
السرد البصري وأدب الأطفال: شراكة النصّ والصورة في "الشارقة القرائي للطفل"
في مشهد تتلاقى فيه الخبرات الفنية والتربوية، احتضن مهرجان الشارقة القرائي للطفل 2025 جلسة حوارية ناقشت أثر الرسوم في كتب الأطفال، لا بوصفها زخارف ملوّنة دورها إخراجي تجميلي، بل كمحرّكات سردية وعاطفية تمكّن الطفل من العبور نحو الفهم والتعلّق.
الجلسة، التي جاءت بعنوان "تأثير الكتب المصوّرة على السرد القصصي" ضمن الدورة السادسة عشرة للمهرجان، استضافت أسماءً بارزة في هذا المجال: المخرج والتربوي الإماراتي الدكتور عبد الله الشرهان، مؤسس شركة "أجيال" ومبتكر شخصية "حمدون"، والرسّامة والمؤلفة الفلسطينية براء العاوور، صاحبة رصيد يتجاوز الأربعين كتاباً، والكاتبة والرسّامة راحات كادوجي، الآتية من المملكة المتحدة حاملةً كتابها المترجم إلى لغات عدّة "أنا لستُ مخيفاً".
ما الذي يجعل الطفل يحبّ الكتاب من أول نظرة؟ كان عبد الله الشرهان أول المتحدثين، وسرعان ما أوضح بمنطق الفنان والتربوي أن الكلمة المصوغة بعناية لا تكفي وحدها في التأثير على الطفل، بل تحتاج إلى صورة مكافئة لها في القدرة على الإدهاش والاتصال العاطفي. الصورة بالنسبة إليه تحمل الرسالة بسرعة تفوق الكلمة، وتصل إلى الطفل مباشرة، إلى قلبه لا إلى عقله فقط.
ويرى أن التجارب التفاعلية في كتب الأطفال لم تعد خياراً، بل أصبحت ضرورة لصناعة علاقة طويلة الأمد بين الطفل والكتاب، مشدداً على أنّ الطفل غالباً ما يحكم على الكتاب من اللحظة الأولى: إما أن ينجذب له أو يديره جانباً. وتلك العلاقة، في نظر الشرهان، تبدأ من احترام عقل الطفل وبيئته الثقافية، وتقديم رسائل بصرية نابضة بروح محلية لا تغترب عن الطفل بل تشبهه.
الطفل ليس قارئاً ساذجاً أما براء العاوور، فذهبت في حديثها إلى جوهر العلاقة بين الرسام والطفل. برأيها، لا يكفي أن تكون الرسوم توضيحاً لما كُتب؛ بل يجب أن تُضيف أبعاداً جديدة للنص، خصوصاً على المستوى العاطفي والوجداني. ففي قاموسها، الطفل قارئ ذكيّ، لا تخدعه الرسوم المصطنعة. هو يشعر بصدق الخطوط وانسجام الألوان، ويستشفّ من الصورة ما قد تعجز عنه الكلمات، وهكذا تصف قدرة الطفل على التفاعل البصري.
وتؤكّد أهمية إدراك سيكولوجية الألوان، وفهم عناصر البيئة التي يعيش فيها الطفل، وبذلك، لا يعود الرسم مجرّد ترجمة بصرية، بل أداة سردية فاعلة في بناء القصّة وتشكيل المعنى. وتشير إلى أنّ الكتاب المصوّر يوفّر اليوم فضاءً رحباً للاستكشاف، ما يحتم على الرسام أن يكون شريكاً كاملاً في صياغة النص، لا مجرّد منفّذ له.
الطبيعة مرشد تربوي في مداخلة اتسمت بالحسّ الشخصي، تحدثت راحات كادوجي عن علاقتها المبكرة بالطبيعة، وكيف شكّلت تلك العلاقة وعيها البصري واهتمامها برسم قصص مستوحاة من العالم الحقيقي. ما زالت تحتفظ حتى اليوم بعادة اصطحاب قلم رصاص وأوراق بيضاء في رحلاتها، ترسم مشاهد الطبيعة كمسوّدات أولى لحكايات مقبلة.
تؤمن كادوجي بأن الرسوم ليست فقط مدخلاً للمتعة البصرية، بل وسيلة تعليمية حقيقية. الصور، كما توضح، تعزّز من فهم القصة وتسهم في تطوير مهارات القراءة البصرية، وتقدّم مفردات لغوية وسياقات ثقافية متنوّعة تساعد الطفل على النموّ فكرياً ولغوياً.
الجلسة، التي جمعت بين فنّ الرسم وفنّ الحكي، دلّت بوضوح على أنّ مستقبل كتاب الطفل لا يُصاغ بالحبر وحده، بل بالألوان والخيال والفهم العميق لنفسية القارئ الصغير. الصورة في كتب الأطفال ليست ترفاً فنّياً، بل ضرورة سردية، تبني الجسر بين النصّ وعالم الطفل، وتجعله جزءاً من القصة لا متلقّياً سلبياً لها.

جرب ميزات الذكاء الاصطناعي لدينا
اكتشف ما يمكن أن يفعله Daily8 AI من أجلك:
التعليقات
لا يوجد تعليقات بعد...
أخبار ذات صلة


الوطنية للإعلام
٢٧-٠٤-٢٠٢٥
- الوطنية للإعلام
حاكم الشارقة يوجه بتخصيص 2.5 مليون درهم لمكتبات الشارقة العامة
وطنية - وجّه عضو المجلس الأعلى حاكم الشارقة الشيخ الدكتور سلطان بن محمد القاسمي، بتخصيص 2.5 مليون درهم لتزويد مكتبات الشارقة العامة والحكومية بأحدث إصدارات دور النشر العربية والأجنبية المشاركة في الدورة الـ 16 من مهرجان الشارقة القرائي للطفل. وتأتي هذه المبادرة استمراراً لنهجه في تعزيز دور المكتبات بوصفها مراكز حيوية لصناعة المعرفة وتنمية المهارات، وإيماناً بأهمية دعم قطاع النشر وتمكين الناشرين، وتوسيع آفاق الأجيال الجديدة عبر إتاحة أوسع الخيارات من مصادر التعلم والقراءة الحديثة، بما يسهم في ترسيخ ثقافة البحث والمعرفة، ويدعم جهود بناء مجتمع قارئ، كما تعكس المنحة حرص الشارقة على تحويل المكتبات إلى منصات مفتوحة للمعرفة والتفاعل الثقافي، وتؤكد أن الاستثمار في الكتاب هو استثمار في الإنسان والمستقبل. القاسمي وفي تعليقها على المنحة، قالت رئيسة مجلس إدارة هيئة الشارقة للكتاب الشيخة بدور بنت سلطان القاسمي، ان المبادرة تشكل "استثماراً في تنمية الإنسان وتعزيز المعرفة، كما أنه يمثل أكثر من دعم لمكتبات الشارقة، إذ هو محفز لقطاع النشر في العالم وخاصة في الوطن العربي، يساهم في ترسيخ عمل هذا القطاع الحيوي ودعم استمراريته". وأضافت: " ان المنحة تمثل "دعماً للقراء، وفرصة للأجيال الجديدة كي تكتشف وتسأل وتبتكر، وما تمكين الناشرين إلا امتداد لهذه الرؤية؛ فهم من يحركون عجلة الفكر ويجددون المحتوى الذي يصل إلى المجتمع، واليوم، بفضل رؤية سموه، تواصل الشارقة تحويل المكتبات إلى منصات للعلم والحوار والإبداع، وتؤكد أن الطريق إلى التقدم يبدأ بصفحات كتاب، وبفكرة تزرع في ذهن طفل أو شاب يبحث عن مستقبله". =========== ه ع


النهار
٢٥-٠٤-٢٠٢٥
- النهار
السرد البصري وأدب الأطفال: شراكة النصّ والصورة في "الشارقة القرائي للطفل"
في مشهد تتلاقى فيه الخبرات الفنية والتربوية، احتضن مهرجان الشارقة القرائي للطفل 2025 جلسة حوارية ناقشت أثر الرسوم في كتب الأطفال، لا بوصفها زخارف ملوّنة دورها إخراجي تجميلي، بل كمحرّكات سردية وعاطفية تمكّن الطفل من العبور نحو الفهم والتعلّق. الجلسة، التي جاءت بعنوان "تأثير الكتب المصوّرة على السرد القصصي" ضمن الدورة السادسة عشرة للمهرجان، استضافت أسماءً بارزة في هذا المجال: المخرج والتربوي الإماراتي الدكتور عبد الله الشرهان، مؤسس شركة "أجيال" ومبتكر شخصية "حمدون"، والرسّامة والمؤلفة الفلسطينية براء العاوور، صاحبة رصيد يتجاوز الأربعين كتاباً، والكاتبة والرسّامة راحات كادوجي، الآتية من المملكة المتحدة حاملةً كتابها المترجم إلى لغات عدّة "أنا لستُ مخيفاً". ما الذي يجعل الطفل يحبّ الكتاب من أول نظرة؟ كان عبد الله الشرهان أول المتحدثين، وسرعان ما أوضح بمنطق الفنان والتربوي أن الكلمة المصوغة بعناية لا تكفي وحدها في التأثير على الطفل، بل تحتاج إلى صورة مكافئة لها في القدرة على الإدهاش والاتصال العاطفي. الصورة بالنسبة إليه تحمل الرسالة بسرعة تفوق الكلمة، وتصل إلى الطفل مباشرة، إلى قلبه لا إلى عقله فقط. ويرى أن التجارب التفاعلية في كتب الأطفال لم تعد خياراً، بل أصبحت ضرورة لصناعة علاقة طويلة الأمد بين الطفل والكتاب، مشدداً على أنّ الطفل غالباً ما يحكم على الكتاب من اللحظة الأولى: إما أن ينجذب له أو يديره جانباً. وتلك العلاقة، في نظر الشرهان، تبدأ من احترام عقل الطفل وبيئته الثقافية، وتقديم رسائل بصرية نابضة بروح محلية لا تغترب عن الطفل بل تشبهه. الطفل ليس قارئاً ساذجاً أما براء العاوور، فذهبت في حديثها إلى جوهر العلاقة بين الرسام والطفل. برأيها، لا يكفي أن تكون الرسوم توضيحاً لما كُتب؛ بل يجب أن تُضيف أبعاداً جديدة للنص، خصوصاً على المستوى العاطفي والوجداني. ففي قاموسها، الطفل قارئ ذكيّ، لا تخدعه الرسوم المصطنعة. هو يشعر بصدق الخطوط وانسجام الألوان، ويستشفّ من الصورة ما قد تعجز عنه الكلمات، وهكذا تصف قدرة الطفل على التفاعل البصري. وتؤكّد أهمية إدراك سيكولوجية الألوان، وفهم عناصر البيئة التي يعيش فيها الطفل، وبذلك، لا يعود الرسم مجرّد ترجمة بصرية، بل أداة سردية فاعلة في بناء القصّة وتشكيل المعنى. وتشير إلى أنّ الكتاب المصوّر يوفّر اليوم فضاءً رحباً للاستكشاف، ما يحتم على الرسام أن يكون شريكاً كاملاً في صياغة النص، لا مجرّد منفّذ له. الطبيعة مرشد تربوي في مداخلة اتسمت بالحسّ الشخصي، تحدثت راحات كادوجي عن علاقتها المبكرة بالطبيعة، وكيف شكّلت تلك العلاقة وعيها البصري واهتمامها برسم قصص مستوحاة من العالم الحقيقي. ما زالت تحتفظ حتى اليوم بعادة اصطحاب قلم رصاص وأوراق بيضاء في رحلاتها، ترسم مشاهد الطبيعة كمسوّدات أولى لحكايات مقبلة. تؤمن كادوجي بأن الرسوم ليست فقط مدخلاً للمتعة البصرية، بل وسيلة تعليمية حقيقية. الصور، كما توضح، تعزّز من فهم القصة وتسهم في تطوير مهارات القراءة البصرية، وتقدّم مفردات لغوية وسياقات ثقافية متنوّعة تساعد الطفل على النموّ فكرياً ولغوياً. الجلسة، التي جمعت بين فنّ الرسم وفنّ الحكي، دلّت بوضوح على أنّ مستقبل كتاب الطفل لا يُصاغ بالحبر وحده، بل بالألوان والخيال والفهم العميق لنفسية القارئ الصغير. الصورة في كتب الأطفال ليست ترفاً فنّياً، بل ضرورة سردية، تبني الجسر بين النصّ وعالم الطفل، وتجعله جزءاً من القصة لا متلقّياً سلبياً لها.


النهار
٢٥-٠٤-٢٠٢٥
- النهار
هيام عبّاس لـ"النهار": حاربتُ من أجل حريتي كامرأة وممثّلة
تطلّب الأمر من هيام عبّاس سنوات لتنتقل افتراضياً وحضورياً من مسقطها في الناصرة إلى شاشات العالم، ومع ذلك لم تنسلخ يوماً عن أرض فلسطين، حتى بعدما أصبحت ممثّلة "بوهيمية" ونجمة اخترقت ميدان الكبار، باحثةً عن مساحة تعبّر فيها عن ذاتها بين الثقافات واللغات، وكذلك عن موطئ قدم في أفلام متنوعة من جوليان شنايبل إلى باتريس شيرو فإلى جيم جارموش، من دون ان ننسى مسلسلات ذات انتشار دولي مثل "خلافة" ("سكساشن") الذي عُرض على شاشة HBO بين عامي 2018 و2023. رحلة صعودها التدريجي وارتباطها بوطنها، روتها ابنتها لينا سوالم أخيراً في فيلمها الوثائقي "باي باي طبريا" الذي انطلقنا منه لمحاورتها خلال مشاركتها في الدورة الأخيرة من مهرجان "أجيال" في الدوحة. * لماذا لم تكرّري تجربة الإخراج بعد فيلمك الأول "تراث – ميراث"؟ - لم يكن لديّ الوقت الكافي. بعد هذا الفيلم، أخرجتُ فيلماً قصيراً ضمن سلسلة "ميو ميو"، التي تهدف إلى تشجيع النساء على خوض تجربة الإخراج. ثم توليتُ إخراج حلقة من المسلسل الأميركي "رامي"، بما أنني كنت أشارك في التمثيل فيه، فكان من الطبيعي أن أتحمّل هذه المهمّة. منذ ذلك الحين، لم أتوقّف عن العمل، والإخراج يتطلّب تفرغاً كاملاً. انه التزام يحتاج إلى ترك كلّ شيء جانباً والتفرغ الذهني والفني بالكامل. في العالم العربي، الأمور غالباً "مخلوطة"، لأن المخرج يتحمّل مسؤوليات تفوق الإخراج الفني، ممّا يزيد العبء ويصعّب المهمّة. * شاهدناكِ أخيراً في "باي باي طبريا' لابنتك لينا سوالم. كيف وُلد هذا المشروع، كونه تشكّل على مدى سنوات، خصوصاً مع احتوائه مواد مصوّرة تعود إلى زمن بعيد؟ - في البداية، كانت هناك فكرة أولية لإنجاز فيلم عن النكبة. لينا تبنّت هذا المشروع بعد انتهائها من "جزائرهم"، أول فيلم وثائقي لها. كان مشروعها الشخصي بالكامل، إذ لا أملك الخبرة في صناعة الأفلام الوثائقية، وحتى لو رغبتُ، لستُ واثقة من قدرتي على خوض هذا المجال. لكن، مع تقدّمها في العمل، بدأتُ أفهم ما الذي تنتظره منّي. في البداية، واجهتُ صعوبة كبيرة، لأن الحديث عن ماضيك، عن خصوصياتك، وعن تفاصيل لا يعرفها أحد، ليس أمراً سهلاً. غير أني، وفي لحظة ما، أدركتُ أنها كانت تنسج حبكة سينمائية أصبح من الواضح أنني جزء منها، ولم أعد أستطيع الانسحاب. شعرتُ حينها بمسؤولية تجاهها، خصوصاً أن الفيلم جمع بين الخاص والعام: ذاكرة عائلتي التي كانت لينا تنبش فيها، تقاطعت مع الذاكرة الجماعية لنكبة الشعب الفلسطيني. ومن هذا التلاقي، وبدافع إيماني بأهمية المشروع، تخطيتُ تحفظاتي وقررتُ أن أدعمها بكلّ ما أستطيع. * في الفيلم، نرى الحرية التي تربّيتِ عليها. هل تمنحين لينا المساحة نفسها من الحرية؟ - طبعاً، هذا أمر لا نقاش فيه. أنا حاربتُ من أجل حريتي سواء كامرأة أو ممثّلة، من أجل أن أكون المرأة التي أردتها لنفسي. وبما أنني خضتُ هذه التجربة، فمن المستحيل أن أفرض على ابنتي حدوداً تكبّلها. بالطبع هناك ضوابط تربوية، وهذا لا خلاف عليه، لكن حين يتعلّق الأمر بالإبداع والحرية الشخصية، فلطالما تركتهما – لينا وشقيقتها – حرتين في اختيار مساراتهما والتعبير عن نفسيهما كما تشاءان. بعد انتهاء الفيلم، أدركتُ أكثر فأكثر أهمية نقل القيم التي أؤمن بها، حتى وإن لم أكن يوماً تلقينية. لم يسبق لي أن قلتُ لها "هذا هو الفلسطيني" و"ذاك هو الإسرائيلي". كنت أفضّل أن تكتشف هي ذاتها، وتكوّن قناعاتها بحريتها. * أنتِ تمثّلين منذ الثمانينات، ما هي الأدوار التي بقيت عالقة في ذاكرتك؟ - كثيرة! لا يمكنني حصرها في دور واحد، حتى لا أظلم باقي الشخصيات التي قدّمتها. * أول دور أذكره لكِ كان في 'ساتان روج'، وأشعر أنه كان انطلاقتك الحقيقية. - صحيح. لم يكن أول دور لي، لكنه كان الأكثر جرأةً. كنت أمام مفترق طرق: إما أن أُقدِم على هذه الخطوة الشجاعة وأمنح نفسي فرصة حقيقية في التمثيل، بما يتوافق مع اقتناعاتي، أو أن أتنازل وأعتزل الفنّ تماماً. كنت أبحث عن مساحة حرية تعكس ما أريده أنا، لا ما يريده المجتمع. لذلك، لهذا الفيلم مكانة خاصة عندي. كانت خطوة جريئة بكلّ معنى الكلمة. لم يكن أحد يعرفني حينها، وكان من الممكن أن تكون تلك التجربة هي نهايتي كممثّلة. لكنني اخترتُ أن أخترق المحظور… واخترقتُ. * منذ ذلك الحين، أصبحت لك مسيرة دولية وشاركتِ في مسلسلات منحتكِ شهرة عالمية. كيف أثّر هذا الانتشار فيك، شخصياً وفنياً؟ - أصبحت تجربتي أوسع حجماً، لا شك. لكن، في داخلي، لم يتغير شيء (تضحك). كلّ لقاء جديد، وكلّ عمل، يحمل معه درساً. التجربة أثرتني، وسمحت لي بالتعرف إلى عدد كبير من الأشخاص، كثير منهم مبدعون حقيقيون، لكني ما زلت أشعر أنني أنا... كما كنت. ما أدركته أكثر اليوم، هو أن الفنّ لا يُخلق من أجل الفنّ فقط، بل من أجل التعبير. من أجل أن يجد الإنسان مكانه، وأن يساهم في إيصال أصوات يحاول البعض إسكاتها. وهذا، بالنسبة لي، غايةٌ في الأهمية. هناك مَن يرسم خطاً أبيض في منتصف لوحة ويقول: "افهم ما تشاء من هذا الخط". لا أحكم على الفنّ التجريدي، ولا مشكلة لديّ معه، لكني أؤمن بضرورة إيصال قصصنا. لا يمكننا أن نتظاهر بأن لا شيء يحدث من حولنا. هناك مسؤولية على الفنّان، خصوصاً تجاه واقعه ومجتمعه. لهذا السبب أؤمن بوجود لغة عالمية. الفنّ المحلّي الذي يكتفي برفع الشعارات يبقى حبيس محيطه، ولا يصل. أما عندما تُستخدم اللغة السينمائية للتوجّه إلى جمهور أوسع، وعندما يصبح المحلي قادراً على مخاطبة العالم، فحينها نكون على الطريق الصحيح. * هل تفرّقين بين فنّ كوني وآخر محلّي؟ مع العلم أن الكوني لا يعني بالضرورة جودة أعلى… - المحلّي يمكن أن يكون كونياً أيضاً. الكوني من أجل الكونية فقط لا يعني شيئاً. أما حين يعرف المحلّي كيف يتكلّم بلغة العالم، كيف يحتفظ بجذوره وينفتح في آن واحد، فحينها يكون محلياً وكونياً في الوقت نفسه. وهذا هو المثال الأمثل بالنسبة لي. * أحد أجمل الأفلام التي شاركتِ فيها هو "غزة مونامور" للأخوين عرب، الذي لم ينل ما يستحق من اهتمام. هل شعرتِ يوماً بخيبة تجاه فيلم كنتِ متحمّسة له؟ - بصراحة، نعم. لدينا مشكلة حقيقية في التوزيع. أفلامنا لا تأخذ حقّها في الغرب من حيث الانتشار، أما في العالم العربي، فالرقابة كثيراً ما تفرض قيودها على ما يُعرض. لا أعلم كيف يمكن تجاوز هذه العقبات، ولكنّي في المقابل لا أشعر بالقلق كما في السابق، لأن التكنولوجيا اليوم تمنح الفيلم عمراً أطول. لم يعد العرض السينمائي التقليدي هو نهاية المطاف. أصبح من الممكن أن يُكتشَف الفيلم بعد عام أو إثنين، وهذا ما يُبقي الأمل حيّاً. * ألا يُزعجكِ أن يتم حصر هويتك على الدوام ضمن إطار ضيّق؟ كفرد، قد لا ترغبين طوال الوقت في أن تُحمَّلي على ظهرك القضية الفلسطينية، فربما يطمح الإنسان أحياناً إلى التحرر من هذا الإرث، مهما يكن نبيلاً. - لا مشكلة لديّ في حمل الإرث الفلسطيني، بل أفتخر به. لكنّني أريد أن أكون صاحبة القرار في ما أحمِله ومتى أحمِله. لا أريد أن يُفرَض عليّ دور أو يُحمّلني أحد مسؤولية لم أخترها. أعرف تماماً من أين أتيتُ، وما التجربة التي عشتها. فلسطين تسكنني، وهي جزء لا يتجزأ من هويتي، ولكنني أملك الحق في اختيار متى وكيف أُعبِّر عن ذلك. لا يمكن أن تُختَصر هويتي فقط في هذا الجانب، ولا أن يُطلب مني أن أُجسّدها في كلّ عمل وكلّ لحظة. * كونكِ تعيشين وتعملين في الغرب، هل شعرتِ يوماً بأن هويتك تُستخدَم ضدّكِ أو توضع على كتفيكِ بطريقة قسرية؟ - في الواقع، لم أواجه هذه المشكلة كثيراً. كنت محظوظة بأن هذا النوع من التصنيفات أو الأعباء لم يُفرض عليّ. حين عُرض فيلم "باي باي طبريا"، بعد مهرجان البندقية، تزامن ذلك مع أحداث السابع من تشرين الأول، وكان عرضه في مهرجان لندن حيث نال جائزة واستُقبل بحرارة. لينا وأنا كنّا متوجّستين من ردود الفعل، خاصةً خلال النقاشات التي تلت العرض مع الجمهور. كنّا نعرف أن التوقيت حسّاس للغاية، وأن هوية الفيلم قد تُحمَّل أبعاداً لم نقصدها بالضرورة. لكن لحسن الحظ، تغلّبت رسالة الفيلم على كلّ تلك الاعتبارات. تم استقباله بانفتاح وبتقدير، لما يحمله من عمق إنساني، رغم كلّ الظروف المحيطة. * الفيلم يبيّن للجمهور الغربي، غير المطّلع غالباً، أن هذه القضية ليست وليدة اللحظة، بل ضاربة في جذور التاريخ... - بالضبط. لا أقول إن الفيلم غيّر وجهات نظر مَن لا يفهم، ولكن كثيرين بدأوا يدركون أن ما حدث لم يأتِ من فراغ. هناك معاناة تاريخية سبقت هذه اللحظة بكثير. مَن يعرف التاريخ يدرك أن جذور القضية تعود إلى ما قبل عام 1948. هذا ما نحاول قوله عبر السينما، وهذا أيضاً ما يعالجه فيلم آن ماري جاسر الجديد. العودة إلى الجذور، إلى ما تم تجاهله أو نسيانه عمداً. * أنتِ تعيشين في الغرب منذ أكثر من 35 عاماً، هل تفكّرين في العودة إذا ما أصبح للفلسطينيين دولة مستقلّة؟ - بصراحة، لا أعلم. لم يسبق لي أن فكّرتُ في الأمر بهذه الطريقة. أنا على تواصل مع فلسطين بشكل دائم، ولديّ معها علاقات مهنية ومشاريع عمل. لكن أن أعيش فيها بشكل دائم؟ لا أعلم... حياتي اليوم في مكان آخر، وكذلك مسيرتي الفنية. عائلتي وبناتي في فرنسا، وصار لي بيت ثانٍ في هذا العالم، جذوري فيه أصبحت عميقة. لا أعرف إن كنتُ قادرة على التخلّي عن كلّ ذلك بسهولة، حتى لو أصبحت فلسطين حرة. * ما هي الأعمال التي انتهيتِ من تصويرها أخيراً ولم تُعرض بعد؟ - أخيراً، شاركتُ في فيلم جديد للمخرج برهان قرباني، كما انتهيتُ من تصوير فيلم ليلى بوزيد المقبل. مثّلتُ أيضاً في فيلم لمالك بن اسماعيل مقتبس من رواية "مورسو، تحقيق مضاد" للكاتب كمال داود، بالإضافة إلى فيلمين من توقيع آن ماري جاسر ودانيال عربيد. أشارك كذلك في فيلم فرنسي جديد، وأعمل على مشروع مسرحي حالياً. * قيل لي إنكِ تفضّلين عدم التطرق إلى السياسة في حواراتك. ما السبب؟ - ليست لديّ مشكلة في الحديث عن السياسة، طالما تأتي من خلال الفنّ. سياستي هي أفلامي. لكن حين يُطلب إليّ التعليق على أحداث سياسية بعينها، أشعر أن الأمر يتجاوز مجالي، فأنا لست مخوّلة الخوض في هذا النوع من النقاشات، ولا أرى فيه ما يخدم الفنّ الذي يجمعنا. أما إذا كان السؤال عن الارتباط بين قيمي السياسية وأعمالي الفنية، فهذا لا يتعارض مع اقتناعاتي. يمكنني أن أتحدّث طويلاً عن القيم التي أؤمن بها، وعن المواقف التي تنعكس في اختياراتي، لكنني في الوقت نفسه أتحفّظ عن الأسئلة التي تهدف فقط إلى اقتناص تصريح. لستُ هنا من أجل ذلك. * هل من الممكن فصل الفنّ عن السياسة، خاصةً عندما يكون الفنّان فلسطينياً؟ - لا أعتقد ان ذلك ممكن، وأنا أقولها بوضوح: أن تُولد فلسطينياً يعني أن تُولد في قلب السياسة، رغماً عنك. حياتك اليومية، هويتك، تنقّلك، وجودك، كلها مشبّعة بالسياسة. ولهذا السبب، لا أؤمن بأن الفنّ يمكن أن يكون مجرداً تماماً عمّا يحيط به. طبعاً، هناك أنواع من السياسة: سياسة السياسيين، وهذه لا علاقة لي بها، وهناك السياسة اليومية، الاجتماعية، التي تترك أثرها في حياة كلّ فرد... وهذه لا يمكن أن أنفصل عنها.