د. ليث القهيوي يكتب: إستراتيجية بلا سيمفونية
تتزاحم على المشهد الأردني في أوائل شهر تموز تصريحات مع قرارات حكومية كبرى بدت للسامع كأنّها مفاصل في خطة واحدة، لكنها تكشّفت سريعاً كقطعٍ تفتقر إلى خيط جامع. جاء تصريح وزير الاستثمار من سنغافورة، مُعلنًا أن المملكة بوابة لأسواق تتجاوز قيمتها خمسين تريليون دولار مستنداً إلى شبكة اتفاقيات تجارة حرّة مع القوى الكبرى، ومبشرًا بصناعات متقدمة كالرُقاقات الإلكترونية والأسمدة، في لحظة عالمية يتراجع فيها الاستثمار الأجنبي إلى أدنى مستوياته منذ أكثر من عقد. غير أن مثل هذا الخطاب، مهما بدت مفرداته واعدة، يصطدم بواقع لا يمكن تجاهله: فالمستثمر اليوم لا يُغريه حجم السوق بقدر ما يستوقفه مدى نجاعة البيئة التشريعية، وشفافية الإجراءات، وكفاءة التنفيذ، واستقرار القرار. الرسائل الطموحة لا تثمر في بيئة بيروقراطية خانقة، ولا تُقنع عقول المال في ظل فجوة معرفية وتردد في بناء الثقة. الاستثمار لا يُستجدى بالترويج فقط، بل يُنتزع بجدارة من خلال بنية مؤسسية ذكية تُشعر المستثمر أن رأس ماله لن يُستهلك في طوابير الموافقات، ولا يُحتجز في دوامة القرارات المرتبكة ونريد أن تترجم إلى واقع ملموس يلمسه المستثمر في كل تفصيلة من تفاصيل رحلته الاستثمارية.
وخرج وزير التعليم العالي على شاشة التلفزيون الرسمي ليعلن أن غالبية الجامعات الأردنية صُنّفت في المنطقة الحمراء على «مؤشر النزاهة البحثية»، كاشفاً عن عمليات اقتباس غير مشروع، وقواعد بيانات مزوّرة، ورسائل جامعية مدفوعة ترفع ترتيب المؤسسات في التصنيفات الدولية. غير أنّ الوزير استند إلى مقياس نزاهة غير واضح المعايير وغير معتمد لدى أي جهة أكاديمية دولية، ما جعل الإعلان نفسه موضع تساؤل عن دقته ومنهجيته. وبدلاً من طمأنة المستثمر بأنّ رأس المال البشري يخضع لتدقيق مستقل، زُرعت بذرة شك في قدرة الدولة على قياس ما تدّعي إصلاحه. التناقض الصارخ بين لغة وزير الاستثمار التي تروّج للكفاءات الرقمية وبين مؤشر نزاهة غير مُفسَّر أظهر فراغاً في التنسيق الإعلامي الداخلي، وكشف أن الوزارات تعزف كلٌّ بنغمتها من دون ضابط إيقاع.
أما قرار مجلس الوزراء بحلّ جميع المجالس البلدية ومجالس المحافظات قبل انتهاء مدتها، وتسليم إدارتها إلى لجان مؤقتة غير منتخبة، دون الإعلان عن أي معايير شفافة لاختيار أعضائها، فأثار تساؤلات جوهرية حول مدى انسجام هذا التوجه مع المرحلة الإصلاحية المُعلنة. ففي الوقت الذي يُفترض فيه تعزيز المشاركة الشعبية، وترسيخ مبادئ المساءلة والديمقراطية المحلية، يبدو أن القرار يتجه نحو تقويض التمثيل الشعبي بدلًا من تطويره، وتكريس المركزية بدلًا من تفكيكها، الأمر الذي يفتح الباب أمام مخاوف مشروعة من تحوّل الإصلاح إلى غطاء لإعادة إنتاج أدوات الإدارة التقليدية دون مراجعة جوهرية أو إشراك حقيقي للمجتمع المحلي، الحكومة برّرت الخطوة بدينٍ بلدي يتجاوز ستمائة مليون دينار، وضعف تحصيلٍ ضريبي، وأداء خدمي متدنٍّ أضعف الثقة الشعبية وعرقل معاملات الاستثمار العقاري والصناعي. من الناحية التقنية، تحل هذه الخطوة عقداً متراكمـة من البيروقراطية وتفتح المجال لتوحيد مسار الرخص وتبسيط الإجراءات التي يشكو منها رجال الأعمال منذ سنوات، لكن توقيتها في ذروة حملة تسويق دولية يرى فيها المستثمرون عمّان منصة إقليمية أثار تساؤلات حول الفراغ الإداري المؤقت: ما الضمانة أن تسلّم اللجان المؤقتة رخص البناء والتطوير في وقت يتيح للمشروعات التكنولوجية التقاط نافذة الطلب العالمي؟
عند تفكيك اللحظة يتضح أنّ الأردن يقف أمام فرصة مزدوجة وخطر مزدوج معاً، إذا أمكن تحويل تصريح الاستثمار إلى اتفاقيات ملزمة تدخل حيز التنفيذ بسرعة، وربط تمويل الجامعات بمعايير نزاهة مُعلنة تخضع لتدقيق خارجي، وإطلاق نافذة تراخيص إلكترونية موحدة تدار من مركز خدمة واحد يحل مؤقتاً مكان المجالس المنحلة، فإن الدولة ستحوّل تضارب الرسائل إلى تدرّج مدروس يثبت للمواطن ولرأس المال العالمي أن الصراحة مقدمة لفعل، لا مجرد تشخيص. أما إذا بقي المقياس العلمي غامضاً، وتأخرت اللجان المؤقتة في خدمة المستثمر والمواطن، وبقيت أرقام الخمسين تريليوناً على صفحات العروض الترويجية بلا قصص نجاح ميدانية، فسينتقل الشك من الألسن إلى منحنى الاستثمار الفعلي ويصبح كل تصريح بذاته عبئاً على الثقة الوطنية.
ما ينقص اللحظة ليس الجرأة على الاعتراف بالمشكلات ولا الطموح إلى صناعة المستقبل، بل منظومة قيادة تنسج الخيوط في رواية واحدة، وتوزع الأدوار بحيث يعرف الشارع والمستثمر من يجيب عن ماذا. فالصورة التي تصل الآن إلى الداخل والخارج هي أنّ رئيس الوزراء يتحرك، على الأغلب، بمفرده يملأ فراغ المنابر بينما يظل معظم الطاقم الوزاري بعيداً عن الميدان، الأمر الذي يوسع الفجوة بين طموح التصريحات وحاجات التنفيذ اليومية. إن لم تتدارك الحكومة هذا الخلل بتفعيل فريق عمل يظهر كتلة متماسكة أمام الجمهور، ستبقى سيمفونية الإصلاح مبعثرة الأنغام مهما علت نبرة كل عازف على حدة.

جرب ميزات الذكاء الاصطناعي لدينا
اكتشف ما يمكن أن يفعله Daily8 AI من أجلك:
التعليقات
لا يوجد تعليقات بعد...
أخبار ذات صلة


رؤيا
منذ 2 ساعات
- رؤيا
هل ترتفع أسعار الذهب إلى 4000 دولار للأوقية ؟
توقعات بارتفاع أسعار الذهب إلى 4000 دولار للأوقية أصدر بنك الاستثمار الأمريكي العملاق "غولدمان ساكس" مذكرة بحثية أثارت اهتمام الأسواق العالمية، متوقعاً فيها أن يصل سعر أوقية الذهب إلى مستوى تاريخي عند 4,000 دولار بحلول منتصف عام 2026. وتأتي هذه النظرة شديدة التفاؤل في وقت يحوم فيه سعر الأوقية حالياً حول 3,360 دولاراً. وفي توقعاته المرحلية، رجح البنك وصول سعر المعدن الأصفر إلى 3,700 دولار للأونصة مع نهاية العام القادم 2025، مدفوعاً بمجموعة من العوامل القوية التي تدعم هذا المسار الصعودي. شهية البنوك المركزية المفتوحة يأتي في صدارة العوامل التي استند إليها "غولدمان ساكس" الطلب الهائل والمستمر من قبل البنوك المركزية حول العالم. وكشفت المذكرة أن البنوك المركزية والمؤسسات الكبرى قامت بشراء ما متوسطه 77 طناً من الذهب شهرياً خلال الفترة ما بين يناير ومايو من العام الحالي 2025. وسلط التقرير الضوء على أن الصين كانت أكبر المشترين في شهر مايو، حيث أضافت 15 طناً إلى احتياطياتها، وهو ما يؤكد استمرار التوجه العالمي نحو تنويع الاحتياطيات بعيداً عن الدولار الأمريكي وتعزيز حيازة الذهب كأصل استراتيجي آمن. صناديق الاستثمار تستعد لجولة جديدة العامل الرئيسي الثاني الذي يدعم هذه التوقعات هو وضع صناديق الاستثمار. فقد أشار البنك إلى أن صافي مراكز الشراء في صناديق الاستثمار المتداولة (ETFs) قد تراجع عن المستويات القياسية التي سجلها في أبريل الماضي. ويفسر "غولدمان ساكس" هذا التراجع بأنه مؤشر إيجابي، حيث يتيح مجالاً أكبر لمزيد من عمليات الشراء المستدامة في المستقبل، سواء من قبل هذه الصناديق أو البنوك المركزية، دون الخوف من وجود تضخم في مراكز الشراء قد يؤدي إلى عمليات بيع لجني الأرباح. وتأتي هذه التوقعات في ظل مناخ اقتصادي عالمي يتسم بالتوترات الجيوسياسية والسياسات التجارية غير المستقرة، مما يعزز من جاذبية الذهب كملاذ آمن رئيسي للمستثمرين والمؤسسات على حد سواء، ويدعم الرؤية القائلة بأن المعدن الثمين مقبل على موجة صعودية قد تكون الأبرز في تاريخه الحديث.


رؤيا
منذ 2 ساعات
- رؤيا
التضخم في أمريكا يتسارع في يونيو مع بدء ظهور تأثير الرسوم الجمركية
أسعار المستهلكين ترتفع في أمريكا.. التضخم السنوي يصل إلى 2.7% تقرير رسمي: التضخم الأمريكي يسجل تسارعاً ملحوظاً في يونيو أظهرت البيانات الرسمية الصادرة ، الثلاثاء ارتفاعاً في أسعار المستهلكين بالولايات المتحدة خلال شهر يونيو، في مؤشر على أن الضغوط التضخمية بدأت تكتسب زخماً، وهو ما يعزوه محللون بشكل متزايد إلى بدء تسلل تأثير الرسوم الجمركية التي فرضتها إدارة الرئيس دونالد ترامب إلى أسعار السلع النهائية. اقرأ أيضاً: ارتفاع مؤشرات الأسهم الأميركية وتراجع سعر النفط إلى 67.05 دولار وكشف تقرير مكتب إحصاءات العمل الأمريكي أن مؤشر أسعار المستهلكين (CPI) الرئيسي ارتفع بنسبة 2.7% على أساس سنوي في يونيو، مسجلاً تسارعاً ملحوظاً من نسبة 2.4% المسجلة في مايو. وجاء هذا الارتفاع أعلى بقليل من توقعات الاقتصاديين الذين استطلعت آراؤهم وكالات الأنباء، والذين كانوا يتوقعون زيادة بنسبة 2.6%. وعلى أساس شهري، ارتفعت الأسعار بنسبة 0.3% مقارنة بزيادة بلغت 0.1% في الشهر السابق، لتتوافق مع التقديرات. ويُعزى هذا التسارع في جزء منه إلى ارتفاع أسعار البنزين التي زادت بنسبة 1.0% خلال الشهر. أما مؤشر التضخم الأساسي، الذي يستثني أسعار الغذاء والطاقة المتقلبة ويراقبه الاقتصاديون ومجلس الاحتياطي الفيدرالي عن كثب كمؤشر للضغوط السعرية الكامنة، فقد ارتفع بنسبة 2.9% على أساس سنوي، مقارنة بـ 2.8% في مايو. وعلى أساس شهري، سجل المؤشر الأساسي زيادة بنسبة 0.2%. وكانت توقعات المحللين تشير إلى أن التضخم الأساسي قد يسجل 3.0% سنوياً و 0.3% شهرياً، مما يجعل الأرقام الفعلية أقل بقليل من المتوقع على هذا الصعيد، ولكنه لا يزال يظهر اتجاهاً تصاعدياً ثابتاً. الرسوم الجمركية في دائرة الضوء يراقب المستثمرون والأسواق عن كثب أي دليل على أن الرسوم الجمركية الواسعة التي فرضها الرئيس ترامب بدأت تؤثر على جيوب المستهلكين. وقد بدأت تقارير اقتصادية وتحليلات تشير إلى أن أسعار سلع مثل الأثاث والملابس والأجهزة المنزلية تشهد ارتفاعات ملحوظة. ويضع هذا التسارع في التضخم تحدياً أمام مجلس الاحتياطي الفيدرالي في وقت تتزايد فيه الضغوط السياسية لخفض أسعار الفائدة.


السوسنة
منذ 3 ساعات
- السوسنة
معركة الوعي الاقتصادي
في صمت المجتمعات، حيث تبدو الحياة طبيعية، تدور أعمق المعارك وأكثرها تأثيرًا: معركة بين ثقافتين. الأولى تُنتج وتزرع وتصنع، والثانية تستهلك وتستورد وتنتظر. هذه ليست معركة بين الفقر والغنى، بل بين نمطين ذهنيين، ومشروعين متضادين لبناء المستقبل. وللأسف، تميل كفّة الميزان في العالم العربي منذ عقود إلى ثقافة الاستهلاك، التي تسللت إلى عمق الوعي، حتى أصبحت نمط حياة مقبولًا، بل ومطلوبًا.إن الثقافة الإنتاجية لا تبدأ من المصانع، بل من العقل. من فكرة أن العمل والإنتاج ليسا مجرد وسيلة لكسب المال، بل تعبير عن الكرامة والفاعلية والوجود. بينما ثقافة الاستهلاك تُربّي الفرد على أن الحلول تأتي من الخارج، وأن القيمة تكمن فيما نشتريه لا فيما نُنتجه، وأن السوق أهم من المزرعة، والمتجر أسبق من المصنع.تشير إحصائيات المنظمة العربية للتنمية الزراعية إلى أن مساهمة الزراعة في الناتج المحلي الإجمالي للدول العربية انخفضت من 12.7% في عام 1995 إلى أقل من 5% في عام 2022، بينما تقل مساهمة الصناعة التحويلية عن 10% في العديد من الدول العربية، في مقابل نمو القطاعات الخدمية والاستهلاكية. هذا الانحدار ليس رقميًا فقط، بل ثقافي أيضًا، يعكس نمطًا عميقًا من إهمال الإنتاج وتقديس الاستهلاك.في الأردن، تشير بيانات التجارة الخارجية لعام 2023 إلى أن العجز التجاري تجاوز 10 مليارات دولار، بسبب استيراد ضخم للمواد الغذائية والسلع المصنعة، مقابل تصدير محدود. وهذا يُضعف الأمن الاقتصادي، ويجعل الدورة المالية الوطنية ناقصة وغير مستدامة.لكن الصورة ليست سوداء بالكامل. فهناك نماذج أردنية مشرقة تثبت أن الإنتاج المحلي قادر على المنافسة، إذا توفرت له البيئة المناسبة. من هذه النماذج: شركة "جنة التمور الأردنية"، التي بدأت كمشروع زراعي بسيط في وادي الأردن، واستطاعت خلال أقل من عقد أن تصبح من أبرز شركات تصدير التمور العضوية عالية الجودة إلى أوروبا وآسيا. اعتمدت الشركة على العمالة المحلية، والتقنيات الحديثة في الزراعة والتغليف، وربطت المنتج الأردني بالأسواق العالمية دون وسطاء.مثل هذه التجارب تثبت أن العودة إلى الإنتاج ليست حلمًا طوباويًا، بل خيار استراتيجي ممكن، إذا أعيد الاعتبار لقيمة العمل والإنتاج، وإذا ما توفرت سياسات ذكية في التمويل والتصدير والدعم.لكن المشكلة لا تقتصر على السياسات الاقتصادية، بل تمتد إلى التعليم، والإعلام، والثقافة العامة. الإعلام العربي، في مجمله، يُكرّس ثقافة "البرستيج الاستهلاكي"، ويُروّج للنموذج الغربي في الاستهلاك دون نقد. التعليم يفصل الطالب عن المهارات الحقيقية للإنتاج، ويُهيّئه لسوق وظيفة لا مكان فيها للابتكار الصناعي أو الريادة الزراعية.نحتاج إلى خطاب جديد يُعيد الاعتبار للمزارع، للحرفي، للعامل، ويمنحهم المكانة التي يستحقونها. نحتاج إلى أنظمة تعليمية تُربّي على الاكتفاء لا التبعية، وعلى الابتكار لا التقليد، وعلى احترام القيمة المنتَجة لا المستورَدة.ولنا في تجارب دول مثل فيتنام وتركيا عبرة؛ حيث استطاعت فيتنام أن تتحول من مستورد إلى مُصدّر عالمي خلال 30 عامًا فقط، من خلال بناء قاعدة إنتاجية مرنة، واستثمار واسع في التعليم الفني، والتشبيك مع الأسواق الكبرى دون التنازل عن الذات الوطنية.ما تحتاجه الدول العربية ليس فقط إصلاحًا اقتصاديًا، بل إصلاحًا في الوعي الجمعي. نحتاج إلى إعلام يُقدّر المنتج المحلي، إلى تعليم يُعيد الاعتبار للحرف والمهن، إلى قوانين تمنح الأولوية في الشراء والتعاقد والإنتاج للداخل، لا للخارج.إنها معركة طويلة، لكن لا يمكن لأي مشروع نهضوي أن يقوم على التبعية. فالثروة التي تُستهلك لا تصنع مستقبلًا، لكن الثروة التي تُنتج تصنع الإنسان وتبني الوطن.