logo
المسجون في فيلم حر

المسجون في فيلم حر

الوطن٢٣-٠٤-٢٠٢٥

من التحدّيات الصعبة والمُمتعة لمخرجي الأفلام أن تتحرَّك كاميرا فيلمهم الطويل في مكانٍ واحدٍ صغير دون أن يَفقِد المُشاهدُ المتعةَ والإحساس بالسَّعة في مكانٍ ضيق، وحين تتحرك السينما لتُحَوِل خمسين عامًا من عزلةِ أبي العلاء المعري إلى إبهار بصري واسع بساعة ونصف دون أن يشعر المشاهد بالملل فذاكَ ترقيصٌ لدهشةِ الكاميرا ودهشة المعنى العميق والواسع والمتجدد الذي عاشه المعريُّ مسجونًا في ثلاثةِ أبعاد، بيته وعماه وجسده.
تتحرك كاميرا الفيلم بتوتر داخل المُعتَزل لنرى أبا العلاء وهو يقرأ التوراة، لكنَّ زوايا الرؤيةِ تَخدعنا بمتعةِ كشفِ الحقيقةِ ببطءٍ، وكأنَّنا في قصرٍ واسع شاهق، لا بيتٍ كأنَّه قبر، تتحرك الكاميرا وكأنَّ فضاءَ البيتِ لا حَدَّ له، حتَّى تَضيق الزاويةُ عند يد المعري وهي ترتعش من المَرض، وهنا نكتشف أنَّ ما كان يقرؤه ليس التوراة نفسها، بل الكتابات التوراتية -تلك المتاهات من الحكمةِ والشكوى والحنينِ والغضب- ثم فجأة تتبدَّل الكاميرا بين لقطاتٍ منخفضة وأخرى مرتفعة، لتُرينا مكتبةَ المعري وقد صارت كلها توراة (أسفار موسى الخمسة، الأنبياء يشوع وصموئيل وإشعياء)، ثم تختفي كلها وتظهر يدٌ ترتجف وهي تكتب بقايا الكتابات، إلى أن تعود الكاميرا بهدوءٍ إلى المَعري وقد خفتَ الضوءُ عنه وهدأت رعشتُه، وصار كأنَّه بقايا ظلٍّ لجسدٍ غادر وبقيت صرخة وجعه صدى للمكان.
هذا الفيلم يقول لنا إنَّ بين كتابات المَعريّ والكتابات التوراتيّة جامعًا مشتركًا، هو مناجاة ما تبقَّى بعد الشَّريعة، هو ما يتسرّب من ألم الإنسان حين لا يجد حقيقةَ النَّص فيصرخ كي يجده في الصَّدى، ومن علامات هذا التَّشابه هو أنَّ الفيلم لمَّا أوهمنا بأنَّ المعري يقرأ التوراةَ وضع خلفَه مقولةً شهيرة توراتية هي «باطل الأباطيل، الكل باطل» وفي الوقت نفسه نسمع صوتَ المَعرّي الغاضب من شَيءٍ مجهولٍ وهو يعزف قولَه الشهير:
«في كل جيلٍ أباطيلٌ يُدَانُ بها/ فهل تفرَّد يومًا بالهدى جيلُ»، ومن هذا المشهد يُجهّزنا الفيلم إلى طبيعةِ كتابات المعري التي تتقاطَع مع الكتابات التوراتية كالمزامير والأمثال وأيوب والجامعة ونشيد الأنشاد، إنَّه ينقلنا بصريًا لنرى المَعري يتَّجه نحو بابٍ صغير، ويتعكَّز على نتوءاتِ بيته الطيني المكسوِّ بالجصّ الأبيض مرددًا:
«تعبٌ كلها الحياة، فما أَعْـ/جَب إلا من راغبٍ في ازدياد»، وكأنَّه يضع حاشيةً على ما جاء في سفر أيوب: «لِمَ أعطيت شقاءً لذي تعب»، يَصل الشيخ إلى الباب فتموت إضاءةُ الكاميرا. ثم تُفتَح لتُجسّد الحياةَ اليومية للمعري داخل سجنه بسرديةٍ ساحرة مشحونة بالعاطفةِ المتضاربة.
الفيلم يُغلِّفُ الكتابات التوراتيّة بالموسيقى العربية، فلقد شَدّني صوتُ مزمارٍ حزينٍ يُغنّي:
صرختُ إليكَ يا ربِّ/ فأين اليَّوم ميعادك. ولم تكن هذه الترنيمة إلا تحريفًا بديعا لقول سفر المزامير «من الأعماق صرختُ إليك يا رب» لكن بعد (سَجْنها) في قالبٍ خليليّ، وهذه اللعبة السردية يُحبّها المَعري، فهو صَانع لزوم ما لا يلزم، صانع السجون في حرية باطلة. ولم يتوقف التشابه هنا، فالفيلم يعود بنا فجأة إلى المعري وهو يصرخ بعد أن مسَّه طائفٌ من الجِنّ ولم يَدر بأيّ اتجاه يتحرك في بيتِه الصغير ويردد بيتَه الكبير: «إن كان لا يحظى برزقك عاقلٌ/ وترزقُ مجنونًا فقد جُرتَ في القِسْمِ» تشابهت الصرختان؛ صرخة النبي داود وصرخة المعري، فبعد أن كانت التوراةُ تُمثّل كلمةَ اللهِ للإنسان، جاءت (الكتابات) لتُمثّل كلمةَ الإنسان لله، فرصتَه لأن يصرخ ويُخرج ما في داخله من ألم.
الفيلم أدخلنا بلسانِ المعري إلى سفر أيوب، وإلى الحوار المؤلم بين الإنسانِ والله، الإنسانِ الذي يشتكي من الظلم، ويسأل بلا كلل عن العدل، ثم تسحبنا كاميرا المخرج -دون أن نشعر- إلى سفر المزامير لتعزف به بكاءَ المعري في مَوجٍ كالجبال من مشاعر الحُبِّ والخوف والرجاء والغضب، الموجِ الذي يقول لنا إنَّ الكتابات التوراتية هي الجانب الوجودي في العهد القديم، وأنَّ الدواوين المعريّة هي الجانب الوجودي في العهد القرآني.
التفاتة:
اليهود أصحابُ العَهد القديم هم آباء المسيحيين أصحاب العهد الجديد، لكنَّ الآباء اليهود النُقّاد يرون أنَّ النَصَّ القديم (التوراة) لا يحتاج إلى وحي جديد (الإنجيل)، فهو مكتمل بذاته، والجديد في التوراة هو تجدد المعنى، أما المسيحيون فرأوا أنَّ العهد القديم يَعِد، والعهد الجديد يُحقِّق، لهذا أعادوا ترتيبَ العهد القديم بحيث تكون نهايته قريبة من بداية العهد الجديد، فتغدو رحلةُ العهد القديم دربًا إلى الخلاص بالمسيح. وللمعري كتاب سُمِيَ (الفصول والغايات) بالاتفاق، واختُلف في تكملة اسمه هل هو (في معارضة السور والآيات) أم (في تمجيد الله والمواعظ)؟ وللاختلاف الشاسع بين العنوانين رحلةٌ تُشبه العهدين القديم والجديد، ولا شكَّ أنَّ المعري يرى اكتمالَ القرآن، كما رأى المسيحيون اكتمالَ التوراة، لكن ما عَهْد المعري الجديد في مواويله ومعزوفاته التي منها: «وإنما حمّل التّوراة قارئها/ كسب الفوائد لا حبّ التِلاواتِ»؟

Orange background

جرب ميزات الذكاء الاصطناعي لدينا

اكتشف ما يمكن أن يفعله Daily8 AI من أجلك:

التعليقات

لا يوجد تعليقات بعد...

أخبار ذات صلة

وزارة الثقافة تطلق فعالية "سينما البلد" في جدة التاريخية
وزارة الثقافة تطلق فعالية "سينما البلد" في جدة التاريخية

الحدث

time٠٢-٠٥-٢٠٢٥

  • الحدث

وزارة الثقافة تطلق فعالية "سينما البلد" في جدة التاريخية

الحدث - ايات موسى جدة – 1 مايو 2025: في إطار جهود وزارة الثقافة الهادفة إلى تعزيز مكانة جدة التاريخية كوجهة تراثية وثقافية عالمية، وإلى تمكين القطاع الثقافي ليكون رافدًا اقتصاديًا قائمًا على الإبداع والمعرفة، واستعادة الى تاريخ جدة التاريخية سابقاً حيث كانت احد روافد السينما في خمسينات القرن الماضي وذلك عبر سينما حوش الجمجوم والتي أسسها فؤاد جمجوم ، أطلقت الوزارة فعالية "سينما البلد" في حارة المظلوم بمنطقة جدة التاريخية، لتكون أول سينما فنية مستقلة تنطلق من قلب النسيج العمراني للمنطقة، وتجمع بين العروض البصرية والتجربة الثقافية في بيئة تراثية أصيلة ، لتستعيد ذكريات عروض السينما في جدة التاريخية ، بفكر عصري واستحداث حديث و مميز يعكس بيئة المنطقة من تأسيس المنتج وحيد جمجوم والمخرج عبدالله علي سحرتي . وتعد "سينما البلد" هي إحدى فعاليات مبادرة "بلد الفن" التي تُقام سنويًا في المنطقة، ضمن المبادرات التي ترعاها وزارة الثقافة. وتقدّم الفعالية تجربة سينمائية مختلفة، تستلهم طابع السينما الكلاسيكية وتعيد تقديمه داخل فضاء تراثي يمزج بين الماضي والحاضر. وتشمل العروض أفلامًا مختارة بعناية، إلى جانب أنشطة ثقافية وتفاعلية تتيح للجمهور التفاعل المباشر مع الفنون البصرية، في تجربة تسعى إلى إحياء العلاقة بين المجتمع والسينما كأداة ثقافية معاصرة. شهد حفل الافتتاح عرض الفيلم السعودي القصير "حادي العيس" من اخراج المخرج السعودي عبدالله سحرتي وحصد الفلم السعودي القصير على ترشيحات ومنها جائزة افضل فلم وثائقي وجائزة لجنة التحكيم لافضل فلم وثائقي في مهرجان الأفلام السعودية كما اخذ العمل العديد من التنويهات والاشادات ومنها تنوية من مهرجان الشارقة السينمائي من لجنة التحكيم ،حيث تناول الفلم جوانب العمل الثقافة المحلية بأسلوب بصري معاصر. ويسلط العمل الضوء على الجمال في الجزيرة العربية وارتباطها العاطفي والتراثي باهالي المنطقة ويتناول تاريخها في الجزيرة ، وشارك في الفعالية عدد كبير من الفنانين والمثقفين، إلى جانب حضور من المهتمين بمجال السينما والفنون، وممثل عن وزار ة الثقافة، في مشهد يعكس مستوى التفاعل الواسع مع الفعاليات الثقافية التي تحتضنها جدة التاريخية. وتقدم "سينما البلد" تجربة متنوعة تجمع بين العروض السينمائية وورش العمل والأنشطة الثقافية المصاحبة، ما يتيح للزوار التفاعل مع عالم السينما والفنون البصرية من زاوية مختلفة. وتشمل الفعالية عروضًا لأفلام محلية وعالمية مختارة بعناية، إلى جانب ورش تفاعلية في مجالات مثل التصوير وصناعة الأفلام والتصميم البصري. وتمتد الفعالية على مدى ستة أسابيع في موقع تراثي فريد بحارة المظلوم، مما يمنح الزوار تجربة ثقافية غنية ضمن أجواء جدة التاريخية. وتُسهم فعالية "سينما البلد" في دعم أهداف وزارة الثقافة الرامية إلى تعزيز حضور جدة التاريخية كموقع جاذب للفنون والمبادرات النوعية، من خلال توسيع نطاق الأنشطة الثقافية التي تقام في المنطقة وإبراز طابعها العمراني والتراثي. كما تفتح الفعالية آفاقً اقتصادية جديدة عبر تمكين المبدعين والعاملين في مجالات الإنتاج الفني والتقني، ودعم الفعاليات التي تعزز من مكانة الثقافة كمسار إنتاجي يساهم في تحريك القطاع الإبداعي محليًا. وتؤكد وزارة الثقافة من خلال هذه الفعالية التزامها بمواصلة دعم الفنون الإبداعية وتوسيع نطاق المشاركة المجتمعية في المشهد الثقافي، من خلال تفعيل المواقع التاريخية وتحويلها إلى منصة تحية للعرض والإنتاج الثقافي. وتندرج هذه الجهود ضمن مستهدفات رؤية السعودية 2030 التي تسعى إلى تمكين القطاع الثقافي ليكون رافدًا رئيسيًا في مسار التنمية الشاملة.

(أَإِلَٰهٌ مَّعَ اللهِ)؟!
(أَإِلَٰهٌ مَّعَ اللهِ)؟!

المدينة

time٣٠-٠٤-٢٠٢٥

  • المدينة

(أَإِلَٰهٌ مَّعَ اللهِ)؟!

الكون به إشارات قلَّما أنْ يتدبرها الإنسان، من ذلك حجم السموات والأرض، ثمَّ ظاهرة نزول الماء من السماء، حيث تتشكَّل به حدائق ذات بهجة، تتنوَّع بها الأشجار ألوانًا وثمارًا، فهذه اللوحة الإبداعيَّة من الكون، جعلت القرآن الكريم يطرح السُّؤال بعد هذا المشهد من الخلق: (أَإِلَٰهٌ مَّعَ اللهِ)، ثم مشهد آخر، وهو استقرار الأرض ومكوِّناتها الداخليَّة، حيث تتخللها الأنهار، وتعمل الجبال على استقرارها، وتنتقل الكاميرا لتصوِّر لوحة البحرين، اللذين يفصل بينهما الحاجز، فلا يدخل ماء أحدهما على الآخر؛ لعدم التجانس بينهما، ثم يعود القرآن الكريم بعد هذه اللوحة المتحرِّكة في الخلق، ليطرح السؤال الاستنكاري نفسه: (أَإِلَٰهٌ مَّعَ اللهِ)، ثمَّ يعرض المشهد لونًا آخر في الخلق، وهو ما له علاقة بالنفس البشريَّة، وما يعتريها من منغِّصات واضطربات نفسيَّة من قلق وأرق وهلع ووجع، فيجعلها تبحث عن حلٍّ، وتضطر إلى التوجُّه لمن يكشف السوء، فيأتيها الحلُّ بأنَّه الله، فيذهب ما بها من داء وخوف وهلع وقلق؛ ليكون السؤال القرآني بعد انقشاع الغمَّة وذهاب الهم: (أَإِلَٰهٌ مَّعَ اللهِ)، أمَّا المشهد الرابع فهو منقول من الظَّلام في البر والبحر، الذي لا يمكن أنْ يشاهد فيه الإنسان أيَّ شيءٍ؛ لعتمته وشدة سواده، فتكون البوصلة بمؤشرات في السماء تهدي النَّاس إلى الاتجاهات الصحيحة، ويتبع هذا المشهد تحرُّكات الرِّياح في قوتها وضعفها؛ ليبقى السؤال الفطري مطروحًا من جديد: (أَإِلَٰهٌ مَّعَ اللهِ)، ثمَّ لوحة جديدة تختصُّ بالإنسان نفسه، بما فيه من خلق وأجهزة بيولوجيَّة معقَّدة ونفسيَّة متعدِّدة وعلى كل ألوانه وأشكاله منذ بدايته وحتَّى نهايته، ثمَّ بعد موته واختفائه، ترابًا في الأرض، ومن ثمَّ عودته وانبثاقه وعودة الحياة له مرَّة أُخْرى؛ ليبعث من جديد، والمشهد يعرض كذلك لوحة عندما كان يرفل الإنسان في حياته، وقد سخَّر الله له كلَّ شيء، وكان محاطًا برزق قد قُدر له من السماء.وأخيرًا وليس آخرًا، يعود السؤال ليبسط نفسه قائلًا:(أَإِلَٰهٌ مَّعَ اللهِ).إن من سوء الأدب، أن يرى الإنسان -أي إنسان- المشاهد الكونية المتعددة، التي تأخذ بالألباب، وتجعل العقول تقف عندها حائرة؛ لعمق مشاهدها، وتأثيرها بالنفس البشرية، ثم يتخطاها ليشرك مع خالقه وربه وإلهه إلهاً آخر غيره؛ لذلك فإن من أعظم الظلم الشرك بالله، كما قال تعَالَى: (إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ)، والتعامل معه من جهة الله -سبحانه وتعالى- جاد، وأنَّه لا يغفر لصاحبه، كما قال تعالى: (إِنَّ اللهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاءُ)، ومن الانحرافات الخطيرة، الاعتقاد بأنَّ هناك إلهًا مع الله، ومن ذلك أنْ يتَّخذَ الإنسانُ إلهَهُ هَوَاهُ، كما قال تعالى: (أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ أَفَأَنتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلًا) ومن الأهواء الأشد ضراوةً وخطورةً وانحرافًا في هذا العصر، ما يتسرَّب إلى النفس البشريَّة من عدم وجود إلهٍ لهذا الكون، أو ما يُعرف بالإلحاد وإنكار وجود الله (فَإِنَّهُمْ لَا يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللهِ يَجْحَدُونَ).

المسجون في فيلم حر
المسجون في فيلم حر

الوطن

time٢٣-٠٤-٢٠٢٥

  • الوطن

المسجون في فيلم حر

من التحدّيات الصعبة والمُمتعة لمخرجي الأفلام أن تتحرَّك كاميرا فيلمهم الطويل في مكانٍ واحدٍ صغير دون أن يَفقِد المُشاهدُ المتعةَ والإحساس بالسَّعة في مكانٍ ضيق، وحين تتحرك السينما لتُحَوِل خمسين عامًا من عزلةِ أبي العلاء المعري إلى إبهار بصري واسع بساعة ونصف دون أن يشعر المشاهد بالملل فذاكَ ترقيصٌ لدهشةِ الكاميرا ودهشة المعنى العميق والواسع والمتجدد الذي عاشه المعريُّ مسجونًا في ثلاثةِ أبعاد، بيته وعماه وجسده. تتحرك كاميرا الفيلم بتوتر داخل المُعتَزل لنرى أبا العلاء وهو يقرأ التوراة، لكنَّ زوايا الرؤيةِ تَخدعنا بمتعةِ كشفِ الحقيقةِ ببطءٍ، وكأنَّنا في قصرٍ واسع شاهق، لا بيتٍ كأنَّه قبر، تتحرك الكاميرا وكأنَّ فضاءَ البيتِ لا حَدَّ له، حتَّى تَضيق الزاويةُ عند يد المعري وهي ترتعش من المَرض، وهنا نكتشف أنَّ ما كان يقرؤه ليس التوراة نفسها، بل الكتابات التوراتية -تلك المتاهات من الحكمةِ والشكوى والحنينِ والغضب- ثم فجأة تتبدَّل الكاميرا بين لقطاتٍ منخفضة وأخرى مرتفعة، لتُرينا مكتبةَ المعري وقد صارت كلها توراة (أسفار موسى الخمسة، الأنبياء يشوع وصموئيل وإشعياء)، ثم تختفي كلها وتظهر يدٌ ترتجف وهي تكتب بقايا الكتابات، إلى أن تعود الكاميرا بهدوءٍ إلى المَعري وقد خفتَ الضوءُ عنه وهدأت رعشتُه، وصار كأنَّه بقايا ظلٍّ لجسدٍ غادر وبقيت صرخة وجعه صدى للمكان. هذا الفيلم يقول لنا إنَّ بين كتابات المَعريّ والكتابات التوراتيّة جامعًا مشتركًا، هو مناجاة ما تبقَّى بعد الشَّريعة، هو ما يتسرّب من ألم الإنسان حين لا يجد حقيقةَ النَّص فيصرخ كي يجده في الصَّدى، ومن علامات هذا التَّشابه هو أنَّ الفيلم لمَّا أوهمنا بأنَّ المعري يقرأ التوراةَ وضع خلفَه مقولةً شهيرة توراتية هي «باطل الأباطيل، الكل باطل» وفي الوقت نفسه نسمع صوتَ المَعرّي الغاضب من شَيءٍ مجهولٍ وهو يعزف قولَه الشهير: «في كل جيلٍ أباطيلٌ يُدَانُ بها/ فهل تفرَّد يومًا بالهدى جيلُ»، ومن هذا المشهد يُجهّزنا الفيلم إلى طبيعةِ كتابات المعري التي تتقاطَع مع الكتابات التوراتية كالمزامير والأمثال وأيوب والجامعة ونشيد الأنشاد، إنَّه ينقلنا بصريًا لنرى المَعري يتَّجه نحو بابٍ صغير، ويتعكَّز على نتوءاتِ بيته الطيني المكسوِّ بالجصّ الأبيض مرددًا: «تعبٌ كلها الحياة، فما أَعْـ/جَب إلا من راغبٍ في ازدياد»، وكأنَّه يضع حاشيةً على ما جاء في سفر أيوب: «لِمَ أعطيت شقاءً لذي تعب»، يَصل الشيخ إلى الباب فتموت إضاءةُ الكاميرا. ثم تُفتَح لتُجسّد الحياةَ اليومية للمعري داخل سجنه بسرديةٍ ساحرة مشحونة بالعاطفةِ المتضاربة. الفيلم يُغلِّفُ الكتابات التوراتيّة بالموسيقى العربية، فلقد شَدّني صوتُ مزمارٍ حزينٍ يُغنّي: صرختُ إليكَ يا ربِّ/ فأين اليَّوم ميعادك. ولم تكن هذه الترنيمة إلا تحريفًا بديعا لقول سفر المزامير «من الأعماق صرختُ إليك يا رب» لكن بعد (سَجْنها) في قالبٍ خليليّ، وهذه اللعبة السردية يُحبّها المَعري، فهو صَانع لزوم ما لا يلزم، صانع السجون في حرية باطلة. ولم يتوقف التشابه هنا، فالفيلم يعود بنا فجأة إلى المعري وهو يصرخ بعد أن مسَّه طائفٌ من الجِنّ ولم يَدر بأيّ اتجاه يتحرك في بيتِه الصغير ويردد بيتَه الكبير: «إن كان لا يحظى برزقك عاقلٌ/ وترزقُ مجنونًا فقد جُرتَ في القِسْمِ» تشابهت الصرختان؛ صرخة النبي داود وصرخة المعري، فبعد أن كانت التوراةُ تُمثّل كلمةَ اللهِ للإنسان، جاءت (الكتابات) لتُمثّل كلمةَ الإنسان لله، فرصتَه لأن يصرخ ويُخرج ما في داخله من ألم. الفيلم أدخلنا بلسانِ المعري إلى سفر أيوب، وإلى الحوار المؤلم بين الإنسانِ والله، الإنسانِ الذي يشتكي من الظلم، ويسأل بلا كلل عن العدل، ثم تسحبنا كاميرا المخرج -دون أن نشعر- إلى سفر المزامير لتعزف به بكاءَ المعري في مَوجٍ كالجبال من مشاعر الحُبِّ والخوف والرجاء والغضب، الموجِ الذي يقول لنا إنَّ الكتابات التوراتية هي الجانب الوجودي في العهد القديم، وأنَّ الدواوين المعريّة هي الجانب الوجودي في العهد القرآني. التفاتة: اليهود أصحابُ العَهد القديم هم آباء المسيحيين أصحاب العهد الجديد، لكنَّ الآباء اليهود النُقّاد يرون أنَّ النَصَّ القديم (التوراة) لا يحتاج إلى وحي جديد (الإنجيل)، فهو مكتمل بذاته، والجديد في التوراة هو تجدد المعنى، أما المسيحيون فرأوا أنَّ العهد القديم يَعِد، والعهد الجديد يُحقِّق، لهذا أعادوا ترتيبَ العهد القديم بحيث تكون نهايته قريبة من بداية العهد الجديد، فتغدو رحلةُ العهد القديم دربًا إلى الخلاص بالمسيح. وللمعري كتاب سُمِيَ (الفصول والغايات) بالاتفاق، واختُلف في تكملة اسمه هل هو (في معارضة السور والآيات) أم (في تمجيد الله والمواعظ)؟ وللاختلاف الشاسع بين العنوانين رحلةٌ تُشبه العهدين القديم والجديد، ولا شكَّ أنَّ المعري يرى اكتمالَ القرآن، كما رأى المسيحيون اكتمالَ التوراة، لكن ما عَهْد المعري الجديد في مواويله ومعزوفاته التي منها: «وإنما حمّل التّوراة قارئها/ كسب الفوائد لا حبّ التِلاواتِ»؟

حمل التطبيق

حمّل التطبيق الآن وابدأ باستخدامه الآن

مستعد لاستكشاف الأخبار والأحداث العالمية؟ حمّل التطبيق الآن من متجر التطبيقات المفضل لديك وابدأ رحلتك لاكتشاف ما يجري حولك.
app-storeplay-store