
هل باتت 'شريعة الغاب' هي التي تحكم العلاقات الدولية؟ بقلم : د. ماهر الشريف
هـل بـاتـت 'شـريـعـة الـغـاب' هـي الـتـي تـحـكم الـعـلاقـات الـدولـيـة؟ بقلم : د. ماهر الشريف
نجح بنيامين نتنياهو في جر دونالد ترامب إلى المشاركة في الحرب التي شنتها إسرائيل على إيران، إذ أعلن الرئيس الأميركي، فجر يوم الأحد في 22 حزيران/يونيو الجاري، أن الجيش الأميركي 'دمر بالكامل المنشآت الأساسية لتخصيب اليورانيوم' في فوردو ونطنز وأصفهان، وأن على إيران أن 'تعقد السلام الآن، وإذا لم تفعل ذلك، فستكون الهجمات القادمة أكبر بكثير'، معتبراً أن على إيران 'أن تقبل الآن بإنهاء الحرب مع إسرائيل'، وكتب على منصته على مواقع التواصل الاجتماعي: 'إنها لحظة تاريخية للولايات المتحدة الأميركية وإسرائيل والعالم، ويتوجب على إيران الآن أن تقبل بإنهاء هذه الحرب'.
وجاءت هذه الهجمات الأميركية بعد يومين من من تصريح دونالد ترامب بأنه سيتخذ قراره إزاء إيران 'خلال أسبوعين'. أما في إسرائيل، فقد أشاد بنيامين نتنياهو بـ 'العمل التاريخي' الذي قام به رئيس الولايات المتحدة، وقال: 'أشكركم، وشعب إسرائيل يشكركم، لقد أظهرت أميركا أنه لا مثيل لها حقاً'، و'تمّ الوفاء بالوعد بتدمير برنامج إيران النووي؛ فالقوة أولاً، ثم السلام'.
في المقابل، أدانت طهران 'الانتهاك الخطير للقانون الدولي'. واعتبر وزير الخارجية الإيراني عباس عراقجي في تغريدة على موقع 'إكس' أن الهجمات الأميركية 'مشينة وستكون لها عواقب أبدية'، متهماً واشنطن بـ 'السلوك الفوضوي والإجرامي'، ومؤكداً أن بلاده تحتفظ بـ 'جميع الخيارات للدفاع عن سيادتها'. بينما أكدت الوكالة الذرية الإيرانية أن البرنامج النووي المدني سيستمر 'رغم المؤامرات الشريرة للأعداء'.
ما هي الخيارات التي يمكن أن تلجأ إليها إيران؟
يعتقد الخبراء الأميركيون الذين استجوبتهم صحيفة 'نيويورك تايمز' أن قرار دونالد ترامب بضرب إيران يمثل بداية فترة من عدم الاستقرار في الشرق الأوسط، مع احتمال حدوث هجوم مضاد. 'إنها مرحلة جديدة، قد تكون هناك مشكلات'، قال راي تاكيه، كبير الباحثين في شؤون الشرق الأوسط في 'مجلس العلاقات الخارجية'. ووفقاً له، فمن المرجح أن يضطر القادة السياسيون الإيرانيون إلى الرد: 'لقد تعرضوا للإذلال بجميع الطرق الممكنة، مما يجعلهم عرضة للانتقادات من شعبهم ومن الداخل، وبات عليهم في الأساس استعادة كبريائهم بطريقة أو بأخرى'. بينما انتقد أحد قادة الديمقراطيين في مجلس النواب قرار دونالد ترامب، متهماً إياه بدفع الولايات المتحدة نحو الحرب. وقال حكيم جيفريز في بيان: 'لقد ضلل الرئيس ترامب البلاد بشأن نواياه، ولم يسعَ للحصول على تصريح من الكونغرس لاستخدام القوة العسكرية، ويخاطر بإقحام الأميركيين في حرب كارثية محتملة في الشرق الأوسط'.
بعد ساعات على الهجوم الأميركي أعلن بيان للحرس الثوري الإيراني أن 'الحرب بدأت الآن'، بينما كتب وزير الخارجية الإيراني عباس عراقجي في تغريدة على موقع 'إكس' أن الضربات الأميركية قضت على أي إمكانية للدبلوماسية مع الأميركيين أو الأوروبيين، وكتب: في الأسبوع الماضي، كنا في مفاوضات مع الولايات المتحدة عندما قررت إسرائيل إفشال الدبلوماسية؛ هذا الأسبوع، أجرينا محادثات مع ثلاث دول أوروبية [فرنسا وبريطانيا وألمانيا] قبل أن تقرر الولايات المتحدة إفشال هذا العملية'، وأضاف أن تعليقات البريطانيين والاتحاد الأوروبي حول 'عودة إيران إلى طاولة المفاوضات أصبحت الآن غير قابلة للتحقيق'.
لا أحد يعرف حتى الآن كيف ستكون طبيعة الرد الإيراني على الهجمات الأميركية. هل ستواصل إيران قصف أهداف إسرائيلية وتتجنب المواجهة المباشرة مع الأميركيين؟ علماً أن قائد الجيش الإيراني أعلن أن إيران كانت ترد دوماً على الهجمات الأميركية التي استهدفتها. مهما يكن، يبدو أن إيران تملك خيارات كثيرة، من ضمنها، كما يرى بعض المراقبين، تشجيع حلفائها على استهداف القواعد الأميركية في المنطقة، وتشجيع الحوثيين في اليمن على استهدف السفن الأميركية في بحر العرب، كما يُشار إلى خيار آخر يثير قلقاً شديداً في المنطقة والعالم، ألا وهو قيام إيران بفرض حصار على مضيق هرمز، الذي يمر عبره حوالي 20٪ من النفط العالمي، وما لا يقل عن 20٪ من الغاز العالمي. وسيكون لإغلاق هذا الممر الاستراتيجي تداعيات كبيرة، ليس فقط على البلدان المنتجة والمصدرة للنفط والغاز في المنطقة، ولكن أيضاً على كبار المستوردين، مثل دول أوروبا، وقد يتسبب ذلك في ارتفاع كبير في أسعار النفط، التي قفزت بالفعل بنسبة 13٪ في الساعات التي أعقبت الهجوم الإسرائيلي على إيران.
هل تندفع إيران نحو إنتاج أسلحة نووية؟
لا يستبعد خبراء أن تنسحب إيران من معاهدة عدم انتشار الأسلحة النووية، وخصوصاً بعد الانتقادات الشديدة التي وجهتها إلى الوكالة الدولية للطاقة النووية ومديرها وبعد التوصية التي أقرها مجلس الشورى الإيراني بضرورة الانسحاب من هذه المعاهدة، بل يذهب بعض الخبراء إلى ترجيح أن تلجأ إيران، التي لعلها اتخذت احتياطات لحماية مخزونها من اليورانيوم المخصب تحسباً لضربات محتملة، إلى وضع هدف الحصول على أسلحة نووية على جدول أعمالها للسنوات القادمة. فرغم الضربات الشديدة التي وجهت إلى منشآتها النووية، وقيام إسرائيل باغتيال عدد من علمائها، فإن خبرتها في مجال تخصيب اليورانيوم باتت مكتسبة ولا يمكن تدميرها، كما صرّح بذلك المتحدث باسم المنظمة النووية الإيرانية، بهروز كمالوندي، لوكالة 'تسنيم'، بقوله: 'على الولايات المتحدة أن تعلم أن هذه الصناعة (النووية) متجذرة في بلدنا وأن جذورها لا يمكن تدميرها؛ بالطبع، لقد تعرضنا لأضرار، لكن هذه ليست المرة الأولى التي يتعرض فيها هذا القطاع لذلك'.
وفي هذا السياق، قال كينيث بولاك، نائب رئيس 'معهد الشرق الأوسط' والمحلل السابق في وكالة الاستخبارات المركزية الأميركية: 'لن نعرف ما إذا كان الرهان [رهان ترامب] ناجحاً، إلا في حال عدم حصول النظام الإيراني، في غضون ثلاث إلى خمس سنوات، على الأسلحة النووية التي يملك الآن أسباباً وجيهة كي يحصل عليها'. ومن المعروف أن وكالة الاستخبارات الأميركية لم تخلص، خلافاً لمزاعم ترامب ونتنياهوـ إلى أن إيران كانت على وشك صنع قنبلة نووية. وبالنسبة لتريتا بارسي، نائب الرئيس التنفيذي لـ 'معهد كوينسي للحكم الرشيد'، فإن قرار ترامب بقصف المنشآت النووية الإيرانية 'يجعل من المرجح الآن أن تصبح إيران دولة حائزة على أسلحة نووية في غضون خمس إلى عشر سنوات'، وتضيف: 'يجب أن نحذر من الخلط بين النجاح التكتيكي والنجاح الاستراتيجي…فالحرب في العراق كانت أيضاً ناجحة في الأسابيع الأولى، لكن إعلان الرئيس بوش عن 'إنجاز المهمة' لم يدم طويلاً'. أما جينيفر كافاناغ، مديرة التحليل العسكري في مؤسسة 'أولويات الدفاع'، فقد قدّرت أن قرار ترامب بإنهاء جهوده الدبلوماسية بصورة مفاجئة 'يجعل التوصل إلى اتفاق مع إيران على المدى المتوسط والطويل 'أكثر صعوبة'، ذلك إن إيران 'لم يعد لديها أي سبب للثقة في ترامب أو الاعتقاد بأن التوصل إلى تسوية سيخدم مصالح الجمهورية الإسلامية'.
وإذا ما اندفعت إيران نحو إنتاج أسلحة نووية، فإن دولاً أخرى في المنطقة ستحذو حذوها، ما يفتح الباب واسعاً أمام سباق تسلح نووي واسع، يجعل مشروع بنيامين نتنياهو ببزوغ فجر 'شرق أوسط جديد' تتسيده إسرائيل، مجرد أضغاث أحلام .
هل لفظ النظام العالمي أنفاسه الأخيرة؟
يريد كلٌ من دونالد ترامب وبنيامين نتنياهو أن يفرضا السلام من خلال القوة. لكن القوة لا تفرض في الواقع 'سلاماً' بل تفرض 'استسلاماً'، وهذه 'القوة' هي التي باتت تحكم، كما يبدو، العلاقات الدولية والنظام العالمي.
في 15 كانون الثاني/يناير 2025، خلال مثوله أمام مجلس الشيوخ لإقرار تعيينه في منصب وزير الخارجية، صرح ماركو روبيو بما يلي: 'النظام العالمي الذي قام بعد الحرب ليس فقط عفا عليه الزمن: إنه الآن سلاح يستخدم ضدنا'، وأضاف: 'مرة أخرى، نحن مدعوون إلى خلق عالم حر من الفوضى'. لكن النظام الذي أقيم في سنة 1945، في نهاية الحرب العالمية الثانية، شكلته إلى حد كبير الولايات المتحدة الأميركية، القوة المهيمنة في ذلك الوقت، في حين أن الفوضى العالمية هي التي تسببت بها، في المقام الأول، وخصوصاً بعد قيامها بغزو العراق في سنة 2003. والواقع، أن دونالد ترامب ليس رئيساً 'انعزالياً'، إنه 'إمبريالي'، إنه يريد أن يُحترم بفضل قوة الولايات المتحدة الأميركية، وهو 'يريد أن يظل سيد العالم، والشريف الجديد في البلدة'، أو 'الشريف الجديد للقرية العالمية'.
فحرب الإبادة التي تواصلها حكومة بنيامين نتنياهو على قطاع غزة، ثم الحرب التي شنتها على إيران، والتي شهدت مشاركة الولايات المتحدة الأميركية المباشرة فيها، أثبتا سيادة شكل من أشكال 'شريعة الغاب' على العلاقات الدولية، بحيث تعلو القوة على القانون، وهو ما قد يكون له عواقب وخيمة على الاستقرار العالمي والتعاون الدولي. فوفقاً لـ أ. هيلير، الباحث الرئيسي في 'المعهد الملكي للخدمات المتحدة' في لندن المختص بالشؤون الأمنية والعسكرية في العالم، فإن هذا التصعيد الكبير الحالي هو 'نتيجة طبيعية' للإفلات من العقاب، ذلك 'إن عدم تعرض إسرائيل لأي عواقب جراء انتهاكاتها المتكررة للقانون الدولي يرسل رسالة واضحة مفادها: إذا قررت المضي قدماً، فهي قادرة على ذلك'، وهي تعلم 'أنه يمكنها الاعتماد على أقوى الأطراف في المجتمع الدولي لمنع القيام بأي شيء إزاءها – أو أسوأ من ذلك، لتشجيعها'. وإذا كانت النتيجة الأولى لهذا الإفلات من العقاب هي 'المعاناة الهائلة التي يتكبدها السكان المدنيون، لا سيما في قطاع غزة'، فإن نتيجته الأخرى هي 'التآكل المتسارع للنظام العالمي القائم على القواعد، التي اتفق عليها بعد الحرب العالمية الثانية، إذ يبدو أن من يمتلك القوة يمكنه انتهاك هذه القواعد، من دون أن يتعرض لأي عقاب'.
من جهته، يقدّر الأكاديمي براين بريفاتي، من جامعة كينغستون في لندن، أن النظام الدولي الذي أقيم بعد سنة 1945 يواجه 'اضطراباً غير مسبوق، إذ إن الأسس التي قام عليها الاستقرار العالمي تتزعزع، ويبدو أن 2025 ستكون سنة فاصلة'، معتبراً أن الصراع المباشر بين إسرائيل وإيران هو 'أكثر من مجرد صراع ثنائي'، إنه 'مؤشر على تآكل المعايير الدولية'، ذلك إن الهجوم الإسرائيلي الواسع النطاق على إيران، 'شُن من دون موافقة مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة'. وهو كشف 'عن الهشاشة المتزايدة للمؤسسات الدولية، مثل الأمم المتحدة والمحكمة الجنائية الدولية ومحكمة العدل الدولية، التي أصبحت مهمشة بصورة متزايدة'. ويتابع قائلاً: ''تتصرف الحكومة الإسرائيلية بدرجة من الإفلات من العقاب نادراً ما تُشاهد، في حين أن الإدارة الأميركية، تقوض بنشاط الآليات العالمية المصممة لضمان احترام القانون الدولي'، بحيث إن 'الجمع بين دولة قوية تتصرف بحصانة تامة وقوة عظمى تعطل آليات المساءلة، يمثل نقطة تحول عالمية؛ إنه لحظة حرجة للغاية لدرجة أننا قد نضطر إلى إعادة النظر في معرفتنا بشان إدارة العلاقات الدولية وإدارة النزاعات، سواء بالنسبة للنضال الفلسطيني أو لنظام العدالة الدولية الذي بُني بعد الحرب العالمية الثانية'. فسياسة إسرائيل في قطاع غزة وهجومها على إيران يؤكدان للدول الأخرى أن 'القانون لم يعد يقيّد السلطة، وأن المؤسسات يمكن التحايل عليها، وأن المبادئ الإنسانية يمكن استخدامها لأغراض سياسية'.
والمصيبة أن حلفاء الولايات المتحدة الغربيين، أو أتباعها بالأحرى، لا يفعلون شيئاً لمواجهة انتهاكاتها المستمرة للقانون الدولي، بل يتخذون مواقف متناغمة مع مواقفها، ذلك إن بلدان الاتحاد الأوروبي متفقون على شرعية الحرب الإسرائيلية على إيران، ولا يعرفون كيف يتعاملون مع حكومة بنيامين نتنياهو، 'على حساب المخاطرة بالبقاء هامشيين دبلوماسياً'.
فقبل أسبوع واحد من شن الحرب على إيران، كان بنيامين نتنياهو يمر بمرحلة صعبة على الساحة الجيوسياسية، وذلك بعد أن فرضت بريطانيا عقوبات على اثنين من وزرائه، وكانت علاقاته مع قصر الإليزيه في أدنى مستوياتها، وكان الاتحاد الأوروبي يدرس احتمال إعادة النظر في اتفاق الشراكة مع إسرائيل، وكان من المرجح أن يكون المؤتمر الدولي حول حل الدولتين، الذي كان من المقرر أن يفتتح في نيويورك في 17 حزيران/يونيو الجاري برعاية فرنسا والمملكة العربية السعودية، تظاهرة دبلوماسية ضده، لكن رئيس الوزراء الإسرائيلي خرج من هذه الأزمة، بعد أن قام جيشه بمهاجمة إيران، وعادت القوى الأوروبية الرئيسية إلى لغتها التي كانت تستخدمها في فترة ما بعد 7 تشرين الأول/أكتوبر 2023: 'إسرائيل لها الحق في الدفاع عن نفسها'، مع تراجع الوضع في قطاع غزة إلى الخلفية في اهتمام هذه القوى (9)، علماً أن العشرات من الغزيين والغزيات ما زالوا يُقتلون كل يوم في قطاع غزة على أيدي جنود الاحتلال منذ بداية الحرب الإسرائيلية على إيران، لا سيما في مراكز توزيع المساعدات التي تديرها 'مؤسسة غزة الإنسانية' الأميركية، ذات التمويل الغامض. فالأشخاص المستهدفون هم 'أشخاص عاديون وغير مسلحين' يذهبون 'للحصول على الخبز والدقيق لأطفالهم'، كما قال محمد أبو عامر لوكالة 'فرانس برس'، الذي كان حاضراً عندما قتلت القوات الإسرائيلية أكثر من 50 شخصاً بالقرب من مركز لتوزيع الطعام في خان يونس.

جرب ميزات الذكاء الاصطناعي لدينا
اكتشف ما يمكن أن يفعله Daily8 AI من أجلك:
التعليقات
لا يوجد تعليقات بعد...
أخبار ذات صلة


معا الاخبارية
منذ 2 ساعات
- معا الاخبارية
ترامب: إسرائيل وإيران اتفقتا على وقف إطلاق النار
بيت لحم- معا- أعلن الرئيس الأمريكي دونالد ترامب في تغريدة على حسابه على منصة "تروث سوشيال" المملوكة له، أن إسرائيل والولايات المتحدة اتفقتا على وقف إطلاق نار يبدأ خلال ست ساعات. وكتب: "تهانينا للجميع فقد تم الاتفاق بشكل كامل بين إسرائيل وإيران على أنه سيكون هناك وقف إطلاق نار كامل وشامل خلال ست ساعات عندما تُكمل إسرائيل وإيران مهمتيهما الأخيرتين!)". وحسب قوله، ستكون إيران أول من يُوقف إطلاق النار، وبعد 12 ساعة، ستقوم إسرائيل بدورها.


جريدة الايام
منذ 3 ساعات
- جريدة الايام
ترامب مخادع .. الضربة الأميركية وما بعدها
لم تنته الحرب.. ولا إيران رفعت الرايات البيضاء. بدت الضربة الأميركية لثلاث منشآت نووية «نطنز» و«أصفهان» و«فوردو» الحصينة في أعماق الجبال، كأنها كلمة النهاية في الحرب الإيرانية الإسرائيلية. بانتشاء بالغ وصف الرئيس الأميركي «دونالد ترامب» تلك الضربة بـ«الرائعة». قال: «إن إسرائيل الآن آمنة». في الوقت نفسه دعا إلى ما أسماه «السلام عبر القوة»، مستعيراً التعبير نفسه من قاموس رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو. إنه الاستسلام دون قيد، أو شرط. تصور الإسرائيليون أن التدخل العسكري الأميركي يمهد الطريق للتوصل إلى «اتفاق جيد»، أو أن يحصدوا بالمفاوضات ما عجزوا عنه بالحرب. ردت إيران بموجات من الصواريخ الباليستية على مواقع استراتيجية إسرائيلية. كانت تلك الضربات الأقوى والأعنف منذ بدء المواجهات. تخيم أشباح الفوضى على الشرق الأوسط، الذي يريده نتنياهو أن يرسم خرائطه من جديد دون قدرة على حسم أي حرب بمفرده، أو أن يمتلك أي تصور سياسي لليوم التالي في غزة، أو إيران. كل سيناريو وارد وكل خطر ماثل في الإقليم كله تقاس الحروب بنتائجها السياسية وما يترتب عليها من معادلات جديدة في الصراع المحتدم على مصير الشرق الأوسط. إذا لم نقف مع إيران، نؤيدها وندعمها، فإن العواقب سوف تكون وخيمة. لم يكن المشروع النووي الإيراني وحده هو صلب التدخل العسكري الأميركي. أريد به أن يكون مخرجاً سياسياً للمأزق الإسرائيلي المستحكم، أو ترهيب الإيرانيين بضربات أعنف ومآسٍ أكبر إذا لم يقبلوا نوعاً من السلام يوافق المتطلبات الإسرائيلية. إذا ما صحت التسريبات الإيرانية المتواترة أنه قد جرى نقل اليورانيوم المخصب إلى أماكن أخرى، فإن المعنى أن ما هو سلمي قد يتحول إلى عمل صريح لإنتاج القنبلة النووية. لم يكن التدخل الأميركي مفاجئاً إنها متدخلة فعلاً تخطيطاً وخداعاً استراتيجياً وإمداداً بكل ما تتطلبه الحرب من معلومات استخباراتية، وأسلحة، وذخائر دون أن تتورط مباشرة في عملياتها، لكن سير المواجهات لم يصادف التوقعات والحسابات المسبقة. في الضربة الافتتاحية، قصفت إسرائيل عدداً كبيراً من المنشآت النووية، اغتالت مرة واحدة قيادات عسكرية وعلماء من الوزن الثقيل وبدا البلد كله مخترقاً ومنكشفاً. رغم الهزة العنيفة في مراكز القيادة والسيطرة، فاجأت إيران العالم كله بقدرتها على الإحلال القيادي وسرعة ردة الفعل في مساء نفس اليوم. ثم فاجأته بأجيال جديدة ومتنوعة من صواريخ «فرط الصوتية»، القادرة على اجتياز منظومات الدفاع الجوي والوصول إلى أهداف استراتيجية وأمنية وعسكرية واقتصادية حساسة. استدعى ذلك إلحاحاً إسرائيلياً علنياً على ترامب للدخول المباشر في الحرب، كما لو لم يكن هناك ترتيبات متفق عليها بأدق التفاصيل. أعطى ترامب انطباعاً قوياً بأن نوازعه تدعوه إلى دعم إسرائيل إلى أقصى مدى ممكن، غير أن الروادع تمنعه من إصدار قرار بالتدخل. فالانخراط المباشر بالحرب يناقض تعهداته التي انتخب على أساسها، وتناقض إرادة أغلبية الرأي العام الأميركي، الذي يرفض التورط في أي حروب. وفق استطلاعات الرأي العام الحديثة، التي أجرتها شركة «يو جوف»، فإن (16%) فقط يؤيدون التدخل فيما يعارضه (60%). تبلغ نسبة المعارضة داخل حزبه الجمهوري (51%) مقابل (23%). التقارير الاستخباراتية حذرته من العواقب والتداعيات، التي قد تضرب المصالح الاميركية في الشرق الأوسط، فضلاً عن الكلفة الاقتصادية الباهظة لأي تدخل، خاصة إذا أغلقت إيران مضيق هرمز بالغ الأهمية في نقل النفط والغاز. رغم ذلك كله مضى بمقامرته، السياسية والعسكرية إلى آخر المطاف، ضارباً عرض الحائط بكل المخاوف والحسابات. قبل الضربة الأميركية أبلغ ترامب كبار معاونيه بموافقته على خطة التدخل، لكنه أرجأ القرار الأخير لأسبوعين حتى يمكنه التعرف على فرص تخلي طهران عن برنامجها النووي. فتح المجال واسعاً لاتصالات ورسائل دبلوماسية إلى إيران عبر قنوات شبه علنية: «أن الحل السياسي ما زال ممكناً». أبدت إيران تأهبها لذلك الخيار بشرط وحيد هو وقف الهجوم الإسرائيلي. هكذا خدع الجميع بلا استثناء، وقد يدفع حزبه ثمن تلك المقامرة في الانتخابات النصفية المقبلة. إثر عودته من قمة السبع الكبار قال نصاً: «لقد نفد صبرنا» ملوحاً باغتيال المرشد الإيراني علي خامنئي. لم يكن هناك معنى لذلك التصريح سوى أن التدخل العسكري وشيك لا محالة. بعد وقت وجيز أطلق تصريحات عكسية تنفي أي استعداد لديه بالانخراط المباشر في الحرب، فهو رجل سلام جاء إلى منصبه لإنهاء كل الحروب، كما قال حرفياً. لم يُخفِ تطلعه للحصول على جائزة نوبل للسلام، أو أن يكون خامس رئيس أميركي في التاريخ يحصل عليها بعد ثيودور روزفلت ووودرو ويلسون وجيمي كارتر وباراك أوباما. هو رجل مربك ومرتبك يصعب توقعه.. يقول الشيء وعكسه في خطاب واحد. في البيت الأبيض فاجأ نتنياهو أمام الكاميرات بإعلان أنه قد فتح حواراً مع إيران للتوصل إلى اتفاق بشأن المشروع النووي. كانت تلك إهانة بالغة لحليف استراتيجي مقرب، لكنه واصل التنسيق معه بأدق التفاصيل «إننا نتهاتف يومياً». ثم ذهب في مدح نتنياهو إلى حدود غير متخيلة، وهو يزعم أنه رجل سلام. وصفه بعبارات يصعب أن يصدقها أحد في العالم، ولا داخل أسرته نفسها: «إنه رجل طيب وخير لا يجد الإنصاف من بلده». بالتوصيف القانوني والسياسي فإنه يتحدث عن رجل متهم من المحاكم الدولية بارتكاب جرائم حرب وإبادة جماعية. في الدعوة إلى إنصافه تبنٍّ لسياساته وجرائمه. إنه انتهاك كامل لأية قيمة إنسانية، وانتهاك آخر للصفات والمعاني. من يصدق الآن رئيساً مخادعاً؟!


قدس نت
منذ 6 ساعات
- قدس نت
إيران إلى أين؟
الإثنين 23 يونيو 2025, 01:50 م بقلم : مصطفى إبراهيم / في خطاب حماسي، أعلن الرئيس الأميركي دونالد ترامب أن "الهدف كان شلّ قدرة إيران على تخصيب اليورانيوم ووقف التهديد النووي"، وأن الضربة نُفذت بتنسيق كامل مع رئيس الحكومة الإسرائيلية بنيامين نتنياهو، الذي سارع إلى التفاخر بـ"تحقيق الهدف الأساسي للعملية عبر تدمير منشآت فوردو ونطنز وأصفهان"، وكأن ثلاث ضربات جوية كفيلة بإغلاق ملف نووي شُيّد على مدى عقدين. وبعد أن أوفى ترامب بوعده، ووسط موجة من النشوة العارمة التي عمت إسرائيل وبعض دول الشرق الأوسط، بدأت تبرز أسئلة مصيرية: ماذا عن نصف طن من اليورانيوم المخصب الذي نُقل، على ما يبدو، من منشأة فوردوإلى موقع آخر؟ وكيف يمكن إنهاء هذه الحرب بعد انضمام الولايات المتحدة فعليًا، ولأول مرة في تاريخها، إلى الهجوم العسكري الإسرائيلي ضد إيران؟ في هذه الاوقات وجدت إيران نفسها بعد الضربة الأميركية في عزلة خانقة. وعلى الرغم من الإدانة من كل من روسيا والصين، فإنهما عاجزتان عن تقديم ردّ عسكري أو مظلة دبلوماسية حقيقية. في الوقت نفسه، تتسم مواقف حلفاء طهران بالتردد. فحزب الله في لبنان والفصائل الشيعية في العراق اكتفوا ببيانات الإدانة، مؤكدين قدرة "الدولة الإيرانية القوية" على مواجهة التهديد. وحدهم الحوثيون أعلنوا تعليق اتفاق وقف إطلاق النار مع الولايات المتحدة، دون تنفيذ هجمات حتى الآن. طوال السنوات الماضية، استثمرت إيران في برنامجها النووي وشبكة من الحلفاء، وما سمي محور المقاومة، ووحدة الساحات، من سوريا ولبنان وفلسطين إلى العراق واليمن. ورغم مشاركتها في مفاوضات مع القوى الكبرى، فقد تمسكت ايران بـ"ذخرها الاستراتيجي"، أي برنامجها النووي، ورفضت التخلي عنه، خاصة بعد انسحاب ترامب من الاتفاق النووي في 2018. منذ عام 2021، عادت إيران لتخصيب اليورانيوم بمستويات عالية، وزادت وتيرة التصعيد بعد سلسلة ضربات إسرائيلية طالت منشأة نطنز وقادة بارزين في محور المقاومة، كان أبرزهم حسن نصر الله. وفي النصف الثاني من 2024، ومع سقوط نظام الأسد في دمشق، ارتفع منسوب القلق الإيراني، وردت طهران بتخصيب اليورانيوم بنسبة 60% – خطوة تُعد أقرب إلى عتبة السلاح النووي، وإن لم تبلغها بعد. عملية "شعب كاللبؤة"، التي انطلقت قبل عشرة أيام، سرعان ما تحولت من ضربة استباقية إلى مسار حربي مفتوح. ووفق وسائل الإعلام الاسرائيلية، حُددت أربعة أهداف رئيسية للعملية: تدمير البرنامج النووي الإيراني، وشلّ قدراته الصاروخية البالستية، وضرب محور المقاومة، وفرض ردع سياسي طويل الأمد. بل إن بعض المسؤولين الإسرائيليين تحدثوا صراحة عن إمكانية "الإطاحة بالنظام الإيراني" أو حتى اغتيال المرشد الأعلى علي خامنئي، الذي وصفه وزير الأمن يسرائيل كاتس بـ"هتلر العصر". السؤال الجوهري اليوم هو: هل ستدفع الضربة الامريكية الكبرى الإيرانيين إلى تقديم تنازلات؟ أم أنها، على العكس، ستدفعهم إلى مزيد من التشدد؟ يرى الإيرانيون أن برنامجهم النووي كان بمثابة "مظلة حماية" تمنع القوى المعادية من إسقاط النظام. ومن وجهة نظرهم، فإن التخلي عنه يعادل الانتحار السياسي. وتنقل صحيفة هآرتس عن مصادر أمنية أن "الرهان الأميركي على تدمير المنشآت النووية كوسيلة لجرّ إيران إلى طاولة المفاوضات قد يكون خاطئًا"، وأن الإيرانيين لديهم تجربة طويلة مع الصبر، بارعون في سباقات النفس الطويل. وعلى الرغم من تراجع قدراتهم العسكرية نسبياً ، فإنهم لا يزالون يحتفظون بأدوات تهديد حقيقية: من الصواريخ والطائرات المسيرة، إلى إمكانية ضرب القواعد الأميركية أو إغلاق مضيق هرمز، وهو سيناريو سيهز الاقتصاد العالمي ويضر بالصين وحلفاء واشنطن في الخليج. منذ الثورة الايرانية في العام 1979، كان الهدف الأول للنظام الإيراني هو البقاء. وقد نجح في تخطي حربٍ مدمرة مع العراق، وموجات احتجاج متكررة، وعقوبات دولية خانقة، وظلّ أكثر صلابة. واليوم، يسعى إلى خوض معركة محسوبة تضمن بقاءه، في مشهد إقليمي ملتهب تحوّل إلى "حلقة نار" يصعب كسرها. الرهان على أن رجال الدين في طهران سيضعون مستقبلهم بيد رئيس أميركي، سواء كان ترامب أو أوباما، يبدو ساذجاً. ما لم تُجرد إيران من خيارها النووي بالكامل، فإنها ستبقى لاعباً مهدداً ومهدَّدًا في آنٍ واحد. وحتى هذه اللحظة، لا أحد يعرف كيف ستنتهي هذه الحملة الأميركية القصيرة، ولا ما إذا كان الشرق الأوسط سيتنفس فعلاً بحرية من الصراعات على المنطقة العربية المغيب أهلها، والغطرسة الامريكبة الاسرائيلية وفائض القوة، أم أنه سيشهد انفجاراً نووياً مؤجلاً. جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة قدس نت