logo
«هزيمة» أم «تراجع»؟

«هزيمة» أم «تراجع»؟

الشرق الأوسط٢٠-٠٤-٢٠٢٥

أوائل القرن الماضي صدر كتاب من جزأين للمفكر أُوزوَلد شبينغلر بعنوان «تراجع الغرب» أثار جدلاً واسعاً طيلة عقود. وقبل وفاته بأشهر، صدر للكاتب والمفكر الفرنسي إيمانويل تود كتاباً اختار له عنوان «هزيمة الغرب» (دار الساقي) كأنه استكمال أو حسم للكتاب الأول.
لا يُخفي تود، الذي توفي بعد صدور كتابه بقليل، موقفه النقدي من الحضارة الغربية وما آلت إليه. وهو لا يُخفي أيضاً إعجابَه بالتجربة الروسية، وما أدّاه الرئيس الروسي فلاديمير بوتين للدولة الكبرى، في مقابل التراجع الذي سجله الغرب. حتى في النزاع الروسي - الأوكراني يُحمّل تود أوكرانيا المسؤوليةَ الكبرى، وليس موسكو، ويُبدي إعجاباً شديداً بصمود الكرملين، مع أن موسكو لا تزال تخوض حرباً قاسية في مواجهة الغرب وحليفته أوكرانيا.
يرسم تود هذه اللوحة الإعجابية بالروس استناداً إلى أرقام لا تقبل الشك.
بين عامي 2000 و2017؛ المرحلة الرئيسية في إرساء الاستقرار خلال عهد بوتين، انخفض معدل الوفيات الناجمة عن الكحوليات في البلاد من 25.6 لكل مائة ألف نسمة إلى 8.4، ومعدّل الانتحار من 39.1 إلى 13.8، ومعّدل جرائم القتل من 28.2 إلى 6.2. هذا يعني، بالأرقام الإجمالية، أن الوفيات الناجمة عن الكحوليات قد انخفضت من 37 ألفاً و214 حالة سنوياً إلى 12 ألفاً و276 حالة، وكذلك حالات الانتحار من 56 ألفاً و934 إلى 20 ألفاً و278، والقتل من 41 ألفاً و90 جريمة إلى 9 آلاف و48. هو بلد عاش هذا الارتقاء خلال وقت يُقال لنا فيه إنه في «هبوط مديد إلى الجحيم».
بحلول عام 2020، انخفض معدّل جرائم القتل بصورة أكبر، فبلغ 4.7 لكل 100 ألف نسمة، أي أقل 6 مرّات مما كان عليه عندما تولّى بوتين السلطة. أما معدّل الانتحار فانخفض في عام 2021 إلى 10.7، أي أقل بـ3.6 مرة.
وبشأن المعدّل السنوي لوفيات الرضّع، فقد تراجع من 19 لكل ألف «طفل وُلدوا أحياء» في عام 2000، إلى 4.4 في عام 2020، أي إنه أخفضُ من المعدّل الأميركي البالغ 5.4 (وفق «اليونيسف»). لكن بقدر ما يتعلّق هذا المؤشر الأخير بِأَوْهَنِ أفراد المجتمع، تأتي أهميته، خصوصاً في تقييم الحالة العامة لهذا المجتمع.
يشدد تود أيضاً على انخفاض مُعَدَّلَيْ الوفيات والبطالة في روسيا، وارتفاع مستوى المعيشة، وعلى أن روسيا عثرت على مكانة لها في التقدم الاقتصادي، وحققت نجاحاً مذهلاً في مجال الزراعة، فهي لم تحقق الاكتفاء الذاتي فقط؛ بل أصبحت من أكبر مصدّري المنتجات الزراعية في العالم. إضافة إلى ذلك كله، حافظت على مكانتها بصفتها ثانيَ أكبر مصدّر للأسلحة في العالم. ولم يَقلّ نجاحها في حقل الإنترنت، الذي هو جوهر الحداثة... واللائحة تطول.

Orange background

جرب ميزات الذكاء الاصطناعي لدينا

اكتشف ما يمكن أن يفعله Daily8 AI من أجلك:

التعليقات

لا يوجد تعليقات بعد...

أخبار ذات صلة

إيمانويل تود يعيد قراءة المشهد العالمي في "هزيمة الغرب"
إيمانويل تود يعيد قراءة المشهد العالمي في "هزيمة الغرب"

Independent عربية

timeمنذ يوم واحد

  • Independent عربية

إيمانويل تود يعيد قراءة المشهد العالمي في "هزيمة الغرب"

في فبراير (شباط) عام 2022 ظهر الرئيس الروسي فلاديمير بوتين على شاشات العالم أجمع ليعلن دخول القوات الروسية إلى أوكرانيا، معللاً ذلك بقوله إن "التمدد المستمر في البنى التحتية لحلف شمالي الأطلسي والتهيئة العسكرية لأرض أوكرانيا مرفوضان بالنسبة إلينا، لا نريد أن تفاجأ روسيا كما في صيف عام 1941، فجاء تحركنا دفاعاً عن النفس". ولم تُدَر هذه الحرب كما كان متوقعاً لها، إذ تكشفت عن مفاجآت كثيرة بالنسبة إلى روسيا أو الغرب لأنها حرب حقيقية بين دولتين في أوروبا التي حسبت نفسها هاجعة إلى سلام دائم، وهي كذلك شكلت مجابهة بين الولايات المتحدة وروسيا عبر الأوكرانيين. وكأن من المفاجئ صمود أوكرانيا العسكري التي وجدت في الحرب مبرراً لوجودها المهدد، لكن المفاجأة الكبرى كانت صمود الاقتصاد الروسي، فإن الغرب راهن على انهيار روسيا وتركيعها بعقوبات اقتصادية كبيرة واستبعاد مصارفها من منظومة "سويفت"، لكن الروس عرفوا كيف يتكيفون مع هذه العقوبات بمرونة تقنية واقتصادية واجتماعية. ومن المفاجئ أيضاً دخول المملكة المتحدة في الحرب على روسيا وتزويدها أوكرانيا بدبابات ثقيلة وصواريخ بعيدة المدى، بينما أعلنت الولايات المتحدة، القوة العظمى في العالم عن عجزها عن توفير أية أسلحة لأوكرانيا. أما المفاجأة الأكبر والأكثر إرباكاً للغرب، فتمثلت في عزلته الأيديولوجية واستمرار مساندة الصين للروس، فضلاً عن حسبان العالم الإسلامي بأسره روسيا شريكاً أكثر من أنها خصم، وهذه الوقائع التي انجلت عنها الحرب تؤكد هزيمة الغرب برأي إيمانويل تود في كتابه "هزيمة الغرب"، ترجمة محمود مروة عن دار الساقي 2025، فهذه الهزيمة كما يقول المؤلف "يقينية لأن الغرب يتدمر ذاتياً، أكثر من كون روسيا تهاجمه، فليست روسيا هي ما يعرض توازن الكوكب للخطر" بل إنها "أزمة غربية وبصورة خاصة أميركية". وهذا ما توقعه أيضاً أستاذ الجغرافيا السياسية في جامعة شيكاغو جون ميرشايمر الذي رأى أن روسيا ستكسب الحرب لأن أوكرانيا مسألة وجودية لها، في حين أنها ليست كذلك للولايات المتحدة. ويتفق تود مع ميرشايمر في أن تصرف حلف شمالي الأطلسي ليس سوى انعدام عقلانية ومسؤولية، في وقت تتزعم الغرب إمبراطورية تخلو من مركز ومشروع، توجهها مجموعة تفتقر إلى ثقافة مركزية بالمعنى الأنثروبولوجي، في وقت تبقى قائمة فيها آلة دولتية عسكرية عملاقة، مما يطرح في نظر المؤلف سؤالاً مركزياً، لماذا استخف الغربيون بخصمهم الروسي إلى هذا الحد في وقت لم يكُن هناك شيء مخفي من أوراقه الرابحة؟ وفي ظل مجتمع استخباراتي يضم 100 ألف شخص في الولايات المتحدة وحدها، كيف أمكن التصور أن قطع نظام "سويفت" وفرض عقوبات سيرديان ببلد يمتد على 17 مليون كيلومتر مربع ويتوافر على الموارد الطبيعية الممكنة كافة ويستعد جهاراً منذ عام 2014 لمواجهة عقوبات كهذه؟ وإذا كانت صلابة روسيا شكلت واحدة من مفاجآت الحرب، فإن الأرقام والإحصاءات تؤكد قوة روسيا وارتقاءها خلال عهد بوتين على الضد مما يدعيه الإعلام الغربي، فبين عامي 2000 و2017 انخفض بصورة كبيرة معدل الوفيات الناجمة عن تناول الكحول، وتراجعت معدلات الانتحار وجرائم القتل ووفيات الرضع، كما تدنت معدلات البطالة، وتحقق الاكتفاء الذاتي غذائياً، وصارت روسيا واحدة من أكبر مصدري المنتجات الزراعية في العالم، بحيث تضاعفت صادرات الأغذية الروسية ثلاث مرات. ومن المدهش حفاظ روسيا على مكانتها كثاني أكبر مصدر للأسلحة في العالم، وأكبر مصدر لمحطات الطاقة النووية، وقد يكون مثال إنتاج القمح أشد إعجاباً، إذ إن روسيا أنتجت عام 2012، 37 مليون طن من القمح، ثم 80 مليون طن عام 2022. وعلى صعيد التعليم العالي بلغت نسبة الملتحقين بدراسة الهندسة 23.4 في المئة عام 2020 في روسيا، مقابل 18.5 في اليابان و24.2 في ألمانيا و14.1 في فرنسا، وعلى رغم تفاوت عدد السكان، تصل روسيا إلى تكوين مهندسين أكثر بكثير من الولايات المتحدة. ويعوّل المؤلف على الطبقات الوسطى في التغيير، فهي الجاذبة لاهتمام علماء الاجتماع والسياسيين، ومن دونها يتعذر قيام مجتمع مستقر وديمقراطي وليبرالي، فالعامل الذي أطلق سقوط المنظومة الشيوعية لم يكُن الشلل الاقتصادي، بل ظهور طبقة وسطى حظيت بتعليم عالٍ، العامل الوحيد في نجاح الديمقراطية الليبرالية أو إخفاقها؟ فهل يمكننا أن نتصور بمعقولية أن الطبقات الوسطى الروسية ستطيح يوماً ما بنظام بوتين السلطوي؟ يحلم الغربيون بطبقات وسطى ذات تأثير مزدوج، فيكون من شأنها إسقاط بوتين بعدما أسقطت الشيوعية، وهذا الأمل ليس عبثياً تماماً، فأكثر المعارضين بحدة لبوتين في المدن الكبرى هم من الطبقات التي تتمتع بتعليم عالٍ حقاً، وهي الطبقات التي دعمت بوريس يلتسين مسقط الاتحاد السوفياتي، بيد أن ثمة ما يميز الطبقات الوسطى الروسية عن نظيرتها الغربية، وهو أحد العوامل التي تفسر صلابة روسيا في مواجهة الغرب. وما مكّنها من الحفاظ على سيادتها، قدرتها التلقائية على منع نمو فردانية مطلقة وتمسكها بالانتماء "الجماعي"، مما يكفي لكي يحيا المثل الأعلى لأمة متراصة على رغم تمركز الثروة والمداخيل، إذ نال الواحد في المئة الأعلى في روسيا 24 في المئة من المداخيل عام 2021 مقابل 19 في المئة في الولايات المتحدة و19 في المئة في فرنسا، وهكذا تبقى منظومة بوتين ثابتة لأنها نتاج التاريخ الروسي، وحلم الغرب بانتفاضة ضده لا يعدو كونه حلماً. إلا أن روسيا كذلك تعاني ضعفاً رئيساً هو الخصوبة المنخفضة، ودخلت في طور انكماش للسكان الذكور الذين يمكن تعبئتهم بنسبة 40 في المئة، ولذلك ليست أولوية الروس في الاستيلاء على أكبر قدر من الأراضي، بل في خسارة العدد الأدنى من الرجال. ويعرف الروس أنهم لم يعودوا بوزن حلف الأطلسي الذي بلغ عدد سكانه 887 مليون عام 2023، فيما لن يتجاوز عدد سكان روسيا 143 مليوناً عام 2030، من هنا كان تحديد الجيش الروسي عقيدة عسكرية جديدة تأخذ في الحسبان الفاقة في الرجال وتجيز توجيه ضربات نووية تكتيكية إذا ما كانت الأمة والدولة الروسيتان مهددتين، وأدرك الأميركيون مشكلة روسيا الديموغرافية وأفرطوا في الاعتماد على التحليل الديموغرافي. اقرأ المزيد يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field) توقع الروس استسلام أوكرانيا أو انهيارها السريع لاعتبارهم إياها دولة فاشلة انخفض عدد سكانها بين عامي 1991 و2021 من 52 مليون نسمة إلى 41 مليوناً، وهي ذات تركيبة عرقية لغوية معقدة، ومع أنها عدت في الاتحاد السوفياتي واحدة من مناطق التنمية الأكثر حداثة، لم تنجح في تطوير دولة خاصة بها أي دولة أمة، إلا أن الروس كما الغرب فوجئوا بصمود أوكرانيا. ووجدت أوروبا نفسها منتظمة في حرب تتعارض مع مصالحها ومدمرة ذاتياً، بينما يتحدث الأوروبيون منذ 30 عاماً عن اتحاد أوروبي في طريقه ليكون قوة مستقلة، وفي حين أن روسيا لا تشكل أي تهديد لأوروبا، بل تسعى إلى إقامة شراكة اقتصادية معها. وخصص المؤلف حيزاً واسعاً من كتابه للولايات المتحدة التي هي القوة العسكرية الأولى في العالم، ولكنها لا تملك القدرة على السيطرة المباشرة على كل شيء، وتواجه الآن أخطاراً كثيرة، فاعتمادها الاقتصادي على بقية العالم صار هائلاً ومجتمعها يتفكك، والإشكال الحقيقي الذي يواجهه العالم اليوم ليس في إرادة القوة الروسية المحدودة جداً، بل في انحطاط مركز القوة الأميركي وهو بلا حدود. وإزاء تفتت المجتمع الأوكراني واستقرار المجتمع الروسي ونهاية الحلم الأوروبي بالاستقلال وانحراف مسار الدول الاسكندنافية، نقترب من موطن الأزمة العالمية، أي الثقب الأسود الأميركي، فمنذ انتخاب دونالد ترمب رئيساً للولايات المتحدة دخل العالم الأنغلو- أميركي في حال انعدام جاذبية. ومنذ ذلك الحين، بتنا نشاهد ونضطر إلى تفسير قرارات استراتيجية خالية من المنطق، فعام 2023 رفضت الولايات المتحدة التصويت لمصلحة قرار "هدنة إنسانية" في غزة اقترحه الأردن، وصوتت عليه 120 دولة فيما رفضته 14 دولة، وجاء التصويت الأميركي ضد الهدنة عدمياً، رافضاً للأخلاق المشتركة للإنسانية، مما يعني في الوقت نفسه أن الولايات قررت معاداة العالم المسلم بصورة فورية ودائمة، أما حلف شمالي الأطلسي فهو بصدد خسارة الحرب الصناعية بعدما تبين أنه عاجز عن إنتاج الذخائر والصواريخ بكميات كافية. في خلاصة استنتاجاته، يرى المؤلف أنه إذا أردنا توقع الخيارات الاستراتيجية لأميركا، فعلينا التخلي على وجه السرعة عن بديهية العقلانية، ذلك أن الحال السوسيولوجية لأميركا تحول دون أي تنبؤ متعقل بالقرارات الأخيرة التي سيتخذها قادتها، لكن العدمية تجعل كل شيء على الإطلاق، ممكناً. ونرى ختاماً أن الكتاب يخلخل كثيراً من التصورات، ويعيد النظر في كثير من المسلمات، كما يضيء على الخلفيات التاريخية والاقتصادية والديموغرافية للاستراتيجيات السياسية الراهنة، كاشفاً في العمق عن جذور الصراع الذي بات يهدد المصير الإنساني، ولذلك فإنه يشكل إضافة جدية إلى الفكر السياسي في العالم العربي.

شباب العرب... نريد قائداً قويّاً
شباب العرب... نريد قائداً قويّاً

الشرق الأوسط

time٢٥-٠٤-٢٠٢٥

  • الشرق الأوسط

شباب العرب... نريد قائداً قويّاً

بعض الاستطلاعات تملك إقناعاً وتستوجب تقديراً للفريق القائم بها، بسبب «الجدّية» والمثابرة، ونحن في العالم العربي لا نمنح هذا اللون من أدوات المعرفة نصيبه المستحق من العمل - أكرّر - الجادّ! الزميلة سوسن الأبطح استعرضت بهذه الجريدة دراسة أجرتها مؤسسة «فريدريش إيبرت» الألمانية على 12 ألف شاب وشابة من العالم العربي، تتراوح أعمارهم بين 16 و30 عاماً. الدراسة شملت 11 دولة عربية: الأردن، والجزائر، ومصر، والعراق، واليمن، ولبنان، وليبيا، والمغرب، وفلسطين، والسودان وتونس، إضافة إلى اللاجئين السوريين في لبنان. أصدرتها «دار الساقي» تحت عنوان «الجيل المحروم»، بترجمة دكتورة شيماء مرزوق. عِماد هذه الدراسة هو التعّرف على اتجاهات الرأي ونوعية الأفكار لدى الشباب العربي، بهذه الدول، وكان التوقيت بعد نهاية سنوات «كورونا» الكئيبة. لفتتني أمورٌ منها أن هؤلاء الشباب أبدوا رغبة في أن تتحمل الدولة المزيد من المسؤوليات في رعايتهم، لكنهم في الوقت نفسه غير راغبين في الانخراط في الأحزاب السياسية، ويسترذلون السياسة. لا يرون الديمقراطية عنصراً حاسماً في صلاح الحكم. إنهم يرون الحكم الأصلح بوجود «قائد قوي» ينجو بالسفينة. الدين يجب أن يلعب دوراً أكبر في تسيير الحياة. يحظى الجيش بالثقة الكبرى، خصوصاً في الدول ذات الانتماءات القبلية (اليمن وليبيا)، والقبيلة هي محلّ الثقة. لا يثقون بالإعلام الكلاسيكي ويرونه ناقلاً للأخبار السيئة، لكنهم أيضاً لا يعدّون السوشيال ميديا مصدراً موثوقاً، بالنسبة لهم يستخدمون التطبيقات على هواتفهم أساساً للتواصل مع عائلاتهم وأصدقائهم، وبدرجة ثانية للاسترخاء وملء وقت الفراغ. لم تعد الدول الغربية هي الهدف الأول، بالنسبة للحالمين بالهجرة والسفر، وحلّت مكانها دول الخليج العربي بنسبة 14 في المائة! هذه بعض اللمحات من هذه الدراسة المثيرة، وغنيٌّ عن القول أن هذه الدراسة تعكس فئة من الشباب العربي، وليس كل الشباب العربي، فهناك دولٌ وجماعات من الشباب العربي لم يشملهم هذا الاستطلاع، مثل الطلبة المبتعثين للدراسة في الخارج، من دول كثيرة، وشباب دول الخليج. لكن هذه الدارسة مفيدة في تلمّس اتجاهات الشباب، ولفتني التركيز على وجود «قائد قوي»، وعدم التعويل كثيراً على إنتاجية الديمقراطية وتجربة السياسات الحزبية، كما لفتني - ونحن في عصر الثورة الرقمية والذكاء الاصطناعي - العودة إلى خيمة القبيلة وقبّة الدين لدى شباب بعض الدول العربية. الخلاصة أنه إذا صنعت الدولة نموذج حكم ناجحاً قائماً على التنمية والتعليم والحداثة - مثل السعودية والإمارات - زاد الارتباط بالدولة والثقة بها، والبعد عن الارتماء في حضن الهويّات الأوليّة، والعكس صحيح. والمفارقة أن الدول التي سبقت دول الخليج في العمل السياسي والتنوع الحزبي والحداثة، هي التي ترتد إلى ما قبل الدولة، بينما الخليج - أو جلّه - يقلع نحو العالم الحديث مع شعور عميق بالانتماء الوطني. مثل هذه الدراسات «الجادّة» والدائمة، هي التي تنير الطريق وتكشف الدروب لصنّاع القرار، مهما شابها من أخطاء طبيعية.

الشباب العربي يريد قائداً قوياً ودوراً أكبر للدين
الشباب العربي يريد قائداً قوياً ودوراً أكبر للدين

الشرق الأوسط

time٢٤-٠٤-٢٠٢٥

  • الشرق الأوسط

الشباب العربي يريد قائداً قوياً ودوراً أكبر للدين

مفاجآت عدّة وإجابات غير متوقعة، تحملها الدراسة التي أجرتها مؤسسة «فريدريش إيبرت» الألمانية على 12 ألف شاب وشابة من العالم العربي، تتراوح أعمارهم بين 16 و30 عاماً. فهؤلاء أبدوا رغبة في أن تتحمل الدولة المزيد من المسؤوليات في رعايتهم، لكنهم في الوقت نفسه غير راغبين في الانخراط في الأحزاب السياسية. وهم ينظرون إلى السياسة على أنها رديف للفساد والانتهازية، ولا يحبّذون أن يكونوا جزءاً منها. لكن الأكثر لفتاً للانتباه، هو أن الشباب العربي لا يرى الديمقراطية عنصراً حاسماً في صلاح الحكم، بقدر ما يبحث عن القائد القوي الذي يمكن أن ينجو بالسفينة. ومما يدعو إلى الاهتمام هو اعتبار الأغلبية الساحقة من الشباب، في البلدان التي أجريت فيها الاستطلاعات، أن الدين يجب أن يلعب دوراً أكبر في تسيير الحياة. ومن المفارقات، أن الأبحاث التي ترصد الجوع وتصف جيلاً بأكمله بالحرمان، تظهر هي نفسها أن الشباب العربي مفعم بالأمل، وأنه مقبل على الحياة، رغم أنه لا يشعر بالرضا عن واقعه، وهذا أمر في غاية الأهمية. بعد المأزق جاء الحرمان نقاط أساسية لفهم توجهات الشباب العربي، تطلعاته، رغباته، بواطنه، وما يجول في خاطره؟ وهو ما لا نعرفه بوضوح بسبب غياب الدراسات، أو تشتتها، وربما عدم توفيرها للجمهور العريض. من هنا تأتي أهمية هذه الدراسة الاستطلاعية التي شارك فيها 11 باحثاً وباحثة من ألمانيا، وشملت 11 دولة عربية، هي: الأردن، والجزائر، ومصر، والعراق، واليمن، ولبنان، وليبيا، والمغرب، وفلسطين، والسودان وتونس، إضافة إلى اللاجئين السوريين في لبنان. تمت المقابلات مع المستطلعين، بين عامي 2021 و2022، أي بعد وباء كورونا. حرَّرها كلٌ من يورغ غرتل، ودافيد كروير وفريدريكا ستوليس. وأصدرت «دار الساقي» الدارسة في كتاب من 500 صفحة بترجمة دكتورة شيماء مرزوق، حمل عنواناً دالاً هو «الجيل المحروم». وكانت دراسة أولى قد أجرتها المؤسسة بين عامي 2016 - 2017 رصدت من خلالها توجهات الشباب بعد ثورات الربيع العربي، صدرت في كتاب بعنوان «مأزق الشباب»، بينما تأتي الدراسة الجديدة بعد خمس سنوات، لترصد التغيرات بعد الموجة الثانية للحراك الشعبي عام 2018 الذي شاهدناه في لبنان، والجزائر والسودان. محاور أساسية تنقسم الدراسة إلى أربعة محاور رئيسية، تتفرع منها عناوين عدة. المحور الأول حول «الحرمان» والفقر. أما المحور الثاني، فهو حول «الأزمات المتعددة» التي يعاني منها الشباب مثل الجوع والعنف والهجرة، والبيئة. أما المحور الثالث، فهو عن «التوجهات الشخصية» للشباب من خلال الأسرة والتعليم والقيم الفردية والجمعية والدين. في حين يكشف المحور الرابع عن طبيعة «العلاقات الاجتماعية» ومستوى الالتزام الاجتماعي للشباب ونظرتهم للمؤسسات ومدى ثقتهم بها، وصولاً إلى رصد تطلعاتهم وأحلامهم على المستويين الشخصي والجماعي من خلال الإعلام ووسائل التواصل، كذلك السياسة والمشاركة المدنية والآمال والتوقعات. فيما يخص التدين تظهر الدراسة الميدانية أن غالبية الذين سئلوا يشعرون بأنهم أكثر تديناً اليوم عما كانوا عليه قبل خمس سنوات. وتربط الدراسة بين هذه النتائج، وازدياد الإحساس بعدم اليقين، الذي يعيشه الشباب في مجتمعات متقلبة تعاني أزمات اقتصادية وحروباً وتهديدات مباشرة للحياة. وقد قال الليبيون والمغاربة والأردنيون، إنهم الأكثر تديناً من ذي قبل بعلامة وصلت إلى 8 من 10، في حين انخفضت العلامة التي أعطاها الشباب لتدينهم في لبنان وتونس، لكنها بقيت 6 درجات من 10. قال أكثر من ثلثي الشباب المستطلعين إنهم غير مهتمين على الإطلاق بالسياسة. وهم حين يتحدثون عن هذا الموضوع فإنما يربطونه في «المقام الأول بالسياسة الحزبية الرسمية» في بلادهم، ولا يحيلون في حديثهم إلى الانخراط في خدمة المجتمع. وهذه النظرة تنبع من الإحباط العام الذي يعانيه الشباب بعد الأزمات المتلاحقة التي عاشتها بلادهم. الثقة بالقبيلة والجيش يرغب أكثر من ثلثي المشاركين في أن تلعب الدولة دوراً أكبر في تسيير الحياة اليومية. والنسبة الأكبر جاءت من لبنان 88 في المائة والأدنى من الجزائر 50 في المائة؛ ما يدل على إحساس بغياب الدولة في لبنان، وتدخلها الشديد في الجزائر، بينما يرغب فقط 7 في المائة من المستطلعين، في أن تؤدي الدولة دوراً أقل. والثقة متدنية بالمؤسسات السياسية والقانونية، وانخفضت أكثر عما كانت عليه قبل خمس سنوات، بينما يحظى الجيش بالثقة الأكبر، خصوصاً في الدول ذات الانتماءات القبلية. ففي ليبيا واليمن بعد اشتعال الحروب، يقول الشباب إنهم يثقون بقبائلهم أكثر من ثقتهم بدولتهم. وحين يُسألَون عن النظام السياسي الذي يرغبون فيه، نجد أن نسبة المطالبين بنظام ديمقراطي، قد انخفضت عما كانت عليه قبل خمس سنوات، وعبرت الغالبية عن حاجتها إلى «رجل قوي يحكم البلاد». ويرغب ثلثا الشباب المسلمين الذين شملهم الاستطلاع، في أن يؤدي الإسلام دوراً أكبر في الحياة العامة. وقد زادت النسبة عما كانت عليه قبل خمس سنوات بمقدار عشر نقاط، وهو تحول ملموس ولافت. وصلت نسبة الذين يريدون دوراً أكبر للدين في فلسطين إلى 90 في المائة، وفي الأردن إلى 84 في المائة، وتحظى - بحسب الدراسة - أفكار الجماعات الإسلامية بشعبية بين الشباب. وهذا يظهر أكثر بين الذين لم يغادروا بلادهم منه عند الذين قضوا وقتاً خارج أوطانهم. كما أنها رغبة موجودة بنسبة أكبر عند الطبقة المتوسطة، التي عبر 70 في المائة منها عن رغبتهم في رؤية الدين يلعب دوراً أبرز في حياتهم، بينما انخفضت النسبة إلى 62 في المائة عند الطبقة الفقيرة أو الغنية. مع ذلك، تبقى نسبة عالية جداً قياساً إلى مجتمعات أخرى. مفعمون بالأمل لا بالرضا ومقارنة بالدراسة التي أجريت منذ خمس سنوات، ورغم الظروف الصعبة التي استجدت بقي الشباب محتفظاً بالأمل، وهو أمر مثير للاهتمام. باستثناء النازحين السوريين في لبنان واللبنانيين الذين انخفض بينهم قليلاً الشعور بالأمل، فإن عدد المتشائمين لم يرتفع في العالم العربي، بالقدر الذي يمكن تصوره. على العكس، نصف الجزائريين متفائلون وأكثر من الثلثين في تسع دول أخرى. رغم حالة عدم اليقين الشديدة التي تعيشها بلادهم، يبقى الشباب العربي متفائلاً في رؤيته للمستقبل. ففي جميع الدول التي أجري فيها الاستطلاع، 58 في المائة من الشباب يميلون إلى التفاؤل، و15 في المائة فقط هم من عبروا عن تشاؤمهم، وثلثا الذين سئلوا، قالوا إنهم «واثقون تماماً» أو «إلى حدٍ ما» من تحقيق رغباتهم وطموحاتهم المهنية. لكن هذا لا يعني أن الشباب يشعرون بالرضا عن أوضاعهم والحياة التي يعيشونها، فالتفاوت الطبقي والبطالة والنزاعات المسلحة كلها مصدر قلق، مع ذلك، فإن الشباب في مصر مثلاً رغم معدلات الفقر العالية، أكثر رضا من دول أكثر غنى مثل العراق أو الجزائر، واللاجئون السوريون في لبنان رغم أوضاعهم الحرجة أكثر رضا عن معاشهم من اللبنانيين أنفسهم. ويأتي السودان، حتى في دراسة أجريت قبل الحرب، في مؤخرة اللائحة. الإعلام ينقل الأخبار السيئة لا مفاجأة في أن 90 في المائة من المستطلعين يمتلكون هاتفاً ذكياً، وإن انخفضت النسبة قليلاً في اليمن والسودان. لكن الثقة بوسائل الإعلام التقليدية، لا تتجاوز في المتوسط 14 في المائة حين يتعلق الأمر بالمواضيع السياسية، أما أعلى نسبة ثقة فهي في المغرب ولا تتجاوز 26 في المائة. وعكس المتوقع، الثقة بوسائل التواصل ليست أفضل حالاً في ما يتعلق بمواضيع السياسة؛ إذ تبقى عند 16 في المائة. وعلى أي حال، ثلاثة أرباع الشباب يحصلون على معلوماتهم من وسائل التواصل، ويرون وسائل الإعلام بشكل عام، أدواتٍ لنقل الأخبار السيئة. ورغم الكلام الكثير على الدور السياسي لوسائل التواصل وأهميتها التعليمية، وتعزيزها فرص الحصول على العمل، فإن هذه الدراسة تبين أن الشباب العرب يستخدمون هذه الأدوات بشكل أساسي للتواصل مع عائلاتهم وأصدقائهم، وبدرجة ثانية للاسترخاء وملء وقت الفراغ. وعلى الأرجح أن وسائل التواصل تهدئ الشباب ولا تشحن ثورتهم وغضبهم. الإيمان أولاً وحين طُلب من المستطلعين وضع علامة على عشرة فيما يخص إنجازات الحياة التي يريدون تحقيقها، جاء الإيمان بالله على رأس اللائحة، تلاها العثور على شريك ذي ثقة، ثم الشعور بالأمان، تلتها الصحة والمثابرة. ثم نجد الاستقلال المادي والالتزام بقانون الشرف والعار، في الخانة نفسها، وجاء في آخر اللائحة إنجازات من صنف المشاركة في السياسة أو إرضاء الآخرين، أو امتلاك السلطة، أو الانقياد للمشاعر الذاتية. أما الهجرة بالنسبة للشباب العربي، فهي ليست فقط لأسباب اقتصادية ومالية، بل تحولت في بعض البلدان نوعاً من العادة، وتسجل الدراسة تغيراً في وجهتها؛ إذ لم تعد الدول الغربية هي الهدف الأول، وحلّ مكانها دول الخليج العربي بنسبة 14 في المائة، مقابل 9 في المائة لأوروبا، 6 في المائة إلى آسيا، و3 في المائة إلى أميركا الشمالية ودول جنوب الصحراء. وتنمو الرغبة في الهجرة في كل من تونس، ولبنان وسوريا لتصل إلى 20 في المائة ومستقرة عند 5 في المائة في مصر والمغرب. شارك في الدراسة الاستطلاعية 11 باحثاً وباحثة من ألمانيا وشملت11 دولة عربية لكن هذه الرغبة لا تشهد نموا يذكر في مصر والمغرب؛ إذ لا يتجاوز معدل 5 في المائة، مقارنة بتونس ولبنان وسوريا، التي يتضاعف فيها معدل الرغبة المؤكدة في الهجرة ويقترب من نسبة 20 في المائة. ويُعدّ الأردن الاستثناء الوحيد من بين دول المنطقة التي شملتها الدراسة، الذي يُسجَّل به تراجعٌ كبيرٌ في معدل الرغبة المؤكدة في الهجرة لدى الشباب، وهو ما يجد تفسيره في إحساس الشباب بأن لديه فرصاً في بلاده، وبأنه لا يشعر بدرجة إقصاء أو تهميش كبيرة. كما يرصد الباحثون ظهور نوع من ثقافة «الاعتياد على الهجرة» لدى الشباب في مجتمعات الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، بيد أن الدراسة تسجل أيضاً تحولاً مهماً في البلدان أو المناطق المقصودة لدى الشباب، اعتماداً على تجاربهم الشخصية في الهجرة. إذ تأتي دول الخليج العربي في المقدمة بنسبة 14 في المائة، مقابل 9 في المائة بأوروبا، وبنسبة 6 في المائة في آسيا، ونسبة 3 في المائة في أمريكا الشمالية ودول جنوب الصحراء. وشارك في الدراسة 11 باحثاً وباحثة من ألمانيا من تخصصات أكاديمية وحقول متعددة من مناهج العلوم الاجتماعية، كما تمت الاستفادة مما يزيد على مائتي عنوان كتاب ودراسة لباحثين ومراكز دراسات ومؤسسات دولية، حول أوضاع الشباب في العالم العربي. ويمزج مؤلفو الدراسة في أبحاثهم بين أدوات البحث التجريبي والواقعي لأوضاع الشباب الشخصية والمجتمعية والتحليل الموضوعي للظواهر والسياقات التي يعيشون فيها محلياً وإقليمياً. وهو ما يضفي على هذا العمل البحثي ثراءً في المعلومات والمعطيات عن تضاريس حياة الشباب في الدول العربية، مدعمةً بعشرات الرسوم البيانية، ونظرة تحليلية معمقة لاتجاهات التطور في الأفكار والقيم والعلاقات في المجتمعات العربية. وتتبع الدراسة عملاً بحثياً سابقاً كان بحجم أقل تم إنجازه في سنتي 2016 و2017؛ وهو ما يشكل أرضية مناسبة برأي المشرفين على الدراسة لإجراء مقارنات واستنتاج اتجاهات تطور الأوضاع في المجتمعات العربية.

حمل التطبيق

حمّل التطبيق الآن وابدأ باستخدامه الآن

مستعد لاستكشاف الأخبار والأحداث العالمية؟ حمّل التطبيق الآن من متجر التطبيقات المفضل لديك وابدأ رحلتك لاكتشاف ما يجري حولك.
app-storeplay-store