق وقطع الرؤوس في سيبيريا، وبين نصائح مسؤولي الحزب بضَمّ أميريغو إلى الرحلة، تقع أنطونييتا في الحيرة. غير أنّ قسوة الفقر والجوع لا تترك أمامها خياراً سوى إرساله. مثله مثل 70 ألف طفل آخر، ينسلخ أميريغو عن والدته التي تتسلّح بالقسوة كي يسهل عليها التخلّي. أرغمت الحرب العالمية الثانية عدداً من الإيطاليين على التخلِّي عن أطفالهم من أجل تجنيبهم الجوع (نتفليكس) ثمّة سحرٌ ما في الأفلام الإيطالية؛ خصوصاً تلك التي تروي التاريخ. فكيف إذا كان أبطال الفيلم أطفالاً يركبون قطاراً يعبر الطبيعة الإيطالية الخلّابة، آخذاً إياهم إلى مصيرٍ مجهول؟ ليس «قطار الأطفال» من صنف الأفلام التي تضيّع وقت المُشاهد. فقد أتقنت المخرجة كريستينا كومنشيني مهمتها، ساردة حقبة لا يعرفها كثيرون عن تاريخ إيطاليا، من دون أن تغفل عن التفاصيل الإنسانية. وما يساعدها في إيصال الرسالة، السيناريو البسيط والسلس، إضافة إلى أداءٍ مميّز للممثّلين، ولا سيما الصغار منهم، وعلى رأسهم كريستيان تشيرفوني بشخصية أميريغو. يقدِّم الطفل كريستيان تشيرفوني أداءً مميَّزاً بشخصية أميريغو سبيرانزا (نتفليكس) على متن القطار، لا ثياب بالية على الأجساد الصغيرة الهزيلة؛ بل ملابس دافئة ومعاطف، ولا أقدام حافية هنا. يرفض أميريغو خلع حذائه الجديد، رغم مقاسه الضيّق، حتى خلال النوم. مع ذلك، فإنّ الأطفال قلقون ويعبّرون صراخاً وتمرّداً. ولكن في المحطة الشمالية؛ حيث يستقبلهم أهالي مودينا ومسؤولو الحزب بعطفٍ كبير، وبطعامٍ لم يتذوّقوا مثله من قبل، تبدأ النفوس في الهدوء، ويخفت الشكّ بأنّ المصير هو المحرقة. يجد كل ولدٍ عائلة باستثناء أميريغو الذي عليه الاكتفاء بشابّة من أعضاء الحزب حاضنةً موقّتة. لا علاقة لها بالأمومة، وشخصيّتها القاسية لا توحي بأنها قادرة على الاعتناء بطفل. ولكن سرعان ما يذوب جليدها أمام طيبة أميريغو وعاطفته البريئة. يجد في «ديرنا» وعائلة شقيقها دفئاً حُرم منه. تكتمل طفولته وسطهم؛ حيث يأكل حتى الشبع، ويذهب إلى المدرسة، ويتلقّى دروس العزف على الكمان على يدَي شقيقها. لا يخلو الأمر من مواقف يواجه فيها التنمّر من أترابه، بينما الشوق إلى والدته لا يفارقه، وينتظر مرور أشهر الشتاء حتى يعود إلى نابولي. ديرنا... الناشطة الحزبية التي اكتشفت أمومتها مع أميريغو (نتفليكس) ينجح الفيلم في تقديم المشهد الاجتماعي الإيطالي في تلك الآونة بكل تفاصيله. التفاوت بين أهل الجنوب والشمال في إيطاليا لناحية انعكاسات الحرب على كلٍّ من المنطقتَين، والنظرة إلى الحركات السياسية التي نمَت على ضفاف الحرب كالفاشيّة والشيوعيّة، والتماسك الوطني الذي دفع الشماليين إلى احتضان الجنوبيين. تتوطّد العلاقة بين ديرنا وأميريغو، وتشغّل المخرجة عدستها والحوار هنا من أجل إظهار وجهَين للأمومة سادا في إيطاليا آنذاك. مشاعر الطفل متأرجحة بين أمَّين: الأولى التي أنجبته ورعته قدر ما استطاعت ثم اضطرّت للتخلّي عنه كي لا يجوع ويتشرّد، والثانية التي اكتشفت أمومتها من خلاله فحضنته ومنحته العاطفة والأمان. إلى أن تواجه ديرنا الامتحان ذاته الذي كان على أنطونييتا مواجهته. انتهى الشتاء وعلى أميريغو العودة إلى والدته. تودّعه بالدموع والطعام والكمان الذي صنعه له شقيقها في عيد ميلاده. ولكن في نابولي، يجد الطفل نفسه على موعدٍ مع القسوة والحرمان من جديد. يتعامل الفيلم بسلاسة مع إشكاليَّة الأم البيولوجية والأم الحاضنة (نتفليكس) ستعبر سنواتٌ خمسون قبل أن يستوعب أميريغو القرار الصعب الذي كان على والدته البيولوجيّة أن تتخذه. سنواتٌ لا يدخل الفيلم في تفاصيلها؛ بل يكتفي بالقليل عن أميريغو المايسترو الخمسينيّ، مركّزاً على السنتَين اللتَين أخذتاه من نابولي إلى مودينا في الثامنة من عمره. قد يشعر المُشاهد بأنّ ثمة عناصر ناقصة في الحكاية، وبأنه يرغب في معرفة مزيد عن سيرة أميريغو الفنية، وكيف تطوّرت علاقته بوالدتَيه. ولكن تلك الثغرات لا تُفرغ «قطار الأطفال» من معانيه العميقة، بدليل أنّ الفيلم نال إجماعاً إيجابياً من النقّاد وتقييماتٍ جماهيرية عالية.

"متجول بين عالمين" رواية أخرى عن حرب لا منتصر فيها
"متجول بين عالمين" رواية أخرى عن حرب لا منتصر فيها

Independent عربية

timeمنذ 5 أيام

  • Independent عربية

"متجول بين عالمين" رواية أخرى عن حرب لا منتصر فيها

من المعروف أن هناك، من بين مئات الأعمال الأدبية التي كتبت خلال الحرب العالمية الأولى ومن حولها، ثلاثة أعمال خالدة لا تزال تعد حتى اليوم وبعد انقضاء أكثر من قرن على صدورها تباعاً، معبرة بصورة خلاقة عن حيرة الإنسان العادي أمام المجازر التي ترتبط بالحروب، كل الحروب بوصفها أولاً وأخيراً جرائم ضد الإنسانية حتى وإن وُسمت بأنها حروب عادلة. فهناك في المقام الأول رواية "كل شيء هادئ على الجبهة الغربية" لإريك ماريا ريماركي، وهناك من بعد ذلك رواية إرنست يونغر "عواصف من فولاذ"، ثم هناك الرواية الفرنسية "النار" لهنري باربوس. ومن الواضح أن الجامع بين الروايات الثلاث، إلى جانب وقوفها ضد الحرب، كونها كتبت "من الداخل" أي بأقلام كتاب كانوا خلال تلك المجزرة العالمية الأولى، مقاتلين على الجبهة فعبروا عن تجاربهم وغضبهم بصورة مباشرة. والحقيقة أن التركيز على هذه النصوص الثلاثة يحمل، كما كل اختيار آخر في أي مجال من المجالات، ظلماً لأعمال كثيرة قد لا تتسم بقيمة أدبية معترف بها ليونغر وريماركي وباربوس، لكنها ربما تفوقها قوة ونزاهة وتأثيراً أحياناً. ويهمنا من هذه الأعمال هنا بالتحديد رواية صدرت باكراً جداً، أي منذ العام الثاني للحرب العالمية الثانية تبدو منسية إلى حد ما في أيامنا هذه، بل منذ مرور أعوام عدة على صدورها عام 1916، إذ إن القراء الألمان مروا أمامها مرور الكرام لأنها ضربت كثيراً من يقينهم، بينما تجاهلها الفرنسيون تماماً، لأنها بالتحديد رواية ألمانية، أي من كتابة "عدو قومي" لهم حتى وإن كان هذا العدو قد قضى نحبه بعد عام من صدور روايته متأثراً بجراح أصيب بها على الجبهة التي جعل من روايته أصلاً، منبراً للتنديد بها، من دون أن يسهى عن الفرنسيين أن الكاتب وقبل رحيله بشهور قليلة قد منح من قبل قيادته وسام الصليب الفولاذي لـ"شجاعته وبطولاته" خلال الحرب وهو الذي لم يرد الحرب أصلاً ولم تكن روايته، على أية حال، سوى "سلاحه" للتنديد بها، والحال أننا نتحدث هنا عن والتر فليكس، فهل سمع واحد من قرائنا بوالتر فليكس من قبل؟ سيرة سريعة لسنا ندري، لكننا نشعر أنه لا مفر من أن يسمع به، ففليكس - الذي كان في الثلاثين حين قضى مقاتلاً، كان واحداً من قلة من أولئك المبدعين الذين تعاملوا مع الحرب بوصفها مسلخاً يطاول أخلاق البشر والأخوة الإنسانية بقدر ما يطاول أجسادهم ويدمر حياتهم - جدير بأن تبقى ذكراه عبرة. وفي الأقل عبر تلك الرواية التي يمكننا أن ننظر إليها بوصفها وصية إنسان حقيقي ومبدع كرس إبداعه لخدمة إخوانه في الإنسانية. وهو ولد عام 1887 في تورينغ بألمانيا ودرس في صباه الباكر تاريخ الفلسفة وعلم التاريخ، لكنه إذ كان مطبوعاً بتلك الرومانسية التي اعتادت في ذلك الحين أن تطبع الشبيبة الألمانية للأفضل كما للأسوأ، آثر أن يستهل نشاطه الكتابي بنظم الشعر، لكنه طوال أعوام ما قبل الحرب الأولى سيعرف بكونه مدرساً مفضلاً لأبناء عائلة بسمارك، غير أنه وربما انطلاقاً من ذلك الموقع، ما إن اندلعت الحرب العالمية الأولى في صيف 1914 حتى تطوع في الجيش الألماني على رغم عطب مزمن في يده اليسرى. اقرأ المزيد يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field) غير أن تجربة مريرة واجهته خلال العام الثاني للحرب ستمارس عليه تأثراً جذرياً، فهو كان على الجبهة قد ارتبط بصداقة مع مجند آخر يدعى إرنست وارخي كان يماثله في اهتماماته الفلسفية والأدبية، ومن هنا حين سقط هذا الرفيق على الجبهة عام 1915 وجد والتر نفسه مجبراً على أن يقوم بنفسه بالمهمة الأصعب: إخبار عائلة وارخي بأن ابنهم قد قتل. ولقد قادته تلك المهمة إلى أن ينصرف طوال المرحلة التالية إلى كتابة نصوص تمتلئ بأسئلة حارقة غاضبة حول الحروب ومبرراتها، ولسوف يكون النص الذي سيصدر بعنوان "المتجول بين عالمين" في مقدمة تلك النصوص ليصدر على شكل يوميات والكاتب لا يزال يقاتل على الجبهة. ولعل الجدير ذكره هنا هو أن الكتاب إذ صدر في ألمانيا انتشر انتشاراً كبيراً ليباع منه ربع مليون نسخة خلال العامين اللذين تليا صدوره، واللذين كان والتر يخوض خلالهما الحرب بـ"حماسة بطولية" وينال تنويهات عديدة وصولاً إلى ذلك الوسام الرفيع الذي ناله. ولقد أسهم مقتله البطولي ذاك في انتشار كتابه لكن مع تضاؤل تدريجي في الاهتمام العام به، طوال فترة ما بين الحربين حتى وصل إلى نوع من الغرق في نسيان شبه تام. تلك الأسئلة الصعبة لكن ما هذا النص؟ ببساطة هو يوميات كتبت خلال تلك الحرب. ويوميات تنطلق من حكاية تدور في ليلة عاصفة على جبهة لورين عام 1914، حين خطّ طالب متطوع في الحرب الأبيات الأولى لما سيصبح لاحقًا إحدى أشهر الأغاني في أوروبا: "الإوز البري" (التي أصبحت، بفعل تقلبات التاريخ، وبين مصائر أخرى، نشيداً للفرقة الأولى للجيش الجمهوري الأيرلندي)، وستصبح هنا بالنسبة إلى موضوعنا، بداية واحدة من أشهر الأعمال الألمانية في الحرب العالمية الأولى. ففي حقائب الجنود عرفت يوميات فليكس الحربية كيف تلامس نيتشه وشوبنهاور بين مفكرين ومبدعين آخرين، لكن سبب تلك الملامسة لم يكن أولئك الفلاسفة مجتمعين أو متفرقين، بل لأن "المتجول بين عالمين" هي في عمقها ترنيمة عاطفية لروح حركة "الطيور المهاجرة"، وهي حركة شبابية كانت قد بدأت تعرف انتشاراً بين الشباب في ذلك الحين لربطها بين العودة إلى الطبيعة والتمسك بالحكمة، ومن ثم لم ير الكاتب بأساً في أن تكون الحرب، بما أنها وعلى أية حال فرضت نفسها، كاشفةً عن فن العيش هذا، وبشارةً بمجتمع جديد سيظهر في المستقبل. إن النداءات شبه الصوفية للشمس وروح الغابات والحنان والشاعرية التي تتخلل سرد والتر فليكس، واستحضارات المسيحية الرجولية والوثنية الرحيمة، وغياب كراهية العدو، وصرخة الإوز البري، كلها تُصبح أصداءً لأعمق تطلعات الشعب، في مواجهة أعباء وأكاذيب مجتمع فردي وتجاري، تُطور روح التيار المسمى "واندرفوغل" أسلوباً تربوياً للتحرر والاحترام تحت شعار بسيط هو: "ابقَ طاهراً وانضج"، بحسب ما يكتب الناشر الفرنسي على الغلاف الأخير للترجمة الفرنسية التي أعيد صدورها عام 2019 لتستعيد للكتاب رواجاً كان قد فقده منذ زمن بعيد وللكاتب مكانة استعادت ذكراه. واستعادتها بقوة من خلال ما ينم عنه القرن الجديد من عودة للحروب والصراعات العبثية، فالحال أن الشبان الذين يعودون اليوم لاكتشاف هذا النص، يكتشفون فيه أكثر مما اكتشفه جيل قرائه قبل أكثر من قرن. معنى عميق للحياة فهم يكتشفون هنا أكثر من مجرد سرد لأحداث معينة، يكتشفون تفسيراً مدهشاً خاصة للنجاح الكبير الذي حققه الكتاب حين صدوره، وحتى من قبل رحيل كاتبه، في صفوف مجندي الجيش الألماني، فالكتاب عبر في نهاية الأمر عن تساؤلاتهم الخاصة حول معنى الحرب وأخلاقيات المقاتل، ثم بصورة أكثر دقة وتراجيدية، حول معنى الموت. وهو عبر عن ذلك ليقول لقرائه – الذين لم يكن ليتوقع على أية حال، أن يكونوا كثراً - بأن الحياة لا يكون لها معنى إلا إذا عيشت بصورة جماعية، فهي في نهاية الأمر ليست أكثر من نقطة تصل بين وحدتين "بين عالمين" كما يقول لنا عنوان الكتاب، وحدة الولادة ووحدة الموت، وما على المقاتل إلا أن يحافظ على كرامته بين ذينك العالمين. ولعل المعنى الأكثر خفاء الذي يريد نص أن يحمله في ثناياه، هو ذاك الذي لا يمكن أن يغيب اليوم بالتحديد عن بالنا: معنى يفيدنا بأن الحرب ليست في نهاية المطاف سوى "تجربة داخلية" (بحسب إرنست يونغر) وبالتالي، وكما يضيف فليكس هنا، لا يجدر بتلك التجربة أن تخلق أية كراهية تجاه من جعلته الحرب عدواً في لحظة ما بحيث إن كل من يقاتل بشجاعة يستحق التكريم بصرف النظر عن المعسكر الذي ينتمي إليه. وذلك بالتحديد لأن "الآلام المشتركة تخلي المكان لإخاء إنساني ولرفقة منفتحة على الآخر... وهما في نهاية المطاف المعنى الحقيقي للحياة". والمعنى الخفي لهذا الكتاب بالتحديد.

حمل التطبيق

حمّل التطبيق الآن وابدأ باستخدامه الآن

مستعد لاستكشاف الأخبار والأحداث العالمية؟ حمّل التطبيق الآن من متجر التطبيقات المفضل لديك وابدأ رحلتك لاكتشاف ما يجري حولك.
app-storeplay-store