
المتلازمة الرابعة: تشريح الفساد في مجتمعات النفوذ المعمم
أرى أن جوهر هذه المتلازمة لا يكمن في خرق القانون، بل في خلق سوق بديلة للقرار. المؤسسات ما تزال قائمة، القوانين تطبق جزئيا، والرموز الرسمية لا تزال تتصدر الواجهة. ولكن كل هذا يعمل كواجهة زائفة، فالقرارات تصاغ خلف الستار، والمواقع تحدد بالعلاقات، وليس بالاستحقاق. وهنا، لا يعود الفساد فعلا طارئا، بل أداة توزيع السلطة والفرص داخل النظام نفسه. حين يصف جونستون المسؤول النافذ، لا يقدمه كشخصية فاسدة فقط، بل كنقطة تقاطع بين النخب الاقتصادية والسياسية، بين ما هو رسمي وما هو غير رسمي، بين ما هو قانوني وما هو فعلي. إذن نحن أمام هيكل ظل مواز للمؤسسة، يتحكم دون أن يظهر، ويطوع القواعد دون أن يكسرها.
وهنا تكمن خطورة هذا النمط من الفساد. فهو لا يولد فقط اختلالا وظيفيا، بل إعادة صياغة للوعي الاجتماعي. المواطن، في هذه المتلازمة، لا يواجه فسادا صريحا حتى يتمرد عليه، بل يتعامل مع بنية معقدة تخضعه وتطلب منه التكيف. وهنا، أرى أن الفساد لا يفرض بالقوة، بل يمارس كعرف. يصبح تقديم الرشوة إجراء عاديا، وطلب خدمة من مسؤول نافذ طريقا ذكيا، والغش في الإجراءات حيلة مجربة. لا أحد يصيح في وجه الظلم، لأن الظلم لم يعد يرى كظلم. لقد تم تطبيعه. وهنا، نفهم ما يعنيه جونستون حين يصف هذا النموذج بأنه تسويق للنفوذ، إذ يباع القرار، لا من خلال الابتزاز، بل عبر تبادل راق داخل شبكة من المصالح. إذن، نحن لا نتحدث عن تحايل على الدولة، بل عن سوق بديل داخل الدولة. وكلما ازداد عدد المؤمنين بهذه السوق، كلما بدا الفساد طبيعيا، معقولا، وأحيانا ضروريا. وهكذا، تتحول بنية النفوذ إلى منطق جمعي، لا مجرد انحراف فردي.
انطلاقا من وصف جونستون، لا يمكن اختزال المسؤول النافذ في كونه مجرد فاسد. بل هو في جوهره تركيبة مزدوجة، هو نتيجة بنية تسمح له بالعمل كهكذا، وفي الوقت نفسه فاعل يعيد إنتاج تلك البنية. هو يتقن استخدام النظام، لا لتطبيقه، بل للالتفاف حوله. لا يحطمه، بل يخضعه، ويوجه رموزه لصالحه. من هنا أرى أن المسؤول النافذ ليس مشكلة فردية، بل مؤسسة موازية بحد ذاتها. من يطرق بابه لا يطلب خدمة استثنائية، بل يمارس حقه الغير معلن. ومن يرفض الدخول في هذا السوق، يقصى بهدوء، يعاقَب بصمت، وتغلق أمامه الأبواب الشرعية. وهكذا، لا يصير الفساد فقط شبكة مصالح، بل آلية ضبط اجتماعي. وما يضاعف خطورة هذه البنية، هو أنها تعمل بكود داخلي لا يعلن، لكن الجميع يعرفه. الجميع يتصرف وفقه، وإن لم يكتب. وبهذا، تعاد كتابة الأخلاق، وتمسخ فكرة القانون، ويضيع المعنى الأصلي للمؤسسة.
في نموذج المسؤول النافذ، لا نواجه فقط أزمة قيم، بل انهيارا في تعريف الدولة، في وظيفة القانون، وفي معنى العدالة.
لكن من الداخل، هو منظومة شرسة تنسف إمكانية الإصلاح من جذورها.
الخطير هنا ليس أن المسؤول فاسد، بل أن النظام لا يعرف كيف يعمل إلا عبر الفساد.

جرب ميزات الذكاء الاصطناعي لدينا
اكتشف ما يمكن أن يفعله Daily8 AI من أجلك:
التعليقات
لا يوجد تعليقات بعد...
أخبار ذات صلة


فرانس 24
منذ 22 دقائق
- فرانس 24
خمسة قتلى وعشرة جرحى بغارة إسرائيلية على شرق لبنان (وزارة الصحة)
الصفحة غير متوفرة المحتوى الذي تريدون تصفحه لم يعد في الخدمة أو غير متوفر حاليا.


روسيا اليوم
منذ 22 دقائق
- روسيا اليوم
لبنان.. مقتل شخص في غارة إسرائيلية على بعلبك
وأفادت مصادر لبنانية بأن "طائرة مسيرة إسرائيلية أغارت على شخص أثناء تنقله مشيا على الأقدام في بلدة كفردان غربي بعلبك مما أدى إلى استشهاده على الفور". وتستمر إسرائيل بخرق اتفاق وقف إطلاق النار مع لبنان منذ سريانه في 27 نوفمبر 2024، حيث خرق الجيش الإسرائيلي هذا الاتفاق أكثر من 3000 مرة، ما أسفر عن مقتل وإصابة المئات، فيما يؤكد "حزب الله" التزامه الكامل بالاتفاق. ويأتي ذلك في وقت تشهد الساحة اللبنانية توترا كبيرا، بعد إعلان رئيس الحكومة اللبنانية نواف سلام تكليف الجيش بوضع خطة لحصر السلاح بيد الدولة بحلول نهاية العام الحالي، في حين قال "حزب الله" إن قرار الحكومة في نزع سلاح المقاومة "مخالفة ميثاقية واضحة وسنتعامل معه كأنه غير موجود" مؤكدا أن المحافظة على قوة لبنان هي من الإجراءات اللازمة. كما أكد أمين عام "حزب الله" نعيم قاسم أن "العدوان الإسرائيلي هو المشكلة وليس السلاح"، مضيفا: "حلوا مشكلة العدوان وبعدها نناقش مسألة السلاح". المصدر: RT أعلنت وزارة الصحة اللبنانية اليوم الخميس، مقتل شخص من الجنسية السورية متأثرا بإصابة بالغة، جراء الغارات الإسرائيلية أمس الأربعاء على بلدة دير سريان جنوب لبنان. أفادت مراسلتنا بأن الجيش الإسرائيلي نفذ مساء اليوم الأربعاء، سلسلة غارات استهدف محيط بلدتي زوطر ودير سريان جنوبي لبنان.أعلن رئيس الحكومة اللبنانية نواف سلام، الثلاثاء، تكليف الجيش بوضع خطة لحصر السلاح بيد الدولة بحدود نهاية العام الحالي، وعرضها على مجلس الوزراء قبل 31 أغسطس، فكيف جاءت ردود الفعل؟


الجزيرة
منذ 22 دقائق
- الجزيرة
مصور فلسطيني يصبح هدفا لحملة إسرائيلية ممنهجة
في غضون أيام، انتقل المصور الفلسطيني أنس فتيحة من نازح يبحث عن رغيف الخبز لأطفاله وسط الحصار والجوع في غزة، إلى هدف مباشر لحملة دعائية إسرائيلية تصفه بـ"الناشط المتنكر" و"مهندس الدعاية لحماس". وفي الوقت الذي يعيش فيه أكثر من 2.4 مليون إنسان في قطاع غزة على وقع الجوع والإبادة، أصبحت عدسات المصورين المستقلين نافذة شبه وحيدة توثق تفاصيل الكارثة المتصاعدة، غير أن هذه العدسات التي تحظى بتفاعل دولي متصاعد، تحولت إلى هدف للحرب الدعائية المضادة. فقد شنت مؤسسات إسرائيلية، بينها وزارات وهيئات رسمية وصحف أجنبية ومراكز بحثية، حملة تشكيك ممنهجة، تطعن في مصداقية المصورين الفلسطينيين، وتتهمهم بتلفيق المشاهد أو تضخيمها، وهو ما انعكس في تبني روايات رسمية تدعي أن المشاهد "مفبركة" أو "منسقة". في هذا التقرير، تفتح الجزيرة عبر فريق "الجزيرة تحقق" ملف الهجوم على أنس فتيحة، وتعيد بناء القصة منذ بدايتها، ساعية إلى الإجابة عن الأسئلة التالية: من يقف وراء حملة التحريض ضده؟، ولماذا الآن؟ وهل صور فتيحة فعلا مشاهد مفبركة كما تدعي الرواية الإسرائيلية؟، أم أنه وثق ما لا تريد إسرائيل أن يراه العالم؟ من خلال تتبع الحسابات الأساسية التي أطلقت المزاعم، وتحليل التقارير الأجنبية التي تبنتها، وفحص الصور واللقطات المثيرة للجدل، نتتبع في هذا التقرير كيف تحولت الكاميرا من أداة توثيق إلى هدف مباشر للاحتلال. صور تتصدر العالم في 3 و5 أغسطس/آب الجاري، نشرت صحيفتا "زود دويتشه" و"بيلد" الألمانيتان تقارير تشكك في مصداقية الصور الإنسانية الملتقطة من غزة، معتبرة أنها تثير مشاعر الملايين وتؤثر على الرأي العام والسياسات الدولية، مما يفتح باب التساؤل: هل صنعت هذه الصور عمدا لتخدم دعاية حركة حماس؟ صحيفة "بيلد" الألمانية عنونت تقريرها الهجومي بجملة صريحة وهي "هذا المصور يروج لدعاية حماس"، في إشارة إلى أنس زيد فتيحة، مصور وكالة الأناضول التركية في غزة، الذي وثق بعدسته مشاهد الازدحام أمام نقطة لتوزيع الطعام دخل القطاع. إعلان وكان المقصود بهذه العبارة أنس زيد فتيحة، مصور وكالة الأناضول التركية في غزة، الذي اشتهرت صوره مؤخرا، ومنها صور طوابير الطعام الطويلة أمام نقطة توزيع الإغاثة، والتي لاقت تفاعلا دوليا واسعا، وشوركت من قبل وكالات ومنصات عالمية. غير أن "بيلد" ذهبت إلى شيطنة المصور، مدعية أن فتيحة يتعمد إخفاء بعض الصور التي التقطها، وأنه لم يرد على استفساراتها الصحفية، كما وصفته الصحيفة بأنه "ناشط سياسي متنكر في زي مصور صحفي"، وقالت إنه يسعى إلى "تحرير فلسطين" ويعمل ضمن أجندة حركة حماس، ويتعاون مع حكومة الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، الذي تصفه الصحيفة بأنه "يكن عداء لإسرائيل". كما اتهمت الصحيفة وكالات دولية -لم تسمها- بأنها تواصل استخدام صور فتيحة، رغم ما وصفته بـ"تحيزها أو إعدادها مسبقا". هذه المزاعم فتحت الباب لمزيد من التساؤلات حول دوافع الاستهداف المنهجي للمصورين الفلسطينيين، خصوصا في وقت تتعاظم فيه الحرب على السردية، وتنتقل المواجهة من الأرض إلى الفضاء الرقمي، حيث تخشى الصورة أكثر من الرصاصة. حملة منظمة تتجاوز الصحف لم يقتصر الاستهداف على الصحافة الألمانية، فقد شاركت صحف ومواقع إسرائيلية في الترويج للتقرير، وأشارت إلى أن توقيت نشره يتزامن مع فشل الجهود الدبلوماسية الإسرائيلية وتصاعد المطالب الدولية بالاعتراف بدولة فلسطين "حسب تصريحها". وسرعان ما انخرطت حسابات رسمية إسرائيلية، بما في ذلك صفحات وزارات وسفراء وقنصليات، في إعادة نشر الادعاءات، معتبرة أن صور فتيحة تمثل "سيطرة حماس على الإعلام في غزة". بل إن وزارة الخارجية الإسرائيلية نشرت صورا للمصور، وادعت أن ما يُعرف بـ"بالييود" (Pallywood) لم يعد ظاهرة هامشية، بل "تيارا مؤثرا في التغطية الإعلامية"، في تلميح إلى أن المصورين الفلسطينيين "يختلقون المشاهد أو يضخمونها". كما انضمت "مؤسسة غزة الإنسانية" (GHF) إلى الحملة، وروجت للرواية ذاتها عبر تقارير لا تستند إلى أي أدلة تحقق مهني، بل استشهدت بالصورة المتداولة ذاتها كمرتكز لتعميم سرديتها. رد المصور وتفنيد الادعاءات تواصل فريق "الجزيرة تحقق" مع المصور الفلسطيني أنس فتيحة للرد على التقارير الألمانية، قائلا: "لا أجد ما أعلق عليه، أنا صحفي حر ومهمتي الأساسية توثيق الحقيقة التي لا تحتاج إلى فبركة، لكن الزيف الحقيقي هو ما تروجه بعض وسائل الإعلام". إعلان وشدد على أنه لا يعمل لصالح أي جهة سياسية، بل يعمل كمصور صحفي مستقل لصالح وكالة الأناضول التركية، ويوثق "القصص الإنسانية الناتجة عن العدوان، وعلى رأسها المجاعة". ونفى فتيحة بشكل قاطع ادعاء صحيفة "بيلد" أنها حاولت التواصل معه، قائلا: "لم يراسلني أحد لا عبر البريد ولا الهاتف ولا أي وسيلة. وإذا كانوا صادقين فليعرضوا ما يثبت ذلك". أدلة مصورة تروي الحقيقة خلافًا لما رُوج، نشر فتيحة على حسابه في إنستغرام مشاهد وزوايا متعددة من الحدث ذاته الذي استُخدم ضده، تظهر بوضوح اصطفاف الأهالي حاملين أواني فارغة قبل توزيع الطعام، وهو ما يدحض مزاعم "الإخراج المسبق" أو "المشهد المصطنع". وتُظهر مشاهد أخرى وثقها فريق "الجزيرة تحقق" أن المشهد حقيقي، ويعكس حالة طوارئ غذائية، إذ يتكرر توافد الأهالي -وغالبيتهم من النساء والأطفال- إلى نقاط الإغاثة قبل وصول المساعدات. كما وثقت وكالة الأناضول عبر تقرير مصور في 24 يوليو/تموز، جولة ميدانية لأنس فتيحة، يتنقل فيها بين أنقاض دير البلح، ويوثق معاناة النازحين، ومركزا لتوزيع الطعام، إلى جانب مأساة أسرته التي نزحت من الشمال حتى وصلت إلى دير البلح. وباستخدام تقنيات البحث العكسي، تمكن الفريق من تحديد موقع التصوير، وتبين أن الصور التقطت من مطبخ "خولة البدري شاهيزئي" التابع لأكاديمية خير النساء – باكستان، وهي مؤسسة خيرية توثق أنشطتها عبر حساب رسمي في إنستغرام، وتقدم وجبات للمحتاجين في شمال ووسط القطاع. View this post on Instagram A post shared by Anas Fteiha (@ View this post on Instagram A post shared by Anas Fteiha (@ تضليل ومعلومات مغلوطة رصد فريق "الجزيرة تحقق" حملة تضليل رقمية على منصة "إكس"، روجت لادعاءات تقول إن أنس فتيحة هو صاحب صورة غلاف مجلة "التايم" التي نُشرت مطلع أغسطس/آب الجاري، وجنت تفاعلا عالميا واسعا، كما روجت ادعاءات أخرى تظهر أن المشهد مصطنع ولا توجد مجاعة حقيقية. ونشطت هذه الحملة على منصة "إكس"، إذ علق الحساب الإسرائيلي (@VividProwess) على الصور، قائلا: "لقد تم الكذب عليك، لم يكن هناك أي مجاعة في غزة، كل هذه أكاذيب، وكل الصور التي رأيتموها لأطفال يتضورون جوعا هي صور مفبركة". View this post on Instagram A post shared by Ran Alkalay (@ranalkalay) تفنيد صورة غلاف "تايم" أجرينا بحثا عن مصدر الصورة الأخيرة في الحملة، وتتبع أرشيف الصحفي في الوكالة التي ينشر لها، وتبين أن هذه الادعاءات كاذبة واستخدمت في سياق خاطئ، إذ أن فتيحة لم يكن من التقط الصورة. وتظهر معلومات صورة غلاف "تايم" المنشورة بتاريخ 1 أغسطس/آب الجاري على منصة "إكس"، أن الصورة التقطها المصور الفلسطيني علي جاد الله، والذي فقد العديد من أفراد عائلته بمن فيهم والده و4 من أشقائه جراء قصف إسرائيلي طال منزلهم شمال غزة.