جلالة الملك في البرلمان الأوروبي: صوت الحق في زمن الصمت
في زمنٍ يُخيّم عليه الضباب الأخلاقي، وتتراجع فيه المبادئ أمام سطوة المصالح الباردة، ويغدو الإنسان فيه مجرّد رقمٍ في نشرات الأخبار، وأداةً في معادلات السياسة القاسية، أطلّ جلالة الملك عبد الله الثاني ابن الحسين، حفظه الله ورعاه، من على منبر البرلمان الأوروبي في مدينة ستراسبورغ، أطلّ لا كقائد دولة فحسب، بل كضميرٍ حيّ، يُجسّد نُبل الموقف، وعمق الرؤية، وعبق التاريخ الأردني العريق في الدفاع عن الحق والعدالة.لقد جاءت كلمة جلالته بمثابة وقفة ضمير في عالمٍ أنهكته الازدواجية، واستنزفته الحسابات الضيقة، فكان صوته صريحًا في زمن المُواربة، حازمًا في لحظة تردد، عادلًا في وقت ساد فيه الظلم، ومُلهمًا وسط ضجيجٍ عالمي تاهت فيه البوصلة الأخلاقية.إنّها ليست المرة الأولى التي يُعبّر فيها جلالة الملك عن هموم الشعوب، وآمال المظلومين، ولكنها كانت لحظة فارقة، اختار فيها أن يُخاطب ضمير العالم من قلب أوروبا، ليدقّ جرس الإنذار، ويُذكّر الجميع بأنّ القيم ليست رفاهية، وأنّ العدالة ليست خيارًا انتقائيًا، بل واجبٌ إنساني لا يقبل التأجيل.لقد جاء خطاب جلالته في لحظة فارقة من تاريخ البشرية، وفي وقتٍ عصيب تعاني فيه منظومة القانون الدولي من ارتباك خطير، وتتصدّع فيه المعايير الأخلاقية التي قامت عليها الحضارة الحديثة، ليُعيد التذكير بأن الصمت على المظالم هو شراكة في ارتكابها، وأن الحياد أمام الجرائم الكبرى هو انحياز ضد الضحايا، لا سيما إذا كان هؤلاء الضحايا شعبًا بأكمله يُسحق تحت نير الاحتلال والعدوان، كما هو حال الشعب الفلسطيني.في خطابه التاريخي، لم يكن جلالة الملك يتحدث بلغة الإنشاء السياسي، بل بلغة الضمير الحيّ والرسالة الصادقة، مخاطبًا الأوروبيين من عمق تجربتهم الإنسانية، مُستحضِرًا اللحظات المظلمة التي أعقبت الحرب العالمية الثانية، حين اختارت أوروبا أن تنقذ نفسها من براثن الخراب عبر بناء سلام مستند إلى القانون، والتعاون، والكرامة الإنسانية. ومن هذا الاستدعاء التاريخي العميق، انطلقت رسالة جلالته لتقول إن ما يحدث اليوم في غزة ليس مجرد صراع، بل هو نكبة إنسانية ووصمة في جبين العالم، وإن التقاعس عن وقف هذا النزيف هو تفريط بالقيم التي قامت عليها الأمم المتحدة ومبادئ القانون الدولي الإنساني.لقد أكد جلالته، بثباتٍ ووضوح، أن استمرار العدوان على قطاع غزة، وتجاهل الحقوق المشروعة للشعب الفلسطيني، وفي مقدمتها إقامة دولته المستقلة ذات السيادة على حدود الرابع من حزيران لعام 1967 وعاصمتها القدس الشرقية، لن يؤدي إلا إلى مزيد من التطرّف، وزيادة زعزعة الاستقرار في المنطقة والعالم. كما شدد على أن السلام لا يُبنى بالقوة وحدها، بل يقوم على العدل، وتُرسّخ جذوره بالتفاهم والاحترام المتبادل والاعتراف بالحقوق.واللافت أن الخطاب لم يكن محل إعجاب فحسب، بل كان صدمة إيجابية داخل البرلمان الأوروبي، حيث قُوطع بالتصفيق الحار سبع مرات، في مشهدٍ نادر الحدوث في مثل هذه المحافل، دالّ على عمق التأثير، وصدق الموقف، وبلاغة الرسالة. وقد بدا واضحًا أن جلالة الملك لا يُخاطب جمهورًا سياسيًا فحسب، بل يُناشد الضمير الإنساني العالمي، ويوقظ إحساس المسؤولية التاريخية تجاه معاناة شعب محاصر، وأمة تتجرّع الظلم منذ أكثر من سبعة عقود.إن موقف جلالة الملك من القضية الفلسطينية لم يكن يومًا موقفًا عابرًا أو ظرفيًا، بل هو موقف مبدئي راسخ تجذّر في الوجدان الهاشمي منذ الثورة العربية الكبرى، وترسّخ في ضمير الدولة الأردنية منذ تأسيسها، وامتدّ عبر عقود من النضال السياسي والدبلوماسي. وهو موقفٌ ليس فقط باسم الأردن، بل باسم العدالة، وباسم الإنسان، وباسم كل الأحرار الذين ما زالوا يؤمنون أن للحق مكانًا، وللمظلوم نصيرًا، وللصوت الحر قوة.ونحن، في الأردن، شعبًا ومؤسسات، نقف خلف جلالة الملك وقفة الثابتين، نعتز برؤيته، ونفخر بشجاعته، وندعم جهوده المتواصلة في الدفاع عن القيم والمبادئ. وندعو، من هذا المقام، إلى تفعيل أدوات الدبلوماسية البرلمانية والشعبية على الصعيدين العربي والدولي، لترسيخ الرسالة الأردنية النبيلة، والعمل على تشكيل رأي عام عالمي ضاغط لإنهاء الاحتلال، ووقف آلة الدمار، وإحياء مسار السلام القائم على الحق لا على التفاوض المفرغ من مضمونه.ختامًا، لم يكن خطاب جلالة الملك في البرلمان الأوروبي مجرد كلمة سياسية تُقال في مناسبة دولية عابرة، بل كان بمثابة وثيقة تاريخية ناطقة بالحق، تُضاف إلى سجلّ الأردن المشرف والمضيء في نصرة القضايا العادلة والدفاع عن المبادئ الإنسانية السامية. لقد ارتقى الخطاب فوق حدود الدبلوماسية التقليدية، ليحمل رسالة أمة بأسرها، نابضة بالكرامة، مشبعة بالألم، ومشرعة بالأمل.تحدّث جلالته بلغة العقلاء، وبلسان الشعوب المقهورة، مُجسّدًا الضمير العربي الحيّ الذي لا يرضى بالظلم، ولا يصمت أمام الجور، ولا يتخلى عن مسؤوليته الأخلاقية والإنسانية في أحلك الظروف. لقد قرع جلالته جدران الصمت الدولي بقوة الحكمة والعدل، مُذكّرًا العالم بأنّ الصمت عن المعاناة ليس حيادًا، بل تواطؤ مع الألم، وأنّ العدالة لا تقبل التأجيل، ولا تُجزأ تحت أي ذريعة.وفي هذا الموقف التاريخي المشرّف، يُجدد الأردن بقيادته الهاشمية المُلهمة حضوره المتميز على الساحة الدولية كصوتٍ عاقلٍ وشجاعٍ في زمنٍ تندر فيه الأصوات النزيهة. وإننا، إذ نُثمّن عاليًا هذا الدور القيادي والمسؤول الذي يضطلع به جلالة الملك عبد الله الثاني، نُدرك تمامًا أنّ هذا الصوت لا يُمثل الأردن فحسب، بل يُمثل كل من ينشد الحق، ويؤمن بالحرية، ويصبو إلى كرامة الإنسان.نسأل الله العلي القدير أن يحفظ الأردن، وطنًا عزيزًا آمنًا، وأن يحمي قيادته الهاشمية المُباركة، التي ما توانت يومًا عن القيام بواجبها تجاه شعبها وأمّتها. ونسأله تعالى أن يبقى صوت الحق الأردني عاليًا، يُضيء عتمة العالم، ويهدي الحائرين إلى دروب الكرامة، والعدالة، والإنسانية، والسلام.

جرب ميزات الذكاء الاصطناعي لدينا
اكتشف ما يمكن أن يفعله Daily8 AI من أجلك:
التعليقات
لا يوجد تعليقات بعد...
أخبار ذات صلة

سرايا الإخبارية
منذ 3 ساعات
- سرايا الإخبارية
د.محمود الحبيس يكتب : وجدت نفسي ادخل على مضمون خطاب الملك امس ..
بقلم : د.محمود عبدالله الحبيس الملك اذ يقول : جاء خطاب جلالة الملك امام البرلمان الاوروبي بتاريخ 2025/7/17 لوضع الحقائق كما يجب . انطلق الخطاب من حالة أوروبا بعد الحرب العالمية الثانية وإنها تركت خلفها الماضي لتدشن المستقبل لها بإعادة اعمارها لتلبية القيم والحاجات الإنسانية بعيدا عن أجواء الحروب انما رسم الصورة الرمزية للمجتع الذي تقدم وتطور وليس الانكفاء بأحداث الماضي وتلبيس العدالة والقيم وابرار انسانية الاوروبي. لعل شخصية الملك ذات القدرة بالتاثير بالآخرين والتركيز على المنطق والواثق من نفسه والواعي لما يقوله ..فجعل رؤية الحرب على غزة بابشع الصور المنافية للانسانية الانسان في الوقت الذي اتجه العالم اليوم الى انحدار أخلاقي بنسخة مخزية للقيم الإنسانية بما يحاك ضد اهلنا في غزة التي خذلها العالم ..وهنا الوقوف على وصف الملك بأن الهجمات والغارات الإسرائيلية على المستشفيات ومرافق الرعاية الصحية وهدم المنازا وتخريب الارض وتدمير البيئة الزراعية والتجارية وامعانا بالظلم والوحشية وما تقوم به اسرائيل من استخدام المجاعة كسلان ضد الأطفال وهذا يعطي نمطا لفشل المجتمع الدولي في سد الفجوة بين القول والفعل ..فماذا تفيد أقوال العالم التي تستمر بالاستنكار دون دور للشرعية الدولية الغائبة عن الحضور في فض النزاعات. جلالة الملك شاهد على الهجمات الإسرائيلية على ايران وهي تمثل تهديدا وتصعيدا خطيرا في منطقة الشرق الأوسط وما ينجم عنها من اضطرابات قادمة بفعل فقلت بوصلة الأخلاق بالتمييز بين الحق والباطل .وهو ما تسعى اليه اسرائيل عبر حروبها التي تقوم بها . لا شك أن رسائل الملك في هذا الخطاب التاريخي انه يقدم رؤية الحاضر في صورة المستقبل المظلم. لكن من حق الملك علينا أن نخاطب البعض الذين يشككون في الدور الاردني بقيادة جلالة الملك..فكيف لجلالة الملك يتحدث بنمط قيادي كقائد طبيعي يمتلك الرؤية للمستقبل ..كيف للبعض أن يشكك بمواقف واضحة ..مؤسف انخراط البعض مثلا تسهيل الاردن لمجاله الجوي لمرور الطائرات الإسرائيلية..فكيف لهذا المنطق أن يستقيم مع ما يتحدث به جلالة الملك.. دعم الاردن فعليا الى الأشقاء في فلسطين وغزة لا يمكن تحويله عبر فاتورة حساب المواقف .. الواقع ان مواقف الاردن تتماشى مع مصلحته الوطنية .ومن الإنصاف القول ان قيادتنا كانت دوما تستشرف الأمور وتكون النتائج عكسية وبالتالي هناك من يوجه الاتهامات الى القيادة الاردنية وكان الاردن وقيادته هم سبب النكبات والازمات التي حلت بالعرب . خطاب الملك امام البرلمان الاوروبي يحمل عقلانية القرارات الصادقة ..وهذا هو الملك ..فهل نحمل المصحف لنقسم الإيمان اننا برئيون براءة يوسف من دم يعقوب.. الاردن لم يغتال الهزائم العربية بل لحقه نصيبه منها. الاردن ينظر للمستقبل بتحدياته القادمة وما تسفر عنه الحرب الإسرائيلية الايرانية..ومن حقه ان يتخوف..لكن مع الملك شعب واع مدرك للحقيقة ولا يهمه القلة القليلة . هذا هو الملك القائد العقلاني الواعي الذاتي المتحلي بمحاسن الأخلاق.


عمون
منذ 4 ساعات
- عمون
درس مهم جدا من الضربة الإسرائيلية الأولى لإيران
قالت إسرائيل أنها خططت على مدى عامين لحربها على إيران . وتبين للعالم كله ان إيران مخترقة جدا من جانب الموساد الإسرائيلي. واضح أن هذا التخطيط إعتمد نهجا إستخباريا كبيرا ومحكما طال جميع مراكز القوة العسكرية والإستخبارية في إيران وتوظيف عملاء كثر وصل الأمر بهم إلى تصنيع المسيرات داخل إيران. وعليه كانت الضربة الأولى موجهة لإغتيال قادة الجيش والحرس الثوري والاستخبارات وسواهم من كبار القادة . بمعنى أن قطع الرؤوس الكبيرة يحدث فوضى وفراغا ويربك الدولة الهدف ويمكن المعتدي من تنفيذ مخططه . نقول هذا الكلام ونحن نتوجس من إمكانية إختراق مماثل لدولنا العربية مثلا . وعليه ، فنحن نعتقد بأن تلك الدول مطالبة باخذ هذا الدرس المهم جدا بعين الاعتبار تحسبا لكل خطر طاريء وما أكثر المخاطر في هذا الزمن الصعب . كبار القادة العسكريين والامنيين ومن ماثلهم يجب أن يكونوا محصنين جيدا في سكنهم ومواقع عملهم وتحركاتهم في كل وقت سواء كان هناك خطر داهم أم لم يكن . الحياة مدرسة لمن يعتبر ويتعظ وها هو درس جد مهم بين لنا فلسفة دولة الإحتلال العسكرية التي تضع الموساد في مقدمة من يهيئون مسرح العمليات للجيش قبل حين إستنادا إلى المعلومات المتجددة والعملاء داخل اراضي البلد الهدف . الله من أمام قصدي.


سواليف احمد الزعبي
منذ 4 ساعات
- سواليف احمد الزعبي
إسرائيل وإيران: الحرب المنتظرة تغيّر الشرق الأوسط
بسم الله الرحمن الرحيم #إسرائيل و #إيران: #الحرب المنتظرة تغيّر #الشرق_الأوسط دوسلدورف/أحمد سليمان العُمري في ساعات الفجر الأولى من يوم الجمعة، شنت إسرائيل هجوماً جوياً واسع النطاق؛ استهدف مواقع عدة داخل إيران، في خطوة وصفتها تل أبيب بأنها 'ضربة استباقية لمنع التهديد النووي الإيراني'. ردّت طهران بإطلاق عشرات الصواريخ الباليستية على أهداف إسرائيلية، في تصعيد جديد يهدد استقرار الشرق الأوسط. يأتي هذا التفاقم في ظل توترات متصاعدة بين البلدين منذ سنوات، وسط محاولات إسرائيلية متكرّرة مُمنهجة لعرقلة البرنامج النووي الإيراني، ورفض إيراني مستمر لأي تدخّل خارجي في شؤونها السيادية. الضربة الأولى وفق بيان رسمي صادر عن المتحدث بإسم جيش الاحتلال الإسرائيلي صباح الجمعة (13 يونيو 2025)، شاركت 200 طائرة حربية من طرازات (F-35 وF-15i وF-16i) في الهجوم على إيران، واستهدفت أكثر من 100 موقع في عمق البلاد، أبرزها منشأة 'نطنز النووية'، ومواقع عسكرية في إصفهان وطهران، وأكثر من 300 قنبلة موجهة من نوع JDAM)) أُسقطت، كما استخدمت ذخائر خارقة للتحصينات لضرب البنية التحتية للبرنامج النووي الإيراني. صور أقمار صناعية نشرتها «أسوشيتد برس» بعد ساعات من الغارات، أظهرت دماراً كبيراً في بعض مراكز التخصيب، فيما أعلن معهد الدراسات الاستراتيجية في واشنطن (CSIS) أن الهجوم «ألحق ضرراً كبيراً بنسبة تقترب من 40% في مرافق نطنز وآراك النووية». استراتيجية الصدمة الصاروخية في صباح اليوم التالي، أطلق الحرس الثوري الإيراني أكثر من 150 صاروخاً باليستيا من طراز «خيبر شكن» و«ذو الفقار» و«قيام»، استهدفت قواعد جوية إسرائيلية في النقب والجليل، إضافة إلى منشآت حيوية في ميناء حيفا ومنطقة تل أبيب. الجيش الإسرائيلي أعلن أن منظومة «القبة الحديدية» اعترضت حتى البارحة حوالي 90% من الصواريخ، لكن الصدمة الاستراتيجية كانت في قدرة إيران على الوصول العلني والعنيف إلى العمق الإسرائيلي. القصف خلّف وفق مصادر مختلفة 24 قتيلا وقرابة الـ 600 جريح؛ كثيرها حرجة، إلى جانب خسائر مادية في البنية التحتية. الهروب إلى الأمام في ظل المحاكمة في قلب هذا التصعيد، بدا واضحا أن رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو لا يخوض الحرب فقط ضد البرنامج النووي الإيراني، بل أيضاً ضد أزماته السياسية والقضائية الداخلية. نتنياهو، الذي يواجه 5 قضايا فساد أمام محكمة القدس المركزية، يعيش عزلة سياسية متزايدة حتى من داخل معسكره اليميني. وثيقة مسرّبة نشرتها صحيفة «هآرتس» أكّدت أن أحد أهداف التصعيد الحالي هو «خلق واقع أمني استثنائي يؤجّل الإجراءات القضائية»، إضافة إلى استطلاع حديث نشره معهد الديمقراطية الإسرائيلي أظهر أن شعبية نتنياهو هبطت إلى 31%، في ظل اتهامات له باستخدام ذريعة «التهديد النووي الإيراني» كوسيلة للبقاء في السلطة. صناعة التصعيد في مشهد يعكس تحولات عميقة في وظيفة الحرب الإقليمية، بات واضحا أن نتنياهو يستخدم التصعيد مع إيران كأداة استراتيجية للهروب من أزماته الداخلية، فهو الأخير يرى في إقحام إسرائيل بحرب مع جبهة فعّالة لتأجيل محاكمته وكسب غطاء سياسي وشعبي متجدد، حتى لو كان الثمن زعزعة استقرار المنطقة بأكملها. وبحسب تسريبات كشفتها صحيفة هآرتس، قال نتنياهو في جلسة مغلقة: «المعركة مع إيران هي معركتي الشخصية للبقاء خارج الزنزانة رقم 5 في سجن مجيدو». وبينما تحاول تل أبيب تسويق ضربتها لإيران بذريعة واهية، ممّا يضعها في خانة الذرائع السياسية لا التهديدات الاستراتيجية الواقعية. وقد سبق لإسرائيل أن استخدمت منطق «الضربة الاستباقية» مرات عدّة، ليس فقط ضد طهران بل أيضاً ضد بيروت وبغداد ودمشق، في سياسة توسعية هدفها إعادة تشكيل قواعد الاشتباك الإقليمي. في المقابل، لا تبدو إيران راغبة في توسيع رقعة المواجهة، وقد جاء الرد الإيراني بعد ساعات قليلة من الهجوم الجوي الإسرائيلي المكثّف، لكنه اتسم لغاية الآن بضبط النفس الإستراتيجي، وهو ما يشير إلى رغبة طهران في الحفاظ على نوع من الردع المحدود ودون إحداث دمارا واسعا، كما فعلت الغارات الإسرائيلية التي راح ضحيتها قرابة 600 شخصا، منهم قادة عسكريون بارزون وإصابة ما يربو على 1481 معظمهم مدنيون. وتجدر الإشارة إلى أن هذه الأرقام تستند إلى تقارير منظّمات حقويقة مستقلة. إيران، رغم صلابة خطابها الرسمي، لا ترى في الحرب حلاً، لكنها تدرك تماماً أن الصمت في وجه اختراق سيادتها هو تفريط بأمنها القومي. هنا يتضح أن خلط السرديتين – كما تحاول بعض الأطراف تصويره – لا يخدم الحقيقة، فإسرائيل اليوم بقيادة نتنياهو، هي الطرف المبادر بالعدوان، وهي من يحمل أجندة توسعية واضحة تسعى لإعادة صياغة المعادلة الإقليمية تحت غطاء «الدفاع عن النفس». أما إيران، فهي تتحرّك في إطار دفاعي، وإن بوسائل هجومية، لردع تهديدات وجودية طالت عمقها الاستراتيجي. ما الذي تريده إيران بعد الضربة؟ الخيارات المتاحة أمام طهران تتوزّع بين التصعيد المنضبط وبين استثمار الضربة لتعزيز شرعيتها النووية؛ تصعيد محسوب: استمرار الردود الصاروخية دون الوصول إلى حرب شاملة، فضلا عن دبلوماسية هجومية تُوظِّف العدوان الإسرائيلي في المحافل الدولية للانسحاب من التزاماتها النووية تدريجيا. في سياق توحيد الداخل الإيراني، نشر معهد دراسات الأمن القومي الإيراني (INSS) ورقة تحليلية قالت فيها إن «إيران الآن أكثر حرية في تجاوز خطوط التخصيب، تحت غطاء الردع والدفاع عن السيادة». الموقف العربي المواقف العربية اتسمت بالحذر، فالسعودية امتنعت عن الإدانة المباشرة، لكنها دعت إلى «ضبط النفس»، بينما زادت إنتاج النفط إلى 10.9 مليون برميل لتعويض تقلبات السوق، وهو أعلى مستوى منذ 2021، بينما الإمارات أدانت الضربات على المدنيين الإيرانيين، وأبدت استعداداً للوساطة. أمّا البيان المصري فقد غلب عليه التموضع المحسوب بدعوته إلى «العودة للمسار الدبلوماسي»، فيما جاء البيان العراقي بنبرة باهتة وتحفّظ ملحوظ دون تحميل أي طرف المسؤولية. في العمق، تدرك الأنظمة العربية أن الانحياز الصريح في هذه المواجهة قد يكلّفها كثيراً؛ إقليميا واقتصاديا، خاّصة مع هشاشة الوضع في أسواق النفط والطاقة، وقد أغلق الاحتلال الإسرائيلي حقل «ليفياثان» البحري، ما أدى إلى وقف ضخ الغاز إلى كل من مصر والأردن. حرب لا مفرّ منها قد تجرّ هذه الجولة العسكرية الشرق الأوسط إلى مواجهة إقليمية واسعة، خصوصاً في ظل تصاعد خطاب التطرّف داخل الحكومة الإسرائيلية، فوجود شخصيات مثل نتنياهو وسموتريتش وبن غفير على رأس سلطة القرار، يجعل الحرب القادمة شبه حتمية. وكما يقول المثل الأردني: «إذا ما تعكّرت ما بتصفى»، أي أن التوتر إذا لم يتصاعد لن يهدأ. وفي ظل غياب أفق لأي حل سياسي؛ دولياً أو عربياً، قد تكون الحرب المقبلة بداية النهاية للاحتلال الإسرائيلي نفسه، لا عبر مفاوضات أو ضغوط، بل عبر انهيار إسرائيل من داخلها. فكل تأجيل للحرب، ليس سوى انتظار لها.