logo
نهاية قطاع المساعدات الدولية

نهاية قطاع المساعدات الدولية

Independent عربية٠٨-٠٥-٢٠٢٥

كل عقد تقريباً يضطر قطاع المساعدات الدولية إلى التحول من أجل البقاء، وخلال فترات التغيير هذه تعيد الدول المانحة هيكلة وكالاتها المعنية بتقديم المساعدات، وتقلص أو توسع موازنات المعونات، وتضغط من أجل إنشاء أو إلغاء مبادرة أو مبادرتين للأمم المتحدة.
وعادة فبمجرد أن يتوافق قطاع المساعدات مع أهواء الدول المانحة تمر الأزمة بسلام وتستمر الأمور كالمعتاد، ومنذ أن بدأ الرئيس الأميركي دونالد ترمب ولايته الثانية، وجد قطاع المساعدات نفسه عند نقطة تحول أخرى، فقد فككت إدارة ترمب "الوكالة الأميركية للتنمية الدولية"، أكبر وكالة تنموية في العالم، وأنهت 86 في المئة من برامجها وأغلقت مقرها الرئيس وأنهت خدمات جميع موظفيها البالغ عددهم 10 آلاف موظف تقريباً، وفي الوقت نفسه خفضت إدارة ترمب التمويل لمختلف المبادرات المتعددة الأطراف في شأن المناخ والصحة العالمية والتعليم.
ومع ذلك تختلف أزمة اليوم عن سابقاتها، فقد تكون هذه نهاية المساعدات الخارجية كما نعرفها، فعلى مدى عقود كانت التنمية الدولية، أي محاولة تحسين حياة الفقراء وإنقاذ أرواحهم، مدفوعة في الغالب بالمساعدات الخارجية التي تقدمها الحكومات الغنية، وبعض الباحثين والمحللين يسخرون من هذه العملية باعتبارها "مجمع المساعدات الصناعي" [عبارة مستوحاة من "المجمع الصناعي العسكري" وتشير إلى منظومة راسخة من المنظمات التي تعتمد اقتصادياً ومهنياً على استمرار وجود المساعدات الخارجية وتوسعها]، لكن حتى مؤيدو المساعدات الخارجية أصبحوا ينظرون إليها كصناعة، بما في ذلك في جهودهم لإصلاحها، متعاملين مع عيوبها على أنها مشكلات في كفاءة الأعمال، والآن بعد أن تحولت الحكومات في كثير من الدول الغنية بصورة حادة حاد نحو اليمين، واتخذت مواقف أكثر تشككاً في شأن المساعدات، فإن هذه الصناعة تنهار، ونتيجة لذلك سيفقد كثير من العاملين في الجمعيات الخيرية والباحثين والأكاديميين وظائفهم، والأهم من ذلك سيعاني ملايين الفقراء حول العالم.
والآن يواجه أنصار التنمية الدولية خياراً، إما انتظار تغير موقف الدول المانحة لتعود لدعم المساعدات الخارجية في مرحلة ما في المستقبل البعيد، أو إعادة تصور مفهوم التنمية الدولية برمته من خلال فصله عن المساعدات وربطه بدلاً من ذلك بالتحول الصناعي، أي مساعدة الدول على التحول من زراعة الكفاف والعمالة غير الرسمية وإنتاج السلع الأولية إلى التصنيع والخدمات.
في الحقيقة كان قطاع المساعدات تائهاً بالفعل، فقد أصبحت تدخلاته مشتتة للغاية، وغالباً ما فشلت في معالجة العقبات الرئيسة التي واجهتها الدول الفقيرة في سعيها إلى تطوير مهارات عمالها وبناء البنية التحتية للطاقة والنقل، والوصول إلى أسواق جديدة، إذ إن انتشال الناس من براثن الفقر في أفريقيا وجنوب آسيا وأجزاء من أميركا اللاتينية لن يُحسن حياتهم وحسب، بل سيسمح أيضاً للدول الغنية بالحفاظ على ازدهارها من خلال خلق أسواق جديدة، وقد أثبت التحول الصناعي جدارته في تحسين الاقتصادات، وإذا لم يعمل أنصار التنمية الدولية على إعادة التفكير في أساليبها وتكييفها بما يتماشى مع العصر، فإنها ستفقد أهميتها بالنسبة إلى الدول الغنية والفقيرة على حد سواء.
المساعدة والتحريض
السلعة الأساس في صناعة المساعدات الخارجية هي المساعدات الإنمائية الرسمية (ODA)، أي الأموال المتدفقة من الجهات المانحة إلى الحكومات أو الأفراد أو المجموعات في الأماكن الأكثر فقراً، إما بصورة مباشر، مثل دعم موازنة الحكومات المتعثرة، أو من خلال المشاريع التي تديرها منظمات مثل "أنقذوا الأطفال" Save the Children و"أوكسفام" Oxfam و"أف إتش آي 360" FHI 360، وتعتبر الحكومات في الدول الغنية المصدر الرئيس للمساعدات الإنمائية الرسمية، ووفقاً لـ "منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية" (OECD)، ففي عام 2023 أنفقت الحكومات 230 مليار دولار على المساعدات التنموية، مقارنة بـ 11 مليار دولار أنفقتها المؤسسات الخاصة، ومثل أية صناعة فإن مجال المساعدات الخارجية له وسطاء، ولكن في هذه الصناعة يكون دور الوسطاء واضحاً بخاصة، فالكيانات الخارجية [الوسيطة] المعروفة باسم "الشركاء المنفذين" تشمل منظمات غير حكومية دولية ومقاولين مهمين من القطاع الخاص وشركات استشارية كبرى، وإذا أرادت حكومة الولايات المتحدة مثلاً توزيع الأسمدة على صغار المزارعين في بنغلاديش، فقد تتعاقد مع شركة "كيمونكس" Chemonics، وهي شركة مقاولات تنموية مقرها الولايات المتحدة، لتنفيذ المشروع، وفي الواقع حصلت شركة "كيمونكس" عام 2023 على أكبر حصة من تمويل الوكالة الأميركية للتنمية الدولية (USAID) من بين جميع المتعاقدين مع الوكالة، إذ حصلت على أكثر من مليار دولار، ومن أجل
,lالاستفادة من تأثيرات الشبكة ووفورات الحجم [خفض الكُلف من خلال زيادة العمليات أو الإنتاج أو المعروض]، يتجمع الشركاء المنفذون حول المواقع الرئيسة لإنتاج المساعدات الخارجية، أي عواصم الدول المانحة الرئيسة، برلين وجنيف ولندن وباريس وروما وواشنطن، ونتيجة لذلك توزّع نسبة ضئيلة جداً من المساعدات من خلال منظمات أو أفراد في البلدان الفقيرة.
في عام 2020 تولت حكومات البلدان المستفيدة، أو الشركات القائمة في تلك البلدان، إدارة أقل من تسعة في المئة من المساعدات الأميركية، وفقاً لتشارلز كيني وسكوت موريس، الباحثين في مركز التنمية الدولية، فكثيراً ما وفر الوجود البارز للوسطاء المقيمين في الدول الغنية مادة خصبة للمنتقدين الذين يزعمون أن صناعة المساعدات تعمل بصورة غير فعالة أو حتى بصورة غير عادلة، وهناك بعض الحقيقة في هذا النقد، ووفقاً لتحليل أجرته "ديفكس" Devex، وهي مؤسسة إخبارية، فإن 47 من أكبر 50 متعاقداً مع "الوكالة الأميركية للتنمية الدولية" يتركزون في الولايات المتحدة.
ركزت الجهود السابقة لتصحيح التشوهات في قطاع المساعدات الخارجية على محاولة الحد من الهدر وزيادة نسبة أموال المساعدات التي تصل إلى المستفيدين، فوقّعت 90 دولة على "إعلان باريس" لعام 2005 في شأن فاعلية المساعدات، وهو اتفاق شجع على إجراء إصلاحات مثل مواءمة أهداف الجهات المانحة مع أولويات الدول المستفيدة، وتنسيق مختلف التدخلات التنموية، وإشراك مزيد من الشركاء على أرض الواقع، وقد سعى مدير "الوكالة الأميركية للتنمية الدولية" خلال إدارة ترمب الأولى، مارك غرين، إلى تقليل اعتماد الدول المستفيدة على المساعدات الخارجية من خلال بناء قدراتها على التخطيط والتمويل وإدارة عملية تنميتها بنفسها، أما خليفة غرين، سامانثا باور، فقد سعت إلى زيادة نسبة التمويل الذي تديره المنظمات المحلية الموجودة في الدول المستفيدة إلى 25 في المئة بحلول عام 2025.
لقد تغير الإجماع حول مقدار ما يجب أن تنفقه الدول الغنية على المساعدات وما ينبغي أن تعطيه الأولوية بمرور الوقت، وقرار للأمم المتحدة عام 1970 كان قد أوصى بأن تخصص الدول 0.7 في المئة من دخلها القومي الإجمالي للمساعدات الإنمائية الرسمية، ولكن اعتباراً من عام 2023 لم تحقق هذا الهدف سوى خمس دول فقط وهي الدنمارك وألمانيا ولوكسمبورغ والنروج والسويد.
وفي الولايات المتحدة حافظت الإدارات الديمقراطية والجمهورية المتعاقبة على التزام واسع النطاق بالمساعدات الخارجية، على رغم احتدام الجدل أيضاً حتى داخل الصناعة نفسها، حول الهدف المناسب للمساعدات، ومنذ عام 2000، عندما وافقت 189 دولة على الأهداف الإنمائية للألفية التي وضعتها الأمم المتحدة، كان الهدف الرئيس للصناعة هو الحد من الفقر، وبعد توقيع "اتفاق باريس" عام 2015، تبنت حكومات عدة فكرة أنه يجب توجيه المساعدات أيضاً لمكافحة تغير المناخ.
أزمة الإمدادات
لكن خلف هذه النقاشات الأخيرة كانت هناك تحولات جذرية في السياسات والمعايير العامة التي سمحت لهذه الصناعة بالبقاء، فإذا نُظر إلى المساعدات على أنها شكل من أشكال العمل الخيري فإن الدول الغنية تبدو جهة مانحة، والدول الفقيرة جهة مستفيدة، أما إذا نُظر إلى المساعدات كصناعة فإن الدول الغنية تظهر كبائعة والدول الفقيرة تظهر كمشترية، فمن خلال مساعداتها التنموية تقدم الدول الغنية مجموعة من المشاريع والمعايير المؤسسية لتحقيق مجموعة من النتائج المتوقعة، مثل تحسين الظروف المادية في البلدان النامية، مما سيعزز في النهاية اقتصاداتها وأمنها، أو، في حال الفشل، يمنح الدول الغنية في الأقل شعوراً بأنها حاولت إحداث فرق. أما دور الدول الفقيرة فهو استهلاك هذه المشاريع التنموية على أمل تحقيق النتائج المرجوة، أو، في حال الفشل، ففي الأقل الشعور بإمكان تحقيقها يوماً ما.
غير أن هذه السوق تشهد اليوم أزمة عرض غير مسبوقة، ففي أنحاء العالم أصبح الناس والساسة في الدول الغنية التي طالما آمنت بقيمة تقديم المساعدات يشككون في جدواها، ولقد شهدت صناعة المساعدات على مدى عقود دورات من الانتعاش والركود نتيجة تحولات في السياسات الداخلية في الدول المانحة، لكن ما يميز الوضع هذه المرة هو السخط المتزايد من النموذج الاقتصادي السائد ونمط المساعدات المرتبط به، فمنذ الأزمة المالية العالمية عام 2008 شهدت دول مانحة كثيرة ركوداً اقتصادياً وتباطؤاً في نمو الإنتاجية، وتراجعاً في القدرة التنافسية واتساعاً في الفجوة الطبقية [بين الأغنياء والفقراء]، وبدأ مواطنو الدول الغنية الذين لم يعودوا يشعرون بالأمان الاقتصادي يطرحون تساؤلات: لماذا تخصص الأموال العامة النادرة لقضايا خارجية بينما توجد حاجات ملحة في الداخل؟

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وهذا الشك لا يقتصر على إدارة ترمب، فالولايات المتحدة ليست الدولة المانحة الوحيدة التي خفضت مساعداتها الخارجية، ففي عام 2024 قررت ثماني من أكبر 10 دول مانحة ضمن "لجنة المساعدات الإنمائية" التابعة لـ "منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية" خفض موازناتها المخصصة للمساعدات الخارجية، وأعلنت نيتها مواءمة برامج التنمية الدولية بما يتماشى مع مصالحها الوطنية، مثل اشتراط أن تستخدم المشاريع التنموية سلعاً وخدمات منتجة في الدول المانحة، وفي عام 2024 أعلنت ألمانيا، ثاني أكبر مانح للمساعدات الثنائية في العالم [المساعدات التي تقدم مباشرة من دولة مانحة إلى دولة متلقية]، خفضاً بمقدار 5.3 مليار دولار في موازنة المساعدات الخارجية، وفي فبراير (شباط) أعلنت المملكة المتحدة خفضاً بنسبة 40 في المئة في موازنة مساعداتها بهدف التركيز على الإنفاق الدفاعي، وفي مارس (آذار) 2025 صرحت هولندا أنها ستخفض 37 في المئة من مساعداتها الثنائية خلال خمسة أعوام، وستقلص مساهماتها المالية لبعض وكالات الأمم المتحدة.
ويرى كثير من الناخبين اليمينيين في الدول الغنية الآن أن المساعدات الخارجية هي إهدار للمال، وتركز بصورة مفرطة على تعزيز قضايا يعتبرونها مرتبطة باليسار، مثل العمل المناخي أو المساواة بين الجنسين أو دعم الديمقراطية، وإضافة إلى ذلك أصبح الناخبون أكثر تشككاً تجاه التكنوقراط وخبراء السياسات والأكاديميين المؤيدين للمساعدات الخارجية، ونتيجة لذلك فحتى السياسيون المنتمون لليسار، مثل حكومة حزب العمال في المملكة المتحدة، أصبحوا يقلصون المساعدات استجابة للرأي العام. ووفقاً لاستطلاع رأي أجرته مؤسسة "يوغوف" YouGov في فبراير 2025، فإن 65 في المئة من البريطانيين يؤيدون زيادة الإنفاق الدفاعي على حساب المساعدات الخارجية.
نزف مستمر
إن سرعة وحجم التغييرات في السياسات يجعلان من الأزمة التي تواجهها صناعة المساعدات مسألة وجودية، فالحكومات المانحة تدمر بسرعة سوق الجهات الفاعلة في هذه الصناعة بطرق لا رجعة فيها، وفي يناير (كانون الثاني) الماضي أصدر ترمب أمراً تنفيذياً يقضي بتجميد جميع المساعدات الخارجية الأميركية، بذريعة إتاحة المجال أمام وزير الخارجية لمراجعتها والتأكد من أنها تتماشى مع المصالح الأميركية، وفي غضون أسابيع من صدور هذا الأمر توقفت "الوكالة الأميركية للتنمية الدولية" (USAID)، أكبر وكالة تنمية ثنائية في العالم، عن العمل فعلياً، وأدى تدميرها إلى سلسلة من التداعيات الكارثية المتتالية، فبدأت عشرات المنظمات غير الحكومية الصغيرة والمتوسطة الحجم تغلق أبوابها، أما المنظمات الكبرى التي كانت تنفذ مشاريع لمصلحة "الوكالة الأميركية للتنمية الدولية" مثل "أف إتش آي 360" و"كيمونكس" و"دي آي إيه غلوبال" DAI Global، فقد أوقفت برامجها في بعض البلدان، وأعلنت إغلاق مكاتب ميدانية وسرحت مئات الموظفين حول العالم، وبدورها تعاني المنظمات المتعددة الأطراف من خفض المساعدات الأميركية، فوكالات الأمم المتحدة مثل "المنظمة الدولية للهجرة" و"برنامج الأمم المتحدة المشترك المعني بفيروس نقص المناعة البشرية" (الإيدز) و"المفوضية السامية للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين" و"منظمة الصحة العالمية"، تعتمد على الولايات المتحدة في تمويل يتراوح ما بين 20 و 40 في المئة، وقد اضطرت إلى تقليص حجم عملياتها أيضاً.
ومن المرجح أن تتفاقم هذه الأزمة بسبب خفض التمويل المخصص للجامعات، فقد ألغت إدارة ترمب أو جمدت منحاً بحثية بمئات مليارات الدولارات كانت مخصصة لجامعات أميركية مرموقة مثل "كولومبيا" و"جونز هوبكنز" و"برينستون"، وستؤدي هذه الخفوضات إلى تقليل عدد الشباب المحترفين المدربين في مجالات التنمية، وإنهاء المشاريع التي تقيم تأثير المساعدات، وإضعاف الذاكرة المؤسسية [فقدان المؤسسات لخبرتها] المتعلقة بطريقة تصميم مشاريع المساعدات وتنفيذها وتقييمها، كما قد تنهار مجالات أكاديمية وتوعوية كاملة مثل الصحة العالمية والعمل المناخي والمساواة بين الجنسين وتعزيز الديمقراطية.
وقد بدأت الآثار القصيرة الأجل لانهيار صناعة المساعدات تظهر بالفعل، لكن العواقب الطويلة الأجل لا تزال مجهولة، فالمساعدات الخارجية تمثل نسبة كبيرة من الدخل القومي الإجمالي لنحو 25 دولة من بينها بوروندي وليبيريا وملاوي وناورو والصومال وجنوب السودان واليمن، وقد شهدت هذه الدول إنهاء برامج حيوية في مجالي التعليم والصحة، ومن غير المرجح أن يتمكن المانحون من القطاع الخاص من سد هذه الفجوة، إذ إن العمل الخيري الخاص يشكل أقل من 10 في المئة من تدفقات المساعدات الخارجية السنوية التي تتابعها "منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية"، وعلاوة على ذلك فإن المانحين الأميركيين، سواء كانوا من الأفراد أو الشركات، والذين يشكلون أكثر من نصف الجهات المانحة الخاصة في العالم البالغ عددها 40، قد يتراجعون عن تقديم الدعم خشية التعرض لردود فعل انتقامية من الحكومة الأميركية.
الثراء السريع
تحول قطاع المساعدات الخارجية بسرعة إلى قطاع آيل للأفول، لكن هذا لا يعني أن على الدول الغنية التخلي كلياً عن محاربة الفقر، فمن مصلحة الدول الثرية تقليل ضغوط الهجرة من خلال تحسين اقتصادات واستقرار دول أفريقيا وأميركا اللاتينية وجنوب آسيا، ولهذا يجب على الخبراء في السياسات والمثقفين والناشطين والمحسنين والعاملين في المجال الإنساني إنقاذ التنمية الدولية من خلال فصلها عن قطاع المساعدات وربطها بإستراتيجية التحول الصناعي، وفي الواقع تصبح الدولة صناعية عندما تتبنى التكنولوجيا التي تتيح لها المكننة والرقمنة، مما يؤدي إلى زيادة الإنتاج ومهارات القوى العاملة، وفي نهاية المطاف ينتقل عمال الدول الصناعية من زراعة الكفاف إلى مجالات ذات إنتاجية أعلى مثل الإلكترونيات والأدوية والتقنيات الخضراء والخدمات الرقمية، وترتبط زيادة الدخل والتوظيف في هذه المجالات الحديثة بتحولات اجتماعية مثل زيادة عدد النساء العاملات في الوظائف الرسمية، وارتفاع معدلات التحاق الفتيات بالمدارس وانخفاض حالات زواج الأطفال.
لقد حولت عمليات التصنيع عدداً من المجتمعات الفقيرة سابقاً إلى مجتمعات مزدهرة، وعلى مدى مئات الأعوام أصبحت دول مثل الصين وألمانيا واليابان وبولندا وسنغافورة وكوريا الجنوبية والمملكة المتحدة والولايات المتحدة دولاً غنية بفضل التصنيع، واليوم تشهد تايلاند وفيتنام تحولاً صناعياً بفضل الاستثمار الأجنبي المباشر في الصناعات التحويلية والبنى التحتية الجيدة للتواصل والنقل، واليد العاملة الماهرة وتوسيع فرص الوصول إلى أسواق التصدير.
جزء من مشكلة قطاع المساعدات هو أن منافعه وزعت على نطاق واسع جداً عبر مجالات شتى من دون تركيز كاف على القطاعات التي تعزز الإنتاجية، ومن هذا المنطلق ينبغي لمناصري التنمية الدولية التركيز على تمكين الدول الفقيرة من الوصول إلى تمويل تنموي منخفض الكلفة للاستثمار بصورة محددة في قطاعات تربط الناس ببعضهم بعضاً، مثل الكهرباء والاتصالات والنقل الجماعي، ويجب أن يشمل التمويل التنموي جهوداً لوقف التدفقات المالية غير المشروعة، فعلى سبيل المثال تخسر الدول الأفريقية مجتمعة نحو 90 مليار دولار سنوياً بسبب فساد النخب وتهريب رؤوس الأموال بصورة غير قانونية، والتهرب الضريبي من جانب الشركات المتعددة الجنسيات، وهذا المبلغ يفوق قيمة المساعدات التي كانت الحكومات المانحة ترسلها إلى القارة سنوياً والبالغة نحو 60 مليار دولار، ويمكن الحد من هذا الهدر إذا شددت الدول الغنية تنظيماتها على الملاذات الضريبية والمراكز المالية الخارجية، وإذا عمل 138 موقّعاً على "المعاهدة الضريبية الدولية"، وهي اتفاق أُبرم عام 2023 يحدد حداً أدنى لمعدل الضريبة على الشركات الكبرى، على تسريع تنفيذها.
توزع نسبة ضئيلة جداً من المساعدات من خلال منظمات أو أفراد في البلدان الفقيرة
كما تحتاج الدول الأكثر فقراً إلى بيئة تجارية مستقرة كي تزدهر، فهي بحاجة إلى الوصول إلى أسواق التصدير في الدول الغنية لبيع السلع والخدمات التي تنتجها، وتشير عقود من الأدلة إلى أن لا الدول الفقيرة ولا الدول الغنية تحقق الازدهار في نهاية المطاف من خلال السياسات الحمائية أو الاكتفاء الذاتي المطلق، كما أن الشركات في الدول الغنية، وخصوصاً تلك العاملة في مجالات سريعة التطور مثل الذكاء الاصطناعي والبطاريات والطائرات المسيرة ومعدات الطاقة المتجددة، تحتاج إلى القدرة على البيع في الأسواق النامية في أفريقيا وأميركا اللاتينية وجنوب آسيا، وسيتعين على المتخصصين في مجال التنمية الدولية تطوير قواعد جديدة ترشد جهودهم في دعم التحول الصناعي، وقد يشمل ذلك وضع أطر تنظم التنافس على الموارد الحيوية التي تحتاجها الدول الغنية في صناعاتها الإلكترونية، مثل الكوبالت من جمهورية الكونغو الديمقراطية أو النحاس من زامبيا، ويجب على خبراء الأخلاقيات وعلماء الاجتماع حول العالم المساعدة في صياغة قواعد تضبط الحدود المتعلقة بالذكاء الاصطناعي والحروب بالطائرات المسيرة وغيرها من التقنيات التي تتفاعل بصورة مباشرة مع المجتمعات البشرية.
وإذا تبنى مناصرو التنمية الدولية فكرة التحول الصناعي كبوصلة لهم فسيكون بإمكانهم الإسهام في إخراج الناس من الفقر المدقع مع تجنب التداعيات السياسية العكسية، وإذا تمكنت الدول الفقيرة من التحول إلى دول صناعية فإن العالم بأسره سيستفيد، إذ إن التنمية الدولية لديها أفضل فرصة للبقاء وتحقيق نتائج إذا نُظر إليها على أنها أكثر من مجرد إحسان.
مترجم هن "فورين أفيرز" 5 مايو (أيار) 2025
زينب عثمان زميلة أولى ومديرة "برنامج أفريقيا" في مؤسسة "كارنيغي للسلام الدولي" في واشنطن العاصمة.

Orange background

جرب ميزات الذكاء الاصطناعي لدينا

اكتشف ما يمكن أن يفعله Daily8 AI من أجلك:

التعليقات

لا يوجد تعليقات بعد...

أخبار ذات صلة

ترمب يتباهى بـ"تحرير" الجيش من نظريات الجنس والعرق
ترمب يتباهى بـ"تحرير" الجيش من نظريات الجنس والعرق

Independent عربية

timeمنذ 3 ساعات

  • Independent عربية

ترمب يتباهى بـ"تحرير" الجيش من نظريات الجنس والعرق

أشاد الرئيس الأميركي دونالد ترمب أمس السبت بما قام به لجهة "تحرير" القوات المسلحة من تأثير النظريات المتعلقة بالنوع الاجتماعي أو عدم المساواة على أساس العرق، ووصفها بأنها "مصادر إلهاء" للجيش عن "مهمته الأساسية المتمثلة في تدمير أعداء أميركا". إثر عودته إلى البيت الأبيض في يناير (كانون الثاني)، وقع ترمب أمراً تنفيذياً يعلن أن برامج وسياسات التنوع والمساواة والإدماج التي تعزز تكافؤ الفرص "غير قانونية"، فضلاً عن أمر آخر يمنع المتحولين جنسيا من الالتحاق بالجيش. وقال ترمب في حفل تخرج في أكاديمية وست بوينت العسكرية المرموقة بالقرب من نيويورك "نعمل على إزالة عوامل الإلهاء ونُعيد تركيز قواتنا المسلحة على مهمتها الأساسية المتمثلة في تدمير أعداء أميركا". وأضاف أن "مهمة القوات المسلحة الأميركية ليست تنظيم عروض دراغ (لرجال يرتدون ملابس نسائية) ولا نشر الديمقراطية بقوة السلاح". وانتقد بذلك الإدارات السابقة الجمهورية والديمقراطية خلال الأعوام العشرين الماضية، لا سيما بسبب التدخلات العسكرية في أفغانستان والعراق. اقرأ المزيد يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field) وأكد الرئيس الجمهوري واضعا قبعة حمراء تحمل شعاره "لنجعل أميركا عظيمة مجدداً"، أن "مهمة القوات المسلحة هي القضاء على أي تهديد لأميركا، في أي مكان، وفي أي وقت". وقال "حررنا قواتنا من تعاليم سياسية مهينة ومثيرة للانقسام". وأضاف ترمب "لن تُفرض بعد الآن نظرية العرق النقدية أو مبدأ +التحول الجنسي للجميع+ على رجالنا ونسائنا الشجعان في الجيش، أو على أي شخص آخر في هذا البلد". ونظرية العرق النقدية هي تخصّص يدرس تأثير عدم المساواة على أساس العرق، على عمل المؤسسات الأميركية. وسمحت المحكمة العليا ذات الغالبية المحافظة لإدارة ترمب موقتا باستبعاد المتحولين جنسيا من الجيش، في انتظار قرار لاحق بشأن هذه القضية. وتحدث ترمب قبل ثلاثة أسابيع من العرض العسكري الذي أمر بإقامته للاحتفال بالذكرى الـ250 لتأسيس القوات المسلحة الأميركية في 14 يونيو (حزيران)، والذي يصادف عيد ميلاده التاسع والسبعين.

الأغذية العالمي: الجوع واليأس والقلق تفاقم أزمة الأمن
الأغذية العالمي: الجوع واليأس والقلق تفاقم أزمة الأمن

المدينة

timeمنذ 3 ساعات

  • المدينة

الأغذية العالمي: الجوع واليأس والقلق تفاقم أزمة الأمن

تواصل سقوط العشرات جراء الغارات الجوية الإسرائيلية على قطاع غزة.وقال الناطق باسم الدفاع المدني محمود بصل لوكالة فرانس برس إن «طواقمنا نقلت 6 شهداء على الأقل وبينهم أفراد عائلة واحدة، وعددا من المصابين جراء استمرار العدوان والغارات الجوية في مناطق مختلفة».وأكد أنه تم نقل «4 شهداء وعشرات الجرحى في قصف جوي إسرائيلي استهدف شقة سكنية في حي الأمل في خان يونس وجميعهم من عائلة المدهون».وأوضح بصل أنه تم نقل شهيدين وعدد من الإصابات بينهم أطفال بقصف جوي إسرائيلي استهدف منزلا لعائلة جودة في «مخيم النصيرات» وسط قطاع غزة .وأشار أن الطيران الحربي الإسرائيلي نفذ عدة غارات «عنيفة» في مدينة غزة وشمال القطاع، كما قصفت المدفعية الإسرائيلية صباح أمس باتجاه بلدة القرارة شمال شرق خان يونس، وباتجاه مخيمي النصيرات والبريج في وسط القطاع.ولفت إلى أن الجيش «نسف عددا من المنازل في رفح (جنوب)، وعددا من المنازل في حي الزيتون» شرق مدينة غزة، ما أسفر عن تدمير هذه المنازل.ومنذ بدء الحرب بلغ عدد القتلى الفلسطينيين في غزة 53822، غالبيتهم مدنيون، وفقا لأحدث حصيلة أوردتها الجمعة، وزارة الصحة التي تديرها حماس، وبينهم 3673 قتيلا على الأقل منذ استئناف إسرائيل ضرباتها وعملياتها العسكرية في 18 مارس بعد هدنة هشة استمرت لشهرين.وبدأت المساعدات الإنسانية بدخول القطاع الإثنين للمرة الأولى منذ أكثر من شهرين بعد سماح إسرائيل بدخولها.وأكد الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريش الجمعة ان «الفلسطينيين في غزة يعانون ما قد تكون الفترة الأكثر وحشية في هذا النزاع القاسي».وأضاف «يتصاعد الهجوم العسكري الإسرائيلي مع مستويات مروعة من الموت والتدمير».وأشار غوتيريس إلى أنه من بين نحو 400 شاحنة سمح لها بالدخول إلى غزة عبر معبر كرم أبو سالم، لم يتم جمع إمدادات سوى من 115 شاحنة فقط.وتابع «في أي حال، فإن جميع المساعدات التي سمح بدخولها حتى الآن لا تمثل سوى القليل في وقت يتطلب الوضع تدفقا هائلا من المساعدات».من جانبه، أعلن برنامج الأغذية العالمي الجمعة في بيان تعرض 15 شاحنة تابعة له «للنهب في وقت متأخر من الليلة الماضية جنوب غزة بينما كانت في طريقها إلى المخابز التي يدعمها البرنامج».وأورد البيان «الجوع واليأس والقلق بشأن ما إذا كان سيتم إدخال مزيد من المساعدات الغذائية تساهم في تفاقم انعدام الأمن»، داعيا السلطات الإسرائيلية إلى «إيصال كميات أكبر بكثير من المساعدات الغذائية إلى غزة بشكل أسرع».وكتب المفوض العام لوكالة الأونروا فيليب لازاريني في منشور على إكس أن الأمم المتحدة أدخلت ما بين 500 و600 شاحنة مساعدات إنسانية يوميا خلال وقف إطلاق النار الذي استمر ستة أسابيع حتى مارس.وأضاف «لا ينبغي لأحد أن يفاجأ أو أن يصدم لمشاهد المساعدات الثمينة المنهوبة أو المسروقة أو المفقودة»، مؤكدا أن «شعب غزة تم تجويعه» لأكثر من 11 أسبوعاً.

علاقات هارفارد القوية بالصين تتحول إلى عائق أمام الجامعة
علاقات هارفارد القوية بالصين تتحول إلى عائق أمام الجامعة

Independent عربية

timeمنذ 4 ساعات

  • Independent عربية

علاقات هارفارد القوية بالصين تتحول إلى عائق أمام الجامعة

أصبحت علاقات جامعة هارفارد الأميركية بالصين، التي كانت دائماً مصدر دعم للجامعة، عائقاً أمامها مع اتهام إدارة الرئيس دونالد ترمب للمؤسسة التعليمية بأنها تخضع لعمليات تأثير مدعومة من بكين. وتحركت الإدارة الأميركية يوم الخميس لوقف قدرة جامعة هارفارد على تسجيل الطلاب الأجانب، قائلة إنها تعزز معاداة السامية وتنسق مع الحزب الشيوعي الصيني. وقالت الجامعة إن الصينيين شكلوا حوالي خمس عدد الطلاب الأجانب الذين التحقوا بهارفارد في عام 2024. وأوقف قاضٍ أميركي أول أمس الجمعة قرار إدارة ترمب موقتا بعد أن رفعت الجامعة الواقعة في كمبريدج بولاية ماساتشوستس دعوى قضائية. والمخاوف بشأن نفوذ الحكومة الصينية في جامعة هارفارد ليست جديدة، إذ عبر بعض المشرعين الأميركيين، وكثير منهم جمهوريون، عن مخاوفهم من أن الصين تتلاعب بجامعة هارفارد للوصول إلى التكنولوجيا الأميركية المتقدمة والتحايل على القوانين الأمنية الأميركية وخنق الانتقادات الموجهة إليها في الولايات المتحدة. وقال مسؤول في البيت الأبيض لـ"رويترز" أول أمس الجمعة "سمحت هارفارد لفترة طويلة جداً للحزب الشيوعي الصيني باستغلالها"، مضيفا أن الجامعة "غضت الطرف عن المضايقات التي قادها الحزب الشيوعي الصيني داخل الحرم الجامعي". اقرأ المزيد يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field) ولم ترد هارفارد بعد على طلبات للتعليق. وقالت الجامعة إن الوقف كان عقابا على "وجهة نظر هارفارد" التي وصفتها بأنها انتهاك للحق في حرية التعبير كما يكفلها التعديل الأول للدستور الأميركي. وعلاقات هارفارد بالصين، والتي تشمل شراكات بحثية ومراكز أكاديمية تركز على الصين، هي علاقات طويلة الأمد. وأثمرت هذه الروابط عن مساعدات مالية كبيرة ونفوذ في الشؤون الدولية ومكانة عالمية للجامعة. ووصف رئيس جامعة هارفارد السابق لاري سامرز، الذي انتقد الجامعة في بعض الأحيان، خطوة إدارة ترمب بمنع الطلاب الأجانب بأنها أخطر هجوم على الجامعة حتى الآن. وقال في مقابلة مع بوليتيكو "من الصعب تخيل هدية استراتيجية أكبر للصين من أن تضحي الولايات المتحدة بدورها كمنارة للعالم".

حمل التطبيق

حمّل التطبيق الآن وابدأ باستخدامه الآن

مستعد لاستكشاف الأخبار والأحداث العالمية؟ حمّل التطبيق الآن من متجر التطبيقات المفضل لديك وابدأ رحلتك لاكتشاف ما يجري حولك.
app-storeplay-store