
العراق يواجه خطر اندثار 500 لهجة محلية تعكس تنوعه الثقافي العريق
ففي الثامن من يونيو/حزيران الجاري، أطلق المركز الإستراتيجي لحقوق الإنسان دعوة عاجلة لحماية نحو 500 لهجة محلية -رئيسية وفرعية- مهددة بالزوال، مشددا على أهمية الحفاظ على اللهجات المحلية باعتبارها جزءا لا يتجزأ من الموروث الشعبي والهوية الثقافية للمجتمع العراقي، التي تعكس تنوعه الحضاري واللغوي "العميق".
وتشير التحديات الحالية إلى تراجع ملحوظ في استخدام هذه اللهجات وتوارثها بين الأجيال كما تواجه اليوم خطر الاندثار الفعلي، بسبب مجموعة من العوامل الاجتماعية، والسياسية، والديمغرافية، حسب ما يقوله الخبير التراثي جنيد عامر من الهيئة العامة للآثار والتراث العراقية.
وأشار عامر خلال حديثه للجزيرة نت إلى عدة لهجات مهددة، تختلف درجة تعرضها للخطر، ومن أبرزها:
اللهجة المندائية: يتحدث بها أبناء الطائفة الصابئية المنتشرة في ميسان وذي قار وبغداد. تأثرت هذه اللهجة بالآرامية، وهي مهددة بشدة بسبب قلة عدد المتحدثين، وهجرة الكثيرين، وعدم توارثها بين الأجيال الجديدة.
اللهجة السريانية الحديثة: يستخدمها الآشوريون والسريان والكلدان في مناطق مثل سهل نينوى ودهوك. رغم أنها لا تزال حية نسبيا، فإنها مهددة بسبب النزوح والحروب، خاصة بعد اجتياح داعش، الذي أدى إلى تهجير جماعي للمتحدثين بها.
اللهجة الشبكية: خاصة بجماعة الشبك في سهل نينوى، وتتأثر بلغات تركمانية وكردية. وتواجه ضغطا لغويا من العربية والكردية، مما يهدد خصوصيتها، خاصة مع اختلاط السكان بعد النزوح.
اللهجة الفيلية (الكرد الفيلية): لهجة كردية مميزة مهددة جزئيا، نظرا لتهجير كثير من الكرد الفيلية قسريا، واعتماد نسبة كبيرة منهم على اللغة العربية في حياتهم اليومية.
اللهجة الزنجبارية: لهجة نادرة جدا ومهددة للغاية، يتحدث بها بعض العوائل من أصول أفريقية في جنوب العراق، خاصة البصرة والزبير. اندمج معظم المتحدثين بها في المجتمع العربي المحيط، مما أدى إلى اختفائها تدريجيا.
اللهجات البدوية الأصلية: في الأنبار والمثنى والنجف وجنوب بغداد (مثل لهجات شمر والدليم وعنزة) تواجه تهديدا تدريجيا بسبب التحضر وانتقال السكان للمدن، مما يؤدي إلى التخلي عنها لصالح اللهجات المدنية السائدة.
إجمالا، يقدر عامر أن ما بين 6 إلى 8 لهجات في العراق مهددة بالزوال نهائيا ومئات أخرى بدأت تضعف تدريجيا، وتتراوح درجة التهديد من شبه الاندثار إلى الخطر المحتمل إذا لم تتخذ خطوات وثيقة للحفاظ عليها.
التعليم حجر زاوية للحفاظ على التراث اللغوي
ولمواجهة هذا التحدي، أكد عامر أهمية إدراج هذه اللهجات المهددة في المناهج التعليمية، في خطوة إستراتيجية للحفاظ على الهوية الثقافية واللغوية المتنوعة للعراق، مقترحا أن يتم ذلك ضمن مناهج الدراسات الثقافية والاجتماعية، وليس ضمن مقررات لغوية إلزامية، لتعزيز الفخر بالتعدد اللغوي بدلا من الشعور بالتفوق أو النقص.
شدد عامر على أهمية الأساليب التعليمية التفاعلية، مثل القصص المصورة، والمسرح المدرسي، وإنتاج المحتوى السمعي والبصري (الأغاني الشعبية، الحكايات الفلكلورية، والرسوم المتحركة) باللهجات المحلية. كما أكد ضرورة تدريب المعلمين على عرض هذه اللهجات باحترام وتوازن.
دور الحكومة محوري وضروري
وشدد عامر على أن للحكومة العراقية دورا محوريا وأساسيا في دعم هذه المبادرة، معتبرا اللهجات جزءا من التراث اللامادي للعراق، داعيا إلى:
الاعتراف الرسمي بهذه اللهجات باعتبارها جزءا من ثروة العراق اللغوية ومكونا من مكونات التنوع الثقافي، من خلال تشريعات دستورية أو قوانين خاصة.
إنشاء مراكز متخصصة لأرشفة وتسجيل هذه اللهجات علميا بالصوت والصورة، بالتعاون مع الجامعات.
تخصيص موازنات مالية لدعم الأنشطة المتعلقة بحماية اللهجات.
دعم الإعلام الرسمي لبث برامج باللهجات المحلية وتعزيز مكانتها في الوعي العام.
حماية المتحدثين من خلال سن قوانين تحظر التمييز أو السخرية من أي لهجة محلية.
غياب الدراسات الرسمية الشاملة
وكشف عامر عن غياب دراسة حكومية رسمية أو مسح وطني شامل في العراق يصنف اللهجات وفق معايير خطر الانقراض، مشيرا إلى أن معظم المعلومات المتوفرة تأتي من أبحاث أكاديمية فردية، ومساهمات منظمات ثقافية ودينية، وتقارير محدودة من اليونسكو، إضافة إلى مبادرات شخصية.
وأشار إلى الحاجة الماسة لمشروع وطني مؤسسي شامل يتضمن مسحا لغويا شاملا، وتصنيفا علميا للهجات، وإنشاء قاعدة بيانات رقمية، وتحديد مستويات الخطر لربطها ببرامج توعية وتعليم وحماية.
اللهجات العراقية في ظل العولمة الرقمية
من جانبه، حذر الأكاديمي والباحث في التراث العراقي قاسم بلشان من التأثير الكبير والفعلي لوسائل التواصل الاجتماعي والتكنولوجيا الحديثة على دور وأصالة اللهجات العراقية.
وقال بلشان للجزيرة نت إن غياب ثقافة حقيقية للحفاظ على هذه اللهجات يهدد جزءا أصيلا من الهوية العراقية، موضحا أن العراق، بتاريخه العريق وتنوعه الثقافي، يزخر بمئات اللهجات، لا سيما مع وجود أكثر من 18 محافظة، وكل مدينة -بل وحتى داخل المدينة الواحدة- تضم عشرات اللهجات الفرعية.
وأضاف أن هذه اللهجات، سواء كانت رئيسية أو فرعية، لم تلق الاهتمام الكافي الذي يتناسب مع أهميتها كمرآة عاكسة لتاريخ الأجداد على مدى آلاف السنين، بل إن بعضها قد تكون "لهجات ميتة" تتغلغل في عمق التاريخ.
وأكد الدور المحوري الذي يجب أن تضطلع به المراكز الثقافية ومؤسسات الدولة المختلفة، في حماية هذا التراث اللغوي، مشددا على ضرورة تنظيم المهرجانات وعقد ورش العمل للتعريف بهذه اللهجات المتنوعة.
كما نبه إلى ظهور ما سماها "اللهجات الهجينة"، وهي لهجات تتأثر بمفردات من دول عربية وغير عربية، مما قد يؤدي إلى ضعف السيطرة على اللهجة العراقية الأصيلة والعريقة في ظل الانفتاح العالمي عبر وسائل التواصل الاجتماعي، داعيا إلى إيلاء اهتمام جاد للدراسات المتعمقة في هذا المجال للحفاظ على نقاء هذه اللهجات.
وأكد بلشان أن حماية اللهجات العراقية في صميم تعزيز الهوية الوطنية العراقية والتنوع الثقافي للفرد العراقي، واصفا اللهجة العراقية بأنها "سهل ممتنع"، تتميز بخفتها وبلاغتها، مما أسهم في انتشارها الواسع مؤخرا في عديد من الدول، خاصة العربية، سواء في الفكاهة أو الأغاني، وهو ما يجعلها لهجة محببة ومقبولة لدى مختلف المجتمعات.
دعوة لتوثيق اللهجات المهددة بالاندثار
من جانبه، دعا الباحث في الأدب والتراث الشعبي، عادل حسوني العرداوي، إلى إنشاء مراكز بحثية متخصصة. تقوم بجولات استطلاعية في مختلف مناطق العراق، لتوثيق اللهجات التي كادت أن تنقرض من أفواه الناس، وذلك قبل فوات الأوان.
وأكد العرداوي -للجزيرة نت- أهمية هذه الخطوات. ومع قناعته بالحاجة لمثل هذه المبادرات، فإنه أعرب عن اعتقاده بأنه "لا توجد حاليا أرضية متوفرة لذلك"، مشيرا إلى "عدم فهم لأهمية تلك اللهجات الشعبية سواء في المناطق الحضرية أو القرى والأرياف".
هاشتاغز

جرب ميزات الذكاء الاصطناعي لدينا
اكتشف ما يمكن أن يفعله Daily8 AI من أجلك:
التعليقات
لا يوجد تعليقات بعد...
أخبار ذات صلة


الجزيرة
منذ 6 أيام
- الجزيرة
النباشون.. رحلة يومية بين النفايات بحثا عن الأمل
في قلب مدينة البصرة، حيث تزكم الأنوف برائحة النفايات المتصاعدة من أكوام القمامة الشاهقة، يعيش آلاف الأشخاص حياة قاسية ومؤلمة، هؤلاء الرجال والنساء والأطفال، الذين يطلق عليهم "النباشون"، يبحثون يوميا في أكوام القمامة عن أي شيء ذي قيمة، محاولين توفير لقمة العيش لعائلاتهم. تحت أشعة الشمس الحارقة وأمام أعين المارة، ينبشون في القمامة بأيديهم العارية، معرضين أنفسهم للأمراض والأخطار، ورغم الظروف الصعبة التي يعيشونها، فإنهم يواجهون أيضا مطاردات من الجهات الحكومية التي تحاول منعهم من حرق الأسلاك لاستخراج النحاس، مما يزيد من معاناتهم. النباشون النباشون هم الأشخاص الذين يعملون في جمع المواد القابلة لإعادة التدوير من النفايات، حيث يقومون بتفريغ حاويات القمامة والبحث بين القمامة عن مواد مثل الورق والكرتون والبلاستيك والحديد وغيرها، ثم يقومون ببيعها إلى مراكز إعادة التدوير. بين النفط والفقر زكية، أم لـ6 أطفال، تصف حياتها بأنها كابوس، قائلة: "نحن نعيش في مدينة غنية بالنفط، ولكننا نعاني من الفقر والجوع، مبينة خلال حديثها للجزيرة نت: "أخرج كل صباح بحثًا عن أي شيء يمكن بيعه لتوفير الطعام لأطفالي، ولكن راتبي اليومي الذي لا يتجاوز 20-30 ألف دينار (نحو 13-20 دولارا) لا يكفي حتى لشراء الخبز". أما جبار علي، وهو شاب ترك دراسته لمساعدة عائلته، فيقول: "نحن نعمل في ظروف صعبة للغاية، ونخرج للبحث عن أي شيء يمكن أن نبيعه"، مضيفا "نشعر بالإحباط واليأس، ولكن ماذا عسانا أن نفعل؟". يصف عباس أحمد، وهو والد لطفلين وأحد العاملين في جمع النفايات، ظروف عمله بأنها قاسية للغاية، ويقول: "نحن نعمل في ظروف بيئية سيئة للغاية، ونعرض أنفسنا للأمراض والأخطار". ويضيف أحمد للجزيرة نت: "نخرج كل يوم منذ الصباح الباكر، ونعمل حتى وقت متأخر من المساء، لنوفر قوت يومنا لأطفالنا". إجراءات حكومة البصرة للاطلاع على إجراءات الحكومة المحلية بالبصرة تجاه هذه العوائل، التقت الجزيرة نت عضو مجلس محافظة البصرة حيدر علي حسين المرياني، الذي أكد أن عديدا من هذه العائلات التي تعتمد على جمع النفايات تعيش تحت خط الفقر. وأوضح المرياني أن عديدا من تلك العوائل لم تتقدم بطلب للحصول على المساعدات الاجتماعية، بينما يجد آخرون أن تلك المساعدات لا تغطي احتياجاتهم المعيشية الأساسية، التي ارتفعت ارتفاعا كبيرا بسبب غلاء الأسعار والضرائب، مستدركا بالقول إن رواتب الرعاية الاجتماعية تتراوح ما بين 150-175 ألف دينار شهريا (نحو 100-117 دولارا) وإذا ما وصلت إلى 300 ألف دينار (نحو 200 دولار) فإنها لا تكفي أيضا لسد حاجة المواطن البسيط. وأضاف المرياني أن هؤلاء الأشخاص يتنقلون بين مناطق مختلفة في المحافظة، مما يجعل من الصعب حصرهم وتقديم المساعدات إليهم بشكل مباشر، مؤكدا أن أبوابهم مفتوحة لتقديم كل أشكال الدعم الممكن لهذه الفئة، بهدف تحسين أوضاعهم المعيشية وإنهاء هذه المعاناة التي لا تليق بأهل البصرة.


الجزيرة
٢٨-٠٦-٢٠٢٥
- الجزيرة
العراق يواجه خطر اندثار 500 لهجة محلية تعكس تنوعه الثقافي العريق
يواجه العراق اليوم تهديدا حقيقيا بحق تنوعه اللغوي، إذ تقترب عديد من لهجاته الأصيلة من حافة الاندثار، رغم ما تمثله من ركيزة أساسية في هويته الثقافية والتاريخية الغنية. ففي الثامن من يونيو/حزيران الجاري، أطلق المركز الإستراتيجي لحقوق الإنسان دعوة عاجلة لحماية نحو 500 لهجة محلية -رئيسية وفرعية- مهددة بالزوال، مشددا على أهمية الحفاظ على اللهجات المحلية باعتبارها جزءا لا يتجزأ من الموروث الشعبي والهوية الثقافية للمجتمع العراقي، التي تعكس تنوعه الحضاري واللغوي "العميق". وتشير التحديات الحالية إلى تراجع ملحوظ في استخدام هذه اللهجات وتوارثها بين الأجيال كما تواجه اليوم خطر الاندثار الفعلي، بسبب مجموعة من العوامل الاجتماعية، والسياسية، والديمغرافية، حسب ما يقوله الخبير التراثي جنيد عامر من الهيئة العامة للآثار والتراث العراقية. وأشار عامر خلال حديثه للجزيرة نت إلى عدة لهجات مهددة، تختلف درجة تعرضها للخطر، ومن أبرزها: اللهجة المندائية: يتحدث بها أبناء الطائفة الصابئية المنتشرة في ميسان وذي قار وبغداد. تأثرت هذه اللهجة بالآرامية، وهي مهددة بشدة بسبب قلة عدد المتحدثين، وهجرة الكثيرين، وعدم توارثها بين الأجيال الجديدة. اللهجة السريانية الحديثة: يستخدمها الآشوريون والسريان والكلدان في مناطق مثل سهل نينوى ودهوك. رغم أنها لا تزال حية نسبيا، فإنها مهددة بسبب النزوح والحروب، خاصة بعد اجتياح داعش، الذي أدى إلى تهجير جماعي للمتحدثين بها. اللهجة الشبكية: خاصة بجماعة الشبك في سهل نينوى، وتتأثر بلغات تركمانية وكردية. وتواجه ضغطا لغويا من العربية والكردية، مما يهدد خصوصيتها، خاصة مع اختلاط السكان بعد النزوح. اللهجة الفيلية (الكرد الفيلية): لهجة كردية مميزة مهددة جزئيا، نظرا لتهجير كثير من الكرد الفيلية قسريا، واعتماد نسبة كبيرة منهم على اللغة العربية في حياتهم اليومية. اللهجة الزنجبارية: لهجة نادرة جدا ومهددة للغاية، يتحدث بها بعض العوائل من أصول أفريقية في جنوب العراق، خاصة البصرة والزبير. اندمج معظم المتحدثين بها في المجتمع العربي المحيط، مما أدى إلى اختفائها تدريجيا. اللهجات البدوية الأصلية: في الأنبار والمثنى والنجف وجنوب بغداد (مثل لهجات شمر والدليم وعنزة) تواجه تهديدا تدريجيا بسبب التحضر وانتقال السكان للمدن، مما يؤدي إلى التخلي عنها لصالح اللهجات المدنية السائدة. إجمالا، يقدر عامر أن ما بين 6 إلى 8 لهجات في العراق مهددة بالزوال نهائيا ومئات أخرى بدأت تضعف تدريجيا، وتتراوح درجة التهديد من شبه الاندثار إلى الخطر المحتمل إذا لم تتخذ خطوات وثيقة للحفاظ عليها. التعليم حجر زاوية للحفاظ على التراث اللغوي ولمواجهة هذا التحدي، أكد عامر أهمية إدراج هذه اللهجات المهددة في المناهج التعليمية، في خطوة إستراتيجية للحفاظ على الهوية الثقافية واللغوية المتنوعة للعراق، مقترحا أن يتم ذلك ضمن مناهج الدراسات الثقافية والاجتماعية، وليس ضمن مقررات لغوية إلزامية، لتعزيز الفخر بالتعدد اللغوي بدلا من الشعور بالتفوق أو النقص. شدد عامر على أهمية الأساليب التعليمية التفاعلية، مثل القصص المصورة، والمسرح المدرسي، وإنتاج المحتوى السمعي والبصري (الأغاني الشعبية، الحكايات الفلكلورية، والرسوم المتحركة) باللهجات المحلية. كما أكد ضرورة تدريب المعلمين على عرض هذه اللهجات باحترام وتوازن. دور الحكومة محوري وضروري وشدد عامر على أن للحكومة العراقية دورا محوريا وأساسيا في دعم هذه المبادرة، معتبرا اللهجات جزءا من التراث اللامادي للعراق، داعيا إلى: الاعتراف الرسمي بهذه اللهجات باعتبارها جزءا من ثروة العراق اللغوية ومكونا من مكونات التنوع الثقافي، من خلال تشريعات دستورية أو قوانين خاصة. إنشاء مراكز متخصصة لأرشفة وتسجيل هذه اللهجات علميا بالصوت والصورة، بالتعاون مع الجامعات. تخصيص موازنات مالية لدعم الأنشطة المتعلقة بحماية اللهجات. دعم الإعلام الرسمي لبث برامج باللهجات المحلية وتعزيز مكانتها في الوعي العام. حماية المتحدثين من خلال سن قوانين تحظر التمييز أو السخرية من أي لهجة محلية. غياب الدراسات الرسمية الشاملة وكشف عامر عن غياب دراسة حكومية رسمية أو مسح وطني شامل في العراق يصنف اللهجات وفق معايير خطر الانقراض، مشيرا إلى أن معظم المعلومات المتوفرة تأتي من أبحاث أكاديمية فردية، ومساهمات منظمات ثقافية ودينية، وتقارير محدودة من اليونسكو، إضافة إلى مبادرات شخصية. وأشار إلى الحاجة الماسة لمشروع وطني مؤسسي شامل يتضمن مسحا لغويا شاملا، وتصنيفا علميا للهجات، وإنشاء قاعدة بيانات رقمية، وتحديد مستويات الخطر لربطها ببرامج توعية وتعليم وحماية. اللهجات العراقية في ظل العولمة الرقمية من جانبه، حذر الأكاديمي والباحث في التراث العراقي قاسم بلشان من التأثير الكبير والفعلي لوسائل التواصل الاجتماعي والتكنولوجيا الحديثة على دور وأصالة اللهجات العراقية. وقال بلشان للجزيرة نت إن غياب ثقافة حقيقية للحفاظ على هذه اللهجات يهدد جزءا أصيلا من الهوية العراقية، موضحا أن العراق، بتاريخه العريق وتنوعه الثقافي، يزخر بمئات اللهجات، لا سيما مع وجود أكثر من 18 محافظة، وكل مدينة -بل وحتى داخل المدينة الواحدة- تضم عشرات اللهجات الفرعية. وأضاف أن هذه اللهجات، سواء كانت رئيسية أو فرعية، لم تلق الاهتمام الكافي الذي يتناسب مع أهميتها كمرآة عاكسة لتاريخ الأجداد على مدى آلاف السنين، بل إن بعضها قد تكون "لهجات ميتة" تتغلغل في عمق التاريخ. وأكد الدور المحوري الذي يجب أن تضطلع به المراكز الثقافية ومؤسسات الدولة المختلفة، في حماية هذا التراث اللغوي، مشددا على ضرورة تنظيم المهرجانات وعقد ورش العمل للتعريف بهذه اللهجات المتنوعة. كما نبه إلى ظهور ما سماها "اللهجات الهجينة"، وهي لهجات تتأثر بمفردات من دول عربية وغير عربية، مما قد يؤدي إلى ضعف السيطرة على اللهجة العراقية الأصيلة والعريقة في ظل الانفتاح العالمي عبر وسائل التواصل الاجتماعي، داعيا إلى إيلاء اهتمام جاد للدراسات المتعمقة في هذا المجال للحفاظ على نقاء هذه اللهجات. وأكد بلشان أن حماية اللهجات العراقية في صميم تعزيز الهوية الوطنية العراقية والتنوع الثقافي للفرد العراقي، واصفا اللهجة العراقية بأنها "سهل ممتنع"، تتميز بخفتها وبلاغتها، مما أسهم في انتشارها الواسع مؤخرا في عديد من الدول، خاصة العربية، سواء في الفكاهة أو الأغاني، وهو ما يجعلها لهجة محببة ومقبولة لدى مختلف المجتمعات. دعوة لتوثيق اللهجات المهددة بالاندثار من جانبه، دعا الباحث في الأدب والتراث الشعبي، عادل حسوني العرداوي، إلى إنشاء مراكز بحثية متخصصة. تقوم بجولات استطلاعية في مختلف مناطق العراق، لتوثيق اللهجات التي كادت أن تنقرض من أفواه الناس، وذلك قبل فوات الأوان. وأكد العرداوي -للجزيرة نت- أهمية هذه الخطوات. ومع قناعته بالحاجة لمثل هذه المبادرات، فإنه أعرب عن اعتقاده بأنه "لا توجد حاليا أرضية متوفرة لذلك"، مشيرا إلى "عدم فهم لأهمية تلك اللهجات الشعبية سواء في المناطق الحضرية أو القرى والأرياف".


الجزيرة
١٦-٠٦-٢٠٢٥
- الجزيرة
قوارب تراثية تعود إلى أنهار البصرة لإحياء الموروث الملاحي العراقي
عادت الزوارق التراثية إلى مدينة البصرة جنوبي العراق، لتجوب مجددا أنهار البلاد، في إطار مبادرة محلية تحمل اسم "مشروع الموروث الملاحي"، تهدف إلى إحياء التراث الملاحي الذي ارتبط بحضارات وادي الرافدين منذ آلاف السنين. وقاد متطوعون وسكان محليون زوارق تقليدية مجددة باستخدام المجاديف، في استعراض مستوحى من تصاميم تعود إلى العصور السومرية والبابلية، ضمن فعاليات ثقافية تهدف إلى تسليط الضوء على هذا الإرث المنسي. وقالت هبة جودة، المتطوعة في نادي البصرة للموروث الملاحي، إن "هذا المكان اختير لإبراز أهمية القوارب الملاحية القديمة، وإعادة إحيائها بعد أن اندثرت منذ زمن بعيد. كانت هذه القوارب تستخدم وسائل نقل خلال الحقبتين السومرية والبابلية، لكننا لم نعد نراها اليوم. من هنا جاءت المبادرة لتعريف الناس بها مجددا وتعزيز الوعي بأشكال النقل القديمة". وقد أسس المشروع عام 2017 بهدف إعادة بناء نماذج من القوارب التي استخدمت في الحضارات العراقية القديمة، استنادا إلى مخطوطات ونصوص تاريخية تم توثيقها في عدد من المصادر المتحفية والبحثية. وتعرض بعض هذه النماذج التراثية في متحف البصرة الحضاري، المعروف سابقا باسم المتحف الوطني في المدينة، بينما تستخدم القوارب الأخرى التي تم ترميمها فعليا في أنشطة نادي الموروث الملاحي بالبصرة، حيث تتاح للراغبين في خوض تجربة الملاحة التراثية. عودة التراث إلى الحياة وعبّر المواطن البصري نوفل عبد الحسن عن فخره بهذا المشروع قائلا: "أنا -بوصفي مواطنا بصريا عراقيا- أفتخر برؤية مثل هذه المشاريع التراثية تعود إلى الحياة. بمجرد أن نصعد على زورق من نوع مشحوف، نشعر بسعادة غامرة، وكأننا نعيش في زمن السومريين. فهؤلاء كانت لهم حضارة عظيمة، والسومريون، والبابليون، والأكاديون هم جذورنا، وعلينا أن نعيد هذا التاريخ مجددا". وحتى اليوم، أنتج المشروع نحو 100 زورق تراثي في مختلف المحافظات العراقية، بدعم من عدة مؤسسات ثقافية دولية، منها صندوق الحفاظ على الموروث، والمجلس الثقافي البريطاني، والتحالف الدولي لحماية التراث في مناطق النزاع، وبتعاون وثيق مع مركز المخطوطات والتراث البصري. وقال الفنان التشكيلي العراقي رشاد نزار سليم، المشرف على المشروع: "القوارب في حضارات وادي الرافدين لعبت دورا لا يقل أهمية عن الزراعة في نشوء الحضارات، سواء في مجالات التجارة أو التواصل أو الحياة اليومية. لكن بفعل الحروب، اندثرت هذه القوارب وغابت عن الذاكرة الشعبية". وأضاف: "منذ عام 2017 بدأنا تسجيل ومعاينة ما تبقى من هذا الموروث، واكتشفنا أن هناك من لا يزالون يعملون في هذا المجال، أو ينحدرون من أسر عرفت بصناعة القوارب. وتمكنا من إعادة تصنيع عدد من الزوارق، أبرزها القوارب الداخلية المستخدمة في الأنهار، مثل الكفة الدائري الشكل، والمشحوف، والعسبية المشهور في مدينة هيت، الذي كان يستخدم لنقل مادة القير من محافظة الأنبار إلى جنوب العراق". القوارب في حضارات الرافدين من جهته، أوضح ماجد البريكان، مدير مركز المخطوطات والتراث البصري، أن "بعض أنواع القوارب المستخدمة اليوم تعود في جذورها إلى العهد السومري، لكنها اندثرت تدريجيا بمرور الزمن، في حين ظهرت أنواع أخرى لاحقا كانت شائعة في جنوب العراق، لكنها بدورها اختفت". وتابع قائلا: "من خلال هذه المبادرة، نحاول إحياء تلك القوارب أولا على شكل نماذج فنية مصغرة، ثم بأحجامها الطبيعية. على سبيل المثال، تظهر بعض الألواح السومرية أنواعا مختلفة من القوارب، من بينها المشحوف، وهو ما زال يستخدم حتى اليوم في مناطق الأهوار، وتحتفظ به بعض القبائل والعشائر الجنوبية التي طورت أنماطا خاصة بها في صناعته. لذا، نرى أنواعا متعددة من المشاحيف تنسب إلى أسماء تلك القبائل".