
مراسل الجزيرة نت: هذه حكايتي مع الجوع في غزة
وفي هذه الشهادة الصادمة، يكتب موسى من بين الركام والخيام، بأنامل "ترتجف من شدة الجوع"، حكايته الخامسة مع النزوح، والتجويع الممنهج، والخوف الذي صار ظلا دائما له ولسكان قطاع غزة ، هذه ليست فقط شهادة صحفية، بل صرخة من داخل المجاعة.
حكايتي مع الجوع
هذه كلمات خطتها أنامل ترتجف من شدة الجوع، لا خوفا، فقد تماهينا مع الخوف في غزة، وبات بالنسبة لنا نمط حياة، حتى إنه يرافقنا كظلنا، ويشاركنا أماكن نومنا، ويزاحمنا في شوارعنا وخيامنا وأفكارنا، منذ أن اندلعت هذه الحرب المجنونة التي تقترب من إتمام عامها الثاني تواليا.
لست على يقين من بقائي على قيد الحياة لأقرأ ما كتبت بعد نشره على موقع الجزيرة نت، فاحتمالات الموت هنا، قصفا أو جوعا، أعلى بكثير من فرص النجاة.
الجوع وحده قاس، ويفترس مع جسد الإنسان كرامته وإنسانيته، فكيف لو رافقته تجربة نزوح قاسية هي الخامسة لي منذ اندلاع الحرب في 7 أكتوبر/تشرين الأول عام 2023، لكنها هذه المرة كانت أكثر قسوة وقد فرقت بيني وبين زوجتي وبناتي.
في مطلع يونيو/حزيران الماضي وقع ما كنا نخشاه، وشملت أوامر الإخلاء الإسرائيلية المنطقة التي كنا ننزح بها في مدينة خان يونس جنوب قطاع غزة، وكان علينا أن ننزح، ولكن إلى أين؟
كان الناس يهيمون على وجوههم، يسيرون إلى حيث "اللامكان"، وقد حشر الاحتلال زهاء 900 ألف نسمة في شريط ساحلي ضيق ومحدود يعرف بمنطقة المواصي غرب المدينة، ولم يعد فيها موضع لقدم.
قررت وزوجتي الصحفية أحلام حماد أن لا مكان لنا في هذه المدينة، وهي مسقط رأسها، ولا بد من النزوح خارجها، فكان أن وجدت لها ولابنتينا صبا (15 عاما) وصدف (13 عاما) مكانا في شقة تستأجرها مؤسسة "فلسطينيات" في مدينة دير البلح من أجل عمل ومبيت الصحفيات ممن تقطعت بهن السبل، وتقتضي ظروف عملهن البقاء بعيدا عن أسرهن.
دمار شقتي
ونزحت أنا، أو ربما يجدر بي القول إنني عدت إلى مدينتي غزة، التي غادرتها نازحا نحو مدينة رفح في الأسبوع الأول من الحرب، ولكني لم أعد إلى شقتي السكنية في برج مكون من 14 طابقا وبات أثرا من بعد عين، نتيجة غارة جوية إسرائيلية.
للشهر الثاني أقيم لدى صديق يعيش رفقة نجله البكر في شقته السكنية بحي النصر شمال مدينة غزة، بينما زوجته غادرت إلى مصر في رحلة علاج من مرض سرطان الثدي، رفقة بقية أبنائها، قبيل الاجتياح الإسرائيلي لمدينة رفح في مايو/أيار الماضي.
نمازح بعضنا كثيرا ونحن نفكر يوميا فيما سنأكل، وغالبا ما يكون عدسا بلا خبز، لم نكن نعلم طريقة طهوه، واستعنت بزوجتي لإرشادنا من أجل إعداد "شوربة العدس"، التي تستدعي أن نشعل نارا في وسط الشقة باستخدام خشب من قطع أثاث حطمها صديقي محمد من غرفة نومه، حيث لا يتوفر غاز الطهي في القطاع منذ ما يزيد عن 4 أشهر.
اليوم فقط تناولت رغيفا من الخبز، وشعرت بشبع لم ألمسه منذ نحو أسبوع، إذ لم يكن الخبز أو الطحين متوفرا لدينا. اتصلت بي الزميلة نور النجار وقالت لي "سأرسل لك كنزا"، وهي تعلم أن الخبز حاليا هو كنز حقيقي وحلم بالنسبة لأكثر من مليوني إنسان مجوع في غزة، وقد أدركت مقصدها "هل تعنين خبزا؟"، وضحكنا قهرا، وهي تشرح لي كيف أنها كابدت من أجل تدبير كمية طحين بأسعار باهظة، حيث وصل سعر الكيس الواحد زنة 25 كيلوغراما إلى أكثر من 250 ضعف ثمنه الطبيعي.
هندسة التجويع
قبل نحو أسبوعين دمر الاحتلال مكانا في خان يونس تستخدمه النجار كتكية خيرية والقيام بمبادراتها الإغاثية، ويندرج هذا الاستهداف في سياق سياسة ممنهجة إسرائيلية تقوم على "هندسة التجويع"، ليس فقط بالحصار الخانق وإغلاق المعابر ومنع إدخال الإمدادات الإنسانية منذ الثاني مارس/آذار الماضي، وإنما كذلك باستهداف ما تبقى من تكايا خيرية، حيث تشير البيانات الرسمية إلى استهداف نحو 100 تكية خيرية ومركز توزيع طعام، فضلا عن ارتكاب جرائم اغتيال لعاملين في المجال الإنساني.
كنت قد قضيت أسبوعا أو أكثر من غير خبز، وكان استحضاري لتجربتي المؤلمة مع مرض الغضروف "طوق نجاة" ساعدني كثيرا على الصبر والتحمل، وقد اعتمدت نظام الصيام المتقطع، الذي خضته لخفض وزني بعد إصابتي بالغضروف، ووفق هذا النظام أقضي ما بين 20 إلى 24 ساعة متواصلة على وجبة طعام واحدة.
ليست إلا صحنا من "شوربة العدس"، في حين أسكن معدتي طوال هذه الساعات بالماء فقط، ولست واثقا من كونه نظيفا تماما وصالحا للشرب، فمع التجويع نعاني في غزة من تعطيش أيضا، وقد منع الاحتلال إمدادات المياه، واستهدف الآبار والشبكات، وقطع الكهرباء عن محطات التحلية.
أخبرتني زوجتي أنها وصبا وصدف يتغلبن على الجوع وعدم توفر الطعام بالصيام من الفجر وحتى مغيب الشمس، ويتقاسمن على موعد الإفطار رغيفا واحدا مع القليل من الدقة المصنوعة من العدس المطحون، وحبة بندورة واحدة، لا تقوى الأغلبية في غزة على شرائها، لشح الخضروات في الأسواق، وارتفاع أسعارها بصورة غير مسبوقة.
غزة الأغلى على وجه الأرض
ومثلما أخبرني صديق مقيم في كندا "الأسعار في غزة حاليا هي الأعلى على وجه الأرض"، وأجريت معه مقارنة أسعار، وكانت في غزة أعلى بمتوسط يتراوح ما بين 10 إلى 500 ضعف عنها في كندا بالنسبة لسلع مختلفة.
الناس في غزة تموت حرفيا من الجوع، وقد انهارت العبارة الشائعة لدينا "ما في حدا بيموت من الجوع"، حيث أودت المجاعة بأرواح ما يزيد عن 100 من أعمار مختلفة، أغلبيتهم رضع وأطفال.
وبات الحصول على الطعام "مهمة انتحارية"، قضى في سبيله أكثر من ألف شهيد في "مصايد الموت"، وما يزيد عن 6 آلاف جريح و45 مفقودا، منذ 27 مايو/أيار الماضي، استهدفتهم نيران قوات الاحتلال على أعتاب مراكز توزيع المساعدات التابعة لمؤسسة غزة الإنسانية ، المدعومة أميركيا وإسرائيليا، والمرفوضة من هيئات محلية ودولية.
قال لي صديق كان ميسور الحال قبل الحرب، وقد خسر عمله وكل مدخراته، ويعيل أسرة من 6 أفراد، إن زوجته تودعه بالدموع كلما ذهب للحصول على هذه المساعدات لإطعام أطفاله وكأنه ذاهب إلى الموت بلا عودة، لكن لا خيار أمامه "لن أكون شاهدا على موت أطفالي من الجوع".

جرب ميزات الذكاء الاصطناعي لدينا
اكتشف ما يمكن أن يفعله Daily8 AI من أجلك:
التعليقات
لا يوجد تعليقات بعد...
أخبار ذات صلة


الجزيرة
منذ 40 دقائق
- الجزيرة
"أحفاد صلاح الدين".. حملة كردية غير مسبوقة لإغاثة غزة
أربيل- في وقت تخنق فيه غزة تحت وطأة التجويع والحصار ودوامة القصف المتواصل، انطلقت في إقليم كردستان العراق واحدة من أوسع حملات التبرع الشعبية لمساندة الشعب الفلسطيني بالقطاع الفلسطيني نقلتها الشاشات ومنصات التواصل الاجتماعي. وتولّت منظمات خيرية محلية، بينها "بخشین" و"بختوري" و"الرابطة الإسلامية" تنسيق جهود جمع التبرعات وتحويلها إلى دعم حقيقي على الأرض. فقبل تشديد الحصار في مارس/آذار الماضي، نجحت هذه الجمعيات في إرسال طرود غذائية ودوائية عبر مؤسسات وسيطة في المناطق الحدودية، وهي تقدم الدعم اليوم عبر الحوالات المالية بالتنسيق مع جمعيات إنسانية داخل القطاع. وفي أربيل، يقول حاجي كاروان رئيس منظمة "بختوري" الخيرية التي جمعت نحو 6 ملايين دولار منذ بدء العدوان الإسرائيلي على غزة -للجزيرة نت- إن حجم التفاعل الشعبي فاق كل التوقعات، سواء في قيمة التبرعات أو تنوع مصادرها. مساهمات متنوعة ويشير كاروان إلى أن المساهمات جاءت من مختلف فئات المجتمع: فقد تبرع فلاحون بعائدات محاصيلهم، وباع شباب سياراتهم، وسجناء شاركوا بما لديهم، كما قدم البعض أقل من دولار واحد مقابل متبرع واحد قدم مئة ألف دولار، وأرملة تبرعت بخاتم زوجها المتوفى، في مشاهد إنسانية بالغة التأثير. ويضيف أن التبرعات اليومية -التي تصل أحيانا إلى 30 ألف دولار- مكّنت المنظمة من تنفيذ مشاريع إيواء وتوزيع وجبات غذائية في غزة، بينها إنشاء مخيمين للنازحين باسم "أحفاد صلاح الدين" يضم أحدهما أكثر من 250 خيمة، إضافة إلى مساجد مؤقتة وشبكات مياه بالتعاون مع بلدية غزة. أما المتبرع حاجي محمد خوشناو، فيوضح للجزيرة نت أن شعوره بالمسؤولية الأخلاقية أمام المأساة الإنسانية في غزة كان دافعه الأول للتبرع، مؤكدا أن التفاعل الشعبي جاء بدافع الضمير لا السياسة. تجارب سابقة ويضيف خوشناو أن تضامن الكرد مع غزة يتجاوز الدين إلى مشاعر إنسانية مرتبطة بتجاربهم السابقة مع الحصار والاضطهاد. وردا على انتقادات بعض الأصوات التي طالبت بتوجيه الأموال لفقراء كردستان أولا، يقول خوشناو إن التضامن مع غزة لا يتعارض مع دعم الداخل، مشيرا إلى أن هذه الحملة جمعت مكونات المجتمع الكردي على موقف موحد، مما شجعه على المساهمة. ومن جانبه، أفاد رحيم حاجي خضر، أحد وجهاء عشيرة نورديني -للجزيرة نت- بأن العشيرة جمعت نحو 100 مليون دينار عراقي (الدولار الأميركي يساوي 1405 دنانير). ويقول إن مشاهد القصف والمعاناة حرّكت ضمائر الناس، مؤكدا أن التبرعات نابعة من قناعة داخلية وليست استعراضا إعلاميا، وأن واجبهم الأخلاقي يحتم عليهم الوقوف مع أي مظلوم، خصوصا من لا يجد قوت يومه. تفاعل واسع وشهدت محافظات أربيل والسليمانية ودهوك وحلبجة تفاعلا واسعا، خصوصا بين الشباب وطلبة الجامعات الذين نظموا حملات مستقلة وأخرى بالتعاون مع منظمات المجتمع المدني، كما شاركت المساجد في إطلاق مبادرات تبرع عقب صلاة الجمعة ركزت على الدعم النقدي. ويؤكد الدكتور محمد شيخ لطيف، مسؤول العلاقات في منظمة "بهخشین" -للجزيرة نت- أن الحملة استقطبت مختلف شرائح المجتمع، حتى الأطفال والمرضى والفقراء، وبعضهم تبرع بممتلكاته الشخصية، في مشاهد إنسانية مؤثرة. ورغم هذه الجهود، يتفق القائمون على الحملات أن الكارثة الإنسانية في غزة تتجاوز إمكانيات الأفراد والمنظمات. ويقول شيخ لطيف "نحاول توفير وجبة يوميا لبعض الأسر حتى لا يموتوا جوعا، لكن المجاعة في غزة أعمق وأخطر، ولا يمكن إنهاؤها بالمبادرات الفردية فقط. وهناك حاجة ملحة لتدخل الدول الإسلامية والمجتمع الدولي قبل أن تكون العواقب كارثية". ويشير كاروان إلى أن منظمته توثق كل عملية تحويل بالأرقام والفيديوهات وتنشر تقارير دورية على منصات التواصل لضمان الشفافية ، لكنه يقر بصعوبة التحديات في ظل القصف المستمر ونقص الموارد لدى الشركاء المحليين. ويرى مراقبون أن هذه المبادرات، التي جمعت بين التبرعات الفردية والحملات العشائرية والمواقف الوجدانية، تعكس نزعة إنسانية تتجاوز حدود الجغرافيا والسياسة، وتؤكد قدرة المجتمعات المحلية على إحداث فارق حين تتحرك بدافع الضمير والمسؤولية الأخلاقية تجاه قضايا الأمة الإسلامية.


الجزيرة
منذ ساعة واحدة
- الجزيرة
مقال بواشنطن بوست: حتى المدافعون عن إسرائيل بدؤوا أخيرا الاعتراف بالحقيقة
تناول الباحث والكاتب شادي حامد، في مقال رأي بصحيفة واشنطن بوست، التحولات المتسارعة في الخطاب الغربي -بما في ذلك داخل التيار المحافظ الأميركي- تجاه الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة ، مع التركيز على أن الاعترافات المتأخرة من بعض أبرز المدافعين عن إسرائيل تمثل لحظة فارقة في مسار الرأي العام الدولي. وقال أيضا إن هناك شيئا ما يتغير، فقد بلغ الضغط الدولي على إسرائيل ذروته الجديدة، في وقت صدمت فيه صور الأطفال الفلسطينيين الجائعين ضمائر حتى أولئك الذين دافعوا عن إسرائيل طويلا، بما في ذلك الرئيس الأميركي دونالد ترامب. السردية الإسرائيلية تتراجع وأضاف الكاتب أن ترامب رفض تصريحات رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو الذي أنكر وجود هذه المجاعة ، مُقرّا بأن ما يراه في الصور "مجاعة حقيقية لا يمكن تزويرها"، مشيرا إلى أن الولايات المتحدة ستعمل مع الأوروبيين لتأسيس مراكز لتوزيع المساعدات الغذائية في قطاع غزة. والأهم من ذلك، بحسب حامد، هو ظهور بوادر تحوّل في مواقف التيار اليميني المتشدد في أميركا. فالنائبة الجمهورية مارجوري تايلور غرين كانت أول من وصف ما يجري في غزة بـ" الإبادة الجماعية" في حين أشار ستيف بانون، المستشار السابق لترامب، إلى تراجع دعم إسرائيل حتى داخل حركة ماغا ، خاصة بين من هم دون الثلاثين من العمر. وتشير استطلاعات رأي حديثة إلى أن 50% من الجمهوريين الشباب باتوا يحملون نظرة سلبية تجاه إسرائيل، مقارنة بنسبة 35% عام 2022. واعتبر الباحث أن الأولوية الآن يجب أن تكون منع المزيد من المعاناة، وأن الطريقة الوحيدة لتحقيق ذلك هي التوصل إلى وقف دائم لإطلاق النار وإنهاء حرب أودت بحياة أكثر من 60 ألف فلسطيني. وقال إن العالم بدأ يستفيق على الحقيقة، فحتى بعض أشد المدافعين عن إسرائيل -مثل الصحفيين هافيف ريتغ غور وأميت سيغال- بدؤوا يعترفون بوجود "أزمة جوع حقيقية" في غزة، وهو ما يمثل انكسارا للسردية الإسرائيلية التي طالما أنكرت ذلك. اعترافات متأخرة لكن ضرورية لكن كاتب المقال يرى أن هذه الاعترافات المتأخرة لا تعفي أصحابها من المسؤولية الأخلاقية، معربا عن تفهمه لامتعاض الفلسطينيين وداعميهم من هؤلاء المنتقدين الجدد الذين لم يتحدثوا إلا بعد أن فات الأوان بالنسبة لآلاف الضحايا. إعلان ومع ذلك، يدعو الباحث حركة التضامن مع فلسطين إلى أن تكون "خيمة واسعة" ترحب بأي شخص يعيد النظر في مواقفه السابقة على ضوء الوقائع، حتى وإن جاء من معسكر كان صامتا أو مشاركا في السابق. ويشير المقال إلى أن استمرار الحرب لم يعد لها أي مبرر إستراتيجي سوى مصلحة نتنياهو السياسية الضيقة، معتبرا أن التوظيف السياسي للحرب هو الذي أفضى إلى تدمير غير ضروري ومعاناة إنسانية هائلة. وخلص المقال إلى أن مفتاح وقف الحرب لا يزال في قبضة واشنطن التي تملك وحدها النفوذ الكفيل بتغيير سلوك إسرائيل، رغم أن الإدارات الأميركية المتعاقبة اختارت مرارا عدم استخدام هذا النفوذ. وأعرب الكاتب عن قلقه من أن الأمل الوحيد الآن قد يكون في "نزعة ترامب العاطفية وغير المتوقعة" مما يضع دعاة السلام في موقف غير مريح، لكنهم مجبرون على التعامل مع الواقع كما هو. ويؤكد أن العدالة لا تتحقق من تلقاء نفسها، بل تتطلب جهدا مستمرا وشجاعة في قبول التغيير، قائلا إذا كان ترامب، بالذات، هو من يمكنه إنهاء هذه الحرب "فعلينا أن نبتلع كبرياءنا، ونكبح شكوكنا، وندعو أن تتحول ردة فعله العاطفية تجاه الأطفال الجائعين إلى شيء أكثر من مجرد كلمات".


الجزيرة
منذ 2 ساعات
- الجزيرة
مقامرة نتنياهو الأخيرة في غزة لإنقاذ ائتلافه
في ظل حكومة أقلية لا تملك سوى 50 مقعدا بعد انسحاب الأحزاب الحريدية منها، أطلق رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو تهديدا غير مسبوق: ضمّ أجزاء من قطاع غزة تدريجيا، إذا لم توافق حركة حماس على اتفاق لوقف إطلاق النار خلال أيام معدودة. وتأتي هذه التهديدات بينما يواجه نتنياهو ضغوطا داخلية غير مسبوقة تهدد بانهيار آخر أعمدة ائتلافه، وسط تصاعد الخلافات داخل حكومته حول إدخال المساعدات إلى قطاع غزة. وقد وصفت صحيفة هآرتس هذا القرار الذي طرحه نتنياهو -المطلوب أمام المحكمة الجنائية الدولية بتهمة ارتكاب جرائم إبادة في غزة- بأنه لا يبدو مستندا إلى دوافع أمنية أو إستراتيجية بقدر ما هو محاولة مكشوفة لاسترضاء وزير المالية بتسلئيل سموتريتش ومنع انهيار الائتلاف الحكومي الهش. مناورة سياسية أم خطة جدية؟ أبلغ نتنياهو وزراءه في المجلس الوزاري المصغر (الكابينت) ، يوم الاثنين 28 يوليو/تموز، بخطة تقضي بمنح حماس مهلة قصيرة للموافقة على وقف إطلاق النار، وإن لم تستجب ستباشر إسرائيل تنفيذ خطة ضم تدريجي لأراضٍ من قطاع غزة، تبدأ بالمناطق العازلة، ثم تمتد شمالا، وصولا إلى ضم كامل للقطاع. ووفقا للقناة 12 الإسرائيلية، فإن الوزير للشؤون الإستراتيجية رون ديرمر عرض الخطة على وزير الخارجية الأميركي ماركو روبيو ، وقد لاقت -وفقا لنتنياهو- دعما من البيت الأبيض. أما الرئيس دونالد ترامب ، الذي كان في زيارة إلى أسكتلندا آنذاك، فلم يحضر الاجتماع الذي بحث فيه الموضوع. ويبدو أن نتنياهو الذي لم يكن يوما متحمسا لخطط الضم حتى خلال ولايته السابقة -بحسب وصف هارتس- بات اليوم مستعدا لاستخدامها كورقة مساومة مع شركائه في الحكومة، خصوصا "بعد إعلان إدخال المزيد من المساعدات لغزة"، وهي خطوة أثارت غضب حزب "الصهيونية الدينية" الذي يتزعمه سموتريتش. ووصف الكاتب والمحلل السياسي وسام عفيفة مقترح ضم أجزاء من قطاع غزة بأنه ليس خطة أمنية مدروسة، بل ورقة مقامرة سياسية في يد رئيس وزراء بات رهينة ابتزاز شركائه اليمينيين المتطرفين، خاصة سموتريتش وبن غفير. ومن ثم فإن "الضم" المقترح -سواء أكان عبر خطوات تدريجية أو إعلانات رمزية- لا يمكن قراءته إلا في إطار سعي نتنياهو لتقديم "تعويض" لحلفائه يوازي فشلهم في تحقيق الحسم العسكري في غزة، ويُقايضهم به على حساب مسار المفاوضات"، وفقا لعفيفة. من جانبه، يرى الباحث المتخصص في الشأن الإسرائيلي فراس ياغي أن خطوة الضم ليست مجرد أداة تهديد أو وسيلة ضغط على المقاومة، ويؤكد أن تهديد رئيس الوزراء الإسرائيلي "لم يأتِ من فراغ، بل يعكس تفعيلا لمفاهيم إستراتيجية متفق عليها بين إدارة البيت الأبيض ونتنياهو". واعتبر أن قطاع غزة لا يمكن فصله عن مجمل المشهد الإقليمي. فثمة، بحسب ياغي، قرار إستراتيجي لدى واشنطن ولدى "الصهيونية العالمية" التي يمثّلها نتنياهو بضرورة الحسم في الإقليم ككل، وليس فقط في ما يتعلق بالملف الفلسطيني. وأضاف ياغي أن الحسم هنا يقع بين خيارين؛ فإما أن يكون هناك خضوع كامل للشروط الإسرائيلية ضمن مفهوم ضم جزئي وتهجير جزئي، ونفوذ كامل وحركة كاملة للجيش الإسرائيلي، بحيث يكون هناك إشراف أمني واستنساخ لما يحدث من التنسيق الأمني بين السلطة الفلسطينية وإسرائيل في الضفة الغربية. وفي حال لم يتم الخضوع الكلي للشروط الإسرئيلية، فالجميع أمام خيار آخر وهو خيار التقسيم على أسس إثنية وطائفية، ينتج عنه رسم جغرافيا جديدة تقوم على دويلات أو إمارات أو كانتونات داخل دول قائمة، تحظى بحماية أمنية إسرائيلية مباشرة، بحسب ياغي. أداة ابتزاز ومساومة وفي رسالة داخلية بعث بها سموتريتش لأعضاء حزبه، قال: "نحن نقود خطوة إستراتيجية جيدة لا ينبغي الخوض في تفاصيلها حاليا، وخلال وقت قصير سنعرف إذا كانت ستنجح وإلى أين نتجه". وبحسب مصادر سياسية مطلعة، نقلت هآرتس أن سموتريتش أبلغ نتنياهو صراحة بأنه "سيحكم على الأمور من خلال الأفعال"، وإذا نُفذت الخطة -التي وصفها بالإستراتيجية- بالفعل، فإنه "سيبقى في الحكومة في الوقت الراهن". ويُفسر هذا التحول في خطاب سموتريتش، الذي هدد مرارا بالانسحاب من الحكومة إن استمر إدخال المساعدات من دون "حسم عسكري"، بأنه اختبار لولاء نتنياهو وفرصة أخيرة يتيحها له من أجل إرضاء قواعد اليمين المتطرف ، في ظل سقوطه في الغالبية العظمى من استطلاعات الرأي التي أجريت في الحرب. وصرح رئيس حزب "عوتسما يهدوت" إيتمار بن غفير"نحن بحاجة إلى احتلال كامل لقطاع غزة، وتشجيع الهجرة، وسحق حماس، ليس عن طريق صفقات استسلام، ولا صفقات تعيدنا إلى الوراء، بل فقط عن طريق النصر والاحتلال وتشجيع الهجرة". وفي السياق ذاته، وجه عدد من الوزراء وأعضاء الكنيست من حزب الليكود، بالإضافة إلى جميع أعضاء حزب "عوتسما يهوديت"، نداء مشتركا لوزير الدفاع يسرائيل كاتس للسماح لهم بزيارة استكشافية على الحدود الشمالية لقطاع غزة. وجاء في البيان: "قطاع غزة لم يعد منطقة جغرافية، بل هو القلب النابض لأرض إسرائيل.. وعودة الشعب اليهودي إلى هذه الأماكن ليست مجرد خطوة إستراتيجية، بل هي عودة إلى صهيون بالمعنى الأعمق والأكثر عملية". كما دعا عضو الكنيست أميت هاليفي -من الليكود- إلى سيطرة إسرائيلية على غزة في حوار على إذاعة "103 FM" قائلا: "إذا سيطرتم على المنطقة، فلن يسيطر عليها أحد غيركم، وهل يُمكننا أن نحتل غزة؟ غزة تابعة لإسرائيل تماما كما أن تل أبيب تابعة لإسرائيل، بالقدر نفسه". ودعا وزير التراث الإسرائيلي عميحاي إلياهو ، أمس الأربعاء، إلى احتلال قطاع غزة بالكامل والتخلي عن الأسرى الإسرائيليين لدى المقاومة الفلسطينية في القطاع، مثيرا ردودا غاضبة من عائلات المحتجزين وقادة معارضين. ونقلت صحيفة هآرتس عن وزير في الحكومة الإسرائيلية قوله إن فكرة ضم أراضٍ من قطاع غزة "ليست مطروحة على جدول الأعمال"، بينما عبّر مسؤول بارز آخر في الائتلاف عن تشككه قائلا: "أجد صعوبة في تصوّر حدوث ذلك، فالحكومة تحاول فقط تهديد حماس من خلال اللعب في أكثر المناطق حساسية، باستخدام ورقة الأراضي". وفي السياق ذاته، انتقد الكاتب المتخصص في الشؤون الأمنية بصحيفة يديعوت أحرونوت، آفي يسسخاروف، هذا التهديد بشدة، واصفا إياه بأنه "واحد من أغبى التهديدات الفارغة التي سمعتها". وأضاف "قولوا ببساطة إنكم تريدون بناء مستوطنات وانتهينا، لكن وفّروا علينا هذا الهراء. لا أحد في حماس سيتنازل بسبب هذا التهديد، والعالم سيسحقنا بسببه". بعيدا عن الحسابات الداخلية، فإن مجرّد التلويح بضم أراضٍ من غزة، في وقت تعاني فيه هذه المنطقة من حصار منذ 20 عاما ومن حرب إبادة اقتربت من العامين مع مجاعة غير مسبوقة وتحت وابل القصف، يكشف عن تحوّل خطير في عقلية صناع القرار الإسرائيلي. فبعد أشهر من الترويج لخطط "تدمير حماس"، تتحول الحرب إلى صراع على الأرض نفسها، لا على التهديدات الأمنية فقط. ويرى المراقبون أنه لا يبدو أن مثل هذه الخطط ستؤدي إلى تحقيق أهداف إسرائيل، إذ إن السيطرة على أراضٍ مأهولة وسط الدمار والمقاومة المستمرة لن تكون إلا مكلفة عسكريا وسياسيا. كما أن مجرد الإعلان عن خطة الضم، حتى لو لم تُنفذ، يعطي حماس ورقة جديدة في المعركة الدبلوماسية أمام العالم. واعتبر عفيفة خطة الضم في جوهرها إعلان هروب للأمام وفشل في تحقيق أهداف الحرب، لا سيما إسقاط حكم حماس أو استعادة الأسرى أو السيطرة الميدانية. وأضاف أن حماس يمكنها -إن أحسنت التعامل- أن تُحوّل هذا التهديد إلى منصة دولية لفضح المشروع الاستعماري الإسرائيلي، ووسيلة لحشد دعم سياسي وشعبي واسع يضع الاحتلال في موقع المدان لا صاحب المبادرة. ويعتقد المتخصص ياغي أن إسرائيل ذهبت باتجاه المخطط الذي وضعه نتنياهو والذي يهدف إلى الحصول على الأسرى عبر الخداع والتضليل بمفاهيم الصفقات الجزئية والمحافظة على حالة الحرب، والكل يتحدث عن بقائه السياسي وائتلافه الحاكم في حين ينفَّذ مخطط متفق فيه مع الأميركيين يشمل المنطقة ككل ضمن تغيير جيوسياسي شامل في داخل المنطقة. وأضاف أن الهدف لم يكن قط هو القضاء على المقاومة في غزة بقدر ما كان الهدف هو السيطرة على قطاع غزة ككل، وبالتالي العمل في داخل القطاع وفق الرؤية الأميركية والإسرائيلية وحتى لو وافقت المقاومة ونزعت سلاحها وتم إبعاد قيادتها من غزة سيقومون بالسيطرة على جزء من قطاع غزة. فإسرائيل، وفقا لياغي، تعمل على مفهوم الجغرافيا والديمغرافيا؛ فهي تريد تقليص مساحة القطاع إلى مساحة صغيرة، وما الخرائط التي قدمت للمفاوضات بإبقاء السيطرة على 40% من مساحة القطاع بأيدي الجيش الإسرائيلي إلا دليل على ذلك، إضافة إلى تغيير ديمغرافي ضمن مخطط لتهجير نحو نصف سكان القطاع. بين القانون والواقع ويشكك المراسل السياسي للقناة 12 عميت سيجال بقرار الضم ويعتبر الأهمية القانونية للضم دراماتيكية، وقال: "إذا قررت الحكومة ضم أراضٍ، حتى لو كانت صغيرة جدا، فلن يكون من الممكن التراجع عن هذه الخطوة من دون موافقة 80 عضوا في الكنيست أو استفتاء، وفقا لقانون صدر عام 2014". ولم يُجر استفتاء قط في إسرائيل، لذلك ينتظر نتنياهو على أمل التوصل إلى اتفاق قبل أن يُجبر على اتخاذ قرار بشأن خطوة يكاد يكون من المستحيل التراجع عنها، وستكون لها آثارٌ وخيمة على علاقات إسرائيل مع حكومات أخرى في العالم. ولكن التهديد بضم أراض من غزة يعيد إلى الأذهان محاولات إسرائيل ضم مناطق من الضفة الغربية في سنوات سابقة، لكنه في حالة غزة يبدو أكثر تعقيدا. فغزة، التي انسحبت منها إسرائيل بشكل أحادي عام 2005، لا تضم مستوطنات، ولا توجد فيها إدارة مدنية تابعة للحكومة الإسرئيلية، وهو ما يجعل أي خطوة ضم فيها سابقة قانونية دولية خطيرة. وتأتي مقترحات الضم في ظل إعراب 9 دول -لم تُعلن بعد اعترافها بدولة فلسطين- عن عزمها الاعتراف قبل انعقاد الجمعية العامة للأمم المتحدة ، إضافة إلى إعلان الرئيس الفرنسي ماكرون بشكل منفصل نيته الاعتراف بالدولة الفلسطينية في سبتمبر/أيلول القادم. وفي بيان صدر مساء الثلاثاء 29 يوليو/تموز، نيابة عن رئيس الوزراء البريطاني كير ستارمر ، جاء أنه أبلغ حكومته أن المملكة المتحدة ستعترف بدولة فلسطينية في سبتمبر/أيلول، حتى قبل الجمعية العامة للأمم المتحدة، ما لم تتخذ الحكومة الإسرائيلية خطوات مهمة لإنهاء "الوضع المروع في غزة". وقانونيا، أشار الباحث عفيفة إلى أن أي خطوة إسرائيلية لضم أراضٍ من قطاع غزة -سواء بشكل مباشر أو من خلال فرض "سيادة رمزية"- تُعد انتهاكا صارخا للقانون الدولي. فرغم انسحابها الأحادي من القطاع عام 2005، لا تزال إسرائيل تفرض سيطرتها على حدوده والمجال البحري والجوي، مما يُبقي غزة مصنفة قانونيا كأراضٍ محتلة. ومن ثم فإن أي إعلان بالضم لا يُغيّر من هذا الوضع القانوني، بل يضيف انتهاكا جديدا. واعتبر ياغي أن خطط الضم الإسرائيلية لا تستند إلى أي أساس قانوني، سواء أكان محليا أو إقليميا أو دوليا، ومخالفة لكل القوانين الدولية، باعتبار أن هناك قرارا واضحا من محكمة العدل الدولية في لاهاي نصّ على أن الضفة الغربية وقطاع غزة والقدس الشرقية هي أراضٍ محتلة، وعلى الأمم المتحدة أن تعمل لإنهاء هذا الاحتلال وحددت سنة لتنفيذ القرار الذي لم يطبق بسبب موازين القوة الراجحة لمصلحة إسرائيل والولايات المتحدة. وشدد ياغي على أن نتنياهو سيمضي في تنفيذ خطة الضم ما دام هناك ضوء أخضر أميركي كامل وصمت عربي رسمي، ما لم تبادر بعض الدول العربية والإسلامية إلى ممارسة ضغوط حقيقية على واشنطن، والتعامل مع أي خطوة من هذا النوع ليس فقط بوصفها جريمة حرب، بل كإعلان حرب على المنطقة بأسرها، الأمر الذي يستدعي اتخاذ إجراءات حاسمة في العلاقة مع الولايات المتحدة ومع كل من يدعم إسرائيل. وفي سياق متصل، ترى الكاتبة رافيت هيخت في صحيفة هآرتس أن إسرائيل تبتعد عن الاتفاق المرحلي الذي كان يسعى نتنياهو للوصول إليه، وهو إطلاق سراح عدد محدود من الرهائن من دون الالتزام بإنهاء الحرب، وتزداد ابتعادا عنه مع مرور الوقت. وأضافت أن "الصدمة العالمية من صور الدمار في غزة تُعزز موقف حماس وتدفعها إلى تشديد شروطها، في حين يواصل المجتمع الدولي -باستثناء الولايات المتحدة- تضييق الخناق على إسرائيل، وهو ما قد يتحول إلى حصار دبلوماسي شامل". وتابعت أن "المفارقة الصارخة تبدو في أن حكومة اليمين المتطرف كأنها تنشئ الدولة الفلسطينية بيديها وسط ظروف دولية باتت أكثر عدائية تجاه إسرائيل".