logo
هل يتلبّس الجِنيُّ بجسد الإنسان؟

هل يتلبّس الجِنيُّ بجسد الإنسان؟

جريدة الرؤية٢٨-٠٥-٢٠٢٥
بدر بن خميس الظفري
@waladjameel
سُئل سماحة الشيخ العلامة أحمد بن حمد الخليلي، المفتي العام لسلطنة عُمان، عن قضيّة تلبس الجن بالإنس فأجاب في مقطع مرئي منشور على "يوتيوب" بأنّ "هذه القضية العلماء وقفوا منها موقفيْن: منهم من قال بدخول الجن في جسم الإنس لأن أجسامهم أجسام لطيفة، أي هم أقرب إلى الروحانيّة، فلذلك يتمكنون من الدخول. ومنهم من قال بعدم دخولهم لأنهم ولو كانت أجسامهم لطيفة، إلا أنهم أجسام، فلا يتلبس جسم بجسم. ولكن مع ذلك هناك تأثير من حيث الإيحاء، فقد يتكلم الإنسان كلامًا يوحيه إليه الجني الذي تلبس به بطاقته الروحانيّة، لا بدخوله إلى جسمه حسبما يبدو، وإنما يؤثر عليه تأثيرا حتى يتحدث بما يتحدث به..".
منذ فجر التاريخ، لم تنفكّ البشرية عن رواية القصص الغريبة التي تنسب حالات استثنائية من السلوك البشري إلى قوى خفية غير مرئية. وعلى الرغم من اختلاف الأديان والثقافات، ظلّ الاعتقاد بإمكانية "تلبّس الجن" بجسد الإنسان واحدًا من أكثر المعتقدات رسوخًا في الخيال الجمعي البشري. لكن أمام تطوّر العلوم الطبية والنفسية، برز سؤال جوهري: هل نحن فعلًا أمام كائن غيبي يقتحم الجسد، أم أمام اضطرابات عقلية نُسقط عليها تفسيرات غير مادية؟
في المنظور الإسلامي، يُعدّ الإيمان بالجن جزءًا من العقيدة، وقد خُصصت لهم سورة كاملة في القرآن. كما يُستشهد بآيات مثل قوله تعالى "الذي يتخبّطه الشيطان من المسّ" لتأكيد فكرة التلبُّس. وقد تباينت آراء العلماء في هذه الفكرة، فابن تيمية وابن القيم يَرَيَان التلبُّس أمرًا ثابتًا شرعًا وواقعًا. أما الإمام الشافعي، وبعض المفكرين المعاصرين، فيرون أن تلك الحالات أقرب إلى الأمراض النفسية، وأن الشيطان يؤثِّر بالوسوسة لا بالدخول الحرفي إلى الجسد.
وفي المسيحية، تروي الأناجيل قصصًا عديدة عن قيام المسيح بطرد الأرواح الشريرة من أجساد المرضى، كما هو الحال في قصة المجنون الجرجسي أو الصبي المصروع. الكنيسة الكاثوليكية ما زالت تمارس طقوس "الإكسورسيزم" رسميًا، بينما تختلف المذاهب الأخرى في التفسير، بين تأويلات روحية وأخرى نفسية. وفي اليهودية، يظهر مفهوم "الديبوك"، ويعني روح الميت التي تسكن جسد الحي، بينما نجد في الديانات الهندوسية والبوذية والأفريقية طقوسًا يُنظر فيها إلى "تلبّس الروح" لا كشرّ؛ بل كوسيلة للتواصل مع المقدّس.
لكن العلم الحديث، بما فيه من تقدم في مجالات الطب النفسي وعلم الأعصاب، يقدّم تفسيرات مختلفة تمامًا؛ فحالات الفصام، مثلًا، قد تفسّر هلوسات الأصوات والتغيرات في الشخصية. بينما يشرح "اضطراب الهوية الانشقاقي" تعدُّد الشخصيات التي قد يتحدث بعضها بلغات مختلفة. كذلك نوبات الصرع، خاصةً تلك المرتبطة بالفص الصدغي، يُمكن أن تولِّد سلوكًا غريبًا أو تشنُّجات عنيفة تبدو للعين المُجرَّدة كتلبُّسٍ. وتبرُز أيضًا مُتلازمة "توريت"، التي تُنتج ألفاظًا لا إرادية وأفعالًا حادة قد تُفسّر شعبيًا كتصرّف شيطاني.
ما يهُم في الطرح العلمي هو أن التجربة التي يمر بها الشخص المتلبّس ليست محل إنكار، وإنما تختلف حولها التأويلات. ففي دراسة نُشرت في مجلة علم النفس عام 2021، تبيّن أن كثيرًا من مرضى الفصام الذين يؤمنون بأنهم "مسكونون" قد تأخروا في تلقّي العلاج الطبي بسبب تفسيرهم الروحي للحالة. ولهذا، يدعو الأطباء إلى اعتماد نهج متكامل يحترم المعتقدات الثقافية للمريض، دون أن يغفل الحاجة إلى العلاج الدوائي والنفسي.
وهذا ما أكد عليه سماحة الشيخ الخليلي عندما قال إنّ "هذه القضيّة لا ننكر وقوعها، إلّا أن ذلك قد رُوِّج له ترويجًا عجيبًا عند الناس، وهذا الذي جعل الناس يتأثرون تأثرًا نفسيًا عجيبًا وتترادف عليهم الأمراض النفسيّة، وتكثر عندهم الأوهام، وتشيع عندهم الخيالات، حتى يتحدث الإنسان بأنه رأى كذا ورأى كذا، وأنه يحس بكذا في حالة نومه أو في حالة انفراده أو في غير ذلك من أنواع الحالات. هذا إنما هو غالبًا ناشئ عن حالات نفسيّة، وقد كان الواجب أن تكافح هذه الأمور نفسيا بحيث يعوُّد الناس على التصلّب".
أما الفلسفة فتتعمّق بدورها في طرح أسئلة حول هذه الظاهرة، وإن كانت من زوايا أكثر تجريدية: هل هناك ذات واحدة أم ذوات متعددة داخل الإنسان؟ وهل يمكن لكيان غير مادي أن يحلّ محلّ الوعي الإنساني؟ تحدث ديكارت في فلسفته حول "ثنائية العقل والجسد"، وفي ضوء هذه الفلسفة، يمكن تخيّل التلبّس أنه نوع من حلول وعي آخر في الجسد. لكن المدارس المادية ترفض هذا تمامًا، وترى أن الوعي لا يمكن فصله عن الدماغ المادي. بينما ترى الفلسفات المعاصرة أن الذات قد تكون مرنة ومتغيرة، وأن ما نسميه "تلبُّسًا" ربما يكون فقط تعبيرًا رمزيًا عن تشظي النفس بفعل الصدمة أو الكبت أو الانفصال عن الواقع.
الشهادات الواقعية تحكي قصصا عن شباب وفتيات تغيرت أصواتهم، وتحدثوا بلغات لم يعرفوها من قبل، ثم "شُفوا" بعد الرقية الشرعية في العالم الإسلامي أو بعد التراتيل الإنجيليّة في العالم المسيحي. لكن الأطباء يحذرون من الخلط بين تحسُّن نفسي مؤقت ناتج عن الدعم الروحي، وبين شفاء حقيقي يحتاج إلى علاج مهني.
لا يمكن للعلم أن يلغي الغيب، كما لا يجوز أن يحتكر الدينُ تأويلَ كل ما هو غامض. وتبقى الظاهرة قائمة، تعكس ما هو أعمق من مجرد تفسير؛ بل تمتد إلى ما يشبه الخريطة الوجدانية للعقل البشري. وبين من يراها تجليًا للروح، ومن يفسّرها بانهيار كيميائي في الدماغ، تظلّ الحقيقة رهينة الحوار بين العقول، والإنصات إلى التجربة، والاعتراف بأن بعض الأسئلة لا تحتاج إلى إجابة نهائية؛ بل إلى فهم أعمق لما نجهله.
Orange background

جرب ميزات الذكاء الاصطناعي لدينا

اكتشف ما يمكن أن يفعله Daily8 AI من أجلك:

التعليقات

لا يوجد تعليقات بعد...

أخبار ذات صلة

العـَوْدَةُ من عـَتَـبَـةِ المَـوْت
العـَوْدَةُ من عـَتَـبَـةِ المَـوْت

جريدة الرؤية

time٠٦-٠٧-٢٠٢٥

  • جريدة الرؤية

العـَوْدَةُ من عـَتَـبَـةِ المَـوْت

بدر بن خميس الظفري تعرفتُ لأول مرة على مصطلح (Near Death Experience) وتعني "تجربة الاقتراب من الموت" وتختصر ( (NDE، من الزميل سليمان البُحري، محرر ومذيع الأخبار الإنجليزية في الإذاعة، حين أرسل لي رابطًا لمقطع على منصة يوتيوب ترجمة عنوانه: "ملحدة ماتت ووجدت حياة بعد الموت". كان العنوان مثيرا جدا، وشغل بالي منذ ذلك الحين، فشاهدت المقطع، الذي كان بمثابة باب انفتح على عالم غريب، يقف على تخوم الحياة والموت، ويتأرجح بين العلم والروح، وبين المعلوم والمجهول. تسرد نانسي راينز، بطلة هذا المقطع، كيف غادرت روحها جسدها إثر حادث سير مروّع، لترى المشهد من مكان عالٍ، قبل أن تنجذب، كما تصفُ، إلى فضاء مشرق بالنور والطمأنينة، وتستقبلها كائنات من نور، تُشع حبًا وسكينة. هناك، عُرضَ شريط حياتها أمام عينيها لحظة بلحظة، وكأنها على موعد مع حساب ذاتي صامت. نانسي كانت ملحدة لم تؤمن بأي معتقد، لكنها عادت من تلك التجربة تحمل في روحها نورًا جديدًا، ويقينًا لم تألفه من قبل. في البداية، قد تبدو هذه التجربة استثناءً غريبًا، أو حكاية عابرة من حكايات ما وراء الطبيعة، لكنّ التأمل في آلاف الحالات الموثقة التي تشبه هذه التجربة، يكشف عن بنية مكرّرة وعناصر تتكرر بتشابه مدهش، فهناك شعور بالخروج من الجسد، والمرور عبر نفق مظلم، ورؤية ضوء ساطع، ولقاء كائنات نورانية، ومراجعة للحياة الماضية، وشعور بالسلام والطمأنينة، ثم العودة إلى الجسد. وتتكرر هذه التجربة لدى أشخاص من خلفيات دينية وثقافية وعرقية متباينة، بل حتى لدى الأطفال أو أشخاص لا يؤمنون بأي معتقد روحي. فهل هي مجرد هلوسة عصبية؟ أم أننا أمام ظاهرة تتحدى الفهم التقليدي للوعي والموت؟ من أبرز من درسوا هذه الظاهرة العالم الأمريكي الدكتور ريموند مودي، الذي صاغ مصطلح "تجربة الاقتراب من الموت" (NDE) في سبعينيات القرن العشرين. في كتابه الشهير "الحياة بعد الحياة" الصادر عام 1975، جمع مودي شهادات لأشخاص مرّوا بتجربة الموت السريري، ورصد نمطًا متكررًا من التجارب، دون أن يحاول تأطيرها ضمن منظومة دينية أو علمية قاطعة، وكانت ملاحظاته الأولى دعوة للعلماء إلى أخذ هذه التجارب على محمل الجد، بوصفها ظواهر نفسية وروحية متكررة تستحق التأمل، وليست خرافات أو هلوسات. لاحقًا، جاء الباحث الأمريكي الدكتور بروس غرايسون، أستاذ الطب النفسي في جامعة فيرجينيا، ليمنح هذا المجال بعدًا علميًا أكثر دقة، فوضع عام 1983 ما يُعرف بـ"مقياس غرايسون لتجربة الاقتراب من الموت"، لقياس عمق وخصائص هذه التجارب. وقد لاحظ أن كثيرًا من الحالات التي درسها حدثت أثناء توقف النشاط الكهربائي للدماغ، ما يعني أن الدماغ كان في حالة عجز تام عن توليد الوعي حسب الفهم الطبي التقليدي. ورغم ذلك، تحدث المرضى، بعد نجاتهم من الموت، عن تجارب واعية واضحة، بل غنية بالمشاعر والمعاني، وأحيانًا تزامنت أقوالهم مع وقائع حدثت أثناء غيبوبتهم. حاولت بعض النظريات العصبية تفسير هذه الظاهرة بفرضيات كنقص الأوكسجين، أو إفرازات غير طبيعية من الغدة الصنوبرية التي تفرز مركب (ثنائي ميثيل تريبتامين)، وهو مركب مهلوس يُعتقد أنه مسؤول عن رؤى مشابهة. لكن كثيرًا من التجارب حصلت في ظروف لم تشهد نقصًا في الأوكسجين، أو في حالات خضع أصحابها لمراقبة صارمة لم تُظهر مؤشرات فيزيولوجية تؤيد هذه التفسيرات. بل إن هذه التجارب، في بعض وجوهها، تتجاوز ما يمكن أن تسببه مادة كيميائية. كيف نفسّر أن شخصًا أميًّا يرى نفسه يقرأ كتابًا؟ أو أن طفلًا في الخامسة يصف مشهد غرفة العمليات بدقة لا يمكن أن يعرفها؟ بل الأهم من كل هذا، لماذا تؤدي هذه التجارب إلى تغييرات جذرية طويلة المدى في سلوك الأفراد وقيمهم ونظرتهم للحياة والموت؟ هنا تبرز الأسئلة الفلسفية الكبرى. هل الوعي مجرّد إفراز من الدماغ، كما يرى الماديون؟ أم أن العقل كيان مستقل، يتصل بالجسد حينًا وينفصل عنه حينًا، كما ذهب الفيلسوف رينيه ديكارت في نظريته الثنائية؟ في ضوء هذه التجارب، باتت نظرية ديكارت تستعيد شيئًا من بريقها. ويذهب بعض الفلاسفة المعاصرين إلى ما هو أبعد من ذلك، مقترحين أن الدماغ ليس منتِجًا للوعي، بل مُرسِلًا أو مستقبلًا له، كما تستقبل الإذاعة البث من الخارج دون أن تنتجه. أما على الصعيد الروحي، فتتقاطع هذه التجارب بشكل مدهش مع ما ورد في الأدبيات الصوفية. تحدّث ابن عربي، الفيلسوف والمتصوف الأندلسي المعروف بـ"الشيخ الأكبر"، عن "الفناء في النور"، حيث يفقد الإنسان شعوره بالذات ويندمج في نور الحق. وكتب السهروردي، مؤسس فلسفة الإشراق وصاحب الرؤى الرمزية حول عوالم النور، عن "العروج إلى العوالم النورانية"، وهي حالات تأملية يشهد فيها السالك مشاهد غير مادية تُكشف له بالبصيرة. وذكر الجنيد البغدادي، أحد أوائل منظّري التصوف في بغداد، حالات من الانفصال عن الجسد والعودة إليه، كأنها سفرات روحية مؤقتة يعيشها القلب في غيبته عن الدنيا. ورغم اختلاف اللغة والتأويل، إلا أن الجوهر يبدو مشتركًا، وهو أن الإنسان، في لحظة صفاء أو موت أو غياب، يعبر حدود الحس ويتصل بعالم أرحب، يتجاوز المادة، ويوقظ فيه معنى أسمى للوجود. ومن اللافت أن هذه التجارب لا تقتصر على مؤمنين أو متدينين، بل يخوضها كثير من الملحدين أو اللادينيين، ويعودون منها وقد تبدلت نظرتهم للحياة والوجود والمصير. إنها تجارب شخصية شديدة الخصوصية، لكنها تتقاطع على نحو مدهش مع تجارب الآخرين، وكأنها لغة كونية عابرة للأديان والثقافات. ورغم أن العلم لم يقدّم حتى الآن تفسيرًا حاسمًا لهذه الظاهرة، فإن حجم الشهادات، واتساقها، وتأثيرها العميق في الأفراد، يجعل من الصعب تجاهلها أو تسفيهها. هي دعوة لإعادة التفكير في حدود العلم، وفي طبيعة الوعي، وفي معنى الموت، وربما أيضًا في سرّ الحياة. إن العودة من عتبة الموت هي شهادة وجودية على أن الإنسان كيان أعمق مما نظن، وأن لحظة "النهاية" قد تكون بداية نوع آخر من الإدراك، لا ندرك كنهه تمامًا، لكنه يوقظ فينا السؤال الكبير: هل نموت حقًّا؟ أم نولد من جديد على نحو لا نتصوره؟

هل يتلبّس الجِنيُّ بجسد الإنسان؟
هل يتلبّس الجِنيُّ بجسد الإنسان؟

جريدة الرؤية

time٢٨-٠٥-٢٠٢٥

  • جريدة الرؤية

هل يتلبّس الجِنيُّ بجسد الإنسان؟

بدر بن خميس الظفري @waladjameel سُئل سماحة الشيخ العلامة أحمد بن حمد الخليلي، المفتي العام لسلطنة عُمان، عن قضيّة تلبس الجن بالإنس فأجاب في مقطع مرئي منشور على "يوتيوب" بأنّ "هذه القضية العلماء وقفوا منها موقفيْن: منهم من قال بدخول الجن في جسم الإنس لأن أجسامهم أجسام لطيفة، أي هم أقرب إلى الروحانيّة، فلذلك يتمكنون من الدخول. ومنهم من قال بعدم دخولهم لأنهم ولو كانت أجسامهم لطيفة، إلا أنهم أجسام، فلا يتلبس جسم بجسم. ولكن مع ذلك هناك تأثير من حيث الإيحاء، فقد يتكلم الإنسان كلامًا يوحيه إليه الجني الذي تلبس به بطاقته الروحانيّة، لا بدخوله إلى جسمه حسبما يبدو، وإنما يؤثر عليه تأثيرا حتى يتحدث بما يتحدث به..". منذ فجر التاريخ، لم تنفكّ البشرية عن رواية القصص الغريبة التي تنسب حالات استثنائية من السلوك البشري إلى قوى خفية غير مرئية. وعلى الرغم من اختلاف الأديان والثقافات، ظلّ الاعتقاد بإمكانية "تلبّس الجن" بجسد الإنسان واحدًا من أكثر المعتقدات رسوخًا في الخيال الجمعي البشري. لكن أمام تطوّر العلوم الطبية والنفسية، برز سؤال جوهري: هل نحن فعلًا أمام كائن غيبي يقتحم الجسد، أم أمام اضطرابات عقلية نُسقط عليها تفسيرات غير مادية؟ في المنظور الإسلامي، يُعدّ الإيمان بالجن جزءًا من العقيدة، وقد خُصصت لهم سورة كاملة في القرآن. كما يُستشهد بآيات مثل قوله تعالى "الذي يتخبّطه الشيطان من المسّ" لتأكيد فكرة التلبُّس. وقد تباينت آراء العلماء في هذه الفكرة، فابن تيمية وابن القيم يَرَيَان التلبُّس أمرًا ثابتًا شرعًا وواقعًا. أما الإمام الشافعي، وبعض المفكرين المعاصرين، فيرون أن تلك الحالات أقرب إلى الأمراض النفسية، وأن الشيطان يؤثِّر بالوسوسة لا بالدخول الحرفي إلى الجسد. وفي المسيحية، تروي الأناجيل قصصًا عديدة عن قيام المسيح بطرد الأرواح الشريرة من أجساد المرضى، كما هو الحال في قصة المجنون الجرجسي أو الصبي المصروع. الكنيسة الكاثوليكية ما زالت تمارس طقوس "الإكسورسيزم" رسميًا، بينما تختلف المذاهب الأخرى في التفسير، بين تأويلات روحية وأخرى نفسية. وفي اليهودية، يظهر مفهوم "الديبوك"، ويعني روح الميت التي تسكن جسد الحي، بينما نجد في الديانات الهندوسية والبوذية والأفريقية طقوسًا يُنظر فيها إلى "تلبّس الروح" لا كشرّ؛ بل كوسيلة للتواصل مع المقدّس. لكن العلم الحديث، بما فيه من تقدم في مجالات الطب النفسي وعلم الأعصاب، يقدّم تفسيرات مختلفة تمامًا؛ فحالات الفصام، مثلًا، قد تفسّر هلوسات الأصوات والتغيرات في الشخصية. بينما يشرح "اضطراب الهوية الانشقاقي" تعدُّد الشخصيات التي قد يتحدث بعضها بلغات مختلفة. كذلك نوبات الصرع، خاصةً تلك المرتبطة بالفص الصدغي، يُمكن أن تولِّد سلوكًا غريبًا أو تشنُّجات عنيفة تبدو للعين المُجرَّدة كتلبُّسٍ. وتبرُز أيضًا مُتلازمة "توريت"، التي تُنتج ألفاظًا لا إرادية وأفعالًا حادة قد تُفسّر شعبيًا كتصرّف شيطاني. ما يهُم في الطرح العلمي هو أن التجربة التي يمر بها الشخص المتلبّس ليست محل إنكار، وإنما تختلف حولها التأويلات. ففي دراسة نُشرت في مجلة علم النفس عام 2021، تبيّن أن كثيرًا من مرضى الفصام الذين يؤمنون بأنهم "مسكونون" قد تأخروا في تلقّي العلاج الطبي بسبب تفسيرهم الروحي للحالة. ولهذا، يدعو الأطباء إلى اعتماد نهج متكامل يحترم المعتقدات الثقافية للمريض، دون أن يغفل الحاجة إلى العلاج الدوائي والنفسي. وهذا ما أكد عليه سماحة الشيخ الخليلي عندما قال إنّ "هذه القضيّة لا ننكر وقوعها، إلّا أن ذلك قد رُوِّج له ترويجًا عجيبًا عند الناس، وهذا الذي جعل الناس يتأثرون تأثرًا نفسيًا عجيبًا وتترادف عليهم الأمراض النفسيّة، وتكثر عندهم الأوهام، وتشيع عندهم الخيالات، حتى يتحدث الإنسان بأنه رأى كذا ورأى كذا، وأنه يحس بكذا في حالة نومه أو في حالة انفراده أو في غير ذلك من أنواع الحالات. هذا إنما هو غالبًا ناشئ عن حالات نفسيّة، وقد كان الواجب أن تكافح هذه الأمور نفسيا بحيث يعوُّد الناس على التصلّب". أما الفلسفة فتتعمّق بدورها في طرح أسئلة حول هذه الظاهرة، وإن كانت من زوايا أكثر تجريدية: هل هناك ذات واحدة أم ذوات متعددة داخل الإنسان؟ وهل يمكن لكيان غير مادي أن يحلّ محلّ الوعي الإنساني؟ تحدث ديكارت في فلسفته حول "ثنائية العقل والجسد"، وفي ضوء هذه الفلسفة، يمكن تخيّل التلبّس أنه نوع من حلول وعي آخر في الجسد. لكن المدارس المادية ترفض هذا تمامًا، وترى أن الوعي لا يمكن فصله عن الدماغ المادي. بينما ترى الفلسفات المعاصرة أن الذات قد تكون مرنة ومتغيرة، وأن ما نسميه "تلبُّسًا" ربما يكون فقط تعبيرًا رمزيًا عن تشظي النفس بفعل الصدمة أو الكبت أو الانفصال عن الواقع. الشهادات الواقعية تحكي قصصا عن شباب وفتيات تغيرت أصواتهم، وتحدثوا بلغات لم يعرفوها من قبل، ثم "شُفوا" بعد الرقية الشرعية في العالم الإسلامي أو بعد التراتيل الإنجيليّة في العالم المسيحي. لكن الأطباء يحذرون من الخلط بين تحسُّن نفسي مؤقت ناتج عن الدعم الروحي، وبين شفاء حقيقي يحتاج إلى علاج مهني. لا يمكن للعلم أن يلغي الغيب، كما لا يجوز أن يحتكر الدينُ تأويلَ كل ما هو غامض. وتبقى الظاهرة قائمة، تعكس ما هو أعمق من مجرد تفسير؛ بل تمتد إلى ما يشبه الخريطة الوجدانية للعقل البشري. وبين من يراها تجليًا للروح، ومن يفسّرها بانهيار كيميائي في الدماغ، تظلّ الحقيقة رهينة الحوار بين العقول، والإنصات إلى التجربة، والاعتراف بأن بعض الأسئلة لا تحتاج إلى إجابة نهائية؛ بل إلى فهم أعمق لما نجهله.

كيف نُعيد الطفل إلى الطبيعة؟
كيف نُعيد الطفل إلى الطبيعة؟

جريدة الرؤية

time٢٨-٠٤-٢٠٢٥

  • جريدة الرؤية

كيف نُعيد الطفل إلى الطبيعة؟

ريتّا دار ** في خضمّ الحياة الرقمية المتسارعة أصبحت الأجهزة الذكيّة تحتلّ مكان المساحات الخضراء؛ حيث يعيش الأطفال اليوم بعيدين عن أبسط أشكال التواصل مع الطبيعة، ما يهدّد توازنهم النّفسي والجسدي، والسّؤال الّذي يفرض نفسه هنا: كيف نُعيد أطفالنا إلى أحضان الطّبيعة قبل أن تفقد مكانتها في وجدانهم؟ تشير الدّراسات إلى أنّ غياب الطّبيعة عن حياة الطّفل ليس تفصيلًا هامشيًّا، بل يؤثّر بشكل مباشر على نموّه وسلوكه. فقد كشف تقرير المجلس العربيّ للطفولة والتّنمية لعام 2020 أنّ 70% من الأطفال العرب يقضون أوقات فراغهم في استخدام الأجهزة الإلكترونية، بينما تقلّ نسبة مشاركتهم في أنشطة بيئية أو رياضيّة في الهواء الطّلق إلى أقلّ من 20%. وعلى الصّعيد العالميّ، تؤكد منظمة الصّحة العالميّة أن قضاء الأطفال وقتًا منتظمًا في الطّبيعة يحسّن المزاج العام، ويخفض مستويات التوتّر، ويعزز مهارات التّركيز والتعلّم. كما أظهرت مراجعة علميّة نشرتها مجلّة علم النّفس الأمامي عام 2019 أنّ التّفاعل مع البيئة الطّبيعية يُسهم في تحسين القدرات الاجتماعيّة والحدّ من السّلوكيات العدوانية لدى الأطفال. وفي هذا السياق نؤكّد أن "العودة إلى الطّبيعة" ليست ترفًا تربويًّا؛ بل ضرورةً حيويةً لصناعة جيلٍ متوازنٍ نفسيًا وجسديًا. لم تغفل الدّراسات أهمية النشاطات البيئية المباشرة؛ إذ أثبتت دراسة جامعة كولومبيا البريطانية أنَّ زراعة الأطفال للنباتات، حتى في بيئات حضريّة صغيرة، تعزز لديهم الإحساس بالمسؤولية والانتماء، وغرس قيم التعاون والمثابرة. أما في سلطنة عُمان، فقد أطلقت وزارة التربية والتعليم مبادرة "المدارس الخضراء"، التي تهدف إلى غرس الوعي البيئي في نفوس الطلاب عبر أنشطة عملية مثل الزراعة المدرسية وإعادة التدوير، مما يُعزز العلاقة بين الطفل والبيئة المحيطة به. ورغم ما قد يبدو من تحدّيات، إلّا أنّ العودة إلى الطبيعة لا تتطلب إمكانيات ضخمة أو استثنائية. يكفي تنظيم نزهة أسبوعية إلى حديقة قريبة، أو مشاركة الطفل في زراعة نبتة بسيطة مثل الحبق أو النعناع على شرفة المنزل؛ والاحتفال بإنجازاته الصغيرة باستخدام بعضٍ مما زرعه والثّناء عليه وتشجيعه. كما يمكن تخصيص "ركن أخضر" في المنزل حيث يتابع الطفل نمو النباتات ويتعلم الصبر والرعاية. تلعب القدوة دورًا جوهريًا في تشكيل علاقة الطفل بكل ما حوله. الطفل الّذي يرى والديه يهتمّان بالبيئة سيتبنّى هذا السلوك بالفطرة وسيتعلّم أن الأرض كائن حيّ يمنحنا الحياة. توصي منظمة الأغذية والزراعة "الفاو" أيضًا بإدخال أنشطة الزراعة البسيطة ضمن الحياة اليومية للأطفال، لترسيخ مفاهيم الاستدامة والمسؤولية البيئية. إنَّ إعادة الطفل إلى الطبيعة أصبحت مسؤولية حقيقية تقع على عاتق الأسرة والمدرسة والمجتمع بأسره؛ فلنعمل على أن تبقى الطبيعة جزءًا حيًّا في حياة أطفالنا، لا مجرّد صورة رقمية تمرّ عبر الشاشات. *********** المصادر : تقرير المجلس العربي للطفولة والتنمية 2020 منظمة الصحة العالمية ( WHO ) مراجعة علمية بمجلة علم النفس الأمامي 2019 (Frontiers in Psychology) دراسة جامعة كولومبيا البريطانية . مبادرة المدارس الخضراء، وزارة التربية والتعليم في سلطنة عُمان . منظمة الأغذية والزراعة (الفاو) . ** كاتبة سورية

حمل التطبيق

حمّل التطبيق الآن وابدأ باستخدامه الآن

هل أنت مستعد للنغماس في عالم من الحتوى العالي حمل تطبيق دايلي8 اليوم من متجر ذو النكهة الحلية؟ ّ التطبيقات الفضل لديك وابدأ الستكشاف.
app-storeplay-store