
الفلسفة والسينما: ابتكار المفاهيم وإنتاج الصور
الأخوان الفرنسيان، المهندسان أوغست ولويس لوميير، أخرجا وأنتجا فيلماً مدته نحو 50 ثانية، يدور حول وصول قاطرة بخارية إلى محطة بلدة لا سيوتا الفرنسية الساحلية. الفيلم عرض سنة 1895، ويُروى أنّ الهلع دهم المشاهدين الذين ولّوا هاربين خشية أن يدهمهم القطار.
لحظة الذعر تلك انتقلت من أبدان المشاهدين إلى أفكار الفلاسفة، فنشأ التفكّر في المعاني المستقرة لمفهوم الزمان والحركة. فقد جادل الفيلسوف الفرنسي هنري برغسون بأنّ للزمن وجهين؛ الأول هو "الزمن الموضوعي"، أي زمن الساعات والتقويمات وجداول مواعيد القطارات. أما الوجه الثاني، فهو "المدة"، أي "الزمن المعيش"، ويقصد به زمن تجربتنا الذاتية الداخلية، وهذا هو الزمن المُحسوس والمُعاش والمُفعول به، بحسب صاحب كتاب "التطور الخلاق" الذي يناقش أحدُ فصوله الآلية التي تعمل بها السينما.
وينظر إلى جيل دولوز باعتباره أهم الفلاسفة المعاصرين الذين سعوا إلى استقلالية السينما عن الفلسفة وفك تبعيتها، على أساس أنّ السينما ممارسة جديدة للصور وللسمات، وبالتالي ينبغي على الفلسفة أن تنشئ لها نظرية باعتبارها ممارسة مفهومية. لقد قالها دولوز بصراحة: ما تمنحه الفلسفة للسينما، تسترده من خلال إدراك نفسها في شكل أكثر واقعي.
وإذا كان برغسون أول فيلسوف أبدى اهتماماً بالفيلم، فإنّ دولوز (البرغسوني) ألمع "فيلسوف سينمائي" توقاً إلى "الشكل الخالص للزمن" الذي يعتبره أساساً للحداثة الفلسفية وللسينما. وربما هذا ما يجسده الفضاء المظلم لقاعات السينما، المليء بالأجساد التي تتوقف حياتها الحسية والحركية مع وجودها الاجتماعي. هذا الفضاء المثالي، وفق نقاد، يكشف ذلك "الشكل النقي للزمن"، حيث يُسمح فيه بالتوليفات الزمنية للذاكرة، فضلاً عن التوقع بفصل نفسها عن ثقلها في التجربة الاجتماعية النشطة اليومية.
قدرة السينما على التفلسف
وعلى الرغم من أهمية التنظير لعلاقة الفلسفة بالسينما، فإنّ ثمة جملة من الانتظارات تتصل بقدرة السينما على التفلسف، بمعنى أن تنشأ أفلام فلسفية تستنطق الأفكار المحضة. لقد شاء مخرج سينمائي أن يبدع فيلماً عن كتاب "رأس المال" لماركس، وفكر آخر بصناعة فيلم عن كتاب "مقال في المنهج" لديكارت، وكلا المخرجين لم يوفقا. ويفكر مخرجون آخرون في تحدي العوائق التي تحول دون تمظهر المفاهيم في زي صور وموسيقى وحركة وأداء يوقف سرد "الزمن الموضوعي"، وينقله إلى "الزمن المعاش".
على أنّ السؤال الذي يُطرح هنا: هل موضوع الفيلم هو ما يحدد طبيعته وجودته؟ وهل الفيلم هو مجموعة أفكار فلسفية منثورة أو مسرودة على لسان الشخصيات؟ وكيف يمكن أن تنشأ علاقة ترابطية بين المفهوم والصورة، يمكن من خلالها الإشباع الرمزي لرغبات مكبوتة تتجلى في "تلك العتمة المبهرة"؟
واستطراداً، هل يمكن اعتبار السينما وسيطاً فلسفياً؟ ثم هل في وسع الأفلام "التفلسف"، لا مجرد الاكتفاء بإبراز أفكار عن الأنا والكينونة والوجود؟ هل في وسع الأفلام أن تصبح أدوات للاستقصاء الفلسفي، بل هل هذا طموحها؟ وإذا كانت الإجابة (نعم) فهل تكون الأفلام بمثابة تمرينات فلسفية؟
لعل ممارسة الفلسفة سينمائياً لا تتطلب اتباع طريقة ممارستها والتعاطي معها لفظياً، ما يؤدي بنا، ربما، إلى استنتاج أنّ ممارسة الفلسفة سينمائياً تمنحنا مدخلاً إلى معارف وحقائق فلسفية يستعصي على الفلاسفة، الذين يمارسون الفلسفة بطرق غير سينمائية، الوصول إليها، وهي ملاحظات تنبه إليها كثير من الباحثين في العلاقة بين السينما والفلسفة، منذ منتصف تسعينيات القرن الماضي، بعدما حلّت فلسفة الأفلام محل نظرية الأفلام التي ظهرت قبل الأولى بنحو عقدين.
الرهانات تبقى معقودة على قدرة التفكير السينمائي على إعادة صياغة المفاهيم الفلسفية بشكل خلاق يثري الحقلين، ويعزز فضاءات السينما، على نحو خاص، في الاستمرار بالقطيعة مع شروط الإدراك الحسي الطبيعي، وصولاً إلى تجسيد المعنى المرتجى من عبارة "السينمائيون فلاسفة الصورة" لجهدهم الفريد والانتقال من إبداع المفاهيم إلى إبداع الصور.
الفيلم وسيط
يبقى الفيلم وسيطاً شفافاً للواقع الحقيقي، من دون أن نتلكأ في التعاطي مع مقولة نيتشه، بأنّ فيلسوف المستقبل هو بمثابة فنان، مما يفتح الباب واسعاً أمام اكتشاف قدرة السينما على التأثير في الفلسفة من خلال وسائلها الخاصة، متخطية العوائق القديمة المتصلة بإنتاج الصور واستمرار الدوران في الحلقة المفرغة عما هو قابل للقول أو قابل للتنفيذ. المهم هو النفاذ إلى المعنى الأنطولوجي، المتصل بلغة التعبير المتحرك (الصورة) التي تقدم تصوراً جديداً للمكان، في ثورة مفاهيمة ستتواصل (حتى لو اختفى جمهور الصالات المعتمة) باعتبارها ثمرة هذا العناق الحميم بين الفلسفة والسينما، والكشف عن قوانين الزمان والحركة.
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
قد لا يكون الطموح الأقصى للسينما أن تتفلسف، ولا أن يكون الطموح ذاته للفلسفة في توقها إلى التجسد في أشكال تتعدى المفاهيم المجردة. فإذا كانت السينما هي "الفن السابع" فإنّ "الفلسفة أم العلوم". ولا يتوخى هذا القول الإفصاح عن علو كعب إحداهما على الأخرى.
لقد أدركت السينما منذ وقت طويل قيمة "التفلسف"، فنهلت الصورة من معين الأفكار والمفاهيم، وكانت أعمال المخرج السويدي إنغمار برغمان، كمثال ساطع، مثقلة بالمشاعر الفلسفية التي دارت في فلك الرؤى الخلاصية التي تناولتها الفلسفة، وبخاصة الفلسفة الحديثة. عاش عشاق السينما مع بيرغمان لحظات الإحساس بالفناء والعزلة والرفض، والتصورات عن الموت والألم والنبذ والحب والرغبة والخطيئة. ولا يعني أنّ أفلامه كانت كئيبة أو معتمة أو قاسية أو ذات مرامٍ عدمية. ولعل هذا ربما ما جعل مخرجاً كبيراً كوودي ألن يصف نظيره السويدي بأنه "ربما أعظم فنان سينمائي، على الإطلاق، منذ اختراع كاميرا السينما".
وعلى الرغم من أنه مقدّر لدى النخبة، إلا أنّ إرث برغمان مهمّش ومحجوب عن الجمهور، بسبب التصورات السلبية، عن صاحب فيلم "التوت البري"، كما لاحظ تقرير لـ"بي بي سي".
لقد تسربت الفلسفة، وبخاصة الوجودية إلى مسامات أعمال برغمان الذي قرأ سارتر، وعاين قلقه وتمزقاته، وهي تمزقات سادت أوروبا والعالم في أعقاب الحرب العالمية الثانية. ففي فيلم "ساعة الذئب" يتساءل أحد الشخصيات: "لقد تحطم الزجاج، ولكن ما الذي تعكسه الشظايا؟"

جرب ميزات الذكاء الاصطناعي لدينا
اكتشف ما يمكن أن يفعله Daily8 AI من أجلك:
التعليقات
لا يوجد تعليقات بعد...
أخبار ذات صلة


Independent عربية
١٩-٠٤-٢٠٢٥
- Independent عربية
الفلسفة والسينما: ابتكار المفاهيم وإنتاج الصور
الأخوان الفرنسيان، المهندسان أوغست ولويس لوميير، أخرجا وأنتجا فيلماً مدته نحو 50 ثانية، يدور حول وصول قاطرة بخارية إلى محطة بلدة لا سيوتا الفرنسية الساحلية. الفيلم عرض سنة 1895، ويُروى أنّ الهلع دهم المشاهدين الذين ولّوا هاربين خشية أن يدهمهم القطار. لحظة الذعر تلك انتقلت من أبدان المشاهدين إلى أفكار الفلاسفة، فنشأ التفكّر في المعاني المستقرة لمفهوم الزمان والحركة. فقد جادل الفيلسوف الفرنسي هنري برغسون بأنّ للزمن وجهين؛ الأول هو "الزمن الموضوعي"، أي زمن الساعات والتقويمات وجداول مواعيد القطارات. أما الوجه الثاني، فهو "المدة"، أي "الزمن المعيش"، ويقصد به زمن تجربتنا الذاتية الداخلية، وهذا هو الزمن المُحسوس والمُعاش والمُفعول به، بحسب صاحب كتاب "التطور الخلاق" الذي يناقش أحدُ فصوله الآلية التي تعمل بها السينما. وينظر إلى جيل دولوز باعتباره أهم الفلاسفة المعاصرين الذين سعوا إلى استقلالية السينما عن الفلسفة وفك تبعيتها، على أساس أنّ السينما ممارسة جديدة للصور وللسمات، وبالتالي ينبغي على الفلسفة أن تنشئ لها نظرية باعتبارها ممارسة مفهومية. لقد قالها دولوز بصراحة: ما تمنحه الفلسفة للسينما، تسترده من خلال إدراك نفسها في شكل أكثر واقعي. وإذا كان برغسون أول فيلسوف أبدى اهتماماً بالفيلم، فإنّ دولوز (البرغسوني) ألمع "فيلسوف سينمائي" توقاً إلى "الشكل الخالص للزمن" الذي يعتبره أساساً للحداثة الفلسفية وللسينما. وربما هذا ما يجسده الفضاء المظلم لقاعات السينما، المليء بالأجساد التي تتوقف حياتها الحسية والحركية مع وجودها الاجتماعي. هذا الفضاء المثالي، وفق نقاد، يكشف ذلك "الشكل النقي للزمن"، حيث يُسمح فيه بالتوليفات الزمنية للذاكرة، فضلاً عن التوقع بفصل نفسها عن ثقلها في التجربة الاجتماعية النشطة اليومية. قدرة السينما على التفلسف وعلى الرغم من أهمية التنظير لعلاقة الفلسفة بالسينما، فإنّ ثمة جملة من الانتظارات تتصل بقدرة السينما على التفلسف، بمعنى أن تنشأ أفلام فلسفية تستنطق الأفكار المحضة. لقد شاء مخرج سينمائي أن يبدع فيلماً عن كتاب "رأس المال" لماركس، وفكر آخر بصناعة فيلم عن كتاب "مقال في المنهج" لديكارت، وكلا المخرجين لم يوفقا. ويفكر مخرجون آخرون في تحدي العوائق التي تحول دون تمظهر المفاهيم في زي صور وموسيقى وحركة وأداء يوقف سرد "الزمن الموضوعي"، وينقله إلى "الزمن المعاش". على أنّ السؤال الذي يُطرح هنا: هل موضوع الفيلم هو ما يحدد طبيعته وجودته؟ وهل الفيلم هو مجموعة أفكار فلسفية منثورة أو مسرودة على لسان الشخصيات؟ وكيف يمكن أن تنشأ علاقة ترابطية بين المفهوم والصورة، يمكن من خلالها الإشباع الرمزي لرغبات مكبوتة تتجلى في "تلك العتمة المبهرة"؟ واستطراداً، هل يمكن اعتبار السينما وسيطاً فلسفياً؟ ثم هل في وسع الأفلام "التفلسف"، لا مجرد الاكتفاء بإبراز أفكار عن الأنا والكينونة والوجود؟ هل في وسع الأفلام أن تصبح أدوات للاستقصاء الفلسفي، بل هل هذا طموحها؟ وإذا كانت الإجابة (نعم) فهل تكون الأفلام بمثابة تمرينات فلسفية؟ لعل ممارسة الفلسفة سينمائياً لا تتطلب اتباع طريقة ممارستها والتعاطي معها لفظياً، ما يؤدي بنا، ربما، إلى استنتاج أنّ ممارسة الفلسفة سينمائياً تمنحنا مدخلاً إلى معارف وحقائق فلسفية يستعصي على الفلاسفة، الذين يمارسون الفلسفة بطرق غير سينمائية، الوصول إليها، وهي ملاحظات تنبه إليها كثير من الباحثين في العلاقة بين السينما والفلسفة، منذ منتصف تسعينيات القرن الماضي، بعدما حلّت فلسفة الأفلام محل نظرية الأفلام التي ظهرت قبل الأولى بنحو عقدين. الرهانات تبقى معقودة على قدرة التفكير السينمائي على إعادة صياغة المفاهيم الفلسفية بشكل خلاق يثري الحقلين، ويعزز فضاءات السينما، على نحو خاص، في الاستمرار بالقطيعة مع شروط الإدراك الحسي الطبيعي، وصولاً إلى تجسيد المعنى المرتجى من عبارة "السينمائيون فلاسفة الصورة" لجهدهم الفريد والانتقال من إبداع المفاهيم إلى إبداع الصور. الفيلم وسيط يبقى الفيلم وسيطاً شفافاً للواقع الحقيقي، من دون أن نتلكأ في التعاطي مع مقولة نيتشه، بأنّ فيلسوف المستقبل هو بمثابة فنان، مما يفتح الباب واسعاً أمام اكتشاف قدرة السينما على التأثير في الفلسفة من خلال وسائلها الخاصة، متخطية العوائق القديمة المتصلة بإنتاج الصور واستمرار الدوران في الحلقة المفرغة عما هو قابل للقول أو قابل للتنفيذ. المهم هو النفاذ إلى المعنى الأنطولوجي، المتصل بلغة التعبير المتحرك (الصورة) التي تقدم تصوراً جديداً للمكان، في ثورة مفاهيمة ستتواصل (حتى لو اختفى جمهور الصالات المعتمة) باعتبارها ثمرة هذا العناق الحميم بين الفلسفة والسينما، والكشف عن قوانين الزمان والحركة. اقرأ المزيد يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field) قد لا يكون الطموح الأقصى للسينما أن تتفلسف، ولا أن يكون الطموح ذاته للفلسفة في توقها إلى التجسد في أشكال تتعدى المفاهيم المجردة. فإذا كانت السينما هي "الفن السابع" فإنّ "الفلسفة أم العلوم". ولا يتوخى هذا القول الإفصاح عن علو كعب إحداهما على الأخرى. لقد أدركت السينما منذ وقت طويل قيمة "التفلسف"، فنهلت الصورة من معين الأفكار والمفاهيم، وكانت أعمال المخرج السويدي إنغمار برغمان، كمثال ساطع، مثقلة بالمشاعر الفلسفية التي دارت في فلك الرؤى الخلاصية التي تناولتها الفلسفة، وبخاصة الفلسفة الحديثة. عاش عشاق السينما مع بيرغمان لحظات الإحساس بالفناء والعزلة والرفض، والتصورات عن الموت والألم والنبذ والحب والرغبة والخطيئة. ولا يعني أنّ أفلامه كانت كئيبة أو معتمة أو قاسية أو ذات مرامٍ عدمية. ولعل هذا ربما ما جعل مخرجاً كبيراً كوودي ألن يصف نظيره السويدي بأنه "ربما أعظم فنان سينمائي، على الإطلاق، منذ اختراع كاميرا السينما". وعلى الرغم من أنه مقدّر لدى النخبة، إلا أنّ إرث برغمان مهمّش ومحجوب عن الجمهور، بسبب التصورات السلبية، عن صاحب فيلم "التوت البري"، كما لاحظ تقرير لـ"بي بي سي". لقد تسربت الفلسفة، وبخاصة الوجودية إلى مسامات أعمال برغمان الذي قرأ سارتر، وعاين قلقه وتمزقاته، وهي تمزقات سادت أوروبا والعالم في أعقاب الحرب العالمية الثانية. ففي فيلم "ساعة الذئب" يتساءل أحد الشخصيات: "لقد تحطم الزجاج، ولكن ما الذي تعكسه الشظايا؟"

سعورس
٢٨-٠٣-٢٠٢٥
- سعورس
جيل دولوز مائة عام على ولادته
أما فرانسوا رينو فقد قال: «الفيلسوف الكبير هو الذي يُقنع قراءه والمُستمعين إليه بأن يعيشوا مُستقبلًا حياةً فلسفية. وجيل دولوز يُقْنعهم بذلك. وليس مُهمًا أن يتوصل جميعهم إلى هذه النتيجة. يكفي أن يتلمسَ الذين يقرؤونه، أو يستمعون إليه أن الحياة مفتوحة بالنسبة إليهم». نحن قراء نيتشه وُلد جيل دولوز في باريس في الثامن من يناير 1925. وفي فترة شبابه، وهو يدرسُ الفلسفة في جامعة السربون، تعرف إلى كتاب وفلاسفة سيكون لهم تأثير على مساره الفكري، والفلسفي. من بين هؤلاء يمكن أن نذكر جان هيبولت، وميشال بيتور، وميشال تورنييه، وفرانسوا شاتليه الذي سيخصص له فيما بعد كتابًا يعرف بفلسفته العقلانية، والتي علق عليها فرانسوا إيفالد قائلًا: «يقول فرانسوا شاتليه إنه عقلاني. والعقل عنده ضرورة قَبل كل شيء: مرورًا من القوة إلى الفعل الذي يَمنع الفوضى، ويُبعد شبحَ اليأس، ويَسمح بعلاقاتٍ إنسانية لا تَترك أحدًا ضحيةً للسلبية، لكنها تَسمح له بأن يُجدد قوَتَهُ. لهذا السبب في العلاقة مع الآخر، يكون العقلُ لياقةً وطيبة. لياقة لأنه شرط المساواة الحقيقية مع الآخرين، وطيبة لأنه يمتلك القدرة التي تساعد الإنسان على للخروج من نَفَقِ اليأس، ويَهِبه فرصةَ تجديد القوة التي فيه». وفي مطلع الخمسينيات من القرن الماضي، عمل جيل دولوز أستاذًا للفلسفة في المعاهد الثانوية، ثم أستاذًا مساعدًا في جامعة «السربون»، ثم باحثًا في «مركز البحوث والدراسات الاجتماعية» الذي ظل فيه حتى العام 1964. وفي العام 1962، تعرف إلى ميشال فوكو الذي قال عنه بعدما أصدر مؤلفَيْه «الاختلاف والتكرار» و«منطق المعنى»، ما مفاده أن القرن العشرين سيكون «قرنًا ديولوزيا» (نسبة إلى دولوز). وانطلاقًا من الستينيات من القرن الماضي، لَمَعَ اسم دولوز في مجال الفلسفة، وذلك بعدما أصدر كتابًا عن نيتشه مُثيرًا للجَدل، وفيه كتبَ: «نحن قراء نيتشه، علينا أن نتجنب أربعة تفاسير خاطئة مُحتمَلة: 1: حول إرادة القوة (الاعتقاد بأن إرادة القوة تعني «الرغبة في الهَيْمَنة»، أو «الرغبة في القوة»). 2: حول الضعفاء والأقوياء (الاعتقاد بأن الأكثر «قوة» في نظام اجتماعي هُم «أقوياء» بالضرورة). 3: بشأن العود الأبدي (الاعتقاد بأن الأمر يتعلق بفكرة قديمة، مستعارة من قدماء اليونانيين، ومن الهنود، ومن البابليين؛ الاعتقاد بأن الأمر يتعلق بدَورة، أو بعودة «الشيء ذاته»). 4: بشأن الأعمال الأخيرة (الاعتقاد بأن تلك الأعمال مُبالغٌ فيها، أو هي مجردة من القيمة بسبب الجنون). في العام 1969، تعرف جيل دولوز إلى فيليكس غيتاري، ومعًا سيعملان على مدى سنواتٍ طويلة. وعن ذلك علق قائلًا: «فيليكس غيتاري وأنا لم نتعاون مثلما يتعاون شخصان. كنا بالأحرى مثل جدولَيْن يلتقيان ليكونا معًا جدولًا ثالثًا الذي هو نحن!». وظيفة الفلسفة مع فيليكس غيتاري، أنجز دولوز العديد من الأبحاث، ومعه ألف كُتبًا مُهمة مثل «نقيض أوديب» الذي يرى ميشال فوكو أنه يقاوم تهديداتٍ خطيرة على مستوى الفكر. وتتمثل هذه التهديدات في نساك السياسة، وفي المُناضلين المُقطبين والكئيبين، وفي إرهابيي النظريات، الذين يريدون المحافظة على النظام الصرف للسياسة، وللخطاب السياسي وبيروقراطيي الثورة، وموظفي الحقيقة. كما تتمثل التهديدات في تقنيي الرغبة المُثيرين للشفقة، أي عُلماء النفس، وعُلماء السيميولوجيا الذين يسجلون كل إشارة، وكل ظاهرة مَرَضية، والذين يريدون أن يُقلصوا التنظيمَ المتعدد بهدف إخضاعه للقانون الثنائي للتركيبة، ولِما هو ناقص أو مُنعدم. وأما العدو الثالث الأساسي والإستراتيجي فهو الفاشية. لكن ليست فاشية موسوليني أو هتلر وحدهما، والتي عَرفت كيف تَحشد الجماهير، وكيف تَستغل رغباتها الظاهرة والمخفية، وإنما الفاشية الكامنة فينا جميعًا، والتي تدهم فكرنا وسلوكياتنا اليومية. الفاشية التي تجعلنا نحب السلطة، ونرغب في الشيء ذاته الذي يُهيمن علينا، ويستغلنا». في العام 1977، أصدر جيل دولوز كتابًا آخر عن سبينوزا؛ وقد علق عليه بالقول: «حول سبينوزا عملتُ بجدية بحسب مُقتضيات تاريخ الفلسفة. غير أنه هو الذي جَعلني أشعر كما لو أن هناك تيارًا هوائيًا يَدفع هذا أو ذاك من الذين يقرؤون كتابًا من كُتبه من الخَلف بمكنسة سحرية، ثم يُجبره على امتطائها. ما أظن أننا شرعنا في فهْم سبينوزا، وأنا لستُ أكثر من الآخرين في هذا المجال». ويُعرف جيل دولوز سبينوزا على النحو التالي: «بإمكان الفيلسوف أن يقيم في دولٍ متعددة بحسب طريقة ناسك متوحد، أو شبح، أو عابر سبيل، أو مؤجر في فنادق صغيرة مؤثثة. لذا علينا ألا نتخيل سبينوزا قاطعًا الصلة بالوسط اليهودي المُغلق افتراضيًا ليَنتسب إلى الأوساط الليبرالية المُتفتحة افتراضيًا (...) ذلك أنه أينما حل، وأينما ذهب، هو لا يُطالب، ودائمًا بقدرٍ معين من الحظ في الحصول على ما يريد، بأن يتم التعامل معه، ومع أهدافه ورغباته المُخالِفة للمألوف بشيءٍ من التسامح. وهو يَحكم على هذا التسامح انطلاقًا من درجة الديمقراطية، ومن درجة الحقيقة التي يُمكن لهذا المُجتمع أو ذاك أن يتحملها، أو عكس ذلك، انطلاقًا من الخطر كما الذي يُهدد الإنسانية جمعاء». كما خصَّص دولوز كتابًا لغوتفريد لايبنتز، ولديفيد هيوم. وهدفه من ذلك تقديم إيضاحاتٍ وقراءاتٍ جديدة ومعمقة للفلاسفة الذين أثروا في الفكر الإنساني في فتراتٍ مُختلفة من التاريخ. ومُقدمًا تفسيره الخاص للفلسفة، قال دولوز في أحد الحوارت التي أُجريت معه: «الفلسفة تَعني دائمًا استكشاف مفاهيم جديدة. وأنا لم أشعر أبدًا بأي نوعٍ من القلق بخصوص تجاوُز الميتافيزيقا، وموت الفلسفة. وأعتقد أن للفلسفة وظيفةً تظل دائمًا فاعلة في الحاضر. وهي تتمثل في ابتداع مفاهيم. ولا أحد يُمكنه أن يقوم بذلك مكانها». ويُواصل دولوز تعريفه للفلسفة قائلًا: «الفلسفة ليست إبلاغية، وتأملية، ولا استبطانية، وإنما هي خلاقة، بل ثورية بطبيعتها لأنها لا تنقطع أبدًا عن ابتكار مفاهيم جديدة (...) المفهوم هو الذي يَمنع الفكرة من أن تكون مجرد رأي، ونقاش، وثرثرة...». وقَبل وفاته بعامَيْن، تحاورَ جيل دولوز مع ديديه إيريبون حول قضايا فلسفية، وأيضًا حول بعض الشخصيات الفكرية. وفي ذلك الحوار تحدث عن الكتابة قائلًا: «أنا لا أكتب ضد شخص، أو ضد شيء ما. بالنسبة إلي، الكتابة حركة إيجابية مطلقًا، أي أنها تهتم بما نحن نعشقه، ولا تحاول أن تُحارب ما نحن نكرهه. الكتابة الحقيقية هي تلك التي تَضع الوشاية في أسفل مستويات الكتابة وأحقرها. صحيح أن الكتابة تنطوي على أن هناك شيئًا ما ليس على ما يرام في المسألة التي نرغب بمعالجتها، وأننا لسنا راضين. باستطاعتي في مثل هذه الحالة أن أقول: أنا أكتب ضد الفكرة الجاهزة. ونحن نكتب دائمًا وأبدًا ضد الأفكار الجاهزة». سارتر الذي أبهرَ جيلي وتحدث جيل دولوز عن سارتر قائلًا: «كان سارتر كل شيء بالنسبة إلي. وهو يختص بشيءٍ استثنائي خلال فترة الاحتلال النازي لباريس ، كان موقف سارتر طريقةً للعيش في المجال الفكري. والذين لاموه على أنه سمحَ للمُخرجين بإخراج المسرحيات التي كتبها في تلك الفترة، لم يقرؤوا تلك المسرحيات. مسرحية «الذباب» مثلًا تُشبه موسيقى جوزيي فيردي التي كانت تُعزف أمام النمساويين. كان الإيطاليون حين يسمعونها يصيحون: «برافو» لأنهم يدركون جيدًا أنها تُعبر عن موقف مُقاوَمة. وكان ذلك مُنسجمًا مع وضعية سارتر. وكان كتاب «الوجود والعدم» بمثابة القنبلة بالنسبة إليَّ. ليس لأنه مثل مسرحية «الذباب» التي تُعبر بشكلٍ مباشر تقريبًا عن فعل المُقاومة، بل لأنه كان مُبهرًا، وجذابًا. لقد كان كتابًا ضخمًا، متضمنًا أفكارًا جديدة... ويا لهول الصدمة!... قرأتُ «الوجود والعدم» حال صدوره. أتذكر أنني ذهبت مع ميشال ترونييه لشرائه، ثم قمنا بالتهامه للتو. أَبهر سارتر كل أبناء جيلي. كان يَكتب روايات ومسرحيات. الجميع كانوا يقلدونه، وكثيرون كانوا يغارون منه. أما أنا فقد كنتُ شديد الانبهار به. وأعتقد أنه يمتلك شيئًا جديدًا لا يُمكن أن يفعل فيه الزمن... إنه جديد دائمًا وأبدًا». وتحدث دولوز في الحوار المذكور عن ثورة ربيع 1968 الطلابية على النحو الآتي: «كانت تلك الفترة غنية جدًا بالنسبة إليَّ. وإذا ما أنا تناولتُ حياتي بالدرس، فإنه باستطاعتي أن أقول إن هناك فترة فقيرة جدًا، ألا وهي فترة الحرب العالمية الثانية. وعقب انتهاء تلك الحرب، حدثَ انفجارٌ هائل على المستوى الثقافي والأدبي. ثم كانت هناك صحراء سنوات الخمسين... ثم من جديد، جاءت فترة قوية تمثلت بمرحلة الستينيات (موجة السينما الجديدة، والرواية الجديدة..). أما في الفلسفة فقد كان هناك ميشال فوكو، ولاكان. خلال تلك الفترة حدثت حركةٌ هائلة على مستوياتٍ متعددة... أما اليوم فقد عُدنا إلى الصحراء مرةً أخرى... غير أن هذا لا يتفاعل مع اتجاهٍ واحد. لذا علينا أن نُميز بين حالتَيْن. فبخصوص أولئك الذين أَنجزوا جزءًا كبيرًا من عملهم، يُمكن القول إنه ليست هناك مشكلة بالنسبة إليهم؛ إذ إنه بإمكانهم أن يُواصلوا الكتابة، وأن يتجاوزوا الصحراء. أما بالنسبة إلى مَن هُم أقل سنًا، فإن الأمر لا يعدو أن يكون كارثةً حقيقية. فالولادة والوصول أمران صعبان في زمن الأزمات، والفراغ». لم يمُت ماركس أما عن ماركس فقال دولوز: «لم أنتسب البتة إلى الحزب الشيوعي، ولم أكُن ماركسيًا قط قَبل سنوات الستين. وما منعني من أن أكون ماركسيًا هو ما كان يقوم به الشيوعيون تجاه مثقفيهم، ثم علي أن أضيف أنني لم أكُن ماركسيًا، لأنني في الحقيقة لم أكُن أعرف ماركس في تلك الفترة. وقد قرأتُ ماركس في الفترة التي قرأتُ فيها نيتشه. وقد وجدته عبقريًا. وأعتقد أن المفاهيم التي ابتَكرها ماركس لا تزال حية ومناسبة. في كتاباته هناك نقدٌ جذري. وثمة كُتب لم أبدُ فيها متأثرًا بماركس كثيرًا. واليوم بإمكاني الاعتراف بأنني ماركسي تمامًا (...) وأنا لا أفهم أولئك الذين يقولون إنه مات. ثمة أعمال يتحتم القيام بها الآن: علينا أن نُحلل وضْع السوق العالمية وتحولاتها. وإذا ما نحن سَعَيْنا إلى القيام بمثل هذا العمل، فإنه يتوجب علينا عندئذ أن نرتكز على ماركس بالأساس». *كاتب وروائي من تونس * ينشر بالتزامن مع دورية أفق الإلكترونية.


Independent عربية
١٥-١١-٢٠٢٤
- Independent عربية
فرويد الذي لم يحب السينما كان لافتا في حبه للأدب والمسرح
مرة أخرى لا بد أن نبدأ حديثنا هنا بالتساؤل الذي يبقى بادي الغرابة حول الأسباب التي تبقى غامضة والمتعلقة بكراهية رائد التحليل النفسي سيغموند فرويد للسينما، فيما حرصت هي من ناحيتها على إحاطته بأكبر قدر ممكن من الاهتمام، على رغم أن السينما والتحليل النفسي قد ولدا في وقت واحد، وبالتحديد عام واحد تقريباً. ففي عام 1895 حين كان فرويد يصدر أول كتاب من كتبه، وهو دراسته حول الهستيريا، كان الأخوان الفرنسيان أوغست ولويس لومير يضعان اللمسات الأخيرة على اختراعهما الجديد الذي قدم في الصالون الهندي بجادة الكابوسين في الدورات الكبرى وسط باريس، إذ تجمع جمهور مدهوش ليشهد محطة القطار وقد دخلتها عربات هذا الأخير متتابعة مثيرة الرعب قبل أن تثير أي شيء آخر، وتحديداً دون أن تثير حتى فضول ذاك الذي كان في عز شبابه في ذلك الحين يثير فضوله كل ما على وجه البسيطة من جديد... إلا السينما! والحقيقة أن نفور فرويد من السينما قد وصل من ناحية إلى رفض مبلغ 100 ألف دولار عرضها عليه لاحقاً المنتج جاك وارنر في مقابل تعاونهما مع استوديوهات هذا الأخير في فيلم سينمائي، ومن ناحية ثانية إلى طرد كل من معاونيه فيليس وأبراهام من فردوسه العلمي لمجرد أن كلاً منهما رضي بخوض التجربة السينمائية. حظوة الأدب المكتوب في المقابل إذا كان فرويد شغوفاً بكل أدب مكتوب، ولا سيما بالرواية والنقد الأدبي والنصوص المسرحية، ولئن كان هذا المفكر الذي يكاد يصنف كواحد من فلاسفة بدايات القرن الـ20 قد أولى تلك الأعمال الإبداعية التي تنتمي إلى تلك الأنواع اهتماماًته الفائقة، لفت ذلك الاهتمام أنظار المعلقين وكاتبي سيرة حياته فغاصوا في تحليل خلفيات في كتابات وكتب لا تعد ولا تحصى وصلوا فيها إلى حد التأكيد أن جزءاً كبيراً من المتن العلمي لفرويد ما كان ليكون لولا ارتكازه في إنتاجه على التوغل من ناحيته في الأعمال الكبرى التي تنتمي إلى تلك الآداب. ومهما يكن من أمر، لا بد لنا من أن نشير أول الأمر هنا إلى أن الكاتب الأفضل والأول لسيرة فرويد، إرنست جونز، كان من أوائل الذين لفتوا إلى تلك الحقيقة، تماماً كما كان من أوائل الذين حرصوا على الربط بين تطور المشروع الفرويدي وارتكازه على الاستفادة في الاشتغال انطلاقاً من النصوص الأدبية والمسرحية بقدر ما أنه، وبصورة عملية في الحالتين، انطلاقاً من تجاربه مع مرضاه بمن فيهم زملائه في المهنة نفسها الذين كان من ممارساتهم الرائعة خضوع كل واحد منهم في مستهل ممارسته المهنة لتجارب في التحليل النفسي يجريها عليه واحد من زملائه الأكثر قدماً. دراسات متكاملة إذاً، على خطى إرنست جونز، ولكن بصورة أكثر تركيزاً غالباً، تأثرت الكتب، ولا سيما التي دارت حول علاقة فرويد الأدبية وصدرت خلال النصف الثاني من القرن الـ20، علاقة تبين ولعه بتلك النصوص إلى اشتغاله عليها بفعلها جزءاً أساساً من عمله التحليلي، ولعل من أحدث تلك الكتب، ذلك الكتب المعنون "فرويد في صحبة الكتاب" الذي وضعه مؤلفان من أبرز الفرويديين، وهما إدواردو غوميز مانغو وجان-برنارد بونتاليس، والاثنان عضوان في جمعية المحللين النفسيين في فرنسا. ولقد اهتم هذان العالمان بتحليل العلاقات التي أقامها فرويد طوال حياته مع الكتاب سواء كان ذلك عبر قراءة أعمالهم، ومن بين هؤلاء طبعاً شكسبير وغوته ودوستويفسكي وشيلير من بين كبار الكبار، أو أولئك الذين التقى بهم فعلياً في مناسبات ومدن متعددة أو تبادل الخطابات معهم من أمثال شتيفان تزفايغ الذي أضحى واحداً من أقرب أصدقائه إلى نفسه وقلبه وكان يتبسط في الحوار معه بصورة حميمية وودية، أو آرثر شنيتزلر الذي اكتشف فيه وفي أعماله القصصية والروائية خزاناً مدهشاً يحمل ما يبدو تطبيقات على التحليل النفسي – وبالمناسبة قد يكون مفيداً أن نذكر هنا أن المخرج ستانلي كوبريك قد أعاد شنيتزلر إلى الواجهة عند نهاية القرن الـ20 حين أفلم روايته القائمة كلياً على التحليل النفسي ومن منطلقات فرويدية خاصة ما من شأنه أن يدفعنا إلى التساؤل عما كان من شأن فرويد أن يقوله غاضباً لو أنه كان حياً حين ظهر الفيلم. ويمكننا أن نضيف هنا من بين أصدقاء فرويد المقربين كلاً من الكاتب المسرحي هنري إبسن ورومان رولان وطبعاً توماس مان. فصل لكل مبدع كما قبل سطور، لم يكن هذا الكتاب الذي يتناول جانباً من علاقة فرويد بالإبداع في مقابل جانب أساس آخر من جوانب الخلفيات المتعلقة بمهنته العلمية والتي تتسم بقدر كبير من الأبعاد الإبداعية، لم يكن الوحيد الذي وسم إبداعه الخاص، وكذلك لا يمكن القول إنه كان الأهم بالنظر إلى أن إرنست جونز ميز السيرة التي وضعها لفرويد بالتركيز على هذا الجانب بالتحديد، ولكن أيضاً بالنظر إلى أن الباحث المعاصر في التحليل النفسي الفرنسي جان بيار أسون كان قد سبق له أن وضع دراسة بالغة الأهمية حول الموضوع نفسه توغلت عميقاً في هذا الجانب من جوانب الفرويدية وباتت محط اهتمام الدارسين وقدم فيه، ولكن دائماً انطلاقاً من أشغال جونز في هذا المجال، فرويد والأدب. والحقيقة أن كتاب مانغو-بونتاليس يبدو في نهاية الأمر أطروحة متكاملة مع كتاب أسون حتى وإن كان كتاب هذا الأخير يبدو أكثر فائدة للباحثين لكونه يقدم تحليلاً معمقاً للموضوع، بينما يبدو الكتاب الذي نحن في صدده هنا أكثر موسوعية. وهنا لا بد من التنبيه إلى أن الموسوعية هي بالتحديد هدف هذا الكتاب، بينما من الواضح أن النزعة التحليلية تغلب على الكتاب الآخر. ومهما يكن من أمر هنا، لا بد من التأكيد أن ما يوحد الكتابين هو نهلهما معاً من إرنست جونز. وهو ليس بالأمر الجديد في عالم الدراسات الفرويدية. أما الجديد فهو يكمن في تخصيص الكتاب الأجد فصلاً لكل واحد من المبدعين في تلك النزعة الموضوعية. اقرأ المزيد يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field) حوار مع المعلم ومن الواضح أن كل واحد من الفصول المعنية يبدو مختصاً بكل مبدع من المبدعين يقدم فيه المؤلفان سيرة المبدع وخلاصة فكره الذي يخضع إلى التحليل الفرويدي، وذلك عبر نوع من حوار بين المبدع والفكر الفرويدي الذي يدور من حول الإبداع بحيث يجد القارئ نفسه جزءاً من اللعبة. وقد آثر المؤلفان إحاطة البعد العلمي للكتاب ببيئات التفاصيل المتشعبة المستقاة من تقابل بين ما لدى فرويد ولدى كل واحد من المبدعين المعنيين، مع إحاطته بقدر كبير من المزج بين المعلومة والتحليل. ومن هنا يضحي كل فصل نوعاً من الاستفادة في الكيفية التي استخدم فرويد بها المبدعين في نوع من الدمج بين الحياة والإبداع في بوتقة واحدة. ولعل هنا وتحديداً في هذا البعد الطريف والجديد الدائر من حول فرويد ذلك الجديد الذي أبدعه المحللان الفرنسيان في كتاب لا يسأل المرء نفسه إزاءه عن أهميته المتوخاة، بل عما جعله يتأخر كل هذا الزمن.