الخبز… آخر أسلحة الاحتلال
لقد عرف التاريخ الحديث مجاعات كبرى، بعضها بسبب الكوارث الطبيعية مثل مجاعة روسيا 1921، وبعضها بسبب الحروب كما حدث في مجاعة البنغال عام 1943 حين مات ملايين البشر لا لنقص الغذاء بل لارتفاع الأسعار وتوقف التوزيع بفعل سياسات الاحتلال البريطاني. وفي الصومال والسودان، تكررت المأساة نتيجة الحروب الأهلية وتجويع المدنيين كأداة حرب. لكن في الحالة الفلسطينية، وخاصة في غزة، نواجه تطورًا خطيرًا لهذا السلاح: حصار وتجويع مقصود، بأوامر سياسية مباشرة من حكومة الاحتلال، ينفّذ عبر أدوات عسكرية واقتصادية، ويستهدف تدمير مقوّمات الحياة ذاتها.
في غزة، فرض الاحتلال حصارًا مطبقًا منذ 2007 وليس منذ بداية العدوان 2023، ومنع دخول الغذاء والماء والدواء والوقود، بل تعمّد ضرب المخابز والأسواق والمستودعات. لم يكن ذلك مجرد أثر جانبي للحرب، بل سياسة معلنة، عبّر عنها قادة الاحتلال بوضوح: 'لا ماء، لا غذاء، لا وقود'. النتيجة كانت كارثية؛ مجاعة فعلية أصابت سكان القطاع، خاصة في الشمال، حيث اضطر الأهالي لأكل أعلاف الحيوانات بعد نفاد المواد الغذائية، ثم وجدوا أنفسهم حتى بلا أعلاف. أكثر من 90% من أطفال غزة يعانون أمراضًا ناتجة عن سوء التغذية، فيما تفشت الأمراض والأوبئة. الجوع هنا لم يكن صنيعة حرب طارئة، بل كان في صلب خطة الإبادة الصامتة.
أما في الضفة الغربية، فقد اعتمد الاحتلال سياسة الحصار الاقتصادي والخنق المالي. تم تعطيل الحركة التجارية، وإغلاق الحواجز، ومنع التنقل بين المحافظات. الأخطر من ذلك هو احتجاز أموال المقاصة الفلسطينية، التي تمثل مصدر الدخل الرئيس للسلطة الوطنية، ما تسبب بأزمة مالية خانقة، أدت لحرمان عشرات آلاف العائلات من الرواتب، وأدت إلى ارتفاع معدلات الفقر والبطالة وانعدام الأمن الغذائي.
هنا، التجويع ليس نتيجة مباشرة للقصف أو الحصار العسكري، بل هو أداة «ناعمة» لكنها قاتلة، تستخدمها إسرائيل لكسر صمود الفلسطينيين وخنق إرادتهم الوطنية والاقتصادية.
ما يحدث اليوم في فلسطين يذكّرنا بتحليل الاقتصادي الهندي أمارتيا سين، الحائز على نوبل، الذي أثبت أن المجاعات لا تحدث بالضرورة بسبب نقص الغذاء، بل نتيجة «فشل الاستحقاق»، أي حرمان الناس من الوصول إلى الغذاء أو امتلاكه أو شرائه، رغم وجوده. هذا ما يجري بالضبط في فلسطين: الغذاء متوفر في العالم، لكنه محاصر وممنوع عن الفلسطينيين، سواء بقصف المعابر في غزة أو بمنع صرف الرواتب في الضفة.
وفي مواجهة هذا الواقع الكارثي، لا بد من تحرك فوري على أكثر من صعيد. البداية تكون من الساحة السياسية والدبلوماسية، حيث يجب إحالة ملف التجويع إلى المحكمة الجنائية الدولية كجريمة حرب موصوفة، لا باعتبارها مجرد انتهاك إنساني. هذا يستلزم كسر صمت العالم الرسمي ووضع الاحتلال أمام مسؤولياته القانونية.
على المستوى الإنساني والإغاثي، يجب فرض ممرات إنسانية آمنة ومفتوحة بإشراف دولي، تكفل دخول الغذاء والدواء والوقود بلا شروط ولا قيود، وإنهاء الحصار كشرط مبدئي لأي تحرك أممي.
أما على المستوى الاقتصادي الوطني، فالحاجة ماسّة لخطة طوارئ فلسطينية تدعم الإنتاج المحلي وتوفّر فرص عمل وتفعل شبكات التكافل الاجتماعي، بدل الارتهان للاقتصاد الإسرائيلي أو المساعدات المشروطة. لا يمكن للفلسطيني أن يصمد إذا أصبح رهينة للغذاء وللسوق وللمال المحتجز.
وفي النهاية، تقع مسؤولية كبرى على عاتق المثقفين والإعلاميين والمبدعين. عليهم أن يواجهوا الروايات المضللة التي تبرر حصار غزة وخنق الضفة، وأن يرفعوا صوتهم لكشف أن ما يجري ليس مجرد حرب تقليدية، بل معركة إبادة صامتة تُشنّ ضد شعب كامل. لا بد أن تتحوّل مأساة التجويع إلى قضية رأي عام عالمي، كما كانت مجاعات العالم في القرنين الماضيين شاهدة على جرائم أنظمة وحكومات.
التجويع ليس فقط اعتداءً على الأجساد، بل على الوعي والكرامة والحق في الوجود. إذا لم يتحرك الجميع اليوم، فإن التجويع سيكتب مستقبل الفلسطينيين كما كتب من قبل مستقبل شعوب أخرى بالدم والمرض والموت البطيء. هذه ليست معركة خبز… إنها معركة حياة.
هاشتاغز

جرب ميزات الذكاء الاصطناعي لدينا
اكتشف ما يمكن أن يفعله Daily8 AI من أجلك:
التعليقات
لا يوجد تعليقات بعد...
أخبار ذات صلة


جريدة الايام
منذ 2 أيام
- جريدة الايام
ترامب من اسكتلندا يصعّد لهجته إزاء روسيا: مهلة جديدة للتقدم بشأن أوكرانيا أو مواجهة عواقب
تيرنبري (اسكتلندا) - رويترز: حدد الرئيس الأميركي دونالد ترامب أمس، مهلة جديدة مدتها 10 أو 12 يوما لروسيا لإحراز تقدم نحو إنهاء الحرب في أوكرانيا أو مواجهة عواقب، ما يؤكد الإحباط الأميركي من الرئيس الروسي فلاديمير بوتين إزاء الصراع المستمر منذ ثلاث سنوات ونصف السنة. وهدد ترامب بفرض عقوبات على روسيا وعلى مشتري صادراتها ما لم يجرِ إحراز تقدم. ويشير الموعد النهائي الجديد إلى استعداد الرئيس الأميركي للمضي قدما في تلك التهديدات بعد تردد سابق في القيام بذلك. وفي حديثه في اسكتلندا، حيث يعقد اجتماعات مع قادة أوروبيين، قال ترامب إنه يشعر بخيبة أمل من بوتين مشيرا إلى أنه سيقلص مهلة 50 يوما التي حددها بشأن هذه القضية في وقت سابق من هذا الشهر. وقال ترامب للصحافيين خلال اجتماع مع رئيس الوزراء البريطاني كير ستارمر: "سأحدد مهلة جديدة مدتها حوالى ... 10 أو 12 يوما من اليوم.. لا داعي للانتظار ... نحن ببساطة لا نرى أي تقدم يحرز". ولم يصدر الكرملين تعليقا بعد. ورحبت أوكرانيا بهذا البيان. وشكر أندريه يرماك مدير مكتب الرئيس الأوكراني ترامب في منشور على مواقع التواصل الاجتماعي على "صموده وإيصاله رسالة سلام واضحة من خلال القوة". ولم يتبع ترامب، الذي أبدى انزعاجه أيضا من زيلينسكي، دائما كلامه الحاد عن بوتين بالأفعال، مشيرا إلى ما يعتبره علاقة جيدة جمعت الزعيمين سابقا. وأشار ترامب إلى عدم رغبته في إجراء المزيد من المحادثات مع بوتين. وقال إن العقوبات والرسوم الجمركية ستستخدم كعقوبات على موسكو إذا لم تلب مطالب ترامب. وقال ترامب: "لا داعي للانتظار. إذا كنتم تعلمون كيف سيكون الرد، فلماذا الانتظار؟ وسيكون ذلك (من خلال) عقوبات، وربما برسوم جمركية، رسوم جمركية ثانوية. لا أريد أن أفعل ذلك بروسيا. أنا أحب الشعب الروسي". واقترحت أوكرانيا عقد قمة بين بوتين وزيلينسكي قبل نهاية آب، لكن الكرملين قال إن هذا الجدول الزمني غير مرجح وإن الاجتماع لا يمكن أن يعقد إلا كخطوة أخيرة نحو تحقيق السلام. وقالت وزارة الخارجية الروسية يوم السبت إنه إذا أراد الغرب سلاما حقيقيا في أوكرانيا، فسيتوقف عن إمداد كييف بالأسلحة. وعبر ترامب مرارا عن استيائه من بوتين لمواصلته شن هجمات على أوكرانيا رغم الجهود الأميركية لإنهاء الحرب. وأشاد ترامب بنجاحاته في مناطق أخرى من العالم حيث ساهمت الولايات المتحدة في التوسط في اتفاقيات سلام وحظي بإطراء بعض القادة الذين اقترحوا منحه جائزة نوبل للسلام. وقال ترامب اليوم "أشعر بخيبة أمل من الرئيس بوتين. سأقلص مدة الخمسين يوما التي منحته إياها إلى عدد أقل لأنني أعتقد أنني أعرف بالفعل ما سيحدث". وقال ترامب: "اعتقدنا أننا حسمنا الأمر مرات عديدة، ثم يخرج الرئيس بوتين ويطلق الصواريخ على مدينة مثل كييف ويقتل الكثير من الناس في دار رعاية أو ما شابه. وأقول إن هذه ليست الطريقة الصحيحة لسير الأمر".


معا الاخبارية
منذ 5 أيام
- معا الاخبارية
الخبز… آخر أسلحة الاحتلال
لم يعد سلاح التجويع مجرد أحد إفرازات الحروب أو نتائج الحصار، بل بات في الحالة الفلسطينية أداة معلنة ومدروسة من أدوات الاحتلال الإسرائيلي لفرض معادلات سياسية على الأرض. فمنذ اندلاع العدوان الإسرائيلي على قطاع غزة في 7 أكتوبر 2023، وبتواطؤ صمت العالم، يشهد الشعب الفلسطيني أبشع صور الحرب الممنهجة على لقمة العيش، في غزة المحاصرة أولًا، ثم في الضفة الغربية عبر خنق اقتصادي مدروس. لقد عرف التاريخ الحديث مجاعات كبرى، بعضها بسبب الكوارث الطبيعية مثل مجاعة روسيا 1921، وبعضها بسبب الحروب كما حدث في مجاعة البنغال عام 1943 حين مات ملايين البشر لا لنقص الغذاء بل لارتفاع الأسعار وتوقف التوزيع بفعل سياسات الاحتلال البريطاني. وفي الصومال والسودان، تكررت المأساة نتيجة الحروب الأهلية وتجويع المدنيين كأداة حرب. لكن في الحالة الفلسطينية، وخاصة في غزة، نواجه تطورًا خطيرًا لهذا السلاح: حصار وتجويع مقصود، بأوامر سياسية مباشرة من حكومة الاحتلال، ينفّذ عبر أدوات عسكرية واقتصادية، ويستهدف تدمير مقوّمات الحياة ذاتها. في غزة، فرض الاحتلال حصارًا مطبقًا منذ 2007 وليس منذ بداية العدوان2023، ومنع دخول الغذاء والماء والدواء والوقود، بل تعمّد ضرب المخابز والأسواق والمستودعات. لم يكن ذلك مجرد أثر جانبي للحرب، بل سياسة معلنة، عبّر عنها قادة الاحتلال بوضوح: 'لا ماء، لا غذاء، لا وقود'. النتيجة كانت كارثية؛ مجاعة فعلية أصابت سكان القطاع، خاصة في الشمال، حيث اضطر الأهالي لأكل أعلاف الحيوانات بعد نفاد المواد الغذائية، ثم وجدوا أنفسهم حتى بلا أعلاف. أكثر من 90% من أطفال غزة يعانون أمراضًا ناتجة عن سوء التغذية، فيما تفشت الأمراض والأوبئة. الجوع هنا لم يكن صنيعة حرب طارئة، بل كان في صلب خطة الإبادة الصامتة. أما في الضفة الغربية، فقد اعتمد الاحتلال سياسة الحصار الاقتصادي والخنق المالي. تم تعطيل الحركة التجارية، وإغلاق الحواجز، ومنع التنقل بين المحافظات. الأخطر من ذلك هو احتجاز أموال المقاصة الفلسطينية، التي تمثل مصدر الدخل الرئيس للسلطة الوطنية، ما تسبب بأزمة مالية خانقة، أدت لحرمان عشرات آلاف العائلات من الرواتب، وأدت إلى ارتفاع معدلات الفقر والبطالة وانعدام الأمن الغذائي. هنا، التجويع ليس نتيجة مباشرة للقصف أو الحصار العسكري، بل هو أداة "ناعمة" لكنها قاتلة، تستخدمها إسرائيل لكسر صمود الفلسطينيين وخنق إرادتهم الوطنية والاقتصادية. ما يحدث اليوم في فلسطين يذكّرنا بتحليل الاقتصادي الهندي أمارتيا سين، الحائز على نوبل، الذي أثبت أن المجاعات لا تحدث بالضرورة بسبب نقص الغذاء، بل نتيجة "فشل الاستحقاق"، أي حرمان الناس من الوصول إلى الغذاء أو امتلاكه أو شرائه، رغم وجوده. هذا ما يجري بالضبط في فلسطين: الغذاء متوفر في العالم، لكنه محاصر وممنوع عن الفلسطينيين، سواء بقصف المعابر في غزة أو بمنع صرف الرواتب في الضفة. وفي مواجهة هذا الواقع الكارثي، لا بد من تحرك فوري على أكثر من صعيد. البداية تكون من الساحة السياسية والدبلوماسية، حيث يجب إحالة ملف التجويع إلى المحكمة الجنائية الدولية كجريمة حرب موصوفة، لا باعتبارها مجرد انتهاك إنساني. هذا يستلزم كسر صمت العالم الرسمي ووضع الاحتلال أمام مسؤولياته القانونية. على المستوى الإنساني والإغاثي، يجب فرض ممرات إنسانية آمنة ومفتوحة بإشراف دولي، تكفل دخول الغذاء والدواء والوقود بلا شروط ولا قيود، وإنهاء الحصار كشرط مبدئي لأي تحرك أممي. أما على المستوى الاقتصادي الوطني، فالحاجة ماسّة لخطة طوارئ فلسطينية تدعم الإنتاج المحلي وتوفّر فرص عمل وتفعل شبكات التكافل الاجتماعي، بدل الارتهان للاقتصاد الإسرائيلي أو المساعدات المشروطة، لا يمكن للفلسطيني أن يصمد إذا أصبح رهينة للغذاء وللسوق وللمال المحتجز. وفي النهاية، تقع مسؤولية كبرى على عاتق المثقفين والإعلاميين والمبدعين. عليهم أن يواجهوا الروايات المضللة التي تبرر حصار غزة وخنق الضفة، وأن يرفعوا صوتهم لكشف أن ما يجري ليس مجرد حرب تقليدية، بل معركة إبادة صامتة تُشنّ ضد شعب كامل. لا بد أن تتحوّل مأساة التجويع إلى قضية رأي عام عالمي، كما كانت مجاعات العالم في القرنين الماضيين شاهدة على جرائم أنظمة وحكومات. التجويع ليس فقط اعتداءً على الأجساد، بل على الوعي والكرامة والحق في الوجود. إذا لم يتحرك الجميع اليوم، فإن التجويع سيكتب مستقبل الفلسطينيين كما كتب من قبل مستقبل شعوب أخرى بالدم والمرض والموت البطيء. هذه ليست معركة خبز… إنها معركة حياة.

جريدة الايام
٢٦-٠٧-٢٠٢٥
- جريدة الايام
الخبز… آخر أسلحة الاحتلال
لم يعد سلاح التجويع مجردَ أحد إفرازات الحروب أو نتائج الحصار، بل بات في الحالة الفلسطينية أداة معلنة ومدروسة من أدوات الاحتلال الإسرائيلي لفرض معادلات سياسية على الأرض. فمنذ اندلاع العدوان الإسرائيلي على قطاع غزة في 7 أكتوبر 2023، وبتواطؤ صمت العالم، يشهد الشعب الفلسطيني أبشع صور الحرب الممنهجة على لقمة العيش، في غزة المحاصرة أولًا، ثم في الضفة الغربية عبر خنق اقتصادي مدروس. لقد عرف التاريخ الحديث مجاعات كبرى، بعضها بسبب الكوارث الطبيعية مثل مجاعة روسيا 1921، وبعضها بسبب الحروب كما حدث في مجاعة البنغال عام 1943 حين مات ملايين البشر لا لنقص الغذاء بل لارتفاع الأسعار وتوقف التوزيع بفعل سياسات الاحتلال البريطاني. وفي الصومال والسودان، تكررت المأساة نتيجة الحروب الأهلية وتجويع المدنيين كأداة حرب. لكن في الحالة الفلسطينية، وخاصة في غزة، نواجه تطورًا خطيرًا لهذا السلاح: حصار وتجويع مقصود، بأوامر سياسية مباشرة من حكومة الاحتلال، ينفّذ عبر أدوات عسكرية واقتصادية، ويستهدف تدمير مقوّمات الحياة ذاتها. في غزة، فرض الاحتلال حصارًا مطبقًا منذ 2007 وليس منذ بداية العدوان 2023، ومنع دخول الغذاء والماء والدواء والوقود، بل تعمّد ضرب المخابز والأسواق والمستودعات. لم يكن ذلك مجرد أثر جانبي للحرب، بل سياسة معلنة، عبّر عنها قادة الاحتلال بوضوح: 'لا ماء، لا غذاء، لا وقود'. النتيجة كانت كارثية؛ مجاعة فعلية أصابت سكان القطاع، خاصة في الشمال، حيث اضطر الأهالي لأكل أعلاف الحيوانات بعد نفاد المواد الغذائية، ثم وجدوا أنفسهم حتى بلا أعلاف. أكثر من 90% من أطفال غزة يعانون أمراضًا ناتجة عن سوء التغذية، فيما تفشت الأمراض والأوبئة. الجوع هنا لم يكن صنيعة حرب طارئة، بل كان في صلب خطة الإبادة الصامتة. أما في الضفة الغربية، فقد اعتمد الاحتلال سياسة الحصار الاقتصادي والخنق المالي. تم تعطيل الحركة التجارية، وإغلاق الحواجز، ومنع التنقل بين المحافظات. الأخطر من ذلك هو احتجاز أموال المقاصة الفلسطينية، التي تمثل مصدر الدخل الرئيس للسلطة الوطنية، ما تسبب بأزمة مالية خانقة، أدت لحرمان عشرات آلاف العائلات من الرواتب، وأدت إلى ارتفاع معدلات الفقر والبطالة وانعدام الأمن الغذائي. هنا، التجويع ليس نتيجة مباشرة للقصف أو الحصار العسكري، بل هو أداة «ناعمة» لكنها قاتلة، تستخدمها إسرائيل لكسر صمود الفلسطينيين وخنق إرادتهم الوطنية والاقتصادية. ما يحدث اليوم في فلسطين يذكّرنا بتحليل الاقتصادي الهندي أمارتيا سين، الحائز على نوبل، الذي أثبت أن المجاعات لا تحدث بالضرورة بسبب نقص الغذاء، بل نتيجة «فشل الاستحقاق»، أي حرمان الناس من الوصول إلى الغذاء أو امتلاكه أو شرائه، رغم وجوده. هذا ما يجري بالضبط في فلسطين: الغذاء متوفر في العالم، لكنه محاصر وممنوع عن الفلسطينيين، سواء بقصف المعابر في غزة أو بمنع صرف الرواتب في الضفة. وفي مواجهة هذا الواقع الكارثي، لا بد من تحرك فوري على أكثر من صعيد. البداية تكون من الساحة السياسية والدبلوماسية، حيث يجب إحالة ملف التجويع إلى المحكمة الجنائية الدولية كجريمة حرب موصوفة، لا باعتبارها مجرد انتهاك إنساني. هذا يستلزم كسر صمت العالم الرسمي ووضع الاحتلال أمام مسؤولياته القانونية. على المستوى الإنساني والإغاثي، يجب فرض ممرات إنسانية آمنة ومفتوحة بإشراف دولي، تكفل دخول الغذاء والدواء والوقود بلا شروط ولا قيود، وإنهاء الحصار كشرط مبدئي لأي تحرك أممي. أما على المستوى الاقتصادي الوطني، فالحاجة ماسّة لخطة طوارئ فلسطينية تدعم الإنتاج المحلي وتوفّر فرص عمل وتفعل شبكات التكافل الاجتماعي، بدل الارتهان للاقتصاد الإسرائيلي أو المساعدات المشروطة. لا يمكن للفلسطيني أن يصمد إذا أصبح رهينة للغذاء وللسوق وللمال المحتجز. وفي النهاية، تقع مسؤولية كبرى على عاتق المثقفين والإعلاميين والمبدعين. عليهم أن يواجهوا الروايات المضللة التي تبرر حصار غزة وخنق الضفة، وأن يرفعوا صوتهم لكشف أن ما يجري ليس مجرد حرب تقليدية، بل معركة إبادة صامتة تُشنّ ضد شعب كامل. لا بد أن تتحوّل مأساة التجويع إلى قضية رأي عام عالمي، كما كانت مجاعات العالم في القرنين الماضيين شاهدة على جرائم أنظمة وحكومات. التجويع ليس فقط اعتداءً على الأجساد، بل على الوعي والكرامة والحق في الوجود. إذا لم يتحرك الجميع اليوم، فإن التجويع سيكتب مستقبل الفلسطينيين كما كتب من قبل مستقبل شعوب أخرى بالدم والمرض والموت البطيء. هذه ليست معركة خبز… إنها معركة حياة.