logo
سلامك النفسي يبدأ من الأنف، كيف؟

سلامك النفسي يبدأ من الأنف، كيف؟

BBC عربية١٠-٠٥-٢٠٢٥

شعرت أن جميع أنشطة حياتي تحسّنت بعد أن أجريت عملية جراحية مؤخرا في الأنف، تحسنت صحتي بدءاً من الحساسية وصولاً إلى الصحة النفسية، وقد لا يكون ذلك محض صدفة، فالتنفس عبر الأنف يُعدّ قوة خارقة خفية في مقدمة الوجه.
منذ طفولتي كان كل شهيق أتنفسه أشبه بالاستعداد للغوص في أعماق الماء، كانت محاولة مجهدة لملء رئتي بالهواء دون جدوى تامة، وكثيراً كنت أتجول وأنا أسمع صوت صفير خافت يصدر من أنفي، وكنت أدعو الله ألا يلاحظ أحد ذلك.
أما المشكلة الكبرى، فكانت عجزاً بسيطاً رفض كثيرون تصديقه، إذ كان تكوين وجهي يجعل من الصعب جسدياً التنفس من الأنف، وكان العالم من حولي مجرد أنين دائم وزفير غير مكتمل.
عانيت من اعوجاج في الحاجز الأنفي، الأمر الذي جعل فتحة أنفي اليمنى مسدودة حتى في أفضل حالاتها، فكنت أضطر إلى التنفس عبر الفم بمجرد ظهور أي عرض بسيط من أعراض الحساسية.
أسهمت تلك المشاكل الأنفية في إصابتي بانقطاع التنفس أثناء النوم، وهو اضطراب تنفسي يؤدي إلى الاستيقاظ المتكرر خلال الليل، ويزيد من خطر الوفاة لأي سبب.
وبعد عقود من المعاناة، اقترح طبيب إجراء عملية جراحية، بغية تقويم الحاجز الأنفي وتصغير قرنيات الأنف، وهي عبارة عن تراكيب عظمية مغطاة بغشاء مخاطي تعمل على تكييف الهواء عند التنفس، وهي أنسجة لم أكن أعلم بوجودها أصلاً.
كنت على استعداد لعمل أي شيء يخفف معاناتي، لذا خضعت للجراحة في الثالث من يناير/كانون الثاني الماضي.
وبعد مرور شهر على الجراحة والتعافي، أصبحت أمتلك أنفاً يؤدي وظيفته بشكل سليم، وتمكنت للمرة الأولى التنفس بسلاسة وعمق من كلا فتحتي الأنف، وأدركت أن التنفس من الأنف متعة حقيقية، وأصبحت قادراً على عمل ذلك، ورغم أن انقطاع التنفس أثناء النوم لم يُشف نهائياً، إلا أن حالتي تحسنت.
وقد تكون للعملية آثار إيجابية أخرى متعددة، إذ تبيّن أن للتنفس من الأنف فوائد عديدة غير متوقعة، ولا تستلزم الخضوع لجراحة للاستفادة منها، بل ربما يُسام التنفس من الأنف في تحسين الحالة النفسية أيضاً.
"مرشح هواء خاص"
تقول جاكلين كالاندر، طبيبة أنف وأذن وحنجرة في جامعة كاليفورنيا، إن أبرز فوائد للتنفس من الأنف هو ارتباطه بقرنيات الأنف.
وتضيف: "تُعتبر قرنيات الأنف بمثابة الوسيط الأساسي في تدفئة الهواء وترطيبه، وهو أمر في غاية الأهمية. كما أنها تقوم أيضاً بدور مرشّح الهواء".
وعلاوة على شعيرات الأنف، تؤدي قرنيات الأنف دوراً فعّالاً في تنقية الهواء الداخل للجسم من الغبار والبكتيريا والفيروسات وغيرها من الجزيئات، وهي فوائد صحية لا يوفرها التنفس عبر الفم.
وتقول كالاندر: "يمكن لتلك القرنيات أن تُشكّل خط الدفاع الأول لجهازك المناعي".
ولا تقتصر المسألة على فوائد التنفس من الأنف فحسب، بل إن للتنفس عبر الفم تبعات سلبية، حسبما تقول آن كيرني، أخصائية اضطرابات النطق واللغة في مركز ستانفورد الطبي، والمتخصصة في دراسات النوم ومشاكل البلع.
وتضيف: "توجد العديد من الدراسات التي تربط بين التنفس عبر الفم ومشكلات في صحة الفم".
وأظهرت الدراسات أن التنفس عبر الفم يزيد من الحموضة وجفاف الفم، فضلا عن ارتباط التنفس عبر الفم بتسوس الأسنان، وتآكل المعادن من الأسنان، وأمراض اللثة.
كما تشير أبحاث إلى أن التنفس عبر الفم أثناء الطفولة قد يؤثر على نمو الأسنان والفك، الأمر الذي يؤدي إلى اعوجاج الأسنان وتغيير شكل الوجه أيضاً.
وتقول كيرني: "الأمر بسيط، وظيفة الأنف التنفس ووظيفة الفم تناول الطعام".
بالنسبة لبعض الأشخاص الذين يعانون من اعوجاج شديد في الحاجز الأنفي أو انسداد في الأنف، قد لا يكون التنفس من الأنف خياراً متاحاً، وتلفت كيرني إلى أن العديد من الأشخاص الذين يتنفسون عبر الفم يمكنهم اختيار التنفس عبر الأنف في العديد من الحالات.
وتضيف: "قد لا يكون التنفس من الأنف مريحاً في البداية، إن التحول من التنفس عبر الفم إلى الأنف قد يستدعي بعض التكيّف".
وعلى الرغم من ذلك، تقول كيرني، إن الفوائد تظهر مع كل شهيق تأخذه.
"الأنف في المساء"
يتنفس معظم الأشخاص الأصحاء من الأنف أثناء النوم، بيد أن البعض يفتح فمه أثناء الليل بحثاً عن هواء يتنفسه، وهو أمر تعتبره كيرني بالغ السوء.
وتضيف: "الأمر يتعلق بوضعية اللسان، وتشير إلى إمكانية اختبار الأمر بنفسك، فعندما يكون الفم في وضع مغلق، من المرجح أن يظل طرف اللسان ملتصقاً بسقف الفم، بينما يرتاح الجزء الخلفي من اللسان، على نحو يفتح مجرى التنفس.
ولكن، إذا توقفت عن القراءة للحظة، وتركت فمك مفتوحاً، واسترخت عضلات الوجه، ستلاحظ على الأرجح أن لسانك يتجه نحو الحلق، خصوصاً إذا مِلت برأسك إلى الوراء.
وتشير كيرني إلى أن ذلك قد يقيّد تدفق الهواء ويؤدي إلى حدوث انسداد جزئي، كما قد تسمع صوتاً يشبه الشخير إذا تنفست أثناء محاولة عمل بذلك.
ويميل الأشخاص الذين يعانون من انسداد في الأنف إلى التنفس عبر الفم أثناء النوم، وهي ظاهرة تساهم غالباً في الإصابة بانقطاع التنفس أثناء النوم.
وتشير التقديرات إلى أن هذه الحالة تؤثر على نحو مليار شخص، أي ما يعادل 50 في المئة من السكان في بعض الدول.
وفي أحسن الأحوال، يؤدي انقطاع التنفس أثناء النوم إلى متاعب في الحياة، أما في أسوأ الأحوال، فقد تكون تأثيراته خطيرة لدرجة الوفاة المبكرة.
حتى إذا لم تكن تعاني من انقطاع التنفس أثناء النوم، فإن التنفس عبر الفم خلال الليل قد يسبب الشخير وكل الأضرار التي ذُكرت سابقاً.
وعلى الرغم من ذلك يروّج مؤثرون في مجال الصحة والعافية، على منصات الإنترنت، لعلاج مثير للجدل لهذه المشكلة، ألا وهو استخدام "شريط الفم" أثناء النوم.
يستخدم هذا الشريط للحفاظ على الفم في وضع مغلق، ومن الناحية النظرية، فهذا يضطرك إلى التنفس من الأنف أثناء النوم، وعلى الرغم من ذلك يحذر بعض الخبراء من وجود مخاطر يجب أخذها بعين الاعتبار.
وتؤيد كيرني فوائد شريط الفم، بيد أنها تحذر من أنه قد يسبب صعوبة في التنفس لبعض الأشخاص، فالطريقة الوحيدة لمعرفة إذا كنت من هؤلاء أم لا، هي زيارة الطبيب، ويوصى دائما بعدم تجربة ذلك في المنزل دون استشارة طبية أولاً.
وتقول: "إذا كنت من بين هؤلاء الذين يعانون من الشخير، أو تجد صعوبة في التنفس من الأنف، أو لديك أي سبب للاعتقاد أنك قد تعاني من انقطاع التنفس أثناء النوم، فيجب عليك استشارة طبيب أنف وأذن وحنجرة".
ولا يزال استخدام شريط الفم في مراحله الأولى، ويشير العديد من أطباء الأنف والأذن والحنجرة إلى أنه لم تُجر أبحاث كافية بشأن فعاليته أو سلامته حتى الآن.
وتشير بعض الدراسات الأولية إلى أنه قد يكون مفيداً، لكن لا توجد أبحاث تحسم الأمر في هذا الشأن.
فعلى سبيل المثال، أظهرت دراسة شملت 20 شخصاً في تايوان أن شريط الفم ساعد بشكل كبير في تحسين انقطاع التنفس أثناء النوم والشخير، إلا أن باحثين أشاروا إلى أن العينة التي خضعت للدراسة صغيرة بالنسبة لاستخلاص استنتاجات قوية.
وتقول كولاندر: "حتى الآن، لا يوجد دليل مقنع قوي يثبت أن شريط الفم يساعد في تقليل انقطاع التنفس أثناء النوم أو تحسين التنفس أثناء الليل، لكنه منخفض التكلفة وقد يكون ذا فائدة".
وتعتقد أن شريط الفم طريقة واعدة حقاً، لكنها تتفق على ضرورة استشارة طبيب قبل استخدامه.
فإذا كنت تفكر في تجربته، فإن الخطوة الأولى هي استشارة أخصائي نوم أو طبيب أنف وأذن وحنجرة.
وما يمكنك تجربته، كما تشير كولاندر، هو استخدام شرائط الأنف التي تحافظ على فتحتي الأنف مفتوحتين من الخارج.
وتقول: "يعاني بعض الأشخاص مما يُعرف بانهيار الصمام الأنفي، إذ يؤدي الشهيق إلى حدوث ضغط سلبي داخل تجويف الأنف، وبالنسبة لهؤلاء الأشخاص، يمكن أن تكون شرائط الأنف مفيدة، بل إن بعض الأشخاص يرتدونها أثناء ممارسة التمارين الرياضية.
وعلى الرغم من ذلك، إذا كنت تعاني من اعوجاج في الحاجز الأنفي أو تضخم في قرنيات الأنف، فإن شرائط الأنف على الأرجح لن تكون فعّالة، حسب قولها.
التنفس من الأنف وتحسين الحالة النفسية
أصبح لدينا، بمرور الوقت، وعي متزايد بفوائد التنفس من الأنف على المستوى الجسدي، إلا أن الصلة بين الأنف والدماغ غالباً لا يهتم بها أحد.
ففي حالتي الشخصية، أدى الفعل البسيط للتنفس من الأنف إلى راحة جسدية كبيرة، ولكن الطريقة التي نتنفس بها، لا سيما من الأنف، قد تُحدث تأثيراً مفاجئاً في صحتنا النفسية.
ويمكن النظر إلى الأنف على أنه أشبه بجرس إنذار هوائي للعقل، إذ أن مرور الهواء من خلاله يبدو أنه يُحدث تأثيراً كبيراً على العمليات الإدراكية.
وتبيّن أن للتنفس من الأنف يحمل آثاراً إيجابية على الجهاز الحوفي، وهو قسم في الدماغ مسؤول عن تنظيم العواطف والسلوك، وهي آثار لا تتحقق عند التنفس عبر الفم.
فعلى سبيل المثال، كشفت دراسة أُجريت في عام 2023 أن التنفس من الأنف يسهم في خفض ضغط الدم وتقليل تقلبات وتكرار معدل ضربات القلب، وهو ما يدل على حالة من الاسترخاء العصبي.
ويقول جو واتسو، أخصائي الفسيولوجيا التطبيقية في جامعة ولاية فلوريدا والمشرف على الدراسة: "هذا لا يعني أنه يُعالج ارتفاع ضغط الدم، لكن التنفس من الأنف له تأثير مهدئ على الجهاز العصبي".
كما أظهرت دراسات أخرى أن التنفس من الأنف يُحسّن الأداء بالنسبة للمهام المتعلقة بالإدراك، ويُعزز كفاءة الذاكرة، ويعزز الاستجابة الذهنية.
ولا يزال السبب وراء هذه الظاهرة غير واضح تماماً لدى الخبراء، إلا أن المعروف حتى الآن هو أن التنفس عبر الأنف يُحفّز عصب الشم، وهو المسؤول عن إدراك الروائح، ويبدو أن هذا يحدث حتى في غياب محفزات الشم الواضحة.
وتشير إحدى النظريات الرائدة إلى أن هذا التفاعل يُسهم في تناغم النشاط الكهربائي بين مناطق مختلفة في الدماغ، منها اللوزة الدماغية والحُصين.
وعلى أية حال، فإن التنفس من الأنف يرتبط بتنشيط الجهاز العصبي السمبتاوي، الذي يُساعد الجسم على الحفاظ على طاقته ويُبطئ وظائفه أثناء الاسترخاء.
وتشير الأبحاث العلمية الحديثة إلى صحة ما ظل يؤكده ممارسو التأمل واليوغا عبر العصور: "أن التنفس من الأنف يُسهم في تعزيز السلامة النفسية".
وتُظهر بعض الدراسات أن التنفس من الأنف بطريقة منتظمة وممتدة يُبطئ من موجات الدماغ في القشرة الدماغية، وهو ما يدل على حالة ذهنية أكثر استرخاءً.
كما يرى واتسو وآخرون أن تنبيه الأنف قد يُفسّر من الناحية الفسيولوجية الآثار الإيجابية للتأمل.
مما لا شك فيه أن معظم أنشطة حياتي شهدت تحسناً ملحوظاً خلال الأشهر التي أعقبت تقويم اعوجاج أنفي، بما في ذلك صحتي النفسية، إذ تراجعت مستويات القلق، وأصبحت أكثر قدرة على التركيز، كما تحسّن مزاجي بشكل عام.
ويبدو أن الأمر ليس محض صدفة، إذ تشير كالاندر إلى أن التنفس من الأنف قد يكون له دور فعلي في التهدئة النفسية.
وتقول كالاندر: "هذا محتمل، فإذا كنت تنام بطريقة أفضل، فإن ذلك يرتبط ارتباطاً وثيقاً بجودة حياتك ورفاهيتك. لكنني أعتقد أيضاً أنك تنشّط الجهاز العصبي السمبتاوي لديك أكثر مما كنت تفعل سابقاً".
وبحسب تجربتي، فإن النصيحة الكلاسيكية صحيحة تماماً والتي تقول: "عندما تشعر بالقلق أو الاضطراب، خذ نفساً عميقاً. ولكن في المرة القادمة، قد يكون من الأفضل أن تتنفس من أنفك".

Orange background

جرب ميزات الذكاء الاصطناعي لدينا

اكتشف ما يمكن أن يفعله Daily8 AI من أجلك:

التعليقات

لا يوجد تعليقات بعد...

أخبار ذات صلة

"الرجال بلا مشاعر" ومعلومات مغلوطة أخرى لا نفهمها عن "الرجولة"
"الرجال بلا مشاعر" ومعلومات مغلوطة أخرى لا نفهمها عن "الرجولة"

BBC عربية

timeمنذ 37 دقائق

  • BBC عربية

"الرجال بلا مشاعر" ومعلومات مغلوطة أخرى لا نفهمها عن "الرجولة"

من الشائع في مجتمعاتنا العربيّة أن ينشأ الأولاد في أسرٍ لا يُظهر فيها الآباء مشاعرهم بشكلٍ صريح. وإذا عبّروا عنها، فإنّ الغضب غالباً ما يكون الشعور الوحيد المسموح بإظهاره. وإن "تلصصنا" على المحادثات الخاصة لشابات في يومنا على إنستغرام، قد نجد هاجساً مشتركاً، وهو السخرية أو الغضب من من برود الرجال العاطفي، ولا مبالاتهم، والحيرة في كيفيّة التعامل معهم، وضرورة عرضهم على أطباء نفسيين. ورغم أنّ هذه المواد تبدو، في ظاهرها، نوعاً من المزاح البريء المنتشر على الإنترنت، إلا إنّها تسلّط الضوء على أزمةٍ أعمق، تتعلّق بطريقة تفاعل الرجال مع مشاعرهم، ومع الآخرين، في العلاقات التي تتطلّب قدراً من التعبير العاطفيّ. كيف يغيّر العلاج النفسي نظرة الإنسان؟ عندما تقهرنا أفكارنا: ما الذي لا نفهمه عن الوسواس القهري؟ "الاكتئاب المبتسم كان سبباً في انتحار ابنتي"، فهل يعاني أبناؤنا بصمت؟ هناك اعتقاد سائد لا يزال راسخاً في ثقافتنا، أنّ الرجال لا يعبرون عن عواطفهم، أنهم "بلا مشاعر". ويرى كثيرون أنه من "المعيب" على الرجل أن يشكي همه، يفصح عن هشاشته أو مشاعره، فالرجال "لا يبكون". ولكن هذه الأفكار قد تكون خطيرة وتؤثّر على صحة الرجال النفسية والجسدية على المدى الطويل. فهل يعاني الرجال حقاً من "برود عاطفي"، أم أنه نتاج لتوقعات اجتماعيّة مفروضة عليهم؟ 1- "الرجال غير عاطفيين" واحدة من أكثر المعلومات المغلوطة شيوعاً التي تتردد في مجتمعاتنا هي أنّ الرجل "بطبيعته" أقلّ عاطفية، أو غير قادر على الإحساس العميق. هذه الفكرة، المتداولة على نطاقٍ واسع، تُعامل كحقيقة بيولوجية، وكأنّ الرجل مؤهّل للتعبير أو حتى الشعور. يرى المعالج النفسي هادي أبي المنى في حديث إلى بي بي سي عربي أن "واحدة من أبرز الصور النمطية المغلوطة في مجتمعاتنا هي الاعتقاد بأنّ التعبير عن المشاعر سلوكٌ "أنثوي"، وكأنّ المشاعر بطبيعتها ترتبط بالأنوثة. في المقابل، يُنظر إلى كتمان المشاعر أو تحمّل الألم بصمتٍ على أنه دليل على "الرجولة". هذا الربط القائم بين قمع المشاعر و"الرجولة" لا ينعكس فقط على الحياة العاطفية للرجال، بل على صحّتهم النفسيّة أيضاً، إذ يحرم كثيرون من فرصة العيش بتوازنٍ وهدوءٍ داخليّ، خوفاً من أن يساء فهم ضعفهم أو حساسيّتهم. يقول المعالج النفسي هادي أبي المنى في حديثٍ إلى بي بي سي عربي: "كثيراً ما يقال إنّ الرجال ليسوا عاطفيّين بما يكفي، أو أنّهم غير قادرين على الشعور بعمق، وبالتالي لا يعبّرون عن مشاعرهم بالطريقة نفسها المتوقعة من النساء. يعتقد أنّ هذا أمرٌ طبيعي، يولد به الذكر. لكن الحقيقة أنّ جميع البشر، رجالاً ونساءً، يتساوون في القدرة على الشعور وعمق الإحساس". ما الذي يحدث إذن؟ بحسب أبي المنى، فإنّ الرجل، وخصوصاً في مجتمعاتنا، "يتعلّم منذ الصغر ألّا يعبّر عن مشاعره بالكلام". هذا التعليم لا يلغي المشاعر، بل يدفنها، أو يعيد توجيهها. ويشرح المعالج النفسي أنّ هذه المشاعر "لا تختفي، بل تتحوّل وتظهر بطرقٍ أخرى، مثل الصمت، أو الغضب، أو الانغماس المفرط في العمل". عندما سألناه إن كان الانشغال بالعمل يمنح شعوراً مؤقّتاً بالراحة، أجاب: "على المدى القصير، نعم. لكن استبدال الشعور الأساسي بمشاعر أو أفعالٍ أخرى، يمنع الفرد من إدراك مشاعره وتحليلها، والاعتراف بها وفهمها والتعبير عنها، أي أنه يتجنّبها تماماً". ويشدّد أبي المنى على أنّ هذا التجنّب "ليس حلاً طويل الأمد، ولا يساهم في معالجة المشاعر أو حلّ المشكلة الأساسيّة". 2- "الكلام لن يحلّ المشكلة" يشيرهادي أبي المنى إلى أنّ واحد من أكثر الأفكار المتكرّرة التي يسمعها من الرجال الذين يتجنّبون اللجوء إلى العلاج النفسي، هي أن "الحديث عن المشكلة لا قيمة له، لأنه لا يساعد في حلّها". لكنّه يوضح أنّ الحديث عن المشكلة هو بالضبط ما يشكّل جوهر العلاج النفسي. ويقول: "يسمح العلاج النفسي للشخص بالتحدّث عن مشكلاته ومشاعره، ويفهم ماذا يحدث معه، حتى لو لم يجد حلولاً فوريّة للمشكلة. ذلك يعطي فكرة عن كيفية التعامل مع مشاعره وتنظيمها". ويلفت إلى نقطة مهمّة غالباً ما تغفل: "حين يقوم الشخص بتسمية مشكلاته، يعطيه ذلك القليل من القوة أمامها". من جهتها، ترى المعالجة النفسية جيزيل صليبا أنّ تردّد الرجال في اللجوء إلى العلاج النفسي يرتبط ارتباطاً وثيقاً بصورة نمطيّة رُسّخت في أذهانهم منذ الصغر. وتقول لـبي بي سي عربي: "الرجال الذين يتخذون قرار اللجوء إلى معالج نفسي غالباً ما يكونون متردّدين جداً، بسبب اعتقادهم بأنّ ذلك يُعدّ ضعفاً أو يقلّل من رجولتهم". وتشرح قائلة: " دائماً ما يؤكّدون أنّ أحداً لا يجب أن يعلم بالأمر. يحصل ذلك لأنهم سمعوا منذ الصغر عبارات مثل: أنت رجل، عليك أن تكون قادراً على فعل كل شيء وحدك، أو حلّ كل شيء من دون مساعدة". وتضيف: "تجنّب التعبير عن المشاعر شائعٌ جداً بين الرجال، لأنّهم كأطفال قيل لهم إنّ البكاء أو التعبير عن التوتر أو الخوف أو الانزعاج، لا يليق بالذكور، وأن الرجال لا يفعلون ذلك". 3- "الوقت كفيل بحل كل شيء" لطالما سمعنا في الأمثال الشعبيّة والأغاني المتداولة بلغاتٍ عدّة أنّ "الوقت كفيل بحلّ كل شيء" أو "الزمن يُنسي". لكنّ الأبحاث أثبتت مراراً أنّ هذا الاعتقاد الشائع لا يستند إلى أساسٍ علميّ. ويشرح هادي أبي المنى أنّ تجاهل المشكلة أو الامتناع عن الحديث عنها لا يساهم في حلّها، بل يؤدّي إلى تفاقمها مع مرور الوقت. ويقول: "تجنّبنا الحديث عن أمرٍ ما يجعل المشكلة تتضخّم، فبدلاً من أن تختفي، تصبح أكثر تعقيداً". ويقدّم مثالاً توضيحيّاً قائلاً: "ليس بالضرورة أن تصاب أسناننا بالتسوّس كي نبدأ بتنظيفها. الحقيقة أنّنا ننظّفها كي لا تصاب بالتسوّس، أو تتفاقم المشكلة لاحقاً". ويشدّد على أهمية التدخّل المبكر، قائلاً إنّه "كلّما حصل التدخّل في وقتٍ أبكر، كلّما خفّت حدّة المشكلة، وتراجعت احتمالات امتدادها إلى جوانب أخرى من حياة الفرد". 4- "الرجال يتدبرون أمورهم بدون مساعدة" ويشير هادي أبي المنى إلى أنّ أحد الأسباب الجذريّة وراء تردّد الرجال في طلب الدعم النفسي، هو أنّهم ببساطة لم يتعلّموا أنّ طلب المساعدة أمرٌ طبيعي. ويشرح أنّ الرجل، حين يبادر إلى طلب الدعم، "يحمَّل بالعار وينظر إليه على أنّه ضعيف"، لأنّ المجتمع يربط بين مفهوم "الرجولة" وبين الاستقلاليّة التامّة وعدم الحاجة إلى أحد. ويقول: "الصورة النمطيّة للرجل القوي، الذي يمكنه حلّ كل شيء بنفسه، والذي لا يحتاج ولا يطلب مساعدة، ما زالت مرتبطة اجتماعياً بفكرة الرجولة والقوة. في المقابل، ينظَر إلى الرجل الذي يطلب المساعدة أو يعبّر عن مشاعره على أنّه ليس رجلاً بما فيه الكفاية". هذه المعايير المغلوطة، كما يشير أبي المنى، تثير أسئلة كثيرة حول تأثير التوقّعات الاجتماعيّة غير المنطقيّة على الصحة العقليّة للرجال، وعلى قدرتهم في التفاعل مع أنفسهم والآخرين بصدقٍ وراحة. 5- "الرجل الناجح هو المتماسك دائماً" يؤكّد هادي أبي المنى أنّ النجاح الحقيقي لا يقاس بمدى التماسك الظاهري أو الصلابة الخارجيّة، بل يرتبط بالقدرة على تحقيق توازن داخلي يمكّن الفرد من فهم مشاعره ومشكلاته والتعامل معها بشكلٍ صحّي. ويضيف أنّ الوعي بالمشاعر والقدرة على تنظيمها هو ما يوفّر للشخص أدوات فعليّة للتقدّم بثبات، بينما أيّ اضطراب داخلي غير معالَج في التعامل مع الأفكار والمشاعر قد يعيق تطوّره الشخصي والمهنيّ على حدّ سواء. من جهتها، تلفت المعالجة النفسيّة جيزيل صليبا إلى أنّ بعض الأشخاص الذين يسعون إلى التحكّم الكامل بأنفسهم، ويحاولون أن يكونوا عقلانيّين طوال الوقت، إنّما يعبّرون عن تربية قائمة على تصوّرٍ خاطئ مفاده أنّ المشاعر أمرٌ سلبي. وتقول: "هناك من يعتقد أنّ عليه أن يهتم فقط بالعمل ويقمع أي وجود للمشاعر. هؤلاء غالباً ما نشأوا على فكرة أنّ الشعور هو ضعف، وأنّ الانشغال بالوجدان أمرٌ غير منطقي أو غير مجدٍ". هل تزيد التوقعات الاجتماعية من معاناة الرجل؟ يجمع خبراء الصحة النفسية على أنّ تطوّر أي اضطراب نفسي أو مرض عقلي لا يحدث نتيجة عاملٍ واحد فقط، بل هو نتيجة تقاطع ثلاثة عوامل رئيسية: التكوين البيولوجي، والخلفيّة النفسية، والظروف الاجتماعيّة المحيطة. وفي هذا السياق، تؤكّد جيزيل صليبا أنّ كبت المشاعر والضوابط الاجتماعيّة غير المنطقيّة التي تُفرض على الرجال، قد تجعلهم أكثر عرضةً لتطوّر مشكلات في الصحة العقليّة. تقول إن هناك "ضغوطاً كبيرة يضعها المجتمع على الرجل، من بينها أنّه لا يجب عليه التعبير عن مشاعره أو التأثّر أو الحديث عن ذلك". هذه الضغوط لا تغيّر فقط من شكل التجربة النفسيّة، بل تؤثّر حتى على طبيعة الأعراض التي تظهر لدى الرجال. وتوضح: "نعتقد أن الاكتئاب مثلاً، يظهر لدى الجميع بشكل حزنٍ وانطواء. لكنّه يظهر لدى كثير من الرجال على شكل غضبٍ دائم، لأنّ التعبير عن الحزن غير مسموح به للذكور". وتضيف أنّ نسب الانتحار أعلى بكثير لدى الرجال مقارنةً بالنساء، قائلةً: "لكي يصل أحدهم إلى هذه المرحلة، فهذا يعني أنّه بلغ وضعاً نفسيّاً بالغ الصعوبة". وتفسّر هذه الأرقام بقولها: "النساء عادةً لا يواجهن مشكلة في التحدّث عن مشكلاتهنّ ومشاعرهنّ، بينما الرجال غالباً ما يحتفظون بكل شيء لأنفسهم ويكبتون الألم والمشاعر". "أنت رجل لا يمكنك البكاء" تشير المعالجة النفسية جيزيل صليبا إلى أنّ نِسب استخدام المواد المخدّرة والإدمان على الكحول أعلى بكثير لدى الرجال مقارنةً بالنساء، كما أنّ اضطراب الشخصية المعادية للمجتمع، الذي يتميّز بأنماط سلوكية تتجاهل حقوق الآخرين وتعتمد على الخداع أو التلاعب والتهوّر، يظهر بشكلٍ أكبر لدى الذكور. هذا الاضطراب يكون مرتبطاً بعوامل بيولوجيّة وراثيّة بحسب هيئة الخدمات الصحية الوطنية البريطانية، إضافةً إلى تجارب الطفولة المؤلمة، مثل التعرّض للإهمال أو الإساءة العاطفية أو غياب أحد الوالدَين من الناحية الوجدانية. أما على الصعيد الجسدي، فيُجمع كلّ من صليبا وهادي أبي المنى على وجود علاقة موثّقة بين الكبت والتوتّر والإجهاد العاطفي من جهة، وظهور أمراض جسديّة من جهة أخرى. ويضرب أبي المنى مثالاً بمرضي الروماتيزم والفيبروميالجيا، حيث تساهم المشكلات العاطفية، بحسبه، في تفاقم الأعراض. ويقول: "تحريك الجسد، كالمشي أو التمارين الرياضيّة، يساهم كثيراً في تحسين الصحة النفسيّة. أما الكبت والتوتّر، فقد يؤدّيان إلى آلام جسديّة حقيقيّة، مثل الصداع أو ارتفاع ضغط الدم". وتنبه صليبا إلى خطورة التقليل من شأن التوتّر، وتقول: "في السنوات الأخيرة، نلاحظ تزايداً في الشكاوى الجسديّة التي لا يكون لها تفسير عضوي. ننسى في هذه الحالات أنّ الأمر لا يعني أننا بخير، بل أن التوتّر أو القلق قد تَسبّب فعلاً بمشكلة جسديّة حقيقيّة". وتشرح قائلة: "أظهرت الدراسات أنّ التوتّر قد يضعف المناعة، يؤثّر على صحّة القلب، يسبّب اضطرابات النوم، أو حتى اضطرابات الأكل، وكلّها ترتبط بعدم القدرة على التعامل مع مشاعرنا بشكلٍ صحّي". وتختم صليبا بنصيحة توجّهها إلى الأهل، وتحديداً إلى من يربّون أطفالاً ذكوراً: "جملة مثل 'أنت رجل، لا يمكنك البكاء'، كفيلة بأن تجعل الطفل عاجزاً عن التعامل مع مشاعره طوال حياته". وتضيف: "بدلاً من أن نصنع منه رجلاً أقوى، كما نتصوّر، نكون بذلك قد زرعنا فيه أزمة عاطفيّة عميقة وغياباً للراحة الداخليّة". وتؤكّد في النهاية: "لا يمكننا أن نمنع أحداً من أن يشعر. ما نفعله، هو أنّنا نجعل مهمّة فهم هذه المشاعر والتعامل معها أصعب بكثير".

عندما تقهرنا أفكارنا: ما الذي لا نفهمه عن الوسواس القهري؟
عندما تقهرنا أفكارنا: ما الذي لا نفهمه عن الوسواس القهري؟

BBC عربية

timeمنذ 3 أيام

  • BBC عربية

عندما تقهرنا أفكارنا: ما الذي لا نفهمه عن الوسواس القهري؟

ربما سمعت أحدهم يقول، وغالباً بالإنجليزية: "أنا أو سي دي جداً" (أنا مصاب بالوسواس القهري)، بعدما عدّل لوحةً مائلة على الحائط مثلاً، أو ليُظهر مدى حرصه على التفاصيل أو التناظر أو ترتيب المنزل وتنظيمه. قد يبدو الأمر للوهلة الأولى غير مؤذٍ، وربما طريفاً حتى. لكنّه ليس كذلك بالنسبة للأشخاص المصابين فعلاً باضطراب الوسواس القهري. فمن اختبر الألم الذي يسبّبه هذا الاضطراب، تبدو له هذه التصريحات أشبه بصفعةٍ مؤلمة. الوسواس القهري ليس صفةً ولا سلوكاً غريباً. لا يُعدّ سِمةً شخصية تجعل شخصاً ما غريب الأطوار أو تعكس ميله إلى النظام والنظافة. إنّه اضطراب نفسي خطير يصيب ملايين الأشخاص حول العالم، غالباً بصمتٍ يرافقه ألمٌ نفسي كبير. وفي عالمنا، لا يزال يُساء فهم اضطراب الوسواس القهري بشكلٍ واسع. فعلى الرغم من دخوله الثقافة الشعبية كتعبيرٍ مختزل عن الهوس بالنظافة أو الحاجة إلى السيطرة، إلا أنّ الواقع أكثر تعقيداً وإنهاكاً. يشمل هذا الاضطراب أفكاراً دخيلة وغير مرغوب فيها (وساوس)، وسلوكيات متكرّرة أو طقوساً ذهنية (قهرية) تهدف إلى التخفيف من القلق الناتج عن تلك الأفكار. وأحياناً تكون هذه الأفعال القهرية مرئية، كغسل اليدين، أو التحقّق المتكرر، أو ترتيب الأشياء. وأحياناً تكون داخلية بالكامل، كالتعداد الذهني، أو مراجعة الأفكار، أو طمأنة الذات. وهذا النمط الأخير يُعرف غالباً باسم "الوسواس المحض" أو "الوسواس القهري الصامت" Pure O. ماذا يحصل مع المصاب؟ قد تمرّ امرأة وضعت مولودها الأول للتوّ بنوبات من الوسواس القهري لم يسبق أن اختبرتها من قبل. تتجسّد هذه الوساوس في شكل أفكار وصور ذهنية متكرّرة، لا تفارق عقلها، عن احتمال أن تؤذي طفلها جسدياً. وغالباً ما يُستَشهد بهذه الحالة (الشائعة لدى الأمهات الجدد) كمثالٍ دقيق لتوضيح طبيعة الوسواس القهري لمن لم يختبره. فهو حالة متطرّفة من القلق، تتجلّى في أفكار غير مرغوب فيها تلتصق بالذهن وتستهدف نقاطاً حسّاسة جداً لدى المصاب. فالأم الجديدة تشعر بخوفٍ عميق على مولودها، وترغب في السيطرة على كل ما يحيط به لحمايته من أي أذى. وقد يبلغ هذا الخوف في بعض الأحيان مستويات عالية جداً، تتحوّل معها إلى نوبات وسواسية تجعلها تخاف على طفلها حتى من نفسها. وقد تلجأ إلى تكرار عباراتٍ دينية أو جملٍ تطمئن بها نفسها، تؤكّد من خلالها أنها لن تُقدم على فعلٍ مؤذٍ. هذا هو السلوك القهري. فإلى جانب الوساوس – أي الأفكار المجرّدة – يعاني معظم المصابين بالوسواس القهري من سلوكيات قهرية وطقوس محدّدة تهدف إلى "إسكات" العقل/ القلق ولو للحظات. لكنها دائرة مفرغة، تُحوّل حياة المصاب إلى كابوسٍ حقيقي. ما هو الوسواس القهري حقاً؟ يُدرج اضطراب الوسواس القهري اليوم ضمن فئة "اضطرابات الوسواس القهري وما يرتبط بها"، بحسب التصنيف الحديث في الدليل التشخيصي والإحصائي للاضطرابات النفسية (DSM-5)، بعدما كان يُعدّ سابقاً من اضطرابات القلق. ويقول الطبيب اللبناني والأستاذ المشارك في الطب النفسي وعلوم الأعصاب في جامعة روتشستر الأمريكية، بول جحا، في حديث إلى بي بي سي عربي، إن اضطراب الوسواس القهري يتألّف من عنصرين رئيسيين: الوساوس والأفعال القهرية. الوساوس قد تكون أفكاراً أو صوراً ذهنية، والأفعال القهرية تتجلّى في سلوكيات وطقوس عملية. عادةً ما تكون الوساوس أفكاراً أو صوراً دخيلة (Intrusive)، غير إرادية، يصفها المرضى بأنها غريبة عنهم ولا تعبّر عن شخصيتهم أو قناعاتهم. مثلاً، قد يشعر المريض برغبة في إيذاء شخصٍ يحبّه، أو تداهمه صورة ذهنية تُظهره وهو يُسيء إلى أحد، أو يتخيّل نفسه داخل الكنيسة أو المسجد وهو يجدّف على الله. آخرون يشعرون بخوفٍ شديد من العدوى، فيقلقون بمجرد لمسهم لسطحٍ معيّن، ويعتقدون أنهم قد يُصابون ببكتيريا خطيرة. ويضيف جحا: "من أكثر الأشكال شيوعاً أيضاً: وسواس التحقّق، كإقفال باب السيارة أو إطفاء الغاز، حيث يشعر المريض بأنه مضطر للعودة مراراً للتأكد، برغم معرفته العقلانية بأنه سبق أن فعل ذلك". هذه الأفكار مزعجة جداً، وتولّد قلقاً شديداً، وتدفع المصاب إلى تكرار أفعال قهرية لا منطقية. فقد يتحقّق من الشيء نفسه عشرين مرة مثلاً. هذا النمط يولّد توتراً مزمناً ونوبات هلع، وقد يقود مع الوقت إلى الاكتئاب. "وفي بعض الحالات التي نراها سريرياً، يصل الأمر إلى حدّ الشلل التام. مثلاً، مريض يدخل إلى الحمّام ليغتسل ويبقى فيه لساعات غير قادر على الخروج، أو يغسل يديه باستمرار دون توقّف. يصبح أسيراً للوسواس والطقوس المرتبطة به، وتسيطر هذه الدورة على حياته"، يوضح جحا. غالباً ما تقسّم ثيمات الوسواس القهري إلى أربعة أنواع: -الخوف من الأمراض/ التلوّث. -الخوف من إيذاء الآخرين (قتل أو اعتداء جنسي...). -أفكار تجديفية وغالباً ما تظهر لدى الأشخاص الملتزمين دينياً. -الحاجة المستمرّة إلى التحقّق. متى يظهر الاضطراب وما هي أسبابه؟ يقول جحا إن الإحصاءات في الولايات المتحدة تشير إلى أن ما بين 1 إلى 2 بالمئة من السكان مصابون باضطراب الوسواس القهري، وأن الدراسات تُظهر تأثراً أعلى قليلاً لدى النساء مقارنةً بالرجال. كما أن نحو 25 بالمئة من الحالات تبدأ في سنّ المراهقة المبكرة، وأحياناً حتى قبلها، في الطفولة. ويُعدّ العامل الوراثي حاسماً، لا سيما في الحالات التي تظهر في وقتٍ مبكر. ويوضح جحا: "إذا كان أحد الأشقاء في العائلة مصاباً باضطراب الوسواس القهري، فإن احتمال إصابة أخٍ آخر يتضاعف. وإذا ظهر المرض في سنّ المراهقة، فإن خطر تكراره بين الأشقاء يزيد بعشرة أضعاف". ومع أن العامل الوراثي يُعدّ السبب الأبرز، إلا أن جينات هذا الاضطراب قد تبقى "نائمة" في الجسد، ولا تنشط إلا بعد التعرّض لضغطٍ نفسي شديد أو تغيّر جذري في حياة الشخص." وبحسب جحا، فإن الاضطراب يظهر عادةً في سنّ المراهقة أو العشرينيات، ومن النادر أن يُشخّص للمرة الأولى بعد سن الخامسة والثلاثين. طبيعة "متنافرة مع الذات" من أكثر الجوانب التي يُساء فهمها في اضطراب الوسواس القهري هي طبيعته المتنافرة مع هوية المصاب. أي أن الأفكار أو الصور الوسواسية تكون متعارضة مع نظرة الشخص إلى ذاته أو مع قيمه الأساسية، ما يجعلها غريبة عنه، دخيلة، ومزعجة إلى حدٍ بالغ. وهنا يشير جحا إلى ضرورة التمييز بين اضطراب الوسواس القهري (OCD) واضطراب الشخصية الوسواسية القهرية (OCPD)، بالرغم من تشابه الاسمين واحتواء كليهما على عنصر "الوسواس". الفرق الجوهري يكمن في أن الوساوس في اضطراب الوسواس القهري تُعدّ متنافرة مع الذات (Ego-dystonic)، أي أنها تتصادم مع قِيَم المصاب وهويته وتسبّب له ضيقاً نفسياً شديداً. أما في اضطراب الشخصية الوسواسية، فالأفكار تكون منسجمة مع الذات (Ego-syntonic)، أي أنها تتماشى مع قناعات الشخص، مثل حبّ الترتيب والدقة والسعي إلى الكمال. في هذه الحالة، لا يشعر الشخص بالانزعاج منها، بل بالرضا. ويقول جحا إن وساوس الأذى أو الاعتداء على الآخرين غالباً ما تصيب أكثر الناس مسالمةً، ولذلك تكون مؤلمة جداً. فالشخص الذي يُكرّس حياته لتفادي الأذى، سيتألم بشدة من مجرّد تخيّل هذه الأفكار، لا سيما عندما تتعلّق بأشخاص مقرّبين إلى قلبه. كذلك الأمر بالنسبة للوساوس الدينية، إذ غالباً ما تصيب المؤمنين وتسبب لهم ضيقاً بالغاً، لأنها تستهدف نقطة حسّاسة في منظومة معتقداتهم. وهذا ينطبق خصوصاً على الحالات التي تشمل ما يعرف بـ"المواضيع المحرّمة" أو "التابوهات"، مثل أفكار مؤذية تجاه الأحبّة، أو صور جنسية غير لائقة، أو أفكار تجديفية تتعارض مع القيم الدينية. وبعيداً عن تبنّي هذه الأفكار أو الاستمتاع بها، فإن المصابين بالوسواس القهري يشعرون في العادة برعبٍ شديد منها. وكلّما كانت الفكرة أكثر إزعاجاً، ازداد التصاقها بالذهن. ولهذا السبب تحديداً، كثيراً ما يتجنّب المصابون الحديث عن هذه الوساوس، خوفاً من الحكم عليهم أو إساءة فهمهم أو حتى اعتبارهم خطراً على من حولهم. فهم خاصية "التنافر مع الذات" أمرٌ أساسي لفهم مدى إنهاك هذا الاضطراب، ولماذا يساء تشخيصه في كثيرٍ من الأحيان. إذ أن غياب الوعي بهذه الخاصية قد يدفع حتى بعض الأطباء إلى الخلط بينه وبين اضطرابات أخرى، مثل القلق العام أو الاكتئاب، أو في بعض الحالات القصوى، الذُهان أو اضطرابات الشخصية. هل هناك علاج؟ رغم عدم وجود علاج "نهائي" لاضطراب الوسواس القهري بالمعنى التقليدي، إلا أنّه قابل للعلاج بدرجةٍ عالية. ويستطيع عدد كبير من المصابين أن يحققوا تحسّناً ملحوظاً في أعراضهم، وأن يستعيدوا جودة حياتهم بفضل تدخلات علاجية متكاملة. الخطوة الأولى، كما يؤكد جحا، هي التثقيف النفسي. أي أن يدرك المريض أن دماغه لديه قابلية لتوليد أفكار متكرّرة على هذا النحو، وأن هناك سبيلاً للخروج من هذه الدوامة عبر كسر الحلقة الوسواسية. ثانياً، يمكن للأدوية، لا سيّما مثبطات استرجاع السيروتونين الانتقائية (SSRIs)، أن تكون فعّالة، خصوصاً في الحالات المتوسطة إلى الشديدة. ويوضح جحا أن هذه الأدوية تُستخدم لتخفيف القلق وردّات الفعل الانفعالية. لكن ما يُميّز الوسواس القهري عن الاكتئاب أو القلق العام هو أن جرعة الدواء غالباً ما تحتاج إلى أن تكون أعلى بكثير حتى تُحدث الأثر المطلوب في القضاء على الوساوس. كذلك يعدّ العلاج المعرفي السلوكي (CBT)، وتحديداً تقنية التعرّض ومنع الاستجابة (ERP)، من أكثر الوسائل العلاجية نجاعة. وتقوم هذه التقنية على تعريض المريض للمثيرات التي تقلقه من دون السماح له باللجوء إلى الطقوس المعتادة. مثلاً: إذا كان المريض يخشى التلوّث أو العدوى، يطلب منه أن يلمس الأرض ويبقي نظره موجّهاً إلى يده لفترة طويلة، من دون أن يسمح له بغسلها. ويوضح جحا أنه مع الوقت، يضعف هذا الدافع الداخلي، ويتعلّم الدماغ أن القلق لا يساوي الخطر الحقيقي، وهو ما يعرف في علم النفس باسم "التكيّف البافلوفي العكسي" (Pavlovian extinction). كثيرٌ من المرضى، بمجرّد أن يفهموا طبيعة ما يمرّون به، ويبدأوا العلاج السلوكي ويأخذوا الدواء المناسب، يشعرون بتحسّن تدريجي. ويبقى أن المفتاح الأساسي في العلاج هو فهم أن الإصابة بالوسواس القهري ليست "عيباً" في الشخصية، ولا تعني بأي حال أن الأمل مفقود. فمع العلاج الملائم، يستطيع العديد من الأشخاص أن يعيشوا حياة طبيعية، حتى وإن بقي الاضطراب موجوداً بشكلٍ ما. والتعرف إلى حقيقة الوسواس القهري كما هو فعلاً، ومواجهة الخرافات الثقافية التي تشوّهه، هما خطوة ضرورية لمساندة من يعانون منه. ويبدأ ذلك بأنسنة هذا الاضطراب، وإخراجه من خانه التنميط أو الكاريكاتور.

كيف تزيد أعداد المتعايشين مع الإيدز في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا وتنخفض في باقي العالم؟
كيف تزيد أعداد المتعايشين مع الإيدز في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا وتنخفض في باقي العالم؟

BBC عربية

timeمنذ 4 أيام

  • BBC عربية

كيف تزيد أعداد المتعايشين مع الإيدز في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا وتنخفض في باقي العالم؟

كانت ليلى -اسم مستعار- حاملا في شهرها الثاني عندما علمت أنها مصابة بفيروس نقص المناعة البشرية "الإيدز"، في أغسطس/ آب العام الماضي. بعد أسابيع، أنكر زوجها نسب الجنين إليه، عندما أظهرت الفحوصات أنه لا يحمل الفيروس، واتهمها أنها على علاقة بشخص آخر نقل العدوى إليها، وهو ما تنفيه ليلى. تقول ليلى "لم يترك زوجي إنسانا إلا أخبره أنني متعايشة مع الإيدز. لم يبق إلا أن يحكي للقطط والكلاب في الشارع". فيروس نقص المناعة البشرية، هو عدوى تهاجم الجهاز المناعي في الجسم، مما يضعف قدرته على الدفاع عن نفسه ضد الأمراض، وينتقل عبر ممارسة الجنس بطريقة غير آمنة، والدم، والولادة. فجأة وجدت الشابة البالغة من العمر 24 عاما نفسها وجنينها معا في مواجهة الفيروس، والنظرة السلبية تجاه المتعايشين مع الإيدز، فضلا عن معارك قانونية لإثبات نسب الطفل. يظهر تقرير جديد نشرته منظمة فرونت لاين إيدز، "ارتفاعا مثيرا للقلق" في حالات الإصابة بالفيروس في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، وبشكل خاص في مصر، في وقت يتباطأ فيه انتشاره في باقي العالم. التقرير يضيف أن نحو 20% من الإصابات الجديدة بفيروس نقص المناعة البشرية، تتراوح أعمارهم بين 15 و24 عاما، وهو رقم غير مسبوق بحسب المنظمة. "نواجه المرض وغياب الوعي" عندما تأكدت ليلى من نتيجة فحوصاتها أصيبت بالصدمة. تقول لبي بي سي "شعرت أن نهايتي وشيكة، وأنني سأموت خلال أسبوع أو أسبوعين بسبب الخوف مما سمعت، رغم أن حالتي الصحية لم تكن خطيرة في ذلك الوقت. لكن هذا ليس أصعب ما واجهته". كان عليها أن تواجه غياب الوعي بالفيروس في كل مكان، حتى في بعض العيادات الطبية. تقول إن طبية أمراض النساء طلبت منها مغادرة العيادة قبل إتمام الفحص، فور علمها بأنها متعايشة مع الفيروس، وطلبت من المساعدين تعقيم المكان. "التوعية ينبغي أن تكون لكل الناس وليس للمتعايشين مع الفيروس فقط"، هذا ما تعتقده ليلى. بعدما وضعت جنينها، أقامت ليلى في منزل أهلها بعض الوقت. لم تصدق عائلها ادعاءات الزوج بأنها على علاقة برجل آخر، ودعمت مسارها القانوني لإثبات نسب ابنها. بعد فترة عادت ليلى مع طفلها إلى منزلها في حي راق في القاهرة، حيث غادره الزوج بعد ضغط من أهلها. لكن نظرات الجيران كانت تحمل إدانة بفعل تقول إنها لم ترتكبه، كما تحكى لبي بي سي. تقول "عشت أياما صعبة عندما اتصل بعضهم بالحجر الصحي ليحتجزني في المستشفى، خوفا من العدوى". ثم تدخلت أسرتها لوضع حد لمضايقات الجيران. لعنة الوصم يرجح أطباء ليلى إصابتها بالفيروس أثناء عملية جراحية أجرتها قبل زواجها عام 2019. ولا تظهر أعراض الإصابة الفيروس بالضرورة بشكل فوري، بل يستغرق الأمر مدة قد تصل في بعض الحالات ل 10 سنوات، وفقا لوزارة الصحة البريطانية. لكن زوجها لم يصدق أنها حملت الفيروس طوال هذه المدة دون أن ينتقل إليه. لا تؤدي ممارسة الجنس مع شخص يحمل الفيروس إلى الإصابة بالإيدز بشكل حتمي. وفقا لموقع ستانفورد هيلث كير، التابع لجامعة ستانفورد الأمريكية، فمن الصعب حساب نسبة احتمال انتقال العدوى عند التعرض لأحد أسبابه. "قد يصاب الشخص بالعدوى من خلال ممارسة الجنس غير الآمن مرة واحدة أو قد يمارس الشخص الجنس غير الآمن عدة مرات دون أن يصاب بالعدوى". بدأت ليلى بتوعية الجيران، لكن الوصم ظل يلاحقها. تقول "ظلوا يفترضون أنني أقيم علاقات جنسية مع أي شخص، وعرض أحدهم أن يُقبّلني طالما أن الفيروس لا ينتقل عبر اللعاب. وقال آخر، لماذا لا نمارس الجنس طالما أن هناك طرق آمنة". أعداد متزايدة بعد تشخيص ليلى بالفيروس، وقفت في طابور أحد المستشفيات في القاهرة لاستلام العلاج مع 8 نساء اكتشفن إصابتهن في نفس اليوم. تقول إنها تتعرف كل يوم على مصابين جدد. وفقا لتقرير منظمة "فرونت لاين إيدز" ارتفعت الحالات الجديدة في المنطقة بنسبة 116% منذ عام 2010. بينما ارتفعت ب 609% في مصر خلال الفترة نفسها، في المقابل شهدت الإصابات الجديدة بالفيروس انخفاضًا في العالم بنسبة 39% خلال الفترة نفسها. وتحذر المنظمة من أن المنطقة قد تواجه وباءً إقليميًا ربما يخرج عن نطاق السيطرة، إذا لم تتخذ إجراءات عاجلة. ويتفاقم هذا الخطر بعد إغلاق مكتب برنامج الأمم المتحدة المشترك لمكافحة الإيدز في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا في 2023، بسبب نقص التمويل، وهو البرنامج المعني بتنسيق الاستجابة بين بين الوكالات الأممية والحكومات، وفقا للتقرير. تعتقد جولدا عيد مسؤولة البرامج في منظمة فرونت لاين إيدز التي أصدرت التقرير، أنه "لا بد من الاستثمار بشكل مستدام لمواجهة الفيروس. كما أن هناك حاجة ماسة لتنسيق سياسي أقوى لمواجهة الفيروس". لكن هذا يعتبر تحديا في ظل العقبات الاقتصادية وأزمات النزوح التي تواجهها عدة دول في المنطقة. لذا تطالب عيد بدمج مواجهة فيروس نقص المناعة البشرية في برامج الاستجابة الإنسانية والرعاية الصحية الشاملة. وتشكو عيد من نقص بيانات المحدثة والدقيقة، وهو ما يصعب الاستجابة بشكل صحيح. كما أن تجريم بعض الفئات الأكثر عرضة للإصابة بالفيروس يلعب دورا إضافيا في ضعف الاستجابة، كما تؤكد عيد. "الآن بعض الجمعيات تواجه خطرا قانونيا عندما تقدم دعمها لمثليي الجنس ومتعاطي المخدرات والأشخاص العابرين جندريًا، المعرضين أكثر من غيرهم للإصابة بالإيدز". دعم خاص للنساء تشعر ليلى بالارتياح لأن حالتها باتت مستقرة، وبأن لديها الوعي بكيفية التعامل مع الفيروس، بفضل الأطباء الذين يتابعون حالتها، بالإضافة لمجموعة مغلقة انضمت إليها على فيس بوك. تدير روزا- 45 عاما- هذه المجموعة، وهي إحدى شريكات منظمة فرونت لاين إيدز في مصر، وتحمل الفيروس أيضا منذ أكثر من عشرين عاما. خاضت روزا، رحلة العلاج مع زوجها السابق بعدما فقدت جنينها بسبب مضاعفات الإصابة. بعد التعافي من أعراض الفيروس، بدأت روزا رحلة في دعم المتعايشين مع الإيدز. دعم النساء أولوية بالنسبة لها. تقول "عندما كنت ألقي أحد التدريبات في اليمن قبل نحو 15 عاما، وقالت لي إحدى المشاركات: أريد أن أقتل زوجي الذي نقل إلى الفيروس. منذ ذلك اليوم قررت أن أركز مجهودي على دعم المتعايشات مع الإيدز". الدعم النفسي مرتبط بالتمويل "قبل أن أتعرف على متعايشين آخرين مع الإيدز، شعرت أنني الوحيدة في العالم التي تحمل الفيروس"، تحكي روزا لبي بي سي. لكنها كانت محظوظة، لأنها كانت من بين أول 20 شخصا اكتشفوا إصابتهم وانضموا لبرنامج الحملة القومية لمكافحة الإيدز في مصر، وهي حملة حكومية، كانت في أوج نشاطها في ذلك الوقت كما تحكى لبي بي سي. تقول إن البرنامج كان يقدم العلاج الطبي، والدعم النفسي لتخطي هذه الفترة. الآن يبلغ عدد حاملي الفيروس نحو 30 ألفا في مصر، وفقا لوزارة الصحة المصرية، وبرنامج الأمم المتحدة المشترك لمكافحة الإيدز . تركز الخدمة الطبية الحكومية في مصر حاليا على تقديم الدواء بشكل مجاني، كما هو الحال في لبنان ودول أخرى في المنطقة، لكن الدعم النفسي والاجتماعي يتراجع بسبب صعوبات التمويل في هذه البلدان. يظل الدعم الذي تقدمه روزا عبر مجموعتها محدودا، مقارنة بما تلقته بعد إصابتها قبل 21 عاما. فهي تقدم التوعية، وتنظم أنشطة ترفيهية، ورش أعمال يدوية لتساعد أعضاء المجموعة على ممارسة حياتهن بشكل طبيعي. يشير تقرير منظمة" فرونت لاين إيدز" إلى أن منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا "تعاني من نقص في تمويل مشاريع مكافحة نقص فيروس نقص المناعة البشرية تصل نسبته إلى 85%، وأنها تتلقى أقل من 1% من إجمالي استثمار التمويل العالمي للفيروس". الحصول على تمويل مخصص لمواجهة الفيروس صار أصعب خلال السنوات الأخيرة، حيث يركز المانحون على تقديم الدعم الإنساني لفئات أخرى مثل النازحين، كما تقول الدكتورة نادية بدران مديرة جمعية العناية الصحية للتنمية الشاملة، التي تعمل في لبنان منذ نحو 35 عاما. تضيف: لا نستطيع التوسع في برامج التوعية أو الدعم النفسي والمجتمعي للمتعايشين مع الفيروس بسبب نقص التمويل، وصرنا نقدم هذه الخدمة ضمن مجموعة خدمات أخرى لضمان استمرارها. الأدوية التي توفرها الحكومة للمصابين بالفيروس أيضا تنفق عليها المنح الدولية، كما تقول بدران، وتتخوف من نتائج كارثية إذا تقلص هذا الدعم في المستقبل. ماذا يخفي المستقبل لحاملي الفيروس؟ الإجابة تتوقف على مدى الدعم النفسي والمجتمعي الذي يحظى به حامل الفيروس، ومدى تقبله لحالته، كما تقول الدكتور نادية بدران. وتشرح قائلة "المصاب بالإيدز مرفوض اجتماعيا، على عكس الشخص المصاب بالسرطان مثلا يحظى بدعم العائلة. يجب أن يحصل المتعايش مع الفيروس على الدعم، وأن يتقبل وضعه ليكون قادرا على الالتزام بالعلاج، وإلا تتدهور حالته". وتضيف: هناك شاب لجأ إلينا قبل سنوات، اكتشف إصابته بالإيدز عندما كان عمره 17 عاما. كان مكتوم القيد- لا يملك أوراق هوية رسمية- وكان لديه عدد من الأزمات النفسية. لم يكن قادرا على تقبل وضعه، فلم يلتزم بالعلاج، وظل يعاني حتى توفي بعد إصابته بالسرطان. في حالة روزا وليلى، كان دعم المقربين منهما عاملا أساسيا لتعافيهما من الأعراض، بجانب العلاج الدوائي. الآن، مر شهران منذ ولدت ليلى طفلها، وقد أثبتت الفحوصات تراجع نسبة الفيروس في دمها. أما الطفل، الذي فكرت في إجهاضه، خوفا انتقال الفيروس إليه أثناء الولادة، فبشرها الأطباء قبل أيام بخلوه من الفيروس، بعد أن خضعا معا لبرنامج علاجي مخصص. تقول "عندما عرفنا أننا سنواصل حياتنا بشكل طبيعي، شعرنا أن متنا، وبعثنا من جديد. الآن ننتظر حكم القضاء لإثبات نسب ابني، لنطوي هذه الصفحة من حياتنا".

حمل التطبيق

حمّل التطبيق الآن وابدأ باستخدامه الآن

مستعد لاستكشاف الأخبار والأحداث العالمية؟ حمّل التطبيق الآن من متجر التطبيقات المفضل لديك وابدأ رحلتك لاكتشاف ما يجري حولك.
app-storeplay-store