اللسانيات وتعالقات الفيزياء
غير أنّ تعدّد مشارب الدراسات اللسانية وفقًا لما فرضه الواقع العلمي الجديد من تداخل الاختصاصات، وعلى اعتبار أنّ اللغة عنصر غير جامد أو ثابت، بل ديناميكي ومتطوّر، فقد أدّى ذلك إلى انهيار بعضٍ من هذه السدود؛ لينحسر عن حوارٍ عميق بين بنية اللغة وقوانين الفيزياء. فليس هذا الزحف نحو الفيزياء مجرّد استعارة، بل إنّه تحوّل جذري في فهمنا للغة بوصفها ظاهرة طبيعية واجتماعية معقّدة. وليس أقلَّ ذلك ما بدا واضحًا من تشابكٍ مفاهيميٍّ بين اللسانيات والفيزياء كالنسبية والأنتروبيا والكُمومية والفونوتيكس وما يشمله من مفاهيم مثل التردّد والطيف الصوتي والاهتزازات والفورمنتات، والشبكات المعقّدة، وفكرة الثوابت اللغوية التي تشبه الثوابت الفيزيائية، كالألفا وسرعة الضوء.
وبالعودة إلى مطلع القرن العشرين نجد أنّ دراسات سوسير رائد علم اللسانيات الذي اتخذ من البنيوية منطلقًا له، حيث التجريد والموضوعية والتركيز على النظام والبنية وإقصاء الملامح الميتافيزيقية في دراسة اللغة لم يكن سوى محاولةٍ في النأي بدراسته عن الدراسات اللغوية المقارنة والوصفية الألمانية، ومحاولةِ بناء منهجٍ علمي يُضاهي المنهج الإمبريقي، ويتجرّد عن ما علق بالدراسات اللسانية من إيديولوجيات وتحيّزات ومعياريّة خاضعة للثقافات، لتبدو اللسانيات في صورة علم مكتمل قائم بذاته بغض النظر عن ما طال البنيوية لاحقًا من انتقادات؛ حيث بدت المرحلة وكأنّها ضروريّة وتتطلّب مقارباتٍ أكثرَ وصفيّة وتجرّدًا.
لكن إذا كان سوسير قد اعتمد المنهج البنيوي العلائقي فإنّ (حلقة فينا) من بعده قد اعتمدت الوضعانية المنطقية، فاتجهت إلى المنطق الرياضي والفيزيائي بصفته أنموذجًا مناسبًا لدراسة اللغة، وإن اجتمعا معًا على رفض الميتافيزيقا.
فالصوت البشري في جوهره ما هو إلا موجة فيزيائية تنتقل عبر الهواء؛ حيث تلتقي اللسانيات بالفيزياء عبر (Acoustic Phonetics) بدراسة خصائص الأصوات الكلامية مثل: التردد والسعة والطيف، وتُحلل تقنيات مثل: مطياف التردد كأصوات الحروف المتحركة وكالفرق بين (a) و(i) عبر تحديد الفورمنتات (Formants)، وهكذا يصبح الكلام ظاهرةً فيزيائية قابلة للقياس لا مجرد تعبيرٍ ذاتي.
أضف إلى ذلك أنّ اللغة نظام ديناميكي يخضع لقوانين يُمكن نمذجتها رياضيًّا مستعيرةً أدوات من الفيزياء كاستخدام نظرية الشبكات المعقّدة لدراسة العلاقات بين الكلمات في الدماغ، حيث تُشكّل كلّ كلمة عقدة مرتبطة بعُقدٍ أخرى تُشبه تفاعل الجُسيمات في نظام فيزيائي. ناهيك عن تطبيق مُعادلات الانتشار (Diffusion Equations) لفهم كيفية انتشار اللغات أو انقراضها عبر الزمن، بالإضافة إلى دراسة الانزياحات الدلالية (Semantic Shifts) بما يشبه تحوّلات الطور (Phase Transitions).
ومن الإنتروبيا أو الديناميكا الحرارية إلى فوضى المعنى، فمفهوم الإنتروبيا (Entropy)، الذي يصف الفوضى في النظام الفيزيائي، أصبح أداةً لتحليل اللغة؛ حيث تقود نظرية المعلومات إلى قياس «إنتروبيا شانون» أي مدى عدم اليقين في الرسالة اللغوية. فالجملة المليئة بالمفاجآت كقصيدة غامضة لها إنتروبيا عالية، بينما الجملة الروتينية كتحية الصباح لها إنتروبيا منخفضة. وتكمن منفعة هذه الفكرة في تحسين ضغط البيانات اللغوية أو تصميم خوارزميات الذكاء الاصطناعي التوليدي للتنبؤ بالكلمات التالية في الجملة (Sequential Context).
ومن ناحية الفيزياء العصبيّة فقد أصبح المخ يبرق كلامًا، وأصبحت تقنيات التصوير الفيزيائية نافذةً لفهم كيفيّة معالجة اللغة في الدماغ من خلال التصوير بالرنين المغناطيسي الوظيفي (fMRI) للمناطق الدماغية النشطة أثناء القراءة أو الاستماع، مثل منطقة (بروكا) المسؤولة عن إنتاج الكلام.
بالإضافة إلى تحليل إشارات تخطيط الدماغ الكهربائي (EEG) باستخدام نظريات فيزيائية لرصد انتقال النبضات العصبية وكيفيّة تفسير الدماغ للجُمل الغامضة في أجزاء من الثانية.
وفي أحدث صور التعالق الجريئة، تُستعار مفاهيم ميكانيكا الكمّ لتفسير الغموض اللغوي، فالجملة التي تحمل معاني متعددة تُشبه حالة التراكب الكمّي؛ حيث يوجد المعنى في حالات متعدّدة حتى لحظة التفسير، وقد طُوِّرت نماذج رياضية كمّية لتحليل التفاعلات بين الكلمات كما لو كانت جُسيمات في حقل كمّي.
وكما تسعى الفيزياء لاكتشاف قوانين الكون الأساسية فإنّ اللسانيين يبحثون عن القواعد الكليّة للغات (Universal Grammar) كما فعل تشومسكي، بمعنى: هل توجد ثوابت لُغوية تشبه ثوابت الفيزياء كسرعة الضوء أو ثابت بلانك؟ فهم يدرسون أنماط التكرار في التراكيب النحوية عبر الثقافات، بحثًا عن قوانين مشتركة قد تكشف عن نظرية ال «كلِّ شيء» للغة البشرية.
ختامًا.. وحيث تبدو اللغة ظاهرة كونيّة، فإنّ التعالق بالفيزياء لا يختزل اللغة في مُعادلاتٍ باردة، بل يُوسِّع آفاقنا لفهمها كجزءٍ من نسيج الكون المادي. وهذا الحوار بين التخصصات يُذكّرنا بأنّ الحدود بين العلوم وضعيةٌ مُصطنعة؛ فالكلماتُ ليست أقلَّ تعقيدًا من نبض طوارق السماء، فلربما كان الكون نفسه نصًّا ينتظر مَن يفكّ شفراته.

جرب ميزات الذكاء الاصطناعي لدينا
اكتشف ما يمكن أن يفعله Daily8 AI من أجلك:
التعليقات
لا يوجد تعليقات بعد...
أخبار ذات صلة


صحيفة عاجل
١٢-٠٥-٢٠٢٥
- صحيفة عاجل
المنتخب السعودي للفيزياء يفوز بـ6 جوائز دولية في أولمبياد الفيزياء الآسيوي 2025
حصد المنتخب السعودي للفيزياء (6) جوائز دولية، منها ميداليتان برونزيتان، و(4) شهادات تقدير، في أولمبياد الفيزياء الآسيوي (2025)، بنسخته الـ(25) التي تنظمها المملكة في مدينة الظهران من (4) حتى (12) مايو الجاري، بمشاركة (240) طالبًا وطالبة يمثلون (30) دولة. وفاز الطالبان مازن الشخص من إدارة تعليم الأحساء، وحسين الصالح من إدارة تعليم الرياض بميداليتين برونزيتين، فيما نال الطلاب فارس الغامدي، وفيصل المحيسن، من إدارة تعليم الرياض، ومحمد العرفج، وعلي آل حسن، من تعليم الشرقية (4) شهادات تقدير، ليرتفع رصيد المملكة في هذا الأولمبياد إلى (22) جائزة دولية. وتأتي مشاركة السعودية في أولمبياد الفيزياء الآسيوي ضمن برنامج موهبة للأولمبيادات الدولية وثمرة للجهود والعلاقة التكامليّة بين مؤسسة الملك عبدالعزيز ورجاله للموهبة والإبداع "موهبة" ووزارة التعليم، وبعد استعداد مكثف تلقى فيه الطلبة المتسابقون آلاف الساعات التدريبية في "موهبة". يُذكر أن النسخة الأولى من أولمبياد الفيزياء الآسيوي انطلقت عام (1999) في إندونيسيا بمشاركة (12) دولة، ووصلت بمرور الوقت إلى (30) دولة، ويُعد من أبرز المسابقات العلمية الدولية السنوية الموجهة لطلبة المرحلة الثانوية الموهوبين في الفيزياء.


رواتب السعودية
١٢-٠٥-٢٠٢٥
- رواتب السعودية
المنتخب السعودي للفيزياء يفوز بـ6 جوائز دولية في أولمبياد الفيزياء الآسيوي 2025
نشر في: 12 مايو، 2025 - بواسطة: خالد العلي حصد المنتخب السعودي للفيزياء (6) جوائز دولية، منها ميداليتان برونزيتان، و(4) شهادات تقدير، في أولمبياد الفيزياء الآسيوي (2025)، بنسخته الـ(25) التي تنظمها المملكة في مدينة الظهران من (4) حتى (12) مايو الجاري، بمشاركة (240) طالبًا وطالبة يمثلون (30) دولة. وفاز الطالبان مازن الشخص من إدارة تعليم الأحساء، وحسين الصالح من إدارة تعليم الرياض بميداليتين برونزيتين، فيما نال الطلاب فارس الغامدي، وفيصل المحيسن، من إدارة تعليم الرياض، ومحمد العرفج، وعلي آل حسن، من تعليم الشرقية (4) شهادات تقدير، ليرتفع رصيد المملكة في هذا الأولمبياد إلى (22) جائزة دولية. وتأتي مشاركة السعودية في أولمبياد الفيزياء الآسيوي ضمن برنامج موهبة للأولمبيادات الدولية وثمرة للجهود والعلاقة التكامليّة بين مؤسسة الملك عبدالعزيز ورجاله للموهبة والإبداع ..موهبة.. ووزارة التعليم، وبعد استعداد مكثف تلقى فيه الطلبة المتسابقون آلاف الساعات التدريبية في ..موهبة… يُذكر أن النسخة الأولى من أولمبياد الفيزياء الآسيوي انطلقت عام (1999) في إندونيسيا بمشاركة (12) دولة، ووصلت بمرور الوقت إلى (30) دولة، ويُعد من أبرز المسابقات العلمية الدولية السنوية الموجهة لطلبة المرحلة الثانوية الموهوبين في الفيزياء. المصدر: عاجل


المدينة
١١-٠٥-٢٠٢٥
- المدينة
الأولمبياد العلمية في السعودية
تحتضن المملكة العربيَّة السعوديَّة، خلال هذه الأيام، أولمبياد الفيزياء الآسيوي، في استضافة جامعة الملك فهد للبترول والمعادن، حيث تفتح أبوابها لنخبة من المبدعين من مختلف الدول الآسيويَّة، حيث تجتمع العقول المبتكرة والعارفة بأسرار تخصصات علم الفيزياء بالذَّات في مجال الطاقة، بمشاركة فاعلة من وزارة التعليم وموهبة.الجميل جدًّا أنَّ هذا الحدث هو الثاني من نوعه، الذي احتلت فيه المملكة -بفضل الله- الريادة في إقامة الأولمبياد العلميَّة، حيث سبق ذلك إقامة أولمبياد الكيمياء الدولي، وشارك فيه تسعون دولةً، وعلى نفس النهج ستكون المملكة -بإذن الله- في المستقبل وجهة للأولمبياد العلميَّة الأُخْرى مثل الرياضيات، والأحياء، وبقيَّة التخصصات.. وشارك في فاعليَّات أولمبياد الفيزياء الآسيوي هذا العام حوالى 30 دولة، وكان عدد الطلاب المشاركين 240 طالبًا، وإجمالي المسابقات وصلت -الآن- بهذا الأولمبياد رقم 25.كما هو معروف فإن أولمبياد الفيزياء الآسيوي هو منافسة سنوية دولية، تقام لطلاب المدارس الثانوية الموهوبين؛ مما يثمر احتكاكاً وتعارفاً في مجالات الفيزياء، فالاهتمام بالموهوبين هو توجه الدول المتقدمة؛ لأنهم هم من سيصنع المستقبل -بإذن الله-، والسعودية -بفضل الله- قطعت شوطاً متقدماً بالاهتمام بالموهوبين حتى أصبحت منارة علمية، ليس فقط في تنظيم المسابقات الدولية، إنما كذلك في تصميم المسابقة العلمية بمستوى عالٍ.وأتذكَّر أنَّ أوَّل نادٍ للموهوبين على مستوى الجامعات، تم إنشاؤه في جامعة الملك عبدالعزيز، عندما كنتُ عميدًا لشؤون الطلاب، فتهيئة الطلاب والطالبات من الثانوية على المنافسات والمسابقات الدوليَّة في الأولمبياد العلميَّة يمنحهم عند دخولهم الجامعات شيئًا من النضج العلميِّ والبحثيِّ، والابتكار والإبداع؛ ممَّا يستدعي أنْ يستمر الاهتمام بهم في الجامعات.إنَّ المملكة وهي تحتضن مثل هذه الأولمبياد في التخصُّصات العلميَّة المختلفة، وتهتم أنْ تكون على أراضيها، فإنَّ ذلك يجعلها محل أنظار العالم علميًّا، وامتدادًا لهذا الاهتمام، وتطويرًا لأدائه يجب على وزارة التعليم -ممثَّلةً في مجلس شؤون الجامعات- توجيه الجامعات للاهتمام أوَّلًا بطلاب مرحلة البكالوريس والدِّراسات العُليا المبدعين، وثانيًا الاهتمام بأساتذة الجامعات الجدد الذين بعضهم أو جُلُّهم كانوا من موهوبي الأولمبياد العلميَّة، ثم إذا عادوا إلى الجامعات عادوا للتدريس فقط، دون دعم لمقترحاتهم البحثيَّة، أو أفكارهم الابتكاريَّة، إنَّ مرحلة الحصول على الدكتوراة ليس إلَّا نضجًا للموهبة والابتكار، وبدون الدعم المالي للبحوث والأفكار الابتكاريَّة، فإنَّ ذلك خسارة وطنيَّة، كمن يبذر، حتَّى إذا استوى النبات على سوقه، ذهب أدراج الرياح، فالموهبة ممتدة إلى ما بعد الدكتوراة، فيجب أن تُسقى بالدعم لتؤتي أُكلها، وتقطف ثمارها.