
القراءة المتربصة بين التاريخ والثقافة: تفكيك نقدي
الدكتور وليد أبو ملحة يعرف نفسه في تويتر/إكس بأنه (عضو جمعية كتاب الرأي) وهذا بلا شك لقب فخم فاخر مذهل في تميزه وعبقريته، يستحق أن يخلد في سجلات الإنجاز الثقافي! لحظة قراءتي لهذا التعريف، انتابتني قشعريرة مهيبة، ورهبة اعتزاز سمت بي إلى آفاق طه حسين والعقاد من العرب، وامرسون ومونتيني من العجم، وكدت أتوهم أنني أقف على منعطف تاريخي للثقافة العربية!
لم يكن هذا الشعور بسبب عضوية الدكتور وليد فحسب، بل لأنه رفعني بذكر اسمي مشكوراً في مقاله (القصيمي متمرد ساخط على المجتمع) الذي جاء تعقيباً على مقال (القصيمي وجرأة التنوير... فروسية فكر بلا سرج ولا لجام)، لكن سرعان ما تلاشى هذا الشعور، حين أدركت موقعي المتواضع، فأنا لست بمستوى الدكتور وليد، ولا أنتمي إلى أي ناد ثقافي أو جمعية أدبية، ولا أحمل أي ألقاب براقة يمكن أن تثير (رهبة الجماهير المثقفة). ثم جاءت لحظة الحقيقة الحاسمة عند مراجعتي لمقالي، فوجدته مجرد نقولات متفرقة، كان أبرزها (دفاع القصيمي عن نفسه أمام خصومه) وهو دفاع يكفي ولا يحتاج إلى إعادة تكرار.
أما عن الدكتور وليد أبو ملحة، فإني أرى من المناسب أن يعود إلى كتاب «آفة الحرس القديم» الذي جمعه وأعده علي فايع الألمعي، فربما يجد فيه ما يخرجه من (ظلال الحرس القديم) وهو توجه تأكد لي عند تصفحي لأرشيفه، حيث تفاجأت بمقاله: «شارع الأعشى لا يشبهنا في شيء» الذي يهاجم فيه مسلسلاً مقتبساً عن رواية الدكتورة بدرية البشر «غراميات شارع الأعشى». في نهاية مقاله استخدم عبارة شديدة اللهجة كثيراً ما سمعتها من الحرس القديم: «ليس من حق أي كاتب أو صانع دراما أن ينقل الواقع كما يحب هو أن يكون...» بهذه الجملة، لم يكتف بممارسة الوصاية على المسلسل وكاتبه، بل امتدت إلى القنوات الفضائية نفسها، هل يذكركم هذا بشيء؟ بالنسبة إلي، تذكرت فتوى عام 2008 بقتل ملاك الفضائيات العربية التي استنكرتها وسائل الإعلام العالمية، كما تذكرت كتاب «الحداثة في ميزان الإسلام»، الذي قدم فيه المؤلف نفسه كمتحدث باسم مليار ونصف مسلم، مستخدماً قطعيات تشبه من يرى أنه «الممثل الوحيد للإسلام والنبوة والوحي»، وهي رؤية تجعل حتى «وثيقة مكة المكرمة 2019» عرضة للنقد من هؤلاء بحجة مألوفة نعرفها جيداً: «تمييع الدين وإضعاف الإسلام».
لا أنوي تحميل الدكتور وليد أبوملحة وزر (الحرس القديم) فهو إنسان مستمتع بالحياة، والدليل متابعته الدقيقة لمسلسل «شارع الأعشى» رمضان الماضي، دون أن يغير القناة بحثاً عن دراما أكثر انسجاماً مع تحفظاته الدينية والفكرية، بل تابع بشغف، ثم اختتم الشهر بمقال استنكاري، وكأنه بعد الاستمتاع، قرر أن يتمضمض بمقال يندد بالمحتوى الذي تابع تفاصيله حتى النهاية!
هذه الظاهرة تذكرني بمفهوم (الاستشراف)، الذي كتب عنه الدكتور فالح العجمي في مقاله (فئات المستشرفين...) بصحيفة اليوم 2017، كما كتب عنه الدكتور عبدالرحمن الشلاش في صحيفة «الجزيرة» بعنوان أشد قسوة، وفي رأيي، أن المستشرف أقرب إلى (متلازمة ستوكهولم) منه إلى (الوعي بتموضعه الفكري).
بين البداوة والحضارة أعترف أنني أتعلم (التواضع العلمي والحلم الأخلاقي) من أمثال الدكتور وليد أبو ملحة، لذا أراعي وأتفهم (تعدد الأفهام) بين: (راعي الغنم المثقف) وهو الأقرب للبداوة من أمثالي، وبين (ابن المدينة المترف) وهو الأقرب للحضارة من أمثاله، فالبداوة التهامية تفرض علي (العفوية والصدق) دون حسابات (القراءة المتربصة) التي وصفها محمد زايد الألمعي بدقة حين قال (القراءة المتربصة أسوأ من عدم القراءة، فهي تعيد إنتاج جهلها بوهم أنها قرأت وفهمت، ومن ثم تورط قارئاً آخر في الوهم ذاته).
القراءة المتربصة تاريخ طويل، والبحث في تراثنا العربي يكشف جذور (القراءة المتربصة)، التي تعود إلى زمن ابن قتيبة (213 - 276هـ) فقد بدأ كتابه «عيون الأخبار» بتحذير واضح ضد هذا النوع من الفهم السطحي للنصوص، قائلاً «فإذا مر بك أيها المتزمت حديث تستخفه.. فاعرف المذهب فيه، وما أردنا به، واعلم أنك إن كنت مستغنياً عنه بتنسكك، فإن غيرك ممن يترخص فيما تشددت فيه محتاج إليه...» لكن هذه النزعة تفاقمت بعد (هجمة المغول 656هـ) كمؤشر إلى (الانحطاط الحضاري)، فازدادت معها (سطوة القراءة المتربصة)، التي لا علاقة لها بالنقد الحقيقي، بل هي نوع من (الملاحقة الفكرية) للتراث العربي، بحيث لو استطاعت لحاربت (رسالة الغفران) لأبي العلاء المعري (ت 449هـ)، وقبله التوحيدي (ت 414هـ) وقبلهما الجاحظ (ت 255هـ)، وحتى بعض كتب التفسير التراثية لن تسلم!
من يقرأ التاريخ يرى كيف استهدفت هذه النزعة كتباً كثيرة، مثل «رسائل إخوان الصفا» في القرن الرابع الهجري، وحتى «الأغاني» لأبي فرج الأصفهاني (ت 356هـ)، فكيف بالنواسي وديوانه (ت 198هـ) الذي جمع أخباره ابن منظور (ت 711هـ)، بل امتدت لعصور طويلة بدءاً من ابن المقفع (ت 142هـ)، جابر ابن حيان (ت 200ه)، الكندي (ت 256هـ)، الفارابي (339هـ)، ابن الهيثم (ت 430هـ)، ابن سيناء (427هـ)، وابن رشد (595هـ) وغيرهم كثير في التاريخ العربي.
(لا نريد عودة الماضي) عزيزي القارئ، لا تدفع نفسك إلى تلك (الأوهام الفكرية)، ولا تتأثر بما عايشته خلال معرض الرياض الدولي للكتاب في سنوات مضت: شجار هنا، صراخ على دار نشر (ملحدة) هناك! حتى (طاش ما طاش) استعرض هذه الظواهر سابقاً. إنها (سنوات لا نريدها أن تعود) ونأمل لمن تأخر في تجاوزها أن يجد (شفاء عاجلاً)، ولمن خلصنا منها أن يزداد قوة وتمكيناً.
هاشتاغز

جرب ميزات الذكاء الاصطناعي لدينا
اكتشف ما يمكن أن يفعله Daily8 AI من أجلك:
التعليقات
لا يوجد تعليقات بعد...
أخبار ذات صلة


عكاظ
منذ ساعة واحدة
- عكاظ
محمد زايد الألمعي.. البحث عن ضالةِ روحٍ قلقة
/*.article-main .article-entry > figure img {object-fit: cover !important;}*/ .articleImage .ratio{ padding-bottom:0 !important;height:auto;} .articleImage .ratio div{ position:relative;} .articleImage .ratio div img{ position:relative !important;width:100%;} .articleImage .ratio img{background-color: transparent !important;} محمد زايد الألمعي محمد الحرز درس محمد زايد الألمعي، زراعة المناطق الجافة، كان يظن أنه سيرتبط بالأرض التي هجرها منذ خروجه من الطفولة، ويعيد امتلاك زمنها من خلال امتلاك أدواتها، واسترجاع زمن الناس الذين عاشوا أوقاتها بكل براءة ومحبة. لكنه لم يجد ضالته لروحه القلقة التي هي روح الشاعر بامتياز سوى أن يكون قريباً من الصحافة والعمل الثقافي، وهكذا ارتبط اسمه منذ البدايات محرراً للصفحات الثقافية في جريدة البلاد بينما كان نشاطه مع زملائه في نادي أبها الأدبي الذي ترأس لاحقاً إدارة مجلسه لفترة محدودة، تمخض عنها تأسيس مجلة بيادر الأدبية التي صدر عددها الأول عام 1986م وضمّت مساهمات لأسماء بارزة من الشعراء والروائيين من جيل الحداثة في المملكة وأدبائها؛ منهم: محمد العلي، وعلي الدميني، ومحمد الدميني، ومحمد عبيد الحربي، عبدالعزيز مشري، رجاء عالم.. إلخ. ومن خلالها كان الحراك الثقافي الإبداعي الحديث يأخذ موقعه ويتقدم إلى الصفوف الأمامية في مشهدنا الأدبي، وكان بالطبع لمحمد زايد مساهمته الفاعلة، وأثره الواضح وبصمته التي لا تخفى على أحد. وفي زاوية أخرى من العمل الصحفي ارتبط اسمه من ضمن المؤسسين الذين أسهموا في العمل على تحقيق مشروع صحيفة الوطن التي تأسست في أبها عام 1998م وأصدرت عددها الأول عام 30 سبتمبر عام 2000م وقد كان شاعرنا حينها محرراً للقسم الثقافي ورئيساً له. لكنه في خضم هذا الشغف الدائم في تماسّه بالثقافة في جانبها الصحفي، لم يكن ليغفل مساهماته المنبرية المميزة، إذ شارك في العديد من الفعاليات والندوات الشعرية والأدبية والفكرية على مستوى المملكة وعلى مستوى الوطن العربي، ومنها ترسخت شخصيته في الوسط الثقافي بوصفه شاعراً أولاً ثم بوصفه مفكراً ثانياً، ألم يقل عن نفسه «شاعر دائماً، كاتب أحياناً» في إشارة دالة على أن بوصلته لا تشير إلى جهة غير الشعر، وإذا ما أراد أن يستريح قليلاً من طراد أحصنته للوصول إلى تلك الجهة، نراه تحت ظلال شجرة الفكر يتأمل ويسائل ويبحث عن إنسانه الخاص ويستجدي عوالمه، وكأنه يعيد صياغة ما تهدم منه. يقول في مطلع قصيدة له بعنوان «توسلات لموت الآخر»: فديتك يا سيداً ماثلاً في دمائي أفاصلك الآن في نظراتي.. وأقسم ألاّ سواك يمزقني حين آوي إلى جبهتي الباردة أنت مني سوى أنني نافر منك عني ومن ذا يرى نافراً من دمه ؟ أمزق وجهي عليك ولكنني حين أدنو أراك تتابع ما أصطلي ثم تشنقني بالدمع والتعاويذ والتمتمات. ترى كم سكنا قباب البكاء ؟ وكم ننحني فوق فكرتنا الجاحدة ؟ فإذا لم تكن ذات الشاعر هي المنادى بها هنا بالسيد، تلك المختبئة في أعماقه، فما عساها أن تكون؟! وربما محمد زايد في مواقع كثيرة من قصائده يعطي الشعر قدراً من التجلي تحت تسميات عديدة من الكلمات أبرزها «الولد»، فظاهر الكلمة لا تعني باطنها، لكنها أيضاً لا تشكل عنده رمزاً شعريّاً كما نراه عند بقية الشعراء من جيله، بل هو هاجس يلح عليه إذا ما ألح عليه الشعر، يستمده من عالم طفولته ومن وجدانه الذي لا ينفك يحفزه على رؤية العالم بعيون بريئة كالطفل؛ حتى يستطيع تشكيل العالم من جديد، يقول: علمني الولد الأنقى الولد المجنون الأسعد والأشقى أن أقترح سماوات داكنة غامضةً فأرتبها نجما نجما وألاقحها برقا برقا علمني: أن أتشبث بالأسئلة الأولى كي أبقى، قال: ازدد رفضا تزدد عمقا! وظل محمد زايد يحمي قصيدته من سقوطها في فخ الصرامة العقلية للفكر، ويذود عنها صلابة الأفكار الكبرى باعتبار خلوها من الحساسية الإنسانية التي جرفت معظم تجارب شعراء الحداثة في الوطن العربي. فديمومة الشعر وسيولته عند الشاعر محمد زايد تكمنان في خبرته الروحية وليس فكره ووعيه الوجودي المجرد وحسب، وإن كان يوظف هذه في تلك، ولكن توظيفاً يكسب الشعور الإنساني عمقاً وأكثر صفاء للمعنى والدلالة، يقول: دائما أتعثّر بأشياء تافهة لا تستحق الشعر أشياء تشبه وعثاء الفكرة وعثاء الزمن المنحط تشيه مخبولين يرجمون السابلة ويشتكون لقبور آبائهم من قطاع طرق يسلبون منهم البكاء ويقرأون الفاتحة.. دائما أجدهم يتآكلون وتنمو في ترابهم أشياء تافهة لا تستحق الشعر! التافه من الأشياء الذي لا يستحق الشعر لا يقوله محمد زايد انطلاقاً من موقف مسبق يسميها «وعثاء الفكرة والزمن المنحط»، إنما يقوله وفق ما يضفي عليه إحساساً مكثفاً لا ينشأ سوى من خبرة الذات بالحياة: فأفعال التعثر وأجدهم ولا تستحق هي روافد لهذا الإحساس، يدعمها بالمقابل الصورة الشعرية التي تعمق الخبرة بهذا الإحساس: مخبولين يرجمون السابلة... لذلك ما لا يستحق الشعر يتوارى خلفه ما ينبغي أن يقال، وما ينبغي أن يتسرب إلى سطح القصيدة كي نحس معه بالتافه من الأشياء. هكذا يمسك محمد زايد من زمام قصيدته، يقلّبها على جمر الاحتراب الداخلي بين ما يفور به وجدانه وبين ما يراه عقله ووعيه، حتى إذا ما نضجت واستوت دون أن ينتصر طرف على آخر، فاحت رائحتها ونضج جلدها وهيأت نفسها للمتلقي على أتم ما يُرتجى. وهذا مثال واحد من بين العديد من الأمثلة الأخرى التي يمكن أن نستلها من تجربته، لتؤكد لنا أن قصيدته تذهب إلى عمق الحياة لاقتناص حقيقتها واستخراج كنوزها المخبوءة في الأرض، كل ذلك وهي مدفوعة بوجدانه وبوعيه المتلازمين كطفلين سياميين. أخبار ذات صلة


الشرق الأوسط
منذ 3 ساعات
- الشرق الأوسط
أفلام مصرية على «أمازون»
> أبرم الزميل سامح فتحي اتفاقاً يستحق التقدير. في الشهر المقبل، ستَعرض منصَّة «أمازون» مجموعة كبيرة من الأفلام المصرية التي كان الزميل قد حاز على حقوقها ورمَّمها. > ليس هناك من بين المعنيين من يحرص على ترويج أفلام السينما المصرية القديمة كما يفعل سامح فتحي، وذلك منذ سنوات عدّة. لكن الاتفاق الحالي بينه وبين «أمازون» هو بمثابة قمَّة نشاطاته في هذا المجال حتى الآن. > من بين المجموعة التي ستعرضها المنصة المذكورة: «أيامنا الحلوة» لحلمي حليم (1955)، و«أمير الدهاء» لهنري بركات (1964)، و«الحاقد» لريمون منصور (1962)، و«كلهم أولادي» لأحمد ضياء الدين (1962). > لا تستدعي المناسبة عملية تقييم نقدية. معظم هذه الأفلام، وسواها من إنتاج الخمسينات والستينات، كانت جماهيرية بمستويات دون المقبول، لكنها كانت أيضاً السبب في ولادة الموجة المصرية الجديدة في السبعينات والثمانينات بوصفها ردَّ فعل رافضٍ لها. الواقع أن كل الموجات السينمائية في العالم، من بريطانيا إلى فرنسا والبرازيل والولايات المتحدة والعالم العربي، تزامنت في نهضة واحدة خلال تلك الفترة بصفتها حركة رفضٍ ورغبة في تجاوزِ السينمات السابقة. > من ناحية أخرى، كثيرٌ من الأفلام القديمة (كما نسميها) يبدو اليوم أفضل من الجديد السائد. المسألة ليست تحديث تقنيات وبلورةً «أسلوبية» ترقص فيها الكاميرا، ويُمنح كل ممثل 15 ثانية لإلقاء قنبلة حوارية خاطفة. أفلام الأمس استندت إلى تفعيلِ مناهجَ عملٍ، بصرف النظر عن قيمتها الفنية. > عبارة «الزمن الجميل» المنتشرة منذ سنوات هي رمزية أكثر منها وصفاً حقيقياً. في ذلك الحين، نظرَ نُقاد الفترة إلى أفلام حلمي رفلة، وحلمي حليم، ونيازي مصطفى، وحسام الدين مصطفى، وأحمد ضياء الدين، وسواهم نظرة نقدية حادَّة. هذه هي النظرة نفسها التي يُوجِّهها نُقاد اليوم صوب أي فيلم يخفق فنياً.


الرياض
منذ 4 ساعات
- الرياض
خدم الوطن في القضاء.. وأفاد المجتمع بالوعظ والإرشادسليمان بن جمهور.. الناصح الأمين
لقد حُبب إليّ فن التراجم والسير منذ أن تعلقت بالقراءة وحب الكتاب، هذا فضلًا عن الالتقاء بالعلماء والأعيان الذين يسّر الله الطريق إليهم وسؤالهم عن حياتهم وسيرتهم ومواقفهم وعن كل ما يتعلق بمشوارهم، حتى كبار السن الذين ليسوا علماء ولا من الوجهاء أعشق الجلسة معهم وسماع حديثهم، وكما قال أستاذنا يعقوب الرشيد الدغيثر -رحمه الله-: "جالس من هو أكبر منك بعشرات السنين لتستفيد من تجربته وتتقي الأخطاء التي وقع فيها"، وهو ممن لازمته سنوات وأفدت من معلوماته وتجاربه فهو تاريخ متنقل وكنوز من المعرفة والمعلومات الحية. ومن الذين كنت أبحث عن حياتهم وسيرتهم وأسأل عنهم الفقيه القاضي الرحالة والشاعر الشعبي النحل سليمان بن محمد بن سليمان بن منصور بن جمهور -رحمه الله-، ومن الذين سألتهم عنه الأديب والرواية والقاضي حمد بن إبراهيم الحقيل -رحمه الله-، وحدثني أنه شاهده في المجمعة واعتقد أنه قال إنه زار والده في منزله وأثنى عليه وأنه صاحب نكتة ومرح، وقد ذكره الحقيل في كتابه (كنز الأنساب) وروى عنه بيتين من الشعر الشعبي سوف أرويها عنه؛ لأنني سمعتها منه عدة مرات، وقد كتبت عن سليمان بن جمهور عدة أسطر في مقالة من حلقتين عن القضاة الذين نظموا في الشعر الشعبي في صفحة "خزامى الصحاري"، وفي "سطور المشاهير" سوف نلقي الضوء على حياة ومسيرة ابن جمهور من خلال بعض المراجع التي وثقت سيرته. وأصل أسرة سليمان بن جمهور -رحمه الله- من الطائف، ثم انتقلت إلى نجد وبالتحديد في بلدة جلاجل وهذه البلدة من إقليم سدير. كتاتيب جلاجل وذكر المؤرخ الفقيه عبدالله البسام في (كتابه علماء نجد خلال ثمانية قرون) -المجلد الثاني- سيرة سليمان بن جمهور -رحمه الله-، وأنه من مواليد عام 1265هـ، وكذلك حدد محمد القاضي -رحمه الله- في كتابه (روضة الناظرين) -الجزء الأول- في ترجمة ابن جمهور التاريخ نفسه. ونشأ سليمان بن جمهور في جلاجل وقضى صباه وطفولته فيها ثم تعلم في كتاتيب هذه البلدة وحفظ القرآن الكريم، وهذه البلدة العريقة هي بلدة المؤرخ الشهير عثمان بن بشر -رحمه الله- مؤلف (عنوان المجد في تاريخ نجد) حيث ألّف تاريخه في جلاجل وتوفي 1290هـ فيها، ومن المؤكد أن ابن جمهور قد رأى وشاهد المؤرخ ابن بشر؛ لأنهما في بلد واحد، لكن هل أخذ عنه العلم أو جالسه لا علم لي بذلك، وحينما توفي ابن بشر كان عمر شخصيتنا خمس وعشرون عاماً فهو رجل يدرك جل ما حوله. عمر مديد وعاصر سليمان بن جمهور -رحمه الله- الإمام فيصل بن تركي في مرحلته الثانية الدولة السعودية الثانية، فقد طال عمر ابن جمهور وتوفي وعمره ستًا وتسعين عاماً، عمر مديد وحياة طويلة ومسيرة ذات محطات كثيرة متنوعة وثرية وليست عابرة فقط، وللأسف الشديد إن علماء نجد أو الذين يجيدون الكتابة من أهالي نجد لا يقيدون مشاهداتهم حينما يجوبون الأقطار ويقطعون القفار والوهاد، فهذا شخصيتنا من هؤلاء الذين لم يكتبوا تجربتهم في طلب العلم وعاصر أحداثًا كبيرة في نجد والجزيرة العربية وفي العراق، فهو رحالة ويكفي أنه عاصر بدايات عصر الدولة السعودية الثالثة على يد الملك المؤسس الملك عبدالعزيز منذ عام 1319هـ حتى إطلاق اسم المملكة العربية السعودية عام 1351هـ. رحّالة وجوّال وسليمان بن جمهور -رحمه الله- رحالة وجوال في طلب العلم من وهو من العلماء النجديين الذين طلبوا العلم خارج نجد، وكانت رحلته إلى العراق حيث العلم والعلماء في بغداد، وكانت بغيته آل الألوسي أشهر أسرة علمية في بغداد إن لم يكن في العراق، ولعل مجيء ابن جمهور إلى بغداد أوائل القرن الرابع عشر الهجري يعني ما بعد 1300هـ تقريبًا، يقول محمد بن عثمان القاضي في كتابه (روضة الناظرين) والبسام في (كتابه علماء نجد): إن شخصيتنا درس على العلامة نعمان بن محمود الألوسي، وهذا الأخير توفي 1317هـ، وكان قبل 1300هـ سافر إلى مصر لطبع تفسير والده روح المعاني وسافر إلى الشام وكانت له رحلات حتى استقر عام 1301هـ في بغداد حتى وفاته، وبهذا يكون ابن جمهور درس عليه بعد هذا التاريخ، والألوسي بحر من العلوم وهو رئيس المدرسين في بغداد، ولا أعلم كم المدة التي قضاها فيها، ولازم شخصيتنا كذلك العلامة المؤرخ اللغوي محمود شكري الألوسي مؤلف (النبذة التاريخية النجدية) وغيرها من المؤلفات وتوفي عام 1342هـ. الهند والزبير وبعد بغداد رحل سليمان بن جمهور -رحمه الله- عن طريق البحر إلى الهند، يقول القاضي في كتابه (روضة الناظرين) أنه التقى بعلماء الحديث، أمّا البسام فيذكر أنه سافر لأجل التجارة، ولعل الأمرين قد حصلت لشخصيتنا، وإذا التقى بعلماء الحديث من الممكن أنهم أجازوه بمروياتهم، رجع ابن جمهور إلى العراق مرةً أخرى وسكن إلى الزبير بقصد الدراسة على علمائها في الفقه الحنبلي، وعلماء الزبير حنابلة؛ لأنهم في الأصل نجديون، ونجد أغلبها حنابلة بل جلهم، وشخصيتنا من أهالي نجد من سدير، وكذلك مدينة الزبير فيها أغلبية من أهالي سدير، حطت رحال شخصيتنا في الزبير واعتكف بغرض العلم وتحصيله ولم يشتغل بأي شيء سوى ملازمة الدرس، فكان من العلماء الذين أخذ عنهم العالم محمد بن عوجان -رحمه الله- أخذ عنه الفقه والفرائض، وابن عوجان من فقهاء المذهب الحنبلي، وذكر البسام والقاضي أن شخصيتنا قد انتفع بملازمة هذا العالم انتفاعًا كثيرًا، وبهذا حفظ الفقه الحنبلي واستوعبه، وكذلك المواريث، ولعل هذا من حسن تدريس ابن عوجان لتلاميذه، فليس كل عالم أو طالب يجيد التدريس وإيصال المعلومة بأسلوب سهل وسلس، وقد يكون غزير المعرفة، لكنه لا يتقن الشرح وتفكيك المتون في الفقه والعقيدة والنحو، وبهذا صار شخصيتنا بعد هذه الرحلات العلمية من أهل العلم والمعرفة وكان أهلًا لأن يفتي ويقضي. قابل المؤسس وبعد سنوات كثيرة وعندما كبر سليمان بن جمهور -رحمه الله- في العمر اتجه إلى الرياض وقابل المؤسس الملك عبدالعزيز -رحمه الله-، وهنا يقول البسام عند مجيئه للرياض: فلما استقر الحكم للملك عبدالعزيز وزالت تلك الدعايات التي شوهدت العقيدة السلفية التي أحياها الشيخ محمد بن عبدالوهاب -رحمه الله- عاد ابن جمهور إلى بلاده «نجد»، وحلَّ بالرياض، واجتمع بالعلامة الشيخ عبدالله بن عبداللطيف، فعَّرف الملك عبدالعزيز به كما عرّف به أهل العلم، فأكرمه الملك كعادته في إكرامم أهل العلم وأمر بإنزاله في بيت وتأثيثه له وإجراء نفقات لائقة به، كما باحثه أهل العلم وصار له معهم اجتماعات عرف من خلالها صحة هذه الدعوة ونقاوتها وبعدها عن الخرافات والبدع، فدخلت الدعوة السلفية في قلبه، وصار هو من أكبر دعاتها، ويضيف البسام قائلاً: وحين أعفي من العمل استقر في مسقط رأسه بلده جلاجل إحدى بلدان مقاطعة سدير، فأقام فيها حتى توفي فيها عام 1361هـ، وقد أفادني الشيخ عبدالعزيز بن سليمان بن سعيد أحد قضاة محكمة التمييز بالمنطقة الغربية بأن لابن جمهور أحفاداً، وأنهم من طلاب العلم، وأنه زامل بعضهم في الدراسة. قاضي رنية وعيّن الملك عبدالعزيز -رحمه الله- سليمان بن جمهور -رحمه الله- قاضيًا لبلدة رنية، وهذا أول عمل قضائي يتولاه، ثم بعد ذلك عينه مرشدًا وواعظًا لهجرة «الصرار» عند قبيلة العجمان، وشخصيتنا من الوعاظ المؤثرين في نصحهم وإرشادهم، ولعل ذلك تأثره بشيخه نعمان الألوسي الذي وصف بأنه ابن الجوزي زمانه، ثم بعد ذلك عين مستشارًا عند نائب الملك صاحب السمو الملكي الأمير فيصل -الملك فيما بعد- فكان نعم المستشار الأمين الصادق، فكان يطرح رأيه بدقة حينما تطلب منه المشورة والمستشار، مؤتمن فيما استشير فيه، كأنه قاضي وأمامه الخصوم لا يميل مع أحد الطرفين وهكذا شخصيتنا، وكانت آخر أعماله في القضاء في أبها، ويروي الفقيه عبدالله البسام في هامش ترجمة شخصيتنا أن الوجيه عبدالله العسكر -أمير المجمعة سابقًا- لما عيّنه الملك عبدالعزيز أميرًا على أبها، طلب ابن عسكر من الملك عبدالعزيز أن يختار مرافقين معه إلى أبها، وأن يرسل معه قاضيًا ويكون في السنتين الأولى إمامًا للصلاة فقط، فاختار شخصيتنا إمامًا ثم بعد ذلك بعد سنتين قاضيًا معه. راعية الأثل وروى الباحث عبدالعزيز العويد -في إحدى مقاطع اليوتيوب- أن سليمان بن جمهور -رحمه الله- لمّا كان صغير السن اتجه هو وأخوه دخيل من سدير إلى القصيم، وكانت هذه السنة قاسية على نجد، فرحلا إلى القصيم طلبًا وسداً للرمق، فلما وصلا هناك مكثا فيه مدة ثم رجعا إلى سدير، وفي أثناء الطريق نفد ما معهما من الزاد والماء وسقطا مغشيًا عليهما، ومرت بهما امرأة وأنقذتهما وسقتهما وأطعمتهما، ووضعت عليهما شجر الأثل حتى يزول عنهما شدة الحر، وبعدما نشطا واستعدا للرحيل زودتهما بالماء والطعام، ولم ينس شخصيتنا هذا الفعل العظيم من هذه المرأة المحسنة، فلما كبر واشتد عوده خصص لهذه المرأة أضحية باسم راعية الأثل، وهذا من أعظم الوفاء وحسن العهد، ولولا عناية الله ثم هذه المرأة لأصبح شخصيتنا وأخاه من عداد الموتى. ليس مُكثراً وسليمان بن جمهور -رحمه الله- من الشعراء المجيدين للشعر الشعبي، والظاهر أنه ليس مكثرًا من الشعر ولم يتفرغ له، ولو بذل نفسه لأبدع كثيرًا، لكن الله اختار له ما هو أفضل، العلم والقضاء والنصح ونفع الأنام، ويروي الأديب القاضي حمد الحقيل -رحمه الله- بيتين فيهما طرافة لشخصيتنا وهما: مع السلامة يا القدوع والعود الأزرق واللحم بشر عيونك بالدموع من كثر تنفيخ الفحم كريم المنطق وقال حمد بن عبدالله بن خنين في مقالة له بمجلة «العدل» عن سليمان بن جمهور -رحمه الله-: كان عف اللسان كريم المنطق، من أبعد الناس عن الغيبة وسوء الظن والخوض في الخصومات، حريصاً على جمع الكلمة ورأب الصدع، كان إماماً في العبادة والتقوى وورعاً في المال والتعفف عن المغريات، كثير الإحسان إلى الناس يسعى في مصالحهم ويقضي ديونهم ويعين فقيرهم ويصلح ذات بينهم ويجيب دعوتهم ويشفع لمحتاجهم، وكان إماماً في العلم والفقه تحصيلاً وفهماً وتكييفاً، ثم صار إماماً في التعليم بذلاً وتوفراً ومداومة وتفهيماً، كما أنه إماماً في الإصلاح والاحتساب والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر مع المداراة واللطف والحكمة وتقدير المصالح والمفاسد، كم جرى بعد وفاته -رحمه الله- من محن وخطوب يتمنى المرء أن لو ظفر منه بجواب مسألة وكشف شبهة وفي الليلة الظلماء يفتقد البدر، فتح بابه وقلبه للناس، واستوعبهم بحبه وعطفه وحسن تعليمه لهم وحب الخير لكبيرهم وصغيرهم ما كان يستعصي عليه إنكار منكر مهما كان، لأنه كان ينكره بكل الحب واللطف واللين والحرص على هداية العاصي، كان الأهم الأبرز في جيله وعصره، ففي كل ملمة يفزعون إلى رأيه ومشورته، هكذا هم العلماء الربانيون وهكذا يكون أثرهم، وهكذا يكون الفراق والفقد ووجع رحيلهم، رحمة الله على هذا الشيخ الذي بذل حياته في العلم والتعليم والعبادة والنصح.