logo
الحكمة في مواجهة التفكير الفاسد

الحكمة في مواجهة التفكير الفاسد

الوطن١٠-٠٢-٢٠٢٥

يمكن لتأثير المفكرين المشهورين عالميًا أن يشكل السردية العالمية، ولكن عندما تتعثر بوصلتهم الأخلاقية، يمكن أن يصبحوا أكثر خطورة من أكثر القوى فتكًا على وجه الأرض؛ فمثلا دعا زبيغنيو بريجنسكي، مستشار الأمن القومي السابق للرئيس الأمريكي، ذات مرة إلى استخدام حرب الخليج الثانية «لتصحيح حدود اتفاقية سايكس بيكو»، مسلطًا الضوء على التقاطع الخطير بين الأيديولوجية والقوة في تشكيل الحقائق الجيوسياسية.
برنارد لويس، شخصية مؤثرة أخرى، صاغ إستراتيجية للمحافظين الجدد تتميز بالعداء العميق الجذور تجاه العرب والمسلمين، ففي بيان مثير للجدل عام 2005، ادعى أن العرب والمسلمين فوضويون وفاسدون، ويدافعون عن إعادة احتلالهم وتدمير هويتهم الثقافية! تضمنت رؤيته تجزئة الدول العربية والإسلامية إلى مناطق قبلية وطائفية، والتي كان يعتقد أنها ستمكن إسرائيل كقوة إمبريالية مهيمنة متحالفة مع الولايات المتحدة.
وفي عام 2006، نشر المقدم المتقاعد رالف بيترز مقالا في مجلة القوات المسلحة بعنوان «حدود الدم: كيف سيبدو الشرق الأوسط أفضل» دافع فيه بيترز عن إعادة رسم حدود الشرق الأوسط، مفترضا أن مثل هذه التعديلات تأتي عادة من خلال الصراع، وأكد أن «التطهير العرقي عملية ناجحة»، مما يشير إلى قبول قاتم للأنماط التاريخية في فن الحكم.
أكد بيترز أن المجتمع الدولي يفتقر إلى الأساليب الفعالة والسلمية لإعادة رسم الحدود؛ وبالتالي، غالبًا ما تصبح الحرب وسيلة ضرورية، وافترض أنه بعد غزو العراق عام 2003، كان ينبغي تقسيم البلاد إلى ثلاث ولايات أصغر، كما امتدت وجهات نظره أو بالأحرى أحلامه الخبيثة إلى ما وراء العراق؛ إلى المملكة العربية السعودية وإيران في عملية إعادة تنظيم كبيرة، مع احتمال انفصال مناطق مختلفة لتشكيل كيانات جديدة.
وأشار إلى أن النسيج التاريخي للشرق الأوسط محفوف بـ«التشوهات التي من صنع الإنسان» التي تديم العنف والكراهية، وبناء عليه اقترح بيترز أنه على الرغم من أن تصحيح هذه الحدود قد يبدو مستحيلا الآن «أي في زمن كتابة المقال»، إلا أنه بمرور الوقت -من خلال إراقة الدماء الحتمية- ستظهر حدود جديدة أكثر طبيعية، وأضاف بشكل استفزازي: «سقطت بابل أكثر من مرة»!
في تصور المستقبل، توقع بيترز قرنًا أمريكيًا جديدًا يتميز بزيادة الثروة والتأثير الثقافي، إلى جانب التوترات العالمية المتزايدة، وتوقع عالمًا منقسمًا بشكل حاد بين الأغنياء والفقراء، مع الولايات المتحدة في نهاية المطاف سوف تحسب من ضمن من «يملكون»، ومن المرجح أن يؤجج هذا التفاوت بين من يملك ومن لا يملك، الإرهاب ومختلف أشكال العنف، حسب قوله.
كما أكد بيترز أن الولايات المتحدة ستحتاج إلى التدخل في العديد من النزاعات لحماية مصالحها؛ ولخص وجهة نظره بأنه: «لن يكون هناك سلام. في أي لحظة، ستكون هناك صراعات متعددة في جميع أنحاء العالم، مع مواجهات عنيفة تهيمن على الأخبار، في حين أن الصراعات الثقافية والاقتصادية ستكون أكثر ثباتًا وحسمًا».
أحد الأمثلة المعاصرة التي يتردد صداها مع أفكار بيترز هو رؤية الرئيس الحالي للولايات المتحدة لغزة. إن اقتراحه بنقل السكان الفلسطينيين إلى البلدان المجاورة وتحويل غزة إلى وجهة فاخرة شبيهة بالريفييرا الجديدة يعكس عقلية مماثلة. لا تعني هذه الرؤية مجرد تشريد مادي بل تجاهل عميق للروابط الثقافية والتاريخية للأشخاص الذين يعيشون هناك.
وتؤكد خطة ترمب على قبول مقلق لفكرة أن الهويات العرقية والثقافية يمكن إعادة تشكيلها أو محوها لخدمة المصالح الجيوسياسية والاقتصادية. وكما أشار بيترز إلى أن «التطهير العرقي عملية ناجحة»، فإن نهج ترمب يشير إلى الرغبة في إعطاء الأولوية للتنمية الاقتصادية على حقوق وهويات السكان النازحين.
الآثار المترتبة على هذه العقلية عميقة؛ مع استمرار الولايات المتحدة في تأكيد نفوذها على الصعيد العالمي، من المرجح أن يستمر التداخل بين التدخل العسكري والمصالح الاقتصادية. إن السعي لتحقيق الاستقرار، من خلال وسائل عنيفة في كثير من الأحيان، يؤكد واقعًا معقدًا تطغى فيه الحقائق القاسية للمناورات الجيوسياسية على مُثل السلام.
وباختصار، فإن الخطاب المحيط بالتطهير العرقي وإعادة رسم الحدود يكشف عن قبول مقلق للعنف كأداة لإعادة التنظيم السياسي والاجتماعي. كما يسلط السياق التاريخي الذي قدمته شخصيات مثل بيترز ولويس الضوء على اتجاه مقلق، حيث لا يكون الصراع متوقعًا فحسب، بل يعتبر ضروريًا لتحقيق نظام متصور في عالم ممزق! إن رؤية ترمب لغزة تجسد هذه الأيديولوجية المقلقة، وتثير تساؤلات حاسمة حول مستقبل المنطقة وحقوق شعبها. هذا الفهم للصراع لا يضيع على دولة محورية مثل المملكة العربية السعودية، التي أظهرت نهجًا متطورًا وإستراتيجيًا في معالجة مقترحات ترمب لغزة.، وبدلا من مجرد قبول رؤيته، عبَّرت القيادة السعودية عن موقف دبلوماسي قوي يؤكد على أهمية الحقوق الفلسطينية والاستقرار الإقليمي، ولا يعكس هذا التصريح الحكمة والالتزام عندما يتعلق الأمر بمصالح الوطن فحسب، بل يعكس أيضًا الرغبة في الحفاظ على الوحدة بين الدول العربية، فمن خلال الانخراط في الحوار والاستفادة من نفوذها، تضع المملكة العربية السعودية نفسها قوة رئيسة في تشكيل حل أكثر إنصافًا للصراع، وتواجه بحسم أي حلول مبسطة أو أحادية الجانب تقوض كرامة الشعب الفلسطيني وتطلعاته.

Orange background

جرب ميزات الذكاء الاصطناعي لدينا

اكتشف ما يمكن أن يفعله Daily8 AI من أجلك:

التعليقات

لا يوجد تعليقات بعد...

أخبار ذات صلة

افتتاحية قاسيون 1226: عصر «اتفاقات أبراهام» انتهى ولن يعود!
افتتاحية قاسيون 1226: عصر «اتفاقات أبراهام» انتهى ولن يعود!

قاسيون

time١١-٠٥-٢٠٢٥

  • قاسيون

افتتاحية قاسيون 1226: عصر «اتفاقات أبراهام» انتهى ولن يعود!

إن مجرد الحديث في الموضوع، من شأنه إثارة حفيظة قسم كبير من السوريين، رغم كل الترويج الإعلامي المعاكس، خاصة وأن «إسرائيل» التي يجري الحديث عنها، وعن سلامٍ أو تطبيع معها، هي نفسها التي تقصف سورية بشكل شبه يومي، وتحتل أجزاءً من أراضيها، وتدعو لتقسيمها وتفتيتها وإنهائها كوحدة جغرافية سياسية، وتحرض أبناءها على بعضهم البعض باتجاه مقتلة طائفية لا تبقي ولا تذر. ولكن مع ذلك، فمن الضروري مناقشة الأمر بشكلٍ موضوعي، وانطلاقاً من المصالح الوطنية للشعب السوري. وبالرغم من أنه لا توجد أي تأكيدات رسمية سورية في هذا الاتجاه، إلا أنه ينبغي أن نثبت أولاً وقبل كل شيء، أن اتخاذ قرار من مستوى خوض الحرب أو الاتجاه نحو السلم، وخاصة مع عدوٍ تاريخي ومحتل لجزء من الأرض السورية هو «إسرائيل»، هو صلاحية حصرية لسلطة منتخبة انتخاباً شعبياً حراً ونزيهاً. والسلطة القائمة لا تحقق هذا الشرط، ولذا ليس من صلاحياتها إبرام أي اتفاق بهذا المستوى وبهذا التأثير. إضافة إلى هذا الأمر الأساسي، يمكن تثبيت النقاط التالية: أولاً: حقبة «اتفاقات أبراهام» وخرافة «الناتو العربي»، قد ولّت غير مأسوفٍ عليها، وإلى غير رجعة. ومنطقة غرب آسيا/الشرق الأوسط التي نعيش فيها، تتم صياغتها بشكلٍ جديدٍ فعلاً، ولكن ليس وفقاً للوصفة «الإسرائيلية» التفتيتية، بل على العكس من ذلك تماماً؛ الوصفة التي يجري تطبيقها هي وصفة التقارب والتعاون والتوافق بين القوى الإقليمية الأساسية: السعودية، تركيا، إيران، مصر، وبدعمٍ حثيث ومتواصل من الصين وروسيا، وبما يقود نحو استقرار حقيقي في المنطقة، يسمح بازدهار مشروعي الحزام والطريق والمشروع الأوراسي، وازدهار دول المنطقة بأسرها معهما، وفي اتجاه تاريخي معاكس للاتجاه المفروض عليها منذ اتفاقات سايكس بيكو التي تم استكمالها بزرع الكيان في منطقتنا. ثانياً: المبادرة التي أطلقها عملياً كل من عبد الله أوجلان ودولت بهتشلي وأردوغان، والخاصة بحل القضية الكردية في تركيا، والتي تسجل تقدماً مدروساً خلال الأسابيع والأيام الماضية، تشكل مؤشراً مهماً على اتجاه السير الفعلي المعاكس لوصفة سايكس بيكو/«إسرائيل»، التي كانت أساساً من أسس إبقاء منطقتنا مشتعلة وضعيفة ومسرحاً للدماء، وللتدخلات الخارجية الغربية طوال قرن من الزمن. ثالثاً: الوقائع الملموسة بما يخص المفاوضات الأمريكية مع إيران، والهدنة مع الحوثيين، والضغط نحو إنهاء الحرب على غزة، وانفتاح الأمريكي على صفقات كبرى مع السعودية بما في ذلك النووي السلمي، ودون شرط التطبيع مع «الإسرائيلي»، وبدء الانسحاب الأمريكي من سورية، تشير جميعها إلى أن الإحداثيات الواقعية، معاكسة تماماً للاتجاه «الإسرائيلي» التخريبي، وتثبت أن وزن الكيان في مختلف معادلات المنطقة ماضٍ في التراجع والتقهقر، رغم كل العنجهية والعجرفة التي يحاول تصوير نفسه بها. إن مصلحة سورية والسوريين، تتطلب القطع نهائياً مع أي أوهام بخصوص علاقات جيدة مع الغرب تؤدي لرفع العقوبات، وخاصة عبر «إسرائيل»، وتتطلب العمل على ملفين لا بديل عنهما: توحيد السوريين عبر مؤتمر وطني عام وحكومة وحدة وطنية، وتجاوز العقوبات عبر منظومة علاقات إقليمية ودولية غير خاضعة للابتزاز السياسي والوطني... وهما أمران قابلان للتحقيق، وليسا خياراً بين خيارات، بل اتجاهاً إجبارياً وحيداً في حال كنا نريد الحفاظ على سورية موحدة أرضاً وشعباً!

لبنان وسوريا وفرصة الرعاية السعودية
لبنان وسوريا وفرصة الرعاية السعودية

العربية

time٢٣-٠٤-٢٠٢٥

  • العربية

لبنان وسوريا وفرصة الرعاية السعودية

السؤال في سوريا والعالم العربي وأميركا وأوروبا وسط عدم اليقين هو إلى أي حد يستطيع الرئيس أحمد الشرع التخفف من حمولات الجهادية السلفية، ويمكّن الانتقال من انفتاح محدود لـ "هيئة تحرير الشام" إلى انفتاح كامل على التنوع السوري؟ قصيرة كانت فترة العلاقات الأخوية الناعمة بين لبنان وسوريا، من الاستقلال إلى القطيعة الاقتصادية بقرار سوري كان بطله خالد العضم، والباقي غربة ثقافية بين حكام لبنان الكلاسيكيين وضباط الانقلابات العسكرية في سوريا، وصدام سياسي وعسكري عبر أحداث 1958 في لبنان أيام الوحدة المصرية - السورية، ثم استيلاء البعث على السلطة وحكم آل الأسد السلطوي في سوريا والهيمنة عسكرياً وسياسياً على لبنان. بعد الاستقلال، ومع تأسيس الجامعة العربية، احتاج لبنان إلى رعاية مصرية ودعم سعودي لتثبيت موقعه ودوره وتخلي دمشق عن تحفظاتها عبر جميل مردم بك، واليوم يحتاج لبنان وسوريا إلى رعاية سعودية ودعم أميركي لبناء علاقات طبيعية بين بلدين عربيين، لا في إطار"شعب واحد في دولتين"، كما كان الرئيس حافظ الأسد يردد، ولا في إطار شعبين في دولة واحدة كما كان الواقع الذي فرضته الوصاية السورية، والرياض تعرف من خبرتها ومساعيها المباشرة على مدى أعوام حجم الإرث غير الطبيعي الذي يجب تجاوزه لتنظيم مسار العلاقات الطبيعية بين بيروت ودمشق، فلا بد من أن يتوقف السوريون عن التصرف على أساس أن لبنان "خطأ تاريخي"، وأن يقطع بعض اللبنانيين مع الدعوات التي يعتبر أصحابها أن لبنان "خطأ جغرافي". ولا حاجة بعد أكثر من 100 عام للتذكير بأن جبل لبنان كان "متصرفية" ذات حكم ذاتي في ظل السلطنة برعاية الدول السبع الكبرى، وسوريا كانت ولاية عثمانية، وأن الجنرال غورو لم يعلن "لبنان الكبير" عام 1920 قبل أن يدخل دمشق وينفي حكومة الملك فيصل ويرسم حدود الجمهورية السورية تحت الانتداب، بحسب "اتفاق سايكس- بيكو"، وما كان ممكناً الرهان على تجديد الرعاية السعودية والدعم الأميركي قبل التحولات المتسارعة في المنطقة بتأثير حرب غزة ولبنان وسقوط نظام الأسد وانحسار النفوذ الإيراني، وهذا ما سمح بقيام عهد الرئيس جوزاف عون وحكومة جديدة برئاسة نواف سلام، وإمساك إدارة جديدة بالوضع في سوريا، ومن هنا فرصة البلدين من خلال الرعاية السعودية والدعم الأميركي. لكن الطريق طويل والتعقيدات ليست قليلة، ففي مراحل التغيير يتذكر المحللون معادلة أنطونيو غرامشي الدقيقة: "القديم يحتضر والجديد لم يولد بعد، وفي هذه المرحلة يمكن أن تظهر كل أنواع الشرور"، وهي معادلة ليست كاملة بالنسبة إلى لبنان وسوريا، فالقديم في بيروت متجذر والجديد يكافح لئلا يبدو وكأنه ضيف على القديم، والقديم في سوريا مات والجديد ولد، ولكن الجديد يحمل أفكاراً قديمة جداً، والسؤال في سوريا والعالم العربي وأميركا وأوروبا، وسط عدم اليقين، هو إلى أي حد يستطيع الرئيس أحمد الشرع التخفف من حمولات الجهادية السلفية، ويمكّن الانتقال من انفتاح محدود لـ "هيئة تحرير الشام" إلى انفتاح كامل على التنوع السوري؟ من الصعب إلغاء العقوبات الأميركية والاعتراف الرسمي بالوضع السوري الجديد من دون هذا الانفتاح، وهذا ما تدركه تماماً الرعاية السعودية وما تطلبه أميركا والسعودية في لبنان، وفيه هو ما يطلبه اللبنانيون لأنفسهم، الإصلاحات وسحب السلاح غير الشرعي وانسحاب إسرائيل من الأرض التي احتلتها في الجنوب الذي كان محرراً قبل "حرب الإسناد" لغزة بقرار "حزب الله". ولا ألغاز وأسرار على الطريق، فجملة واحدة مما قاله ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان للرئيس جوزاف عون تكفي لفهم الترابط بين القضايا المطلوب حلها، "أريد ختم صندوق النقد الدولي"، فختم الصندوق يعني بداية الإصلاح الجدي وتأهيل لبنان للاستثمارات، ولا قيمة للإصلاح على الورق من دون سحب السلاح غير الشرعي الذي هو شرط لإعادة الإعمار، فلا أحد يعيد إعمار بلد مهدد بحروب دائمة، ولا ترسيم للحدود الجنوبية من دون سحب السلاح، أما الحدود الشرقية والشمالية بين لبنان وسوريا والتي جرى التفاهم بين وزيري الدفاع اللبناني والسوري على بدء ترسيمها خلال اجتماع جدة برعاية وزير الدفاع السعودي الأمير خالد بن سلمان، فإنها جزء من ورشة واسعة. وليس أكبر من الورشة في لبنان سوى الورشة في سوريا، فكما تحتاج بيروت إلى ختم صندوق النقد الدولي، كذلك الأمر بالنسبة إلى دمشق، ولا ختم للصندوق من دون ختم أميركي، ولا فاعلية للدعم الأميركي من دون الرعاية السعودية التي لا تتوقف مهما يكن المسار طويلاً وصعباً ومعقداً، فالخيار أمام الإدارة الجديدة في سوريا هو، بحسب واشنطن والرياض، بناء دولة الانفتاح والتنوع لضمان وحدة سوريا ورفع العقوبات وبدء إعادة الإعمار وإعادة النازحين مع الدعم الأميركي والسعودي والأوروبي، أو الاستئثار بالسلطة والعيش مع الأزمات والعجز حتى عن إدارة كل سوريا، كما عن منع الفوضى والصراعات المسلحة. والخيار أمام الجديد وبعض القديم في لبنان هو أخذ ما سميت في إدارة الرئيس دونالد ترمب "الشراكة" مع أميركا والرعاية السعودية عبر الإصلاحات وسحب السلاح، أو اللاشراكة والبقاء في الجحيم الذي قادته إليه المافيا السياسية والمالية والميليشياوية، والمماطلة ليست أقل خطورة وسوءاً من الرفض. ميشال فوكو استخدم تعبير"السياسة الحيوية" لتوصيف تحكم السلطة بكل مفاصل الحياة، لكن سوريا تواجه خطر السياسة الحيوية ولبنان يعاني ضعف السلطة الذي يوازي أخطار السياسة الحيوية.

لبنان وسوريا وفرصة الرعاية السعودية
لبنان وسوريا وفرصة الرعاية السعودية

Independent عربية

time٢٢-٠٤-٢٠٢٥

  • Independent عربية

لبنان وسوريا وفرصة الرعاية السعودية

قصيرة كانت فترة العلاقات الأخوية الناعمة بين لبنان وسوريا، من الاستقلال إلى القطيعة الاقتصادية بقرار سوري كان بطله خالد العضم، والباقي غربة ثقافية بين حكام لبنان الكلاسيكيين وضباط الانقلابات العسكرية في سوريا، وصدام سياسي وعسكري عبر أحداث 1958 في لبنان أيام الوحدة المصرية - السورية، ثم استيلاء البعث على السلطة وحكم آل الأسد السلطوي في سوريا والهيمنة عسكرياً وسياسياً على لبنان. بعد الاستقلال، ومع تأسيس الجامعة العربية، احتاج لبنان إلى رعاية مصرية ودعم سعودي لتثبيت موقعه ودوره وتخلي دمشق عن تحفظاتها عبر جميل مردم بك، واليوم يحتاج لبنان وسوريا إلى رعاية سعودية ودعم أميركي لبناء علاقات طبيعية بين بلدين عربيين، لا في إطار"شعب واحد في دولتين"، كما كان الرئيس حافظ الأسد يردد، ولا في إطار شعبين في دولة واحدة كما كان الواقع الذي فرضته الوصاية السورية، والرياض تعرف من خبرتها ومساعيها المباشرة على مدى أعوام حجم الإرث غير الطبيعي الذي يجب تجاوزه لتنظيم مسار العلاقات الطبيعية بين بيروت ودمشق، فلا بد من أن يتوقف السوريون عن التصرف على أساس أن لبنان "خطأ تاريخي"، وأن يقطع بعض اللبنانيين مع الدعوات التي يعتبر أصحابها أن لبنان "خطأ جغرافي". ولا حاجة بعد أكثر من 100 عام للتذكير بأن جبل لبنان كان "متصرفية" ذات حكم ذاتي في ظل السلطنة برعاية الدول السبع الكبرى، وسوريا كانت ولاية عثمانية، وأن الجنرال غورو لم يعلن "لبنان الكبير" عام 1920 قبل أن يدخل دمشق وينفي حكومة الملك فيصل ويرسم حدود الجمهورية السورية تحت الانتداب، بحسب "اتفاق سايكس- بيكو"، وما كان ممكناً الرهان على تجديد الرعاية السعودية والدعم الأميركي قبل التحولات المتسارعة في المنطقة بتأثير حرب غزة ولبنان وسقوط نظام الأسد وانحسار النفوذ الإيراني، وهذا ما سمح بقيام عهد الرئيس جوزاف عون وحكومة جديدة برئاسة نواف سلام، وإمساك إدارة جديدة بالوضع في سوريا، ومن هنا فرصة البلدين من خلال الرعاية السعودية والدعم الأميركي. لكن الطريق طويل والتعقيدات ليست قليلة، ففي مراحل التغيير يتذكر المحللون معادلة أنطونيو غرامشي الدقيقة: "القديم يحتضر والجديد لم يولد بعد، وفي هذه المرحلة يمكن أن تظهر كل أنواع الشرور"، وهي معادلة ليست كاملة بالنسبة إلى لبنان وسوريا، فالقديم في بيروت متجذر والجديد يكافح لئلا يبدو وكأنه ضيف على القديم، والقديم في سوريا مات والجديد ولد، ولكن الجديد يحمل أفكاراً قديمة جداً، والسؤال في سوريا والعالم العربي وأميركا وأوروبا، وسط عدم اليقين، هو إلى أي حد يستطيع الرئيس أحمد الشرع التخفف من حمولات الجهادية السلفية، ويمكّن الانتقال من انفتاح محدود لـ "هيئة تحرير الشام" إلى انفتاح كامل على التنوع السوري؟ اقرأ المزيد يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field) من الصعب إلغاء العقوبات الأميركية والاعتراف الرسمي بالوضع السوري الجديد من دون هذا الانفتاح، وهذا ما تدركه تماماً الرعاية السعودية وما تطلبه أميركا والسعودية في لبنان، وفيه هو ما يطلبه اللبنانيون لأنفسهم، الإصلاحات وسحب السلاح غير الشرعي وانسحاب إسرائيل من الأرض التي احتلتها في الجنوب الذي كان محرراً قبل "حرب الإسناد" لغزة بقرار "حزب الله". ولا ألغاز وأسرار على الطريق، فجملة واحدة مما قاله ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان للرئيس جوزاف عون تكفي لفهم الترابط بين القضايا المطلوب حلها، "أريد ختم صندوق النقد الدولي"، فختم الصندوق يعني بداية الإصلاح الجدي وتأهيل لبنان للاستثمارات، ولا قيمة للإصلاح على الورق من دون سحب السلاح غير الشرعي الذي هو شرط لإعادة الإعمار، فلا أحد يعيد إعمار بلد مهدد بحروب دائمة، ولا ترسيم للحدود الجنوبية من دون سحب السلاح، أما الحدود الشرقية والشمالية بين لبنان وسوريا والتي جرى التفاهم بين وزيري الدفاع اللبناني والسوري على بدء ترسيمها خلال اجتماع جدة برعاية وزير الدفاع السعودي الأمير خالد بن سلمان، فإنها جزء من ورشة واسعة. وليس أكبر من الورشة في لبنان سوى الورشة في سوريا، فكما تحتاج بيروت إلى ختم صندوق النقد الدولي، كذلك الأمر بالنسبة إلى دمشق، ولا ختم للصندوق من دون ختم أميركي، ولا فاعلية للدعم الأميركي من دون الرعاية السعودية التي لا تتوقف مهما يكن المسار طويلاً وصعباً ومعقداً، فالخيار أمام الإدارة الجديدة في سوريا هو، بحسب واشنطن والرياض، بناء دولة الانفتاح والتنوع لضمان وحدة سوريا ورفع العقوبات وبدء إعادة الإعمار وإعادة النازحين مع الدعم الأميركي والسعودي والأوروبي، أو الاستئثار بالسلطة والعيش مع الأزمات والعجز حتى عن إدارة كل سوريا، كما عن منع الفوضى والصراعات المسلحة. والخيار أمام الجديد وبعض القديم في لبنان هو أخذ ما سميت في إدارة الرئيس دونالد ترمب "الشراكة" مع أميركا والرعاية السعودية عبر الإصلاحات وسحب السلاح، أو اللاشراكة والبقاء في الجحيم الذي قادته إليه المافيا السياسية والمالية والميليشياوية، والمماطلة ليست أقل خطورة وسوءاً من الرفض. ميشال فوكو استخدم تعبير"السياسة الحيوية" لتوصيف تحكم السلطة بكل مفاصل الحياة، لكن سوريا تواجه خطر السياسة الحيوية ولبنان يعاني ضعف السلطة الذي يوازي أخطار السياسة الحيوية.

حمل التطبيق

حمّل التطبيق الآن وابدأ باستخدامه الآن

مستعد لاستكشاف الأخبار والأحداث العالمية؟ حمّل التطبيق الآن من متجر التطبيقات المفضل لديك وابدأ رحلتك لاكتشاف ما يجري حولك.
app-storeplay-store