
سوريا بين رسائل الدم ومشروع الإفراغ الصامت
في بلد أنهكته حرب شاملة لسنوات طويلة، لا تزال التهديدات تتجدّد وإن بأشكال أكثر خفوتاً وأدوات أقلّ صخباً. فمع كل محاولة للانتقال نحو الاستقرار، يظهر من يعيد التذكير بأن مشروع استنزاف سوريا لم ينتهِ، بل تبدّلت وجوهه ووسائله.
تفجير كنيسة 'مار إلياس' في حيّ الدويلعة الدمشقي، الذي أوقع عشرين قتيلاً وأكثر من خمسين جريحاً، لم يكن مجرد اعتداء إرهابي تبنّاه تنظيم متطرّف، بل جزء من مشهد أكثر تعقيداً يُراد له أن يرسّخ هشاشة اللحظة السورية الانتقالية، ويعيد خلط أوراق التوازن المجتمعي. فالعملية الإرهابية التي وقعت في أحد أكثر أحياء العاصمة تعبيراً عن التنوّع الأهلي، وفي وقتٍ تُبذل فيه جهود رسمية لاستعادة الثقة بالأمن، لم تستهدف مكاناً فقط، بل استهدفت فكرة العيش المشترك بحد ذاتها.
وإن كانت هوية المنفّذ معلَنة، لكنّ التوقيت والمكان اللذين تمّ اختيارهما، يكشفان بلا شكّ عن رسائل مركّبة. إذ وفق مصادر أمنية مطّلعة، فإن هذا النوع من الاستهداف لا يُقاس فقط بعدد الضحايا، بل بحجم الضرر الرمزي والمعنوي الذي يصيب المكوّنات المجتمعية التي تشعر أنها تُركت من دون حماية، أو من دون أفق سياسي يُعيد الاعتبار لدورها في مستقبل البلاد.
تُظهر نماذج السنوات الأخيرة أن استهداف المسيحيين العرب في المشرق، ليس فعلاً طارئاً أو محدوداً، بل يجري ضمن نمط مدروس من الضغط المتراكم. إذ لا يقتصر التهديد على التفجيرات، بل يشمل الإقصاء البطيء وتآكل الضمانات وتراجع الاهتمام الدولي، ما يجعل البقاء مسألة مقاومة يومية. ومن هذا المنظور، يُقرأ الهجوم على كنيسة 'مار إلياس' كرسالة منظّمة، تضع السلطة الجديدة أمام امتحان فعلي، وتضع المجتمع أمام خيارين؛ إمّا التكيّف مع الخوف، أو النزوح تحت وطأة اللاجدوى.
وفي الوقت الذي تتابع فيه الجماعات المتطرّفة دورها كمنفّذ مباشر، تبقى الجهات المستفيدة من هذا المسار أوسع من دائرة التنفيذ. فكلّ ضربة تصيب عمق التنوّع، تعزّز سرديات التقسيم والانغلاق، وتُفرغ المدن من روحها، وتحوّل الرموز الدينية إلى أهداف مباحة. وما يزيد المشهد خطورة، غياب الموقف الإعلامي والسياسي على المستوى الدولي، إذ تجاهلت كبرى وسائل الإعلام العالمية مواكبة الحدث، أو اكتفت بتقارير مقتضبة لا ترتقي إلى مستوى الجريمة، ما يعكس تقصيراً فادحاً أو ربما قبولاً ضمنياً بمنطق التعوّد على هذا النوع من النزيف، حين لا يصيب مصالح مباشرة.
في هذا الإطار، تتقاطع مصالح أكثر من جهة. لكنّ إسرائيل، التي لطالما عبّرت عن خشيتها من أي شكل من أشكال الوحدة الوطنية في محيطها، تُعدّ من أبرز المستفيدين من تفكّك المجتمعات المتنوعة وانحسار التوازن السكاني الديني في المنطقة. وهو ما يفسّر، وفق مصادر دبلوماسية، غياب أي ردّ فعل دولي جدّي تجاه الاعتداء الأخير في دمشق، كما يفسّر التهميش الإعلامي الغربي المريب، إذ بدا أن الانفجار لم يُعامل كجريمة تستهدف نسيجاً مجتمعياً هشّاً، بل كخبر عابر لا يحرّك سياقاً ولا يستحقّ التوقف عنده.
لكن أهمية التنوع، ووجود المسيحيين في قلب المجتمعات العربية، لا تكمن فقط في الرمزية أو التاريخ. فالمكوّن المسيحي العربي لم يكن يوماً على هامش المشهد، بل شريكاً في تأسيس الفكرة العربية ذاتها وفي بناء الدولة وصياغة الوعي الجماعي الحديث، إذ شكّل المسيحيون في الشرق جزءاً أساسياً من نهضته وثقافته ومشروعه التحرري في وجه الاستعمار والتقسيم. وبالتالي، فإن تهديد هذا الحضور ليس مسألة دينية أو ثقافية فحسب، بل هو ضرب للاستقرار، وتقويض لإمكانية بناء مجتمعات قادرة على مقاومة مشاريع العزل والتفتيت. وبالتالي، فإنّ الدولة التي تفقد تنوّعها، تفقد بالضرورة توازنها الداخلي وتُفتح أمامها أبواب التبعية والانقسام.
إن ما جرى في كنيسة 'مار إلياس' لا يُختزل بخسائر بشرية أو حدث أمني، بل يُفهم في سياقه كمؤشّر على معركة أعمق تُخاض في الخفاء، معركة ضد الذاكرة والحق في البقاء على الأرض كشركاء متساوين. فكل تفجير هو أيضاً محاولة لتمزيق ما بقي من صيغة العيش المشترك، وتفريغ المشرق من عناصر توازنه. وهذه المعركة، إن لم تُقابل بسياسات واضحة ومواقف حاسمة، ستتقدّم بلا عوائق وبلا حاجة لصخب.

جرب ميزات الذكاء الاصطناعي لدينا
اكتشف ما يمكن أن يفعله Daily8 AI من أجلك:
التعليقات
لا يوجد تعليقات بعد...
أخبار ذات صلة


خبر صح
منذ 10 دقائق
- خبر صح
عاجل سماع انفجار يهز العاصمة دمشق
استيقظت العاصمة السورية دمشق صباح اليوم الثلاثاء على دوي انفجار هائل، وفقًا لما أفادت به قناة 'الإخبارية السورية'، مما أثار حالة من القلق والتوتر بين سكان المدينة، وحتى الآن لم تُصدر السلطات السورية أي بيان رسمي يوضح سبب الانفجار أو موقعه الدقيق، مما يجعل الملابسات والأسباب لا تزال غامضة. عاجل سماع انفجار يهز العاصمة دمشق مقال مقترح: الجيش الإسرائيلي ينشئ مستشفى ميداني في جنوب سوريا استهدف كنيسة مار إلياس يأتي هذا الانفجار في وقت حساس تمر به دمشق، حيث وقع بعد يومين فقط من الهجوم الدموي الذي استهدف كنيسة مار إلياس في حي الدويلعة، وقد نفذ الهجوم انتحاري ينتمي لتنظيم داعش، حيث اقتحم الكنيسة وأطلق النار على المصلين قبل أن يفجر نفسه بحزام ناسف، وأسفر الهجوم عن مقتل 9 مدنيين أبرياء، وإصابة 13 آخرين، وفقًا لبيانات وزارة الصحة السورية. بيان الداخلية وصفت وزارة الداخلية السورية هذا الحادث بأنه 'عمل إرهابي جبان' استهدف دور العبادة والأبرياء، مؤكدة أن مثل هذه الاعتداءات لن تثني الدولة عن مواصلة جهودها في محاربة الإرهاب وتأمين المواطنين، كما أن الحادث الأخير يضاف إلى سلسلة من الهجمات التي تعرضت لها العاصمة دمشق في الفترة الأخيرة، مما أدى إلى رفع مستوى التأهب الأمني في المدينة، مع تكثيف الدوريات والرقابة على المناطق الحيوية. تواصل الجهات الأمنية تحقيقاتها المكثفة لكشف ملابسات الانفجار الأخير وتحديد المسؤولين عنه، بينما تتزايد دعوات المجتمع الدولي والمحلي لتعزيز الجهود المشتركة لمكافحة الإرهاب وحماية المدنيين في سوريا من خطر الهجمات المتكررة التي تهدد الأمن والاستقرار. مقتل نائب رئيس استخبارات الشرطة الإيرانية في سياق آخر، أفادت وسائل إعلام إيرانية، اليوم الثلاثاء، بمقتل نائب رئيس جهاز استخبارات قوات إنفاذ القانون في إيران، علي رضا لطفي، جراء الهجمات الإسرائيلية التي استهدفت العاصمة طهران، مساء أمس. مواضيع مشابهة: تغريدات 'القنبلة الكبرى' تختفي بشكل مفاجئ من حساب ماسك على منصة 'X' ونقلت وكالة 'فارس' عن مصادر أمنية أن لطفي، الذي يشغل منصب نائب رئيس منظمة الاستخبارات في قيادة الشرطة الإيرانية (فراجا)، لقي مصرعه خلال ما وصفته بـ'العدوان الصهيوني' الذي استهدف مواقع حساسة في طهران. كما أكدت الوكالة مقتل اللواء محمد تقي يوسف وند، قائد جهاز حماية المعلومات في قوات الباسيج، في ذات الهجوم، وأفاد مكتب العلاقات العامة للحرس الثوري في محافظة لرستان غرب إيران، بأن يوسف وند استشهد في القصف الإسرائيلي، مشيرًا إلى أن مراسم التشييع ستقام صباح الأربعاء في مقبرة شهداء مدينة سلسلة بالمحافظة.


مستقبل وطن
منذ 10 دقائق
- مستقبل وطن
سماع دوي انفجار غرب العاصمة السورية دمشق
أفادت القاهرة الإخبارية، بسماع دوي انفجار غرب العاصمة السورية دمشق، وذلك بحسب خبر عاجل لها. وهز تفجير كنيسة مار إلياس فى منطقة الدويلعة فى دمشق الأحد الماضي، ما أدى إلى وقوع ضحايا، فيما نقلت وزارة الداخلية السورية أن انتحارياً فجر نفسه داخل الكنيسة، ما أسفر عن مقتل 21 شخصا وإصابة 52 أخرين، بحسب وزارة الصحة السورية. وقالت الداخلية السورية إن انتحارياً يتبع لتنظيم داعش الإرهابى أقدم على الدخول إلى كنيسة القديس مار إلياس فى حى الدويلعة بالعاصمة دمشق، حيث أطلق النار، ثم فجّر نفسه بواسطة سترة ناسفة. وأضافت الداخلية السورية: تشير المعلومات الأولية إلى ارتقاء عدد من المدنيين وإصابة آخرين بجروح وقد سارعت الوحدات الأمنية إلى موقع الحادث، وطوّقت المنطقة بالكامل، وبدأت الفرق المختصة بجمع الأدلة ومتابعة ملابسات الهجوم.

مصرس
منذ 10 دقائق
- مصرس
الأزهر يعرب عن تضامنه مع قطر الشقيقة ويطالب بضرورة احترام استقلال الدول
يعرب الأزهر الشريف عن تضامنه مع دولة قطر الشقيقة، ويطالب بضرورة احترام استقلال الدول وسيادتها على جميع ترابها وكامل أراضيها. ويؤمن الأزهر الشريف بأنَّ صليل السلاح لا يُوقف الحروب، ولا يطفئ نيرانها، وأنَّ الحوار المؤدِّي إلى السلام العادل والدائم هو وحده من يضع نهاية للحروب، وحدًّا للأسباب التافهة التي تبعثها من مراقدها حسب الأهواء أو الأغراض الإقليمية.اقرأ أيضا | مفتي الجمهورية يدين التفجير الإرهابي الذي استهدف كنيسة مار إلياس بدمشقومن هنا تؤكِّد مؤسسة الأزهر الشريف أنها تشجع كلَّ التشجيع جهود تحقيق السلام الدائم والعادل، وسرعة وقف القتال، وتمكين شعوب الدول النامية من حياة كريمة تنعم بها هي وأبناؤها وبناتها وأطفالها، كما تنعم سائر الشعوب الأخرى التي قررت وقف أي نزاع يؤدي إلى إراقة دماء أبنائها.والأزهر الشريف وهو يدعو الأمة الإسلامية إلى ضرورة إحياء مبدأ «السلام العادل» والتمسك به في وقف نزاعاتها الدائرة بينها وبين أبنائها، يذكرها بالأمر الإلهي الموجه إلى نبيها الكريم -صلوات الله وسلامه عليه- في قوله تعالى في القرآن الكريم: {وَإنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا وَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ} [الأنفال: 61].