
كاتب روسي: هذا هو الرجل الذي لم يستطع بوتين قتله
أصبح الصحفي الاستقصائي كريستو غروزيف أحد أبرز الشخصيات المستهدفة من قبل أجهزة الاستخبارات الروسية، وذلك بعد سلسلة من التحقيقات كشف فيها عن أسماء جواسيس روس وشبكات تجسس روسية في أوروبا، مما جعله هدفا مباشرا بالنسبة للرئيس الروسي فلاديمير بوتين.
وأشاد كاتب العمود بصحيفة نيويورك تايمز، ماشا غيسن، بمهارات غروزيف -الذي يعمل في منظمة صحفية استقصائية مستقلة اسمها بيلينغكات- في تتبع الجواسيس الروس عبر التحقيق في بيانات الهواتف المحمولة في السوق السوداء وسجلات الهجرة والمعلومات المسربة من روسيا مثل السجلات الطبية وسجلات الطيران.
ومن أبرز قضايا غروزيف التي صعدت به إلى الشهرة ووضعته في دائرة الخطر، حسب التقرير، تحقيقه في محاولة اغتيال المعارض أليكسي نافالني عام 2020، حين كشف غروزيف وفريق بيلينغكات تفاصيل شبكة عملاء المخابرات الروسية الذين سمموا نافالني، وربطوا الفريق بجهاز الأمن الروسي.
كذلك كشف غروزيف هوية العملاء الروس المتورطين في تسميم العميل البريطاني المزدوج السابق سيرغي سكريبال وابنته بغاز الأعصاب في بريطانيا عام 2018، وفق المقال.
ويعيش الصحفي البلغاري الآن في نيويورك محاطا بالحراس بعد أن اضطر لمغادرة أوروبا بسبب تهديدات مستمرة وضعت حياته وحياة أسرته في خطر.
وأدت الضغوط الأمنية التي تعرض لها وطبيعته الغريبة -التي تجعل من الصعب عليه فهم البشر في الوقت الذي يجيد فيه فهم الجداول والبيانات- إلى انفصاله عن زوجته وأطفاله، وفق المقال.
ومن أهم نجاحات غروزيف الكشف عن هوية ومكان يان مارسالك -الرئيس التنفيذي للعمليات بشركة وايركارد- عام 2021، وكان مارسالك قد هرب إلى روسيا عام 2020 بفضل علاقته بالاستخبارات الروسية، وعاش هناك في الخفاء حتى وجده الصحفي.
وأوضح الكاتب أن وايركارد شركة خدمات مالية ألمانية كانت تُعتبر من أنجح شركات التكنولوجيا المالية في أوروبا حتى فضيحة انهيارها بعد اكتشاف اختفاء ملياري دولار تقريبا من حساباتها.
وذكر المقال أن مارسالك هو نفسه من وظفته المخابرات الروسية لتنظيم عمليات التجسس والاغتيال التي استهدفت غروزيف، بعد كشف الأخير عن قضية محاولة اغتيال نافالني في 2020.
ولإيجاد مارسالك، استخدم غروزيف بيانات طبية مسرّبة من روسيا عن شخص يُدعى ألكسندر شميت (اسم غروزيف المستعار)، تطابقت بياناته الصحية وتاريخه الشخصي مع معلومات معروفة عن مارسالك، حسب المقال.
وأضاف المقال أن تحليل غروزيف مجموعة من سجلات السفر أكد استخدام شميت لجواز سفر فرنسي وتردده على روسيا وليبيا، وهي أماكن لها صلة بأنشطة مارسالك، كما ساعد تحليل بيانات الهواتف والاتصالات على دعم نتائج التحقيق، وأدى إلى كشف هوية المدير الهارب.
عواقب الصحافة الاستقصائية
وقال المقال إن غروزيف شارك كذلك في مفاوضات سرية بدأت شتاء 2022 لإطلاق سراح معارضين بارزين محتجزين في روسيا وبيلاروسيا، أبرزهم نافالني، الذي لم ينجح الصحفي بإخراجه من السجن، وتوفي المعارض عام 2024 بظروف مريبة في زنزانته، مما سبب صدمة كبيرة لغروزيف.
وشكلت وفاة نافالني، حسب المقال، لحظة مفصلية في حياة غروزيف، إذ أدرك حينها حجم الخطر المحيط به، وتنامى شعوره باليأس والغضب إزاء عجز الغرب عن حماية المعارضين الروس من "بطش الكرملين".
وأعرب غروزيف لكاتب المقال -تربطه به معرفة شخصية- عن قلقه المتزايد من تراجع حماية الولايات المتحدة للصحفيين، خاصة بعد تفكيك مؤسسات تهتم بحماية المعارضين، ما جعله يخشى أن تتخلى واشنطن مستقبلا عن حمايته أو تسلمه لروسيا.
وكان إحساس غروزيف بانعدام الأمان قد بدأ منذ 2022، حين أسفرت جهود فريق مارسالك الاستخباراتي، الذي كان يتتبع غروزيف منذ عام 2020، عن اقتحام شقة الصحفي في النمسا.
وتم كشف الحادث بعد عام واعتقال الجواسيس عبر تحقيقات الشرطة، وتبين أن المجموعة تتكون من 6 عملاء بلغاريين يعملون لصالح الاستخبارات الروسية، وفق المقال.
ووفقا للمقال، استخدم الجواسيس أسماء مستعارة لأبطال أفلام مثل "فان دام" و"جاكي شان"، وأخفوا كاميرات تجسس داخل دُمى شخصيات "المينيون"، كما راقبوا غروزيف عن قرب وتابعوا تحركاته وحاولوا اختراق هاتفه.
"صفعة على وجه بوتين"
وقال المقال إن المتهمين الثلاثة الذين خضعوا للمحاكمة هم كاترينا إيفانوفا وبيزر جمبازوف وفانيا غابيروفا، بدعوى عدم معرفتهم أنهم كانوا جزءا من شبكة تجسس حتى لحظة اعتقالهم، بينما اعترف الثلاثة الآخرون بالذنب.
وأشار المقال إلى أن الأحكام بحق الجواسيس صدرت في مارس/آذار 2025، وتراوحت العقوبات بين 5 و11 سنة، ولكن معظمهم سيقضي نصف المدة فقط وفق القوانين البريطانية.
واعتبر غروزيف الحكم "صفعة على وجه بوتين"، ولكنه حذر من أن شبكات التجسس الروسية لن تتوقف عن استهدافه أو العمل، حسب المقال.
وفي ختام المقال، أشار الكاتب إلى أن غروزيف يعيش الآن في حالة عزلة وفقدان، تتخللها ذكريات موت نافالني وانفصاله عن زوجته وبعده عن أولاده وإحساسه الدائم بالغربة والخطر، ولكنه لا يزال مصمما على مواصلة عمله رغم ذلك.
هاشتاغز

جرب ميزات الذكاء الاصطناعي لدينا
اكتشف ما يمكن أن يفعله Daily8 AI من أجلك:
التعليقات
لا يوجد تعليقات بعد...
أخبار ذات صلة


الجزيرة
منذ 2 ساعات
- الجزيرة
الناتو يتجه لرفع الإنفاق العسكري وزيادة دعمه لأوكرانيا
قال الأمين العام لحلف شمال الأطلسي (ناتو) مارك روته ، من بروكسل اليوم الخميس إن الحلف سيزيد إنفاقه العسكري ويعزز إنتاجه من الأسلحة ودعمه لأوكرانيا. وفي تصريحات قبيل اجتماع لوزراء دفاع الحلف أضاف روته أنه يتعين على الحلف الاستثمار في الدفاع الجوي والصواريخ طويلة المدى ونظم التحكم لتأمين سلامة نحو مليار شخص يعيشون داخل حدود الحلف. وتوقّع أن يتمّ الاتفاق اليوم على أهداف قدرات الحلف الجديدة. من جهته، قال وزير الدفاع الأميركي بيت هيغسيث إن رسالة الولايات المتحدة ستبقى واضحة وهي الردع والسلام عبر القوة لكن لا يمكن لدول حلف شمال الأطلسي الاعتماد على واشنطن فقط. وأضاف هيغسيث أن على كل دولة عضو في الناتو أن ترفع إنفاقها العسكري بنسبة 5% من أجل مواجهة التهديدات. أما وزير الدفاع السويدي بول جونسون، فقد قال: نرغب أن يرفع الناتو نسبة الإنفاق الدفاعي إلى 5% بحلول عام 2030. زيادة الميزانية وطالب الرئيس الأميركي دونالد ترامب أعضاء الحلف بالاتفاق خلال الاجتماع المقرر في 24 و25 يونيو/حزيران الحالي في هولندا، على زيادة الميزانيات المخصصة للدفاع لتشكّل 5% من الناتج المحلي الإجمالي لكل دولة. وعرض روته اتفاق تسوية ينص على أن يشكل الإنفاق الدفاعي الأساسي 3.5% من الناتج المحلي الإجمالي بحلول عام 2032 وأن تشكّل مجالات أوسع مرتبطة بالأمن مثل البنى التحتية 1.5%. ولفت عدد من الدبلوماسيين إلى أن روته يبدو في طريقه لضمان التوصل إلى اتفاق بالتزامن مع قمة لاهاي. لكن بعض الحلفاء ما زالوا مترددين حيال الالتزام بمستويات إنفاق كهذه. وقال هيغسيث أثناء اجتماع مع نظرائه من البلدان المنضوية في الناتو في بروكسل: "أنا هنا لضمان أن كل بلد في الناتو يفهم أن على الجميع العمل معا. على كل بلد الإسهام بهذا المستوى البالغ 5%". وتبدو إسبانيا أكثر البلدان صراحة في التعبير عن ترددها حيال المسألة، علما أنها لن تصل إلى هدف الناتو الحالي البالغ 2%من الناتج المحلي الإجمالي إلا بحلول نهاية العام. ويفيد دبلوماسيون بأن بلدانا أخرى ما زالت تفاوض على تمديد الإطار الزمني والتخلي عن مطلب بزيادة الإنفاق الدفاعي الأساسي بـ0.2% كل عام. لكن الاتفاق يبدو تسوية مقبولة بالنسبة إلى معظم بلدان الحلف، إذ سيسمح لترامب بالتباهي بأنه حقق مطلبه الأساسي رغم أنه في الواقع خفض مستوى المطالب بالنسبة إلى حلفاء بلاده الذين يواجهون صعوبات في هذا الصدد. وفي السياق ذاته، من المقرر أن يوقّع وزراء الناتو خلال اجتماعهم على الأهداف المتعلقة بالقدرات الجديدة للأسلحة التي يتطلبها ردع روسيا. وقدر وزير الدفاع الألماني بوريس بيستوريوس أن المتطلبات الجديدة تعني أنه سيتعين على برلين إضافة "ما بين 50 ألف و60 ألف" جندي جديد إلى صفوف جيشها. من جهته، أفاد نظيره الهولندي روبن بريكلمانز بأن التوصل إلى المستوى المطلوب سيكلّف هولندا 3.5% من الناتج المحلي الإجمالي. وليس الخوف من موسكو وحده هو الذي يدفع أوروبا لرفع سقف طموحاتها إذ تسود أيضا ضبابية بشأن التزام الولايات المتحدة حيال القارة. وقال روته "ما سنقرره في لاهاي وما سننفقه على الدفاع مع مرور الوقت: خطة الاستثمار الجديدة في الدفاع، مرتبط بالطبع بما نحتاج إليه فيما يتعلق بالقدرات المادية". نزاع شائك وبينما يبدو الناتو مستعدا لاتفاق بشأن الإنفاق الدفاعي، يعد ملف نزاع أوكرانيا مسألة شائكة أخرى يرجّح أن تخيّم على القمة. وسددت عودة ترامب إلى البيت الأبيض ضربة لدعم واشنطن لأوكرانيا وأحدثت هزّة في المقاربة الغربية للحرب الروسية عليها والمتواصلة منذ 3 سنوات. وأكّد هيغسيث على ضرورة فك الارتباط بين الولايات المتحدة وكييف عبر تغيّبه عن اجتماع لداعمي أوكرانيا استضافته بروكسل الأربعاء. ويسعى حلفاء كييف لتجاوز التردد الأميركي ودعوة الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي إلى لاهاي كتعبير عن الدعم.


الجزيرة
منذ 2 ساعات
- الجزيرة
تهشمت الخطوط الحمراء مع أوكرانيا فلماذا لا يُطلق بوتين السلاح النووي؟
في أحد أيام أكتوبر/تشرين الأول 2022 حل الصمت في غرف العمليات الغربية، في حين رصدت الأقمار الصناعية الأميركية ما وصفه مسؤولون بـ"النشاط المريب" في منشآت الصواريخ الروسية جنوب البلاد. لم يبدُ الأمر تدريبا روتينيا، فقد تزامن مع مؤشرات أخرى عدة جعلت التقييم الاستخباري الأميركي يتوقع استعداد روسيا لتوجيه ضربة نووية لأوكرانيا. وفي تلك الأثناء، كان قد بدأ الهجوم الأوكراني المضاد يأخذ شكلا أكثر فعالية عندما استعادت القوات المسلحة الأوكرانية السيطرة على معظم منطقة خاركيف ومدينة خيرسون. واعتقد المحللون الأميركيون أن بوتين يمكن أن يعتبر فقدان هذه الأراضي "تهديدا وجوديا للدولة الروسية"، مما يستدعي ردا نوويا طبقا للعقيدة النووية لروسيا. كما تزامن مع اتهام مفاجئ من الكرملين لكييف بأنها تخطط لتفجير "قنبلة قذرة"، مما فُهم في واشنطن على أنه قد يكون تمهيدا نفسيا لتبرير الضربة النووية. وردا على ذلك عملت الولايات المتحدة مع حلفائها على تطوير خطة طوارئ للهجوم النووي، كما أطلقت حملة اتصالات دبلوماسية لوقف التصعيد شارك فيها كل من الزعيم الصيني شي جين بينغ ورئيس الوزراء الهندي ناريندرا مودي بفعالية. ووصف تقرير "سي إن إن" تلك اللحظة بأنها "أقرب نقطة اقترب فيها العالم من استخدام السلاح النووي منذ أزمة الصواريخ الكوبية"، لكن الضربة لم تأتِ، ولم تُطلَق الصواريخ، والذي حدث أن موسكو أرادت للعالم أن يراها على حافة الزناد، لكنها لم تضغط. ولم تكن تلك المرة الأولى التي تلوّح فيها روسيا بالسلاح النووي، ومن المؤكد أنها لن تكون الأخيرة. ومع كل تهديد غربي أو تصعيد أوكراني يعود السؤال ذاته ليطرح نفسه بإلحاح: لماذا لم تستخدم موسكو سلاحها الأكثر فتكا رغم الخسائر والضغوط ورغم تهديدات بوتين المتكررة؟ وهل يمكن لموسكو أن تستمر في نقل خطوطها الحمراء دون انهيار مصداقية قدرتها على الردع؟ كيف تلاعبت موسكو بالعتبة النووية؟ منذ بداية الحرب الروسية على أوكرانيا لم يكن التهديد النووي عنصرا عرضيا في خطاب الكرملين، بل كان أداة رئيسية لإدارة التصعيد والردع الخطابي، ففي 24 فبراير/شباط 2022 افتتح فلاديمير بوتين تدشين الحرب بخطاب تلفزيوني وجّه فيه تهديدا غير مسبوق إلى خصومه الغربيين، قائلا "من يحاول عرقلتنا سيواجه ردا فوريا، وستكون عواقبه غير مسبوقة في التاريخ"، واعتُبر ذلك تلميحا رسميا إلى استعداد روسيا لاستخدام السلاح النووي إن تعرضت مصالحها الإستراتيجية للضغط. وبعد أيام قليلة -وتحديدا في 27 فبراير/شباط الماضي- أمر بوتين بوضع قوات الردع النووي في "وضع القتال الخاص"، وهي خطوة تعني تقنيا تفعيل قنوات القيادة والسيطرة التي تسمح بإيصال أوامر إطلاق الصواريخ النووية فعليا إلى وحدات التشغيل، ووفق تحليل "تشاتام هاوس"، فإن هذا الإجراء لا يشير فقط إلى تهديد، بل إلى وضعية استعداد حقيقي. ولاحقا، مع اتساع نطاق الخسائر الميدانية الروسية -خاصة بعد الانسحابات القسرية من خاركيف وخيرسون- تطور الخطاب النووي الروسي في سبتمبر/أيلول 2022 ليشمل تهديدا بالرد النووي على أي مساس بـ"وحدة الأراضي الروسية" بدلا "تعريض روسيا لخطر وجودي"، مما يفتح الباب لاعتبار تهديد الأراضي التي ضمتها حديثا مثل خيرسون أو زاباروجيا إلى عتبة التهديد النووي، هذه الصيغة الفضفاضة مكنت موسكو من التلويح النووي تحت غطاء قانوني وعقائدي أوسع. وجاء التحول النوعي الأكبر في نوفمبر/تشرين الثاني 2024 حين أعلنت موسكو تحديثا شاملا لـ"مبادئ السياسة النووية الأساسية"، لتشمل لأول مرة إمكانية استخدام السلاح النووي في حال وقوع هجوم تقليدي واسع على روسيا أو حتى بيلاروسيا حليفتها الوثيقة. والأكثر إثارة هو ما كشفه نص الوثيقة من توسيع في تعريف الأسلحة التقليدية التي يمكن اعتبارها مهددة للسيادة، حيث شملت "الإطلاق المكثف للطائرات وصواريخ كروز والطائرات المسيّرة"، مما يجعل أي حملة جوية غربية أو أوكرانية واسعة مدخلا محتملا إلى سيناريو الردع النووي. وبهذا الشكل، لم تعد العقيدة الروسية تحصر استخدام السلاح النووي في حالات وجودية فقط، بل جعلت منه أداة سياسية وعسكرية مرنة وظيفتها خلق "مظلة رعب متحركة" تمكّن موسكو من المناورة والتلويح، دون الحاجة للضغط على الزر فعليا. ويتسق هذا مع التعريف الإستراتيجي لمفهوم الردع عن الروس، ففي حين ينظر الغرب إلى الردع النووي باعتباره حالة استقرار ثابتة (توازن رعب دائم يقوم على الوضوح والشفافية والقدرة المؤكدة على الرد) تتعامل موسكو مع الردع كأداة ديناميكية متغيرة ومصممة لتخدم المصلحة الجيوسياسية في كل لحظة. وهذا ما يُعرف في العقيدة الروسية بـ"الدرع المرن" أو "الردع النشط"، وهو مفهوم يقوم على المزج بين الغموض الإستراتيجي، والتدرج في التهديد، مع الاستعداد لإعادة تعريف العتبة النووية بحسب مجريات الحرب. لذا، فقد أبقت روسيا عمدا خطها الأحمر فضفاضا يتراوح بين "تهديد وجود الدولة" و"المساس بوحدة الأراضي" أو حتى "عدوان تقليدي واسع على بيلاروسيا". كما أن "الدرع المرن" الروسي يشمل أيضا تهيئة بيئة معلوماتية ملبدة مليئة بالإشارات المتناقضة والتدريبات النووية الاستعراضية كما في حالة تدريبات "غروم 2022". في المقابل، تعتمد العقيدة النووية الأميركية على مفاهيم ثابتة وواضحة، إذ تركز بصورة محددة على عدم البدء في استخدامه إلا في ظروف في غاية الخطورة. وبحسب وثيقة "مراجعة الوضع النووي" الصادرة عن البنتاغون عام 2022، تلتزم واشنطن باستخدام السلاح النووي فقط في حالتين، هما: الرد على هجوم نووي، أو في حال الرد على هجوم يشكل تهديدا استثنائيا لبقاء الدولة أو حلفائها، سواء جرى باستخدام أسلحة دمار شامل أو هجمات تقليدية ضخمة، وهذا ما يُعرف بـ"الردع الممدد"، حيث يشمل حماية الحلفاء في إطار محدد وواضح. وبعكس النموذج الروسي القائم على الغموض والتدرج في التصعيد فإن العتبة النووية الأميركية تستبعد الهجوم الاستباقي، كما تنصّ صراحة على ألا تُستخدم الأسلحة النووية ضد دول غير نووية موقعة على معاهدة عدم الانتشار (إن بي تي) وتلتزم بها. ومع ذلك، تحتفظ واشنطن بخيارات محدودة "للردع المرن" باستخدام رؤوس نووية منخفضة القدرة، لكنها تظل ضمن بنية الردع وليس الهجوم الفعلي. لكن مع تكرار التهديدات الروسية بالتصعيد النووي دون اقترانها بخطوات تنفيذية بدأ خصوم موسكو في كييف وواشنطن بالتشكيك في جدية هذه التهديدات، وهنا تظهر المعضلة: غموض الخط الأحمر الذي يفترض أن يربك العدو قد يؤدي إلى نتيجة عكسية، إذ يُضعف المصداقية ويشجع على المجازفة. كما أن تأثير السلاح النووي يتآكل مع مرور الوقت، وينتقل الردع من أداة ضغط إلى عبء نفسي على صانع القرار الروسي ذاته الذي سيصبح مترددا في التمسك بالعتبة خوفا من التصعيد الشامل بعدما أصبح لديه الاستعداد النفسي لتجاوزها بالفعل مرات متكررة. حسابات أخرى واقعية لبوتين لكن، ثمة جانب آخر من تعقيد حسابات بوتين لا يمكن إغفاله، فبصرف النظر عن تعمد الغموض فإن الواقع الميداني والبيئي يعكس حسابات أكثر تعقيدا تكشف عن معوقات عملية تحول دون استخدام السلاح النووي في أوكرانيا المتداخلة جغرافيا والمفتوحة بيئيا. وأحد أبرز هذه الاعتبارات يتعلق بحركة الرياح في شرق أوروبا، فكما يلاحظ محللون مثل جورج فريدمان فإن الرياح في أوكرانيا متقلبة، وتحديدا في المناطق الشرقية، حيث تميل إلى الاتجاه نحو الشمال الشرقي -أي مباشرة نحو العمق الروسي، بما في ذلك مدن إستراتيجية مثل فورونيج- وهذا يعني أن أي تفجير نووي -خصوصا من النوع الإستراتيجي عالي القوة- قد ينقلب أثره على السكان الروس أنفسهم بسبب الامتداد الإشعاعي الناتج عن السحابة النووية. يضاف إلى ذلك الطبيعة المتداخلة للجبهات، فالخطوط القتالية بين الروس والأوكرانيين ليست ثابتة بل متحركة، وغالبا ما توجد قوات روسية وقواعد لوجستية على مسافات قريبة من ساحة الاشتباك، مما يعقد استخدام أي سلاح إشعاعي دون التسبب بأضرار جانبية للقوات الروسية نفسها. كما أن انتشار القوات الأوكرانية بأسلوب مرن ومفتت يقلل فعالية الضربات النووية التكتيكية التي تفترض أهدافا أكثر تمركزا لتحقيق أثر حاسم. والجغرافيا الأوكرانية نفسها لا تناسب الاستخدام النووي التكتيكي، فالمدن الرئيسية والمراكز اللوجستية الكبرى تقع غالبا بالقرب من مناطق روسية أو موالية لموسكو، مما يجعل استخدامها محفوفا بمخاطر سياسية وإنسانية لا تقل عن المخاطر العسكرية. باختصار، وعلى عكس الصورة النمطية عن الجاهزية النووية الروسية فإن العوامل الجغرافية والبيئية تشكل حاجزا ماديا حقيقيا أمام خيار السلاح النووي في أوكرانيا تحديدا، وتبقيه في دائرة الردع النفسي بدلا من التنفيذ الفعلي. حين يفقد الغموض قيمته.. مأزق الردع الروسي المتآكل تملك روسيا اليوم أكبر ترسانة نووية في العالم من حيث عدد الرؤوس الحربية، إذ تقدّر بنحو 5580 رأسا نوويا، بينها 1710 رأسا إستراتيجيا منتشرا بالفعل وجاهزا للإطلاق، وقرابة 2670 رأسا في المخازن غير منتشر، بالإضافة إلى نحو 1200 رأس قيد التفكيك بحسب تقديرات اتحاد العلماء الأميركيين لعام 2025. لدى موسكو 3 وسائط جاهزة ومتقدمة لحمل الرؤوس النووية، وهي: صواريخ باليستية عابرة للقارات، بعضها منصوب على شاحنات متحركة وأخرى داخل صوامع أرضية محصنة، وغواصات نووية إستراتيجية قادرة على المناورة والانطلاق من أعماق المحيط، وقاذفات إستراتيجية قادرة على حمل صواريخ كروز نووية بعيدة المدى. وإلى جانب الأسلحة الإستراتيجية، تمتلك روسيا نحو ألف رأس نووي تكتيكي منخفض القدرة، مخصص للاستخدام في ساحات المعركة لتحقيق أهداف جزئية دون إبادة شاملة للخصم، وهذه تخزن في قواعد منتشرة، وتُحمل على قذائف مدفعية أو صواريخ أو قنابل جوية. ورغم هذه الترسانة الضخمة فإن الغموض الذي أحاطت به موسكو عتبتها النووية -والذي جعل من كل خطوة غربية تجاه أوكرانيا محفوفة بالريبة- بدأ بمرور الوقت يفقد بريقه الردعي، فمنذ تهديد بوتين العنيف في 24 فبراير/شباط 2022 باستخدام "عواقب غير مسبوقة في التاريخ"، مرورا برفع حالة التأهب النووي، وحتى تهديداته في سبتمبر/أيلول 2022 و2024 لم تُترجم أي من هذه التحذيرات إلى استخدام فعلي. ومع كل تصعيد لم يتبعه فعل باتت الدول الغربية أكثر جرأة، ففي صيف 2022 ظهرت أنظمة "هيمارس" الأميركية لأول مرة في جبهة دونباس، مما أتاح لأوكرانيا ضرب مستودعات ذخيرة روسية حساسة. بعد ذلك، تسلمت كييف صواريخ بريطانية بعيدة المدى من طراز "ستورم شادو"، ثم صواريخ "أتاكمز" الأميركية القادرة على ضرب المطارات والقواعد داخل الأراضي التي تحتلها روسيا. وأخيرا، أعطت الضوء الأخضر لضربات على الأراضي الروسية نفسها كما حدث في عمليات المسيّرات الأكرانية الضخمة مؤخرا، كل هذا دون أن تضغط موسكو على الزر المرتقب. هذه الفجوة بين التهديد والتنفيذ تنذر بتآكل فعالية العقيدة الروسية، وإذا ما اقتنع الخصم بأن التهديد ليس سوى أداة ضغط دبلوماسي فإنه سوف يختبره تدريجيا، وهو ما يحدث الآن بالفعل. وبصورة ما، أصبحت الخطوط الحمراء الروسية قابلة للدعس أو القضم التدريجي، في انتظار كلمة أخرى للرئيس بوتين.


الجزيرة
منذ 2 ساعات
- الجزيرة
هجوم روسي مكثف بالصواريخ والمسيرات على خاركيف بأوكرانيا
أفادت مصادر أوكرانية بتعرّض مدينة خاركيف لهجوم مكثف عبر مسيرات انتحارية وصواريخ روسية، أدت إلى أضرار بالغة وتسببت في وقوع حرائق ودمار في عدد من المباني والمنازل في المناطق المستهدفة.