
المعرفة في القرار السياسي
كانت الحرب مشروعة بين الدول حتى عام 1928، وكانت تُعد أداة من أدوات حلّ النزاعات، سواء حول الحدود أو المصالح. وكانت الدول تتعامل مع نتائج الحرب على أنها أمر واقع. فالحرب هي التي ترسم الحدود، وهي التي تحسم الجدل حول مَن هو على حق، ومَن هو على باطل، لكن في الوقت ذاته كانت الدول المتصارعة أو المتحاربة تحرّم المقاطعة، أو العقوبات الاقتصادية خاصة قبل نشوب الحروب.
مؤتمر صغير انبثقت عنه وثيقة سياسية جديدة أدى إلى تغيير الموقف رأساً على عقب. وتتجسد نتائج هذا المؤتمر في وثيقة تُعرف باسم وثيقة «كيلوغ-برياند»، وهما وزيرا خارجية الدولتين الكبيرتين في ذلك الوقت، الولايات المتحدة وبريطانيا.
ورغم إيمان دول العالم، خاصة الدول الكبرى، بأن معاهدة 1928 لن تمنع نشوب الحروب، فإن جميع دول العالم سارعت إلى إقرار المعاهدة الدولية الجديدة، واعتمادها أساساً من أسس سياساتها الخارجية.
بين عامي 1862 و1945 تبادلت فرنسا وألمانيا السيادة على منطقة الإلزاس أربع مرات. ومنذ انتهاء الحرب العالمية الثانية ما تزال فرنسا (المنتصرة) تحتفظ بها كجزء منها، وهو أمر تتقبّله ألمانيا (المنهزمة) على مضض.. لكن إلى متى؟
تحيي فرنسا سنوياً ذكرى خمسمئة طفل من الألزاس قُتلوا في معسكرات النازية. وفي كل سنة يتحوّل إحياء الذكرى إلى تجديد حقّ فرنسا باستعادة المنطقة الأغنى بالمعادن في أوروبا، وتضطر ألمانيا إلى الصمت حتى لا يُفسَّر نفيُها لقصة الخمسمئة طفل على أنه دفاع عن النازية. وبعد الحرب العالمية الثانية اعتُمدت وثيقة كيلوغ-برياند أساساً لمحاكمة نورمبرغ التي تشكلت بعد الحرب لمحاكمة مجرمي النازية.
وكذلك، فإن معاهدة إنشاء الأمم المتحدة تضمّنت فقرات من هذه الوثيقة، منقولة عنها بالحرف، وبموجب هذه المعاهدة أيضاً، فإن التجسس بين الدول يُعد عملاً شرعياً، ولكن التدخل المباشر في الشؤون الداخلية للدول يُعتبر عملاً غير شرعي. أن تعرف فهذا حق وشطارة، ولكن أن تستخدم المعرفة للعدوان فذلك أمر آخر. فالعدوان مدان، أما المعرفة فحقّ. بمعنى أن التجسّس مشروع، لكن الآن في عصر التقنيات الإلكترونية المتطورة، فإن التجسس أصبح أداة من أدوات الحرب، إذ إنه يكشف عن نقاط ضعف الفريق الآخر التي يمكن التسلل عبرها ومن خلالها. وقد يكون على العكس من ذلك، أداة لردع العدوان إذا ما كشف عن عناصر قوة الآخر وإمكاناته. وخلال المرحلة الانتقالية من الاتحاد السوفييتي إلى الاتحاد الروسي، واجه الكرملين صعوبات مالية واقتصادية حتى إنه اضطر إلى التوقف عن دفع رواتب الموظفين. وأدّى ذلك إلى هبوط قيمة العملة (الروبل) إلى الدرك الأسفل. كان الكرملين بحاجة للمال، وفي الولايات المتحدة الكثير منه. وكان البيت الأبيض في واشنطن بحاجة لليورانيوم، وفي روسيا الكثير منه أيضاً. وهكذا أدت الحاجتان إلى تفاهم الخصمين اللدودين. حصل الكرملين على 15 مليار دولار، وحصل البيت الأبيض على 15 ألف طن من اليورانيوم. وهي كمية كانت كافية في ذلك الوقت لتزويد الولايات المتحدة بالطاقة لمدة عامين كاملين. لم تجرِ تفاصيل الصفقة بين وفدين عسكريين روسي وأميركي، ولكنها كانت ثمرة جهود أستاذ العلوم الفيزيائية في جامعة «أم.إي.تي» الدكتور «توماس نيف» مع زميل له من جامعة موسكو.
توافقت الولايات المتحدة والاتحاد السوفييتي (ومن بعده الاتحاد الروسي) على قبول مبدأ التجسس على الآخر، على أن تجري عملية التجسس بصورة علنية عبر طائرات استطلاع مزوّدة بأجهزة رصد عالية الدقة. مهمة هذه هذه الطائرات التحليق في فضاء الدولة الأخرى والتقاط الصور، حول مرابض الصواريخ العابرة للقارات، وللاطمئنان الذاتي بأن هذه الصواريخ ليست مهيأة للإطلاق. ومن شروط «حق التجسس» تزويد الدولة التي تجري عملية التجسّس عليها بنسخة عن الصور التي تلتقطها طائرات الاستطلاع. فالروس يتلقون المعلومات عن أوضاع صواريخهم من الطائرات الأميركية، وبالعكس.
لكن هذا الاتفاق الذي أدى اعتماده بين موسكو وواشنطن إلى تبريد صراعاتهما وإلى احتواء خلافاتهما، انهار منذ سنوات قليلة. وأدى انهياره إلى انقطاع المعرفة، وبالتالي إلى تضخم حجم الهواجس والمخاوف.. حتى وصلت إلى درجة التهديد المباشر باستخدام السلاح النووي في الحرب الأوكرانية.
كانت كل الدول الواقعة بين روسيا والولايات المتحدة تطّلع على الصور التي تلتقطها طائرات التجسس الأميركية أو الروسية لمجرد أن هذه الطائرات تحلّق في أجواء هذه الدول، وهي في طريقها إلى أهدافها. يعكس هذا التوافق روحية معاهدة «كيلوغ-برياند» التي صدرت في عام 1928. في ذلك الوقت لم يكن هناك سلاح نووي أو صاروخي عابر للقارات، ولم تكن هناك طائرات استطلاع ولا أجهزة إلكترونية تتسلل إلى أعماق المؤسسات العسكرية والسياسية، إلا أن المبدأ العام الذي أقرته وتبنّته دول العالم فيما بعد، وضع الأسس التي لا تزال صالحة من حيث المبدأ للتعامل مع المستجدات في الصراعات الدولية. فالمعرفة لا تشجع على العدوان دائماً. قد تكون المعرفة رادعة. ومن هنا أهمية تعريف الآخر، إما لطمأنته أو ردعه. وفي الحالتين يضطر إلى إعادة النظر في حساباته قبل أن يقدم على عمل ما.
وعلى السطح تبدو العلاقات بين دول العالم المختلفة منضبطة وخاضعة للقانون الدولي وتوازن القوى.. وفي العمق يبدو الوضع أشد تعقيداً وأعمق تداخلاً.. ومن هنا أهمية المعرفة في صناعة القرار السياسي.
هاشتاغز

جرب ميزات الذكاء الاصطناعي لدينا
اكتشف ما يمكن أن يفعله Daily8 AI من أجلك:
التعليقات
لا يوجد تعليقات بعد...
أخبار ذات صلة

ليبانون 24
منذ 34 دقائق
- ليبانون 24
لبنان يتحين "فرصة تسوركوف"لتحرير أسراه من إسرائيل
كشفت مصادر دبلوماسية غربية لـ«الشرق الأوسط» أن الفرصة أصبحت متاحة لإعادة تحريك ملف إطلاق الأسرى اللبنانيين لدى إسرائيل ، بالتلازم مع الإفراج المرتقب عن الأكاديمية الإسرائيلية- الروسية إليزابيث تسوركوف المحتجزة من قِبل كتائب «حزب الله» في العراق. وقالت المصادر إن الاتصالات للإفراج عن الأسرى اللبنانيين لا تزال مستمرة، ولا تقتصر على الدور الذي تقوم به هيئة الرقابة الدولية المشرفة على تثبيت وقف النار بين لبنان وإسرائيل، والوساطة التي تتولاها نائبة المبعوث الخاص للرئيس الأميركي للشرق الأوسط مورغان أورتاغوس بعد أن توسعت، وانضمت إليها جهات دولية وإقليمية. ولفتت المصادر الدبلوماسية إلى أن «لبنان لا يترك مناسبة إلا ويطالب بضرورة الإفراج عن الأسرى اللبنانيين لدى إسرائيل وعددهم 15 أسيراً، وهذا ما يتصدّر اللقاءات التي يعقدها رئيس الجمهورية العماد جوزيف عون ورئيس الحكومة نواف سلام مع الموفدين الدوليين إلى بيروت ، ولدى استقبالهما الجنرال الأميركي مايكل جي ليني الذي عُيِّن خلفاً لزميله الجنرال جاسبر جيفرز رئيساً لهيئة الرقابة الدولية المشرفة على تطبيق اتفاق وقف النار بين لبنان وإسرائيل. قالت المصادر، استناداً إلى ما لديها من معلومات استقتها من جهات رسمية لبنانية، إن الجنرال جيفرز لا يزال يشرف على تطبيق وقف النار إلى جانب زميله الجنرال المقيم ليني، ويشارك من كثب في الاتصالات للإفراج عن الأسرى اللبنانيين، والكشف عن مصير اللبنانيين الذين لا يزالون في عداد المفقودين وعددهم 65، غالبيتهم من المقاتلين في صفوف «حزب الله». وأكدت المصادر أن قيادة «حزب الله» أعدت لائحة أولية بالأسرى اللبنانيين وعددهم 15 أسيراً، اعتقلت إسرائيل 7 منهم في أثناء فترة توسع الحرب في الجنوب، بينما أسرت الباقين وعددهم 8 خلال التزام لبنان باتفاق وقف النار وتمرُّد إسرائيل على تطبيقه، وامتناع الحزب عن الرد على خروقها. لاحظت المصادر نفسها أن اللائحة التي أعدها الحزب، وتتعلق بعدد أسراه، لا تتضمن اسم القبطان البحري اللبناني عماد أمهز الذي اختطفته إسرائيل في عملية إنزال بحري نفّذتها على شاطئ مدينة البترون واقتادته أسيراً في أثناء وجوده في شقة كان قد استأجرها تقع على مقربة من مدرسة علوم البحار التي يتلقى فيها علومه للحصول على رتبة قبطان، كما أفادت زوجته لدى الاستماع إلى أقوالها من قِبل شعبة المعلومات في قوى الأمن الداخلي المفوَّضة للتحقيق في اختطافه تحت إشراف القضاء المختص، مع أن الحزب في حينها غمز من قناة الدولة اللبنانية بتحميلها مسؤولية حيال الخرق الإسرائيلي ، مطالباً بالسعي للإفراج عنه من دون أن يتبنى انتماءه إليه، بخلاف ما ادعته إسرائيل، رغم أن عائلة أمهز سارعت إلى نفي علاقته بالحزب والانخراط في صفوفه. تبقى الآمال معقودة على أن تؤدي الاتصالات إلى تحقيق تقدم يمهد الطريق أمام إنجاز صفقة التبادل التي يوليها الرئيس عون شخصياً، كما تقول المصادر لـ«الشرق الأوسط»، أهمية قصوى، وتبقى همّه الأساسي للإفراج عن الأسرى، وتحريك الملف في كل الاتجاهات بدءاً ببغداد عبر وسيط موثوق به وانتهاءً بواشنطن وباريس وهيئة الرقابة الدولية المشرفة على وقف النار وأورتاغوس المكلفة بمتابعة الملف اللبناني بتكليف من البيت الأبيض ؛ فالرئيس عون شكَّل رافعة أساسية لتحريك الملف عبر اتصالاته المتنقلة، آخذاً في الحسبان أن الأولوية للإفراج عن الأسرى اللبنانيين وجلاء مصير المفقودين، ويأمل أن تتوصل اتصالاته في خواتيمها إلى الإفراج عنهم، خصوصاً بعد أن نجح في فتح ثغرة قادت إلى تزخيم المفاوضات على أكثر من صعيد، ما من شأنه أن يؤدي إلى تحقيق تقدم ملموس لتسريع عملية التبادل المرجو منها، بالدرجة الأولى، إقفال ملف الأسرى اللبنانيين.


بيروت نيوز
منذ 6 ساعات
- بيروت نيوز
بعد قراره منع هارفرد من قبول طلاب أجانب.. هذا ما قاله ترامب
دافع الرئيس الأميركي دونالد ترامب، الأحد، عن قرار إدارته القاضي بمنع الطلاب الأجانب من التسجيل في جامعة هارفرد، وهي خطوة اعتبرتها الجامعة غير دستورية، وأوقفت قاضية تنفيذها مؤقتا. وكتب ترامب على منصته 'تروث سوشال': 'لماذا لا تعلن جامعة هارفرد أن نحو 31 في المئة من طلابها يأتون من دول أجنبية، بينما هذه الدول، وبعضها لا يعتبر صديقا للولايات المتحدة، لا تدفع شيئا مقابل تعليم طلابها، ولا تنوي أن تفعل ذلك'. وأضاف: 'نريد أن نعرف من هم هؤلاء الطلاب الدوليون، وهو طلب منطقي، خصوصا أننا نقدم لهارفرد مليارات الدولارات، لكن الجامعة لا تتسم بالشفافية'، داعيا المؤسسة التعليمية إلى التوقف عن طلب الدعم من الحكومة الفدرالية. وكانت وزيرة الأمن الداخلي كريستي نويم قد أعلنت، الخميس، إبطال الترخيص الممنوح لبرنامج الطلاب وتبادل الزوار الأجانب في جامعة هارفرد. لكن القاضية أليسون باروز في ولاية ماساتشوستس علقت القرار، الجمعة، بعد أن تقدمت الجامعة بدعوى قضائية ضده صباح اليوم نفسه. ويأتي قرار ترامب ضمن سلسلة من الإجراءات التي اتخذها ضد هارفرد، الجامعة التي تخرج منها 162 من الحائزين على جائزة نوبل، والتي يتهمها بأنها معقل لما يسميه 'أيديولوجيا اليقظة' ومعاداة السامية، على حد وصفه. وكانت الحكومة الأميركية قد أوقفت منحا مالية مخصصة لهارفرد تزيد قيمتها على ملياري دولار، ما أدى إلى تجميد عدد من برامج البحوث العلمية. وتستقبل جامعة هارفرد، بحسب موقعها الإلكتروني، نحو 6700 طالب دولي هذا العام، أي ما يعادل 27 في المئة من إجمالي عدد طلابها، وتفرض رسوما دراسية سنوية تُقدّر بعشرات آلاف الدولارات.


بيروت نيوز
منذ 6 ساعات
- بيروت نيوز
إتمام أكبر عملية لتبادل الأسرى بين روسيا وأوكرانيا
وقالت الوزارة: 'أُعيد 303 عسكريين روس آخرين من الأراضي الخاضعة لسيطرة نظام كييف. وفي المقابل، تم تسليم 303 أسرى حرب من القوات الأوكرانية. ويتواجد العسكريون الروس حالياً على أراضي جمهورية بيلاروسيا، حيث يتلقون الدعم النفسي والطبي اللازم'. وأكدت الوزارة أنه سيتم نقل جميع العسكريين والمدنيين الروس إلى روسيا لتلقي العلاج والتأهيل في المؤسسات الطبية التابعة لوزارة الدفاع الروسية. بالمقابل، أعلن مدير مكتب الرئيس الأوكراني أن كييف استعادت 303 أسرى من روسيا في المرحلة الثالثة من عملية تبادل الأسرى الكبيرة. وقبلها، كتب زيلينسكي على 'تليغرام': 'اليوم، يعود إلى الديار جنود من قواتنا المسلحة والحرس الوطني وحرس الحدود وخدمة النقل الخاصة التابعة للدولة'. وكان هذا التبادل هو الخطوة الملموسة الوحيدة نحو السلام التي انبثقت من أول محادثات مباشرة بين الطرفين المتحاربين منذ أكثر من ثلاث سنوات. وأُجريت المحادثات في 16 مايو (أيار)، لكنها لم تفض إلى اتفاق لوقف إطلاق النار. ودعت أوكرانيا والولايات المتحدة ودول غربية أخرى إلى وقف القتال لمدة 30 يوما من دون شروط مسبقة للسماح بإجراء محادثات سلام. ويُعتقد أن مئات الآلاف من الجنود من كلا الجانبين قد أُصيبوا أو قُتلوا في أدمى الصراعات في أوروبا منذ الحرب العالمية الثانية. ولا ينشر أي من الجانبين أرقاماً دقيقة للقتلى أو المصابين. كما قُتل عشرات الآلاف من المدنيين الأوكرانيين خلال حصار القوات الروسية للمدن الأوكرانية وقصفها.