logo
الإبادة في غزّة والتواطؤ الغربي والخذلان العربي

الإبادة في غزّة والتواطؤ الغربي والخذلان العربي

إيطاليا تلغراف
عبد الصمد بن شريف
كاتب وإعلامي مغربي
ألهذه الدرجة حَكَم العالم على نفسه بالعجر والموت، فلم يعد قادراً حتّى على تمكين مدنيين عزّل من قطعة خبز وشربة ماء؟ ألم يدرك قادة القوى الكُبرى أنهم يتحمّلون مسؤوليةً أخلاقيةً وسياسيةً تجاه ما يحدث في غزّة من قتل وتدمير ممنهجَين، وعقاب جماعي وتجويع مروّع وحصار غير مسبوق؟ يعلم هؤلاء جيّداً أنهم السند الفعلي والداعم الرسمي والرئيس لإسرائيل، وهم الذين يُغدقون عليها المال والسلاح، ويحمونها من أيّ إجراءات عقابية يمكن أن تحدّ من حماقات حكومة متطرّفة هوجاء. كيف يمكن تفسير هذا الصمت والتواطؤ غير المبرَّرَين؟… ما يمكن اعتباره عقدةً أخلاقية تمترست في مخيال الغرب، وأخذت شكل الحاجز النفسي الذي يحول دون معاقبة الكيان الصهيوني ذريعة غير سليمة، وسردية مكشوفة، لا تعدو غطاءً تختبئ تحته الحكومات الغربية، لتترك إسرائيل تقوم بمهمتها الاستعمارية، إنهاك الشرق وتفتيته، وقولبته جغرافياً وجيوستراتجياً. فأن تتحكّم إسرائيل في مجمل التراب الفلسطيني بإعادة احتلال غزّة وضمّ الضفة الغربية والقدس الشرقية معناه أنها ستتمكّن من مدّ سيطرتها وتوسّعها إلى جغرافيات أخرى في سورية ولبنان، وربّما في مصر، إذا وجدت الشروط ملائمةً، وردّات الفعل محتشمة أو منعدمة.
الممارسات الهمجية ووجبات القتل اليومي المتوحّشة، واستراتيجية الأرض المحروقة والتهجير القسري، وتسوية كلّ ما بنته سواعد أبناء غزّة بالأرض، وهدم المؤسّسات الحيوية والمنشآت الضرورية ومباني السكّان، وتدمير الشوارع والساحات والحدائق وأماكن العبادة، وتجريف المقابر والتنكيل والتمثيل بالجثث، والاعتقالات في شروط قاسية جدّاً، والتعذيب الذي يصل إلى الموت في عشرات الحالات، وإلى الهزال الشديد والعقوبات الجماعية… ألم يحرّك هذا التوحش كلّه، وهذا الجبروت كلّه، قادة العالمَين؛ العربي والإسلامي؟ ألم يصبهم بالصدمة التي كان من الممكن أن تتحوّل صرخةً أو صيحة مدوّيةً تتبعها قرارات ملموسة لفتح كوّة أمل (ولو كانت صغيرةً) أمام سكّان غزّة، وتمكينهم من الأكل والشرب والعلاج؟ أليس من البديهي والطبيعي أن يحصل هؤلاء على هذا الحقّ الضروري لاستمرارهم أحياء؟ ألا تخفق قلوب القادة وترفّ جفونهم أمام هول الكارثة التي تجاوزت كلّ خيال وتصوّر؟ ماذا سيحدث لو ضُغط على حكومة الكيان الصهيوني بُغية ردعها وكبح جماح تطرّفها وغطرستها، ولتتوقّف عن مخطّط الإبادة الجماعية والتطهير العرقي وجرائم الحرب؟ هل ستزلزل الأرض وتقوم القيامة لأنّ دولة شعب الله المختار المؤمنة والمحروسة والمسيّجة برعاية إلهية ستصاب بنوبة غضب، وستمسّ في جوهرها؟
وصل الحقد والتوحّش بالكيان المحتلّ إلى منع الغزّيين من الاستحمام في مياه البحر الأبيض المتوسط، بهدف تعقيد الوضع وزرع مزيد من الإحباط
لا. لا شيء من هذا. فقط الحكومة المتطرّفة بزعامة بنيامين نتنياهو، لمّا وجدت الساحة فارغةً وخلا لها الجو، وأدركت أن توقيع دول عربية على ما سمّيت 'اتفاقيات أبراهام'، التي رعتها الولايات المتحدة، هو تفويض لها، وضوء أخضر لتنفذ أخطر جريمة ضدّ الإنسانية، وأفظع حرب إبادة في التاريخ، عوض أن تشكّل هذه الاتفاقيات، حاجزاً يمنعها من التغوّل والتنكّر لحقّ الفلسطينيين في إقامة دولتهم وعاصمتها القدس الشرقية. إلى متى ستظلّ دولة الاحتلال فوق القانون وخارج نظام العقوبات والردع؟ فهذا الكيان السرطانيّ عمد ضمن سياسة مُفكَّر فيها إلى تغيير المعادلة الديمغرافية في أرض الواقع، بقتل أكبر عدد من سكّان غزّة تحديداً، مع التلويح بورقة التهجير، قسراً أو طواعية. وهذا ما جعل حكومة هذا الكيان تجري اتصالات مع دول عدّة في أفريقيا وأوروبا الشرقية وأميركا الجنوبية وآسيا، إضافة إلى مصر، لاستقبال لاجئين من قطاع غزّة بمسمّيات مختلفة. ولا تخفي هذه الحكومة أنها مستعدّة لتقديم تسهيلات مالية لمن يغادر قطاع غزّة طواعيةً، مستغلّة في ذلك الحصار الطويل الذي فرضته على القطاع منذ 2007، وتضاعفت حدّته منذ '7 أكتوبر' (2023)، وظروف العيش القاهرة والتجويع المقصود. بل وصل الحقد والتوحّش بالكيان المحتلّ إلى منع الغزّيين من الاستحمام في مياه البحر الأبيض المتوسط، بهدف تعقيد الوضع وزرع مزيد من الإحباط، ودفع السكّان إلى التفكير في الهجرة الطوعية حلّاً وحيداً للنجاة من الموت.
ينبغي التعامل مع ما تقوم به الحكومة اليمينية المتطرّفة في إسرائيل بكثير من الوعي واليقظة والحسّ الاستباقي. فهي لا تدمّر وتقتل وتبيد وتجوّع وتهجّر اعتباطاً وارتجالاً، بل تنفّذ استراتيجيةً متكاملة الأركان، ومدروسةً في الغرف المظلمة في تل أبيب وواشنطن وعواصم أخرى. وهذا ما أشار إليه الصحافي والكاتب الإسرائيلي الجريء جدعون ليفي، في صحيفة هآرتس، عندما كتب (12 يوليو/ تموز الجاري)، فقال: 'ليست هذه حرباً متدحرجة، ولم يعد بالإمكان اتّهام نتنياهو بحرب لا جدوى منها. لهذه الحرب جدوى، وهي جدوى إجرامية. مرة أخرى، لا يمكن توجيه الانتقادات لقادة الجيش بأن الجنود يقتلون عبثاً، هم يقتلون في حرب من أجل التطهير العرقي. مهّدتْ الأرض، يمكن الانتقال إلى نقل السكّان، أمّا الإعلانات والمناقصات المطلوبة فأصبحت في الطريق. بعد استكمال عملية النقل واشتياق سكّان (المدينة الإنسانية) لحياتهم بين الأنقاض، مجوّعين ومرضى وتحت القصف، حينئذ يمكن الانتقال إلى المرحلة الأخيرة، وهي تحميلهم بالقوة في الشاحنات والطائرات تجاه الوطن الجديد الذي يطمحون إليه، ليبيا، وإثيوبيا، وإندونيسيا'.
إلى متى ستظلّ دولة الاحتلال فوق القانون وخارج نظام العقوبات والردع؟
ما كان الكيان الصهيوني ليصل إلى هذا المستوى من التغوّل والتطرّف والعجرفة لو كان هناك موقف دولي حازم ومبدئي وجدّي. غير أنه لما حصل العكس، وتبيّن أن الغرب، ولأسباب ثقافية وتاريخية وأيديولوجية وعقائدية، وحرصاً منه على مصالح استراتيجية مشتركة مع الكيان الصهيوني. امتنع عن اتّخاذ أيّ عقوبات ضدّ الحكومة الفاشية في إسرائيل، بل أكثر من هذا مدّها بالسلاح والمال، ومكّنها من الدعم الدبلوماسي، بما في ذلك حقّها في الدفاع عن النفس، على نحوٍ فضفاض من دون تحديد أو تدقيق، لأنّ ما يهمّ الغرب، وفي طليعته الولايات المتحدة، هو إرضاء اللوبي الصهيوني وعدم إزعاجه. هذا اللوبي الذي حول السردية الإسرائيلية عن المظلومية والهولوكست ريعاً تاريخياً، وورقةً لابتزاز الدول والمؤسّسات، واتهام كلّ مَن ينتقد جرائم وفظاعات الاحتلال بأنه معادٍ للسامية، علماً أن الصهاينة ارتبكوا في قطاع غزّة أسوأ هولوكست في التاريخ، وأبشع الجرائم التي يعاقب عليها القانونَين؛ الدولي والدولي الإنساني. بيد أن الحصانة التي تتمتّع بها إسرائيل جعلتها هي التي تتهم وتتطاول، حتى على أول مسؤول أممي وتتهمه بمعاداة السامية. وإمعاناً في التطرّف والغطرسة، لم تتوان في توجيه تهديدات إلى كريم خان، المدّعي العام للمحكمة الجنائية الدولية، التي سبق لها أن أصدرت مذكّرتَي اعتقال بحقّ رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو ووزير الأمن السابق يوآف غالانت. ورغم ترحيب دول ومنظّمات وحركات عربية بهذا القرار، انخرطت الحكومة الإسرائيلية ومعها حليفتها الإدارة الأميركية في حرب نفسية وإعلامية ودبلوماسية، لتحوير مسار الأحداث، وتحويل أنظار الرأي العام العالمي. الحملة المسمومة نفسها شملت المقرّرة الأممية الخاصة المعنية بحقوق الإنسان في فلسطين، فرانشيسكا ألبانيز، فلم يتردّد وزير الخارجية الأميركي ماركو روبيو في إعلان عقوبات بحقّ ألبانيز على خلفية كشفها تورّط شركات عالمية في ما وصفته باقتصاد الإبادة في فلسطين. وأوضحت المقرّرة الأممية في تقريرها أن هناك دولاً تساند إسرائيل في مشروعها للهيمنة وتهجير الفلسطينيين، وطالبت، في ضوء ذلك، بتعليق الاتفاقيات التجارية مع إسرائيل، التي تسهم في حرب الإبادة في غزّة، كما كشفت أن شركات صناعة أسلحة عالمية وفّرت لإسرائيل 35 ألف طنٍّ من المتفجرات، ألقتها على قطاع غزّة، وهي تعادل ستّة أضعاف القوة التدميرية للقنبلة النووية، التي ألقيت على مدينة هيروشيما اليابانية.
الطريقة التي تتعامل بها إسرائيل مع الأمم المتحدة ومختلف المؤسّسات الدولية، واستهتارها بكلّ القرارات، وتماديها في ارتكاب الجرائم وإشعال الحرب في أكثر من منطقة، وتأجيج الصراعات الطائفية، وتغذية النعرات العرقية والمذهبية في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، الهدف منه هو إقناع الفلسطينيين والعرب بأنّ إسرائيل دولةٌ فوق القانون، فهي قوية، ولا أحد باستطاعته محاسبتها أو الردّ عليها، حتى ولو اعتدت عليه، وأن القانون الدولي في اعتقادها مجرّد خرافة، وأنها على حقّ بفضل القوة التي تملكها، وبفضل دعم الاتحاد الأوربي والولايات المتحدة، وأيضاً بفضل الصمت والخذلان العربي الرسمي، اللذَين حوّلتهما سلاحاً لصالحها. فهي وفق هذا المنطق دولة يحقّ لها أن تفعل ما تريد، من دون أن تخضع لأيّ ردع سوى ما تقرّره هي، ومَن يفكّر في ردعها، فمصيره الدمار والهلاك.
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لجريدة إيطاليا تلغراف
Orange background

جرب ميزات الذكاء الاصطناعي لدينا

اكتشف ما يمكن أن يفعله Daily8 AI من أجلك:

التعليقات

لا يوجد تعليقات بعد...

أخبار ذات صلة

حين يفتي من لا يعلم: جدليّة الجهل المقدّس ومصير المجتمع - إيطاليا تلغراف
حين يفتي من لا يعلم: جدليّة الجهل المقدّس ومصير المجتمع - إيطاليا تلغراف

إيطاليا تلغراف

timeمنذ ساعة واحدة

  • إيطاليا تلغراف

حين يفتي من لا يعلم: جدليّة الجهل المقدّس ومصير المجتمع - إيطاليا تلغراف

إيطاليا تلغراف * الدكتور عبد الله شنفار ننطلق من السؤال المنهجي: ما الذي يجعل الفتوى تتحوّل من هداية إلى أداة هيمنة؟ وهل يمكن للدين أن يضيء الواقع إذا فُصِل عن أدوات فهمه؟ ثم، كيف تتواطأ هشاشة الوعي مع جهالة القول لتنتج 'جهلاً مقدّسًا' يصوغ مصائر الناس؟ وهل يكفي حمل العمامة ليُؤمَن لصاحبها القول؟ وهل صار الصمت اليوم ضرورة معرفية في زمن التفريط بالمقامات؟ إن الخلل لا يكمن في غزارة الفتاوى فحسب، بل في هشاشة البنية العقلية لمُنتِجها ومُتلقّيها على السواء. وهنا تُطرح أسئلة مصيرية حول المعايير، والشرعية، وحدود الاجتهاد، في زمنٍ تداخلت فيه العمامة مع الميكروفون، والمقصد الشرعي مع الحسابات الدعائية – أولًا: فتوى بلا أرض… من يُفتي لغير أهله؟ هل يمكن أن تستقر الفتوى في أرضٍ لم تُفهم تضاريسها، ولم تُستوعب ثقافتها الاجتماعية؟ وهل يمكن أن تكون للقول الشرعي وجاهة، حين يُفصَل عن الواقع الذي يُفترض أن يُضيئه؟ تلك إحدى أبرز الإشكالات التي تحوّلت إلى معضلة مركبة في زمننا: أن يُفتِي بعض المشايخ دون اعتبار لا لسياق، ولا لخصوصية مجتمعية، ولا لتعقيد سوسيو-ثقافي، فتأتي فتاواهم كالحكم على أناس لا يعرفونهم، ولا يعايشونهم، بل لا يفقهون وجعهم اليومي. ليست المشكلة في القول الديني من حيث هو، بل في أن يتحوّل إلى سلطة ناطقة باسم الله دون أدواته، فيُربَط مصير الناس بأقوال لا نص فيها، ولا إجماع، ولا مقصد شرعي، بل في كثير منها خلطٌ بين الهوى والتقليد. في مثل هذه السياقات، تصير الفتوى مدخلاً للمظلومية، لا مرجعًا للهداية، ويُسْتَدعى بها الاستبداد الناعم باسم 'الدين'. – ثانيًا: هشاشة الوعي وإدمان الاتّباع… من يصنع من؟ أيّهما يصوغ الآخر: فتاوى العجز أم عجز الوعي؟ وهل تصدر الفتاوى الهشة فقط لأن من يُفتون كذلك، أم لأن من يتلقّونها يفتقرون إلى مناعة عقلية ونضج إيماني؟ إنها معادلة جدلية لا تنفكّ: وعيٌ هشّ يطلب اليقين السهل، ومُفتٍ جاهل يُعطيه من فقره فتوى تُطمئنه زيفًا، فيدفع ثمنها الفرد والمجتمع. وما بين الطرفين، يتكرّس منطق التدين الانفعالي، القائم على الخوف من العالم، لا على فهمه. النتيجة أن بعض الفتاوى ـ وإن بدت دينية ـ تُنتِج آثارًا اجتماعية وسياسية واقتصادية وثقافية، تُرسّخ الإقصاء، وتُغذّي الانغلاق، وتُبرّر التبعية، بل وتعيق مشاريع التقدّم الحضاري، لأنها تنطلق من نصّ لم يُفهم، أو من واقع لم يُقرأ، أو من عقل لم يُدرّب على التفكيك والتركيب. ثالثًا: علم الدين بين قداسة النص وخفّة التأويل هل يجوز أن يُستباح القول في الدين دون أدوات معرفية صارمة؟ وهل يُمكن لمن لا يملك بوصلة أصول الفقه ولا أدوات الاستنباط ولا الوعي باللسان العربي وسياقات النص، أن يُصَدَّق حين يُفتي؟ الدين ليس رأيًا في ندوة ثقافية، ولا تعليقًا عابرًا على منصّة اجتماعية. هو علم دقيق، تراكمي، ذو بنية مفهومية ومقاصدية، لا يُخاطب الظواهر فقط، بل يعبر إلى الجذور، وينبني على اجتهاد مُركب. ولذا، فإن من يفتون دون تأهيل علمي عميق يُساهمون في هدم ثقة الناس بالدين، لأنهم ينقلون النصوص من سياقاتها، ويُحوّلون الفقه إلى تصوّرات جامدة تُقزّم الدين نفسه. هنا تحديدًا، يغدو القول في الدين نوعًا من العبث القاتل، كما حذر الإمام مالك: 'من تكلم في الدين بغير علم فقد هلك وأهلك.' – رابعًا: عُقدة 'العامّة'… من يُحاكم من؟ ما معنى أن يُجادل من لا يفقه؟ وما مآل أن يحاكم من لا يملك أدوات المحاكمة؟ نقف أمام ظاهرة عجيبة: أن يُقبل غير المتخصصين على مجادلة المختصين، لا بالعلم ولكن بالانطباع، ولا بالدليل ولكن بالرأي المتوارث أو المتأثر بمنابر عشوائية. ظاهرة تُمثّل انعكاسًا لتراجع قيمة التخصص، وتضخم 'أنا' متورمة بالثقة الجاهلة. ليس المقصود هنا الحجر على التفكير أو الرأي، بل التحذير من أن تتحول ساحات النقاش إلى مجال لمَن لا يفرّق بين الظنّ واليقين، وبين النسبي والمطلق، فيَغدو النقاش صراعًا انفعاليًا لا بناءً معرفيًا. – خامسًا: المنكر في صورته المركبة… لا اختزال في الشرّ أليس المنكر أوسع من أن يُختزل في مظاهر أخلاقية سطحيّة؟ إنّ القرآن حين دعا إلى النهي عن المنكر، لم يُحدّده في صورة واحدة، بل جعله عنوانًا شاملاً لكل اعوجاج في الاجتماع الإنساني، فقال تعالى: {وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ ۚ وَأُولَٰئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [سورة آل عمران: 104]. فالمنكر الاقتصادي، والسياسي، والاجتماعي، والتدبيري، لا يقلّ خطورة عن المنكر الأخلاقي. ومن يُقصِر الإنكار على الملبس والسلوك الفردي، ويصمت عن الفساد المالي، أو الاستبداد السياسي، أو التهميش الثقافي؛ يُزيّف وعي الناس ويُقزّم الدين إلى سلوكيات شكلية، بينما تُنهَب الأوطان تحت غطاء الصلاح الظاهري. – سادسًا: حكمة الصمت… حين يصير الجهل جريمة هل يكفي أن نملك صوتًا لنقول؟ أم يجب أن نعرف قبل أن نتكلم؟ كثيرٌ من 'الناطقين باسم الدين' نسوا أنّ الصمت أحيانًا أصدق من قولٍ بغير علم. وأنّ الجهل حين يتزيّا بلبوس الفتوى، يُنتج كوارث معرفية واجتماعية وروحية. ولذلك، كانت دعوة القرآن واضحة: {وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ؛ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَٰئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا} [سورة الإسراء: 36]. الصمت هنا ليس خوفًا، بل وعيًا بمقام الكلمة، ومسؤولية القول، وخطورة العبث بالدين، سواء عن قصد أو جهل. إن من يعرف حدود جهله، هو وحده من يستحق أن يُصغى إليه حين يتكلّم، لأنه حين يصمت، يُعلّمنا أن ليس كل سؤال يُجاب، ولا كل رأي يُعلَن، ولا كل من لبس العمامة صار عالمًا. * خاتمة: في السؤال المصيري… من يفتي ومن يفهم؟ ما الذي يجعل من 'القول بغير علم' أخطر من مجرد خطأ؟ إنه لا يُنتج فقط فهماً مشوشًا، بل يصوغ واقعًا مغلوطًا، ويصنع أنماطًا من التدين المنغلق، ويُفسد من حيث يُراد الإصلاح. حين تختلط سلطة الدين بجهل التأويل، يصبح الجهل منظومة، والخطأ سياسة، والتدين عبئًا بدل أن يكون بصيرة. وهنا، يصير السؤال المصيري الذي يُطل من خلف كل هذا النص: هل نملك الشجاعة لنفصل بين 'من يُفتي' و'من يفهم'، بين 'من يلبس العمامة' و'من يفقه النص والسياق'؟ وهل آن أوان إعادة الاعتبار للعقل والنص معًا، بدل تسليم الدين لأهواء الجهلة؟ * نبذة موجزة حول الدكتور شَنْفَار عَبْدُ اللَّهِ؛ مفكّر وباحث مغربي متخصّص في العلوم القانونيّة والاقتصاديّة والاجتماعيّة، وناشط في الرصد والتحليل السياسي والاجتماعي والاقتصادي والثقافي والبيئي. له عدة إسهامات فكريّة ومقالات تحليليّة ترصد التحوّلات المجتمعيّة وتقدّم قراءات نقديّة للتحديات الراهنة في المغرب والعالم العربي والإسلامي، من أبرز مؤلفاته: الإدارة المغربية ومتطلبات التنمية (2000). الفاعلون المحليّون والسياسات العموميّة المحليّة (2015)، والفاعلون في السياسات العموميّة الترابيّة (2020). إيطاليا تلغراف السابق كيف تُعيق 'الصدمة الثلاثية' عودة السوريين إلى وطنهم؟

حكم بالإعدام قبل الميلاد
حكم بالإعدام قبل الميلاد

الشروق

timeمنذ 12 ساعات

  • الشروق

حكم بالإعدام قبل الميلاد

مَن مِن الكائنات العاقلة وغير العاقلة يخطر بباله ويسرح في خياله أن يوجد مثل هذا الحكم، وهو الحكم بالإعدام على مولود مايزال في صلب وترائب أبويه؟ لا يمكن أن يخطر مثل هذا الحكم إلا على من إذا ذكر اسمها ضجت الخلائق كلها لبشاعتها، ولا أعني إلا فرنسا المجرمة، فسجّل تاريخ القضاء 'براءة اختراع' هذا الحكم باسم هذه الدولة ذات التاريخ الأسود في العالم كله، إنها فرنسا المدعية لكل جميل، ولا تفعل إلا كل قبيح. عندما قدّر الله – عز وجل- أن يؤسس، الخيرة في الجزائر 'جمعية العلماء المسلمين الجزائريين، رخصت لهم فرنسا ذلك، ظنا منها أن هذه الجمعية كالجمعيات التي أسست على عينيها اللتين أعماهما الاحتفال القرني الذي زعمت فيه فرنسا الصليبية أنها لا تحتفل بمرور قرن على تدنيسها الجزائر الطاهرة، ولكنها تحتفل بتشييع 'جنازة الإسلام' في هذه الربوع، وأن 'الصليب حطّم الهلال' كما زعم أحد كبار سفهاء فرنسا. وهل يوجد في فرنسا غير السفهاء؟ ما أن حال الحول على تأسيس هذه الجمعية المباركة حتى استيقنت فرنسا المجرمة أن هذه الجمعية ليست كأحد من الجمعيات، فبدأ مكر الليل والنهار ضد هذه المعية، والكيد لها، والتربص بها لدرجة أنها أصدرت قرارا يمنع نوادي الجمعية من بيع المشروبات من شاي وقهوة حتى تفلس وتغلق أبوابها، ألا لعنة الله على فرنسا. أوحت فرنسا إلى بعض من تسرّب إلى جمعية العلماء أن يخبلوا أمر الجمعية، وأن يخربوها من داخلها فأسسوا جمعية 'ضرّة'، حملت اسما شريفا لتحقيق مهمة قذرة، وهو 'جمعية علماء السنة' – فكانت كمن ولد من سفاح ووالداه مسيلمة الكذاب وسجاح. سل أعضاء الجمعية الحرة أقلامهم، وسددوا ضرباتهم القائلة إلى هذه الجمعية التي سماها الإمام الإبراهيمي جمعية 'السنة الكسكسية'، لأن أعضاءها هم من أصحاب 'الزردات والوعدات' كما يقول المرحوم سي مولود قاسم، فكانت جريدة 'السنة المحمدية'، لم تصبر فرنسا المجرمة على لهجة 'السنة النبوية المحمدية' فعطلتها بعد 13 عددا، فأصدرت الجمعية جريدة 'الشريعة النبوية المحمدية'، فأوقفتها فرنسا بعد 7 أعداد، فأخرجت الجمعية جريدة 'الصراط السوي'.. استفحل كلب فرنسا فأصدرت قرارا بتوقيف 'الصراط' بعد 17 عددا، وقد ذيلت هذا القرار بحكم بشع بشاعة فرنسا وهو: 'لا يسمح لهذه الجمعية أن تصدر أية جريدة في المستقبل'. سخر الإمام الإبراهيمي من فرنسا 'الديمقراطية' بقوله إن فرنسا بتذييلها ذاك كانت كمن يحكم بالإعدام على مولود قبل ولادته. آه لو أن لي قوة لأذقت فرنسا ضعف الحياة وضعف الممات، لأنها 'مجرمة بالفطرة' كما يقول رجال القانون، ولأنهم كما قال شاعر: رأيت آدم في نومي فقلت له أبا البريّة: إن الناس قد حكموا أن 'الفرانس' نسل منك، قال إذن حواء طالقة إن صح ما زعموا

عميد جامع الجزائر يستقبل الرئيس اللبناني
عميد جامع الجزائر يستقبل الرئيس اللبناني

النهار

timeمنذ 15 ساعات

  • النهار

عميد جامع الجزائر يستقبل الرئيس اللبناني

استقبل عميد جامع الجزائر، الشيخ محمّد المأمون القاسمي الحسنيّ، صبيحة اليوم، فخامة رئيس الجمهورية اللبنانية، جوزاف عون، وذلك في ختام الزيارة الرسميّة التي قام بها إلى الجزائر. وفي كلمة ترحيبيّة، عبّر العميد عن تقدير جامع الجزائر لهذه الزيارة، مؤكّدًا مكانة #لبنان التاريخية في الوجدان الجزائري والعربيّ، ومعربًا عن أمله في أن تشكّل المناسبة دفعة جديدة للتعاون الثقافيّ والعلميّ والدينيّ بين البلدين، عبر مؤسّساتهما المرجعية، بما تزيدها قوّةً ومتانة. كما قدّم الشيخ القاسميّ للضيف الكريم عرضًا مختصرًا عن رسالة جامع الجزائر، وأبعاده الروحيّة والعلميّة والحضاريّة، 'في ضوء تطلّع الجزائر إلى إرساخ خطاب دينيّ وسطيّ، ومعتدل، وسياديّ'؛ مشيرًا إلى أنّ 'هذا الجامع يُعتبر حصن المرجعيّة الدينيّة الجامعة'؛ وفق رؤية جديدة تندرج ضمن التصوّر العميق للسيّد رئيس الجمهورية عبد المجيد تبّون في بناء مؤسّسات ذات وظيفة روحيّة وسياديّة في آنٍ واحد. وفي ختام الكلمة، دعا عميد جامع الجزائر بأن يحفظ اللهُ لبنانَ وأهلَه؛ ويقيه شرّ الفتن؛ ويظلّ واحة حوار وتلاقٍ كما عرفه العرب والإنسانية. وتوجّه بالدعاء بعاحل الفرج والنصر لأهلنا في فلسطين، وأن يرفع الله عنهم الظلم والعدوان، ويكتب لهم التحرير والتمكين. وعبّر الرئيس اللّبنانيّ، من جهته، عن شكره على حفاوة الاستقبال، مُبدِيًا إعجابه بجمال هذا الصرح الدينيّ، وهيْبته المعمارية، ورسالة السكينة التي يبعثها المكان. كما أعاد التأكيد على عمق العلاقات بين الجزائر ولبنان، الّتي تعود إلى عصور بعيدة، منذ العهد الفينيقي، وتتجدّد اليوم بروح الوفاء والتكامل.

حمل التطبيق

حمّل التطبيق الآن وابدأ باستخدامه الآن

هل أنت مستعد للنغماس في عالم من الحتوى العالي حمل تطبيق دايلي8 اليوم من متجر ذو النكهة الحلية؟ ّ التطبيقات الفضل لديك وابدأ الستكشاف.
app-storeplay-store