
اليوم العالمي للسكان ، من العدّ والتعداد إلى العدالة ، بقلم : أ. مروة معتز زمر
بسم الله رب العالمين
يحتفي العالم اليوم، باليوم العالمي للسكان، مناسبة أُمَميَّة وُلدت من رَحم القلق الكبير الذي خلفه التزايد السكاني السريع حيث أُعلن رسمياً عام 1987عن وصول عدد سكان العالم إلى خمسة مليارات نسمة.
وفي 21 كانون الأول من عام 1990، أصدرت الجمعية العامة للأمم المتحدة القرار رقم 45/216، معلنة أن يوم 11 تموز من كل عام يُحتفل به كـاليوم العالمي للسكان، ويهدف هذا اليوم إلى تسليط الضوء على القضايا السكانية الحيوية التي تؤثر بشكل مباشر في مسارات التنمية، ومنها:
(الصحة الإنجابية، الحقوق الإنجابية، معدلات النمو السكاني، تحقيق المساواة بين الجنسين، ظواهر الهجرة والنزوح، العدالة الاجتماعية، وضمان شمول الفئات المهمشة في الإحصاءات الرسمية).
لكن خلف هذه الأرقام المتصاعدة، يكمن ما هو أعمق من النمو الديمغرافي: أسئلة وجودية عن العدالة، عن الرؤية، عن الشمول، عن الإنسان الذي يُعدّ لكنه لا يُرى.
السؤال الذي يطرح اليوم في 2025 وقد تجاوز عدد السكان عتبة الثمانية مليارات، كم من هؤلاء يملكون هوية آمنة، وبيتاً داخلياً، ونصيباً من كرامة السياسات؟
كم من طفلة تُدرج ضمن الإحصاءات، لكنها تُستثنى من المدرسة؟وكم من أمّ تُعدّ في تعداد السكان، لكنها غائبة تماماً عن خدمات الرعاية والدعم؟كم من معاق يُعدّ ضمن السكان، ولا يُحتسب في فرص العمل أو التعليم أو الحركة؟وكم من رضيع يُضاف في إحصاءات الولادة، بينما يُولد في بيئة خالية من الأمان والصحة والغذاء؟كم من مُسنّ يُدرج في بيانات الدولة، لكنه لا يُدرج في جدول الرعاية؟
كم وكم وكم وكم؟؟؟؟؟
*العدالة السكانية أن تُحسب لأنك إنسان، لا لأنك رقم
هي ليست مجرّد توزيع عادل للأعداد، بل هي اعتراف شامل بحقّ كل إنسان في أن يُرى، ويُحسب، ويُخاطَب في السياسات والخدمات والقرارات، بغضّ النظر عن جنسه، عِرقه، طبقته، حالته الصحية، أو موقعه الجغرافي، هي أن لا تكون الأرقام أدوات سلطة، بل جسوراً تُوصل إلى الفئات المهمشة، أن لا يُترك اللاجئ خارج دفتر التخطيط، ولا الفتاة خارج جدول التمكين، ولا الطفل خارج خريطة الرعاية.
إنها مبدأ يُلزم الحكومات والمنظمات أن تتبنى سياسات عامة تقوم على أسس من الإنصاف، والشمول، والكرامة الإنسانية، بحيث لا يُقصى أحدٌ من الاعتبار، ولا يُسلب فردٌ حقه في الوصول إلى التعليم، والصحة، والدعم النفسي، والحماية.
أن تُحاسب العدالة السكانية الحكومات إن تجاهلت المهمّشين، أو جعلت من الإحصاء أداةً للتجميل بدلاً من أن يكون بوابةً للإنصاف.
أن يُنظر إلى الإنسان لا بوصفه قيمة اقتصادية أو رقماً في جدول، بل باعتباره كائناً حيّاً له حاجات وانفعالات وصدمات وطاقات.
*وتتحقّق العدالة السكانية عندما:
تُبنى السياسات على بيانات دقيقة وشاملة لا تستثني أحداً، وتُراعى الفروقات بين الفئات العمرية، والأنواع الاجتماعية، والمناطق الجغرافية وأن يُتاح للجميع الوصول العادل إلى: التعليم، الصحة، الدعم النفسي، الأمن، وأن تُسمع أصوات المهمّشين وتساهم في صنع القرار
وفي قلب هذه الرؤية العادلة، يقف صندوق الأمم المتحدة للسكان (UNFPA) بوصفه أحد أبرز الفاعلين العالميين في مجال السياسات السكانية والإنصاف الإنساني، حيث تجاوز دور الصندوق مجرد دعم خدمات الصحة الإنجابية إلى ما هو أعمق من خلال: تقديم الدعم النفسي الاجتماعي والصحة النفسية للفئات الأكثر هشاشة، خاصة النساء والفتيات في مناطق النزاع والأزمات.
ولأن التحديات تتفاوت في حدّتها واحتياجاتها، اعتمدتUNFPA إطاراً عملياً مرجعياً يُسمى:هرم التدخلات النفسية الاجتماعية (ISA-C)، وهو نموذج يوزّع التدخلات النفسية إلى أربع طبقات متصاعدة:.1الخدمات الأساسية والدعم العام.2الدعم المجتمعي غير المتخصص.3الدعم النفسي المركّز.4العلاج النفسي المتخصص
من خلال هذا الهرم، لا تُقدَّم الرعاية النفسية كترف، بل كحقّ سكاني أصيل، تُوفَّر له الموارد، والتدريب، والسياسات اللازمة.
إن برامج UNFPA تُعيد الاعتراف بإنسانية الفرد، وحقه في التوازن والطمأنينة، في أقسى ظروف العالم.
وفي اليوم العالمي للسكان، علينا أن لا نُراكم الإحصاءات فقط، بل مؤشرات التعافي، ومعدلات الكرامة، ومساحات الأمان النفسي، ففي نهاية المطاف، ما قيمة النمو السكاني إن لم يكن نمواً في العدالة؟
وما جدوى التعداد إن لم يُرافقه احتواء؟
فلعل أول خطوة في تحقيق العدالة السكانية… أن نحصي الألَم أيضاً.

جرب ميزات الذكاء الاصطناعي لدينا
اكتشف ما يمكن أن يفعله Daily8 AI من أجلك:
التعليقات
لا يوجد تعليقات بعد...
أخبار ذات صلة


شبكة أنباء شفا
منذ يوم واحد
- شبكة أنباء شفا
المفكر الإسلامي محمد نبيل كبها في حوار خاص مع ' وكالة شفا ' حول علاقة العلم بالدين
شفا – خاص – الصحفية أسيل أبو محميد – في وقت تتصاعد فيه النقاشات حول العلاقة بين الدين والعلم، نلتقي اليوم مع الكاتب والمفكر الإسلامي محمد نبيل كبها، في مركز 'هوليستك' الكائن في عمارة 'البجة سنتر' بمدينة رام الله، للحديث عن أهمية هذه العلاقة وأبعادها، واُفتتح الحوار في استعراض جزء من سيرته الثقافية والأدبية والعلمية. س: هل تجربة الكتابة محتكرة عليك يا أستاذ محمد أو على صنف معيّن ؟ أم يستطيع الإنسان العادي أن يكون كاتبا ومفكّرا ؟ ج: نعم يستطيع، سأل أحدهم الأديب والرّوائي الرّوسي 'ليو تولستوي': 'هل يستطيع الإنسان العادي أن يكتب؟' فأجاب: 'نعم يستطيع، ولكن عليه أن يكتب في موضوع شيّق بالنسبة له، ولكن هذا لا يجعل منه كاتبا عظيما أو روائيّا عظيم، فالعباقرة لا يولدون عباقرة، وإنما يصبحون كذلك بعد مشقّة طويلة من القراءة والمطالعة والدراسة، وكذلك الكاتب'. وعندما سُأل الكاتب الأمريكي الساخر 'مارك توين': 'كيف نكتب؟' فأجاب: 'خذ قلما وورقة، وإكتب الأفكار التي تثور في ذهنك، ولكن هناك أمران مهمّان، الأوّل هو نوعيّة الأفكار التي ستكتبها، والثاني والأهم وهو أن تستطيع أن تعبّر عنها بهذا القلم على هذه الورقة. س: ذكرت في كتبك مصطلح 'العقم العربي'، ماذا تقصد بالعقم العربي؟ ج: هناك العقم الأنثوي والعقم الذكوري، وهو عدم قدرة الوالدين على الإنجاب، وهناك العقم العقلي العربي، وهو عدم قدرة العقل على إنجاب وإنتاج الأفكار، وإن أنجبها فإنّها عادة ما تخرج مشوّهة ومعوّقة. ولكي نخرج بعقل سليم لديه القدرة والّلياقة على توليد مفاهيم جديدة، علينا في البداية تحرير العقل العربي المسلم. س: ما سبب توجهك للقراءة وللكتابة والأدب وأنت تخصّصك مهندس حاسوب؟ ج: بداية، لا يمكن أن تنبثق العظمة الحقيقية والحكمة إلا من خلال معاناتنا الوجودية في سقوطنا داخل مسلسل الحزن والألم، ولكل إنسان قصّته وحكايته، ولكن الإنسان الجسور والشّجاع فينا هو من يرى في هذه الصّعوبات والألآم تحدّيًا وإصرارًا لمواجهة خوفه ومحنته ليخصّب نفسه ويعرف ذاته.سأتطرّق الى بعض محطات حياتي والتي هي أحد أسباب صعود أفكاري وكتابي على طاولة ومائدة الوجود …أنا منشئي في المملكة العربية السعودية، وكانت البيئة التي تحيط بي هي بيئة إسلامية محضة وتلقينيه، حيث وضعني والدي حفظه الله في المساجد منذ نعومة أظافري لكي أتلقى حفظ القران الكريم وأحكام التجويد والفقه والحديث والعلوم الشرعية، ثم انتقلت الى المملكة الأردنية الهاشمية، ثم الى وطني فلسطين، وكان لكل منها مناخه الخاص الذي أثّر في شخصي وفكري، حتى تلقّيت الصدمة الكبرى حينما انتقلت إلى جمهورية مصر العربيّة كي أتلقّى تعليمي الجامعي وأتخصص في هندسة الحاسوب فيها، وكانت صدمة شكيّة عقائديّة .فعندما تكون طالب بسيط أمام بروفوسور عظيم العقل وعملاق المعرفة يقوم بتعلميك نظرية الانفجار العظيم big bang theory للعالم الفيزيائي الروسي '(جورج جاموف' ويقول لك : 'قبل 13 مليار سنة ضوئية كان هناك جرم صغير، تعرّض إلى كثافة عالية ودرجة حرارة عالية فحدث له انفجار عظيم، هذا الانفجار أدى لولادة الكون الحالي، حيث انفجر هذا الجرم مكونا المجموعة الشمسية ثم مجرة درب التبانة ثم المجموعة العنقودية الأولى والثانية والثالثة ثم السماء الرادويّة لتصل بكوننا الى ما هو عليه الأن -وهذا بفعل صدفة- ولا يوجد إله، والأدلة العلمية والفيزيائية تؤكد ذلك، وفي المقابل تجد خطاب إسلامي علمي سطحي وضعيف لا يجيب على هذه النظريات العلمية، بالتأكيد سيعتريك الشك.وعندما يقوم بتعلميك بروفيسور آخر نظرية التطور evolution theory لعالم الطبيعة والأحياء والجيولوجيا العالم الكبير 'تشارلز داروين' ويخبرك بأنه قبل 3 مليار سنه نشأت أوّل الكائنات الحيّة -بكتيريا- وبقيت على الأرض وحدها 2 مليار سنه، ثم بدأ ظهور 'حقيقيّات النّواة' ثم الكائنات البسيطة عديدة الخلايا، مثل الديدان وقناديل البحر والإسفنج، ثمّ بدأت بالإنتواع، فبدأ ظهور الأسماك ثم البرمائيّات ثم الثديات، إنتهاءً الى ظهور الأستروبيثيكاس والهومو من سلف مشترك.كل هذا أعلنه داروين عام 1859 في كتابه 'أصل الأنواع Origin of Species' أنّه لا خلق ولا تصميم ، الطّبيعة هي التي تفعل في زمانيّة طويلة ممتدّة.هَذِه النَّظرِيةِ التي أَحدثَتْ هِزَّةً فِي عُمقِ نَظرةِ الإِنْسانِ إِلى هُويَّتِه، وعَلاقَتِه بالطَّبِيعةِ والكَوْن، وتجد في المقابل خطابا إسلامي محليا وركيكا، لا يجيب بشكل علمي على أسئلة ال 'Naturalism' الطبيعيّون المتطورون والداروينيّين وال 'Atheism' الإلحاد، وال 'Agnosticism' اللاأدرية، وال ''Apatheism اللاكتراثية، وال Deism'' الربوبيّة، وال Secular humanism' ' العلمانية، بالتأكيد سينخر وينقر عقلك الشك، وهذا ما حدث معي .وهناك معارف لي كثر سقطوا في شباك الإلحاد، ومنهم من وقع في اللادينية، ومنهم من آمن بالتطور.أنا سقطت في شباك ال Skepticism وال Agnosticism ، ولكن ليس الشكيّة الساذجة ال Skepticism التي ترتكز على تعليق الحكم في الأشياء، كل شيء وكل مسألة قابل للنفي والاثبات والسّلب والايجاب بقوى متعادلة، لأن هنا يضيع اليقين وتبقى المسألة معلّقة، ويصبح الانسان غير قابل للمعرفة، والشكيّة هي مدرسة ومذهب وفلسفة أسسها الفيلسوف اليوناني الكبير ' بيرون' ثم حمله بعده الراية تلميذه 'تيمون' وبوفاة تيمون انتهت الفلسفة الشكية، ولكنها بعثت من جديد في مصر لفترة زمنية ثم إنتهت .لكن الشك الذي وقعت فيه هو الشك 'الإبستميلوجي' أو الشك 'المعرفي'، وهو الشك الحقيقي والمفهوم الأوسع للشك، وبدأت ابحث عن الحقيقة، حقيقة وجودي وسر وجودي، وحقيقة الوجود الموضوعي من حولي، وحقيقة ما وراء الوجود ، واستمرت رحلتي هذه لعامين كاملين اعتزلت فيها الناس، حيث بدأت شاكا وانتهيت موقنا بأن الرسول -ص- هو حق، وأن الإسلام هو حق، وان القران هو حق، وأن الله هو الحق وهو الحقيقة الأولى التي انبثقت منها كل الحقائق، قال تعالى : 'ذَٰلِكَ بِأَنَّ ٱللَّهَ هُوَ ٱلْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِن دُونِهِ ٱلْبَٰطِلُ'. وهذا الذي حصل معي حدث مع الكثير من المفكرين والعلماء والفلاسفة، ومن جملتهم حجة الإسلام 'أبو حامد الغزالي'، والفيلسوف الفرنسي الكبير 'رينيه ديكارت'، وكل مفكر حقيقي يبحث عن الحقيقة. س: ماذا تقصد بتجديد وتغيير الخطاب الإسلامي ؟ ج: تجديد الخطاب الاسلامي لا يكون في العقائد، وإنما في الفهم الحديث للآيات الكونية والوجودية، أي: 'في فهم الآيات التي تنطق العلوم والمعرفة، والتي انبثقت منها العلوم'، كعلم الكوزمولوجي، والأنثروبولوجي، والأسترونومي، والأنتولوجي، وغيرهامشكلة الخطاب الاسلامي اننا لم نقفز به إلى الهيئة العالميّة، الإمام الشّافعي زار مصر 200 هجري، وكان عدد سكان مصر وقتها 2 مليون تقريبا، والان عددهم 100 مليون ويزيدون، ولم يتجاوز أحد إلى هذه اللحظة عقل الشّافعي، بينما الفيلسوف والفيزيائي 'ابن رشد' العربي والمسلم، والذي لم يستفيد العرب والمسلمون منه بقدر ما استفاد منه الأوروبيّون الذين أطلقوا عليه لقب Averroes حيث تعلّموا منه كل شيء، وليس هذا فحسب، بل تجاوزوا عقل ابن رشد لتحدث بعدها النهضة الأوروبية.الأوروبيّون تجاوزوا عقل 'ابن رشد'، هل نحن -العرب والمسلمون- تجاوزنا عقل 'الغزالي'؟ لم نتجاوز الغزالي، وهو إلى هذه الّلحظة يعتبر بالنسبة لنا مرجعيّة في كتبه وأفكاره. نحن العرب والمسلمون إلى هذه اللحظة لم نتجاوز عقل ابن سينا، ولا ابن كثير، ولا الإمام الغزالي، ولا الفارابي، ولهذا السبب تحديدا لم يخرج الى هذه اللحظة آينشتاين العرب وأرسطو المسلمين، ولم تحدث النهضة العربية والنهضة الإسلامية. س: ما هي جهة نظرك حول الوضع الفلسطيني الصعب والراهن في وقتنا الحالي، سواء في قطاع غزة وما يواجهه أخوتنا في غزة من مجازر شنيعة وحملات إبادة، أو في الضفة وما نواجهه من جرائم الاحتلال وعربدة المستعمرين، وسلب للأراضي بالقوة، والاعتداء على المحال التجارية، وتدمير للبيوت؟ ج: لا أجد حلّا في هذا الوقت الصعب والراهن الا الرباط، الرباط هو السلاح الوحيد الذي نمتلكه في الوقت الحالي.الاحتلال يسعى منذ السابع من أكتوبر الى التطهير العرقي، وتهجير الشعب الفلسطيني طوعاُ وكرهاً لردم هويته.قد تختلف الأدوات، ولكن هدف الاحتلال واحد، في غزة القتل وسفك الدماء والمذابح والمجازر، وفي الضفة الحواجز العسكرية، وقلة الرواتب، وقتل العشرات، وأسر المئات، وفي الداخل رفع الضرائب ولجم الحرف والتضييق. لذلك علينا نحن الفلسطينيين أن نكون يقظيين، وأن نرابط على أرضنا، ليس عليك أن تطلق صاروخا أو تقذف حجرا، وإنما أن تبقى في بقالتك، وأنت في مكتبك، وأنتِ في منزلك، وأنت في قهوتك، ضع قدماً على قدم، ولا تتزحزح، واصبر، وابقى مرابطا فيها، فهذا شرفك، وهذا ما أشار اليه نبينا محمد -ص- عندما قال: 'لا تزال طائفة من أمتي على الدين ظاهرين لعدوهم قاهرين، لا يضرهم من خالفهم إلا ما أصابهم من لأواء، قالوا: يا رسول الله أين هم؟ قال: في بيت المقدس، وأكناف بيت المقدس.


جريدة الايام
منذ 3 أيام
- جريدة الايام
"شاليه الطائرة" في قِفّين.. تعويض الحرمان من الطيران!
قفين/ طولكرم - أ ف ب: على تلة في شمال الضفة الغربية المحتلة غير بعيدة من الجدار الفاصل مع إسرائيل، أقام شاب فلسطيني بيت ضيافة على شكل طائرة يأمل بأن يستقطب السكان المحرومين من المطارات والسفر. ويقول صاحب البيت منور هرشة (27 عاماً) لوكالة فرانس برس: "هذا هو الهدف، بما أنه لا توجد لدينا طائرات ولا توجد لدينا مطارات، الناس تفضل المجيء إلى هنا"، خصوصاً الأطفال. صمّم هرشة البيت وبناه بنفسه بمساعدة شقيقَيه، كطائرة بيضاء اللون بذيل أحمر. ويضم البيت غرفة نوم رئيسية في المقدمة، وأخرى للأطفال في الذيل. ويراوح سعر استئجار البيت بين نحو 300 و600 دولار لليلة الواحدة. ويقول هرشة: إن المشروع "غريب، حلو ومميز، جديد على المنطقة وعلى فلسطين". ولقي البيت، الذي كتب على جانبه "شاليه الطائرة" بالعربية والإنكليزية، رواجاً على منصات التواصل الاجتماعي. ويشرح هرشة أنه كان يود رفع العلم الفلسطيني على البيت وتسمية الطائرة "ملكة فلسطين"، لكنه لم يقم بذلك "بسبب الأوضاع الصعبة". ويقع بيت الضيافة في المنطقة المصنفة جيم (C)، والتي تغطي 60 في المئة من مساحة الضفة الغربية. وتخضع هذه المنطقة للسيطرة الإسرائيلية بالكامل. تحتل إسرائيل الضفة الغربية منذ العام 1967، وغالباً ما تقوم بهدم المنازل التي تبنى في المنطقة "جيم" المكونة في الغالب من قرى وأراضٍ ريفية. وكانت الأراضي الفلسطينية تضم مطارَين، أحدهما في القدس الشرقية والآخر في مدينة رفح بجنوب قطاع غزة، أوقف العمل بهما خلال الانتفاضة الثانية التي اندلعت في العام 2000. وما تبقى من مطار قلنديا في القدس الشرقية أصبح اليوم معزولاً عن بقية الضفة الغربية بسبب الجدار الفاصل. ورغم التحديات وخطر الهدم، يحثّ هرشة "كل شخص لديه أرض أن يعمل ويستثمر فيها طالما هناك فكرة وتشجيع"، مؤكداً عزمه على توسيع مشروعه. ويوضح: "إن شاء الله بعد هذه الطائرة، العام القادم سنبني سفينة"، سعياً للتعويض على السكان الذين لم يتح لهم المجال برؤية مراكب حقيقية في البحر بسبب القيود المفروضة عليهم. ويقول هرشة: "نحن شعب نخسر الأشياء باستمرار، أرضنا، حقوقنا، حياتنا".


شبكة أنباء شفا
منذ 4 أيام
- شبكة أنباء شفا
غيابٌ على أرصفة المدينة ، بقلم : محمد علوش
غيابٌ على أرصفة المدينة ، بقلم : محمد علوش في صباحٍ رماديٍّ من كانون، حيث تتدلى الغيوم كأنها ستلامس قبة الصخرة من بعيد، خرجت من بيتي في حي الطيرة، أسير باتجاه المدينة التي لا تكلّ عن العتب، رام الله، تلك التي تشبه قلباً يتعب ولا يتوقّف، تنتظرني كعادتها دون أن تسألني عن الوقت أو الوجع. عند المنارة، كانت الحمائم تمارس عادتها القديمة، تدور حول الأعمدة الأربعة كأنها تحرس ذاكرة المدينة، العجوز الذي يبيع الكستناء كان هناك، يهمس للنار ويحرك المقلاة فوق الجمر، ولا يكلّ من الانتظار، والوجوه تتغير من حوله، لكنه يبقى، هناك شيء في ثباته يربكني، كأننا جميعاً نمرّ وهو وحده الباقي. المدينة تمشي بسرعة.. وأنا أمشي ببطءٍ مقصود، أخاف أن تفوتني التفاصيل، أقترب من شارع الإرسال، حيث الأصوات تختلط بأزيز المركبات، وصخب الحياة يشبه ضجيج البحر عند اشتداد الريح، والمارة لا ينظرون في العيون، يمشون كأن كل واحد منهم يحمل سرّاً، أو فشلاً ما، أو رسالة لم تكتب بعد. في الطريق إلى شارع ركب، بدا كل شيء كما هو، الأرصفة التي تحفظ وقع أقدامنا، أبواب المحال القديمة التي تنوء بثقل الأيام، والباعة الذين ينادون دون أن يسمعهم أحد، وعلى الجهة المقابلة، مقهى العربي، ما يزال يفتح ذراعيه لكل من أضاع موعداً أو نصاً أو فكرة. جلستُ هناك، الطاولة ذاتها التي كنت ومحمد نرتادها كل مساء خميس، هو يطلب قهوته سادة، وأنا أطلبها مزاجية، كان يقول لي دائماً: 'المدينة لا تنسى، لكنّها لا تنتظر أحداً'، ضحكته كانت حادة، كأنها تكشف عمقاً في حزنه، والآن، لم يبقَ من تلك الضحكة سوى الفراغ الذي يرنّ في أذني. سألت النادل عن محمد. هزّ رأسه بأسى وقال: 'من وقت الحرب الأخيرة، ما عاد حدا شافه…'. لم يحتج أن يوضح أكثر، الكلمة تكفي، فالغياب في رام الله لا يُعلن نفسه، فقط يُترك كندبةٍ على أطراف الكلام. خرجتُ أتمشّى، مررتُ بباب الأزبكية، ذلك الدكان الذي يبيع الكتب بنصف ثمنها لكنه يحتفظ بأغلاها على الرفوف العليا، كأنه لا يريد التفريط بكنوزه، هناك قرأت مرة لمحمود درويش وهو يغني: 'هذي البلادُ لنا…'، وهناك أيضاً دلّني محمد على ديوان قديم لأمل دنقل، وقال: 'خذ، هذا الصوت الذي يشبهك'. كم مرة سرنا معاً من الأزبكية حتى الحاجز؟ وكم مرة خططنا لكتابة شيءٍ يليق بالمكان، شيء لا ينكسر مع أول هجمة غاز أو أول خبر اغتيال؟ الوجوه التي مرّت بي اليوم كانت مألوفة بشكل غريب، كأن الزمن قد التوى على نفسه، بعضهم لم يتغيروا، فقط زادت التجاعيد حول العيون، وبعضهم كانوا يشبهون من غابوا، رأيت رجلاً يشبه محمد، يمشي بنفس الطريقة، يضع يده اليمنى في الجيب، ويحدق في الأرض، لكن عينيه كانتا غريبتين، ليس فيهما ذاك الوهج، ولا ذاك الشغف الهادئ الذي كان يضيء وجهه حين يتحدث عن الشعر، أو فلسطين، أو المرأة التي أحبّها ولم تَعُد. عدت إلى المنارة، متعباً كأنني اجتزت نهراً خفياً من الغياب، الحمائم ما زالت هناك، لكنها لم تكن تدور، بل تنقر الأرض ببطء، تبحث عن فتات الخبز الذي نثره صبيٌ صغير بملل، الشمس بدأت تطلّ بخجل من خلف الغيم، تماماً كما كانت تفعل في الشتاءات الماضية، لا شيء تغيّر في المدينة، سوى أننا صرنا أقلّ. رام الله، في هذا الصباح، بدت لي كأنها تناديه، كل زاوية، كل مقهى، كل عطرٍ عابر، كان يقول: 'أين محمد؟' لكن محمد لا يرد، ومثل كل من أحبّ المكان أكثر مما يجب، اختار أن يغيب في صمت.