
علماء يبتكرون طلاء للزجاج عازلا وشفافا ولا يتأثر بالأمطار
يمنع هذا الطلاء -المصنوع من مزيج فريد من الكربون ومادة البورون نيتريد- تسرب الحرارة عبر النوافذ ويوفر في فواتير الطاقة من دون التأثير على دخول الضوء الطبيعي.
ولتبسيط فكرة هذا الطلاء المبتكر، يمكنك تخيله كـ"بطانية شفافة ذكية" توضع على النوافذ، فهي لا تُرى، لكنها تمنع تسرب الحرارة، تماما كما تفعل البطانية عند لف الجسم بها في يوم بارد، والمميز في هذه "البطانية الزجاجية" أنها لا تتأثر بالأمطار أو الشمس أو الخدوش، وتُركب من الجهة الخارجية للنوافذ، وهو ما لم يكن ممكنا مع الطلاءات التقليدية.
كيف يتم تصنيع الطلاء الجديد؟
واعتمد الباحثون في تصنيع الطلاء الجديد على تقنية دقيقة تُعرف بـ"الترسيب بالليزر النبضي"، إذ تُستخدم نبضات ليزر عالية الطاقة لتبخير مادة صلبة تُسمى "الهدف" ، ثم تترسب جزيئاتها على سطح الزجاج لتكوين طبقة رقيقة جدا.
لكن ما يميز هذا الطلاء عن غيره هو أن الهدف المستخدم لم يكن "بورون نيتريد" نقيا فقط، بل كان مشوبا بنسبة دقيقة من الكربون، فعند تسليط الليزر على هذا الخليط، تتبخر جزيئات البورون نيتريد والكربون معا، وتترسب لتكوين طلاء شفاف، قوي، وذي قدرة عالية على عكس الحرارة.
وقد أوضح الباحثون في البيان الصحفي الرسمي -الذي أصدرته جامعة رايس- أن إضافة الكربون تُغير بشكل جذري خاصية "الانبعاثية" للطلاء، أي كمية الحرارة التي يطلقها الزجاج نحو الخارج، مما يجعله أكثر فاعلية في الحفاظ على دفء المبنى، من دون التضحية بالشفافية أو مقاومة الطقس.
توفير ملموس في استهلاك الطاقة
وفي تجارب محاكاة أجريت على مبانٍ في مدن مثل نيويورك وبكين وكالغاري، أظهر الطلاء الجديد توفيرا في الطاقة بنسبة 2.9% مقارنة بالطلاءات الحالية، ورغم أن الرقم يبدو ضئيلا، فإنه يحمل وزنا كبيرا عند تطبيقه على نطاق واسع، خاصة أن الولايات المتحدة وحدها تركب أكثر من 4 مليارات قدم مربع من الزجاج الجديد سنويا.
إعلان
ومن الناحية الاقتصادية، يتميز الطلاء باستخدام مواد أقل تكلفة من الفضة أو أكسيد الإنديوم المستخدمين في الزجاج العازل التقليدي، مع قدرة تحمل أفضل في مواجهة الرطوبة وتقلبات الطقس.
وحسب ما ذكره الباحثون، فإن هذه التقنية قابلة للتطبيق على مواد أخرى مثل البلاستيك والمنسوجات، وربما حتى الأسطح البيولوجية، مما يفتح الباب أمام استخدامات أوسع في المستقبل.
وعلق البروفيسور يي لونغ، من الجامعة الصينية في هونغ كونغ، على الابتكار قائلا -في تصريح رسمي حصلت الجزيرة نت على نسخة منه- إن "هذه أول طبقة عزل حراري توضع على الجهة الخارجية للنافذة، وتتفوق في كفاءتها على مثيلاتها الداخلية، إنها مناسبة جدًا للمدن كثيفة المباني التي تحتاج إلى حلول طاقة فعالة".
هاشتاغز

جرب ميزات الذكاء الاصطناعي لدينا
اكتشف ما يمكن أن يفعله Daily8 AI من أجلك:
التعليقات
لا يوجد تعليقات بعد...
أخبار ذات صلة


الجزيرة
منذ 18 ساعات
- الجزيرة
لماذا يتسابق العالم لتطوير الصاروخ "الصامت"؟
منذ بدء استخدام الطيران العسكري بشكل موسع في الحروب إبان الحرب العالمية الأولى (1914-1919)، وبشكل أخص خلال الحرب العالمية الثانية (1939-1945) التي شهدت ميلاد الطيران الحربي الحديث، شهد العالم معارك جوية تركت بصمات مميزة في التاريخ العسكري، مثل معركة بريطانيا بين النازيين والإنجليز عام 1940، والمعارك الجوية بين الولايات المتحدة واليابان على جبهة المحيط الهادي ، حين كانت حاملات الطائرات تعج بالمقاتلات التي تفرغ خزائنها وتُعيد ملئها مرات ومرات. وخلال الأيام الأولى للغزو الألماني النازي للاتحاد السوفياتي في يونيو/حزيران 1941، خسر السوفيات أكثر من 2000 طائرة في مواجهة سلاح الجو النازي (اللوفتفافه – Luftwaffe) الأكثر تطورا، معظمها دُمِّرت على الأرض. خلال تلك المعارك ومثيلاتها، نشأ وتطور نمط المعارك الجوية التقليدي القائم على اشتباك طائرتين أو أكثر ضمن النطاق البصري المعروف باسم "دوغ فايت" (Dogfight)، حيث يقوم الطيارون بمناورات حادة وسريعة لمحاولة إسقاط طائرات الخصم باستخدام المدافع الرشاشة أو الصواريخ قصيرة المدى. لكن نمط "دوغ فايت" أو حروب "القتال الجوي عن قرب" عموما بدأ يخفت فعليا خلال العقود الثلاثة الأخيرة، وتحديدا منذ حرب الخليج الثانية مع تواري الحروب الجوية بين الدول المتكافئة لصالح حملات القصف الجوي ضد الدول الأضعف والتنظيمات المسلحة وصعود الحروب غير النظامية. إلا أن عجلة التاريخ تدور مجددا لتجلب صراعات الدول إلى الواجهة مرة أخرى، سواء بين الولايات المتحدة والصين أو بين روسيا وأوروبا أو توترات شبه القارة الهندية بين الهند وباكستان، وهو ما يُنذر بعودة المعارك الجوية المباشرة إلى الواجهة مجددا. لكن معارك الجو المستقبلية لن تكون استنساخا لمواجهات "دوغ فايت" القديمة. فمع إدماج تقنيات الذكاء الصناعي في الطيران الحربي، وانتشار الطائرات بدون طيار، وتطوير الصواريخ الجوية بعيدة المدى، والتطور في شبكات الاتصال ونظم الرادارات، من المرجح أن تشهد أنماط القتال الجوي تطورا جذريا، ويُعد صعود "القتال خارج مدى الرؤية" هو الوجه الأبرز لهذا التطور. القتال خارج مدى الرؤية يُعرف القتال فيما وراء الرؤية، المعروف اختصارا في الأدبيات العسكرية باسم "بي في آر" (BVR)، بأنه ذلك القتال الجوي الذي يجري على مسافة تتجاوز قدرة العين البشرية أو المنظار البصري على رؤية الطائرة المعادية (عادة أكثر من 30 كم)، أي إن الطيارين المتحاربين لا يمكنهم رؤية بعضهم بعضا. وأصبح هذا النوع من القتال ممكنا بفضل التطور الهائل لصواريخ "جو-جو" بعيدة المدى التي تمنح الطائرات المقاتلة ميزة استهداف طائرات العدو دون أن تكون في المدى الناري التقليدي لها. ويعود مفهوم القتال خارج مدى الرؤية إلى زمان الحرب الباردة ، لكنه تعرض لتشكيك كبير وقتها بسبب التكلفة الهائلة لتقنيات القتال بعيد المدى، وقد تحول في عالم اليوم إلى الثورة الأهم على صعيد القتال الجوي. ولكي نفهم لماذا يُعد هذا النوع من الصواريخ ثوريا، دعونا نفترض سيناريو بسيطا: طائرتان مقاتلتان من الجيل الخامس تحلقان في سماء المعركة، متطابقتان تقريبا في كل شيء، ففي السرعة كلتاهما أسرع من الصوت، وفي قدرات التخفي تكاد كلٌّ منهما أن تكون غير مرئية للرادارات التقليدية، وحتى في أنظمة الرصد المتقدمة التي تسمح لهما بكشف بعضهما بعضا في الوقت نفسه وفي القدرة على المناورة لتفادي الصواريخ والاشتباك القريب. لكن هناك فارق واحد فقط، إحدى الطائرتين تحمل صاروخ جو-جو طويل المدى، بينما الأخرى تعتمد على صواريخ تقليدية ذات مدى أقصر. كلتا الطائرتين تكشفان وجود بعضهما على شاشات الرادار، لكن الطائرة المزودة بالصاروخ طويل المدى تمتلك القدرة على إصابة خصمها على الفور، في حين لا تمتلك طائرة الخصم الميزة نفسها. ساعتها يتخذ قائد الطائرة قرار الإطلاق، وينطلق الصاروخ بسرعته الهائلة (أسرع من الصوت عدة مرات)، متجاوزا عشرات الكيلومترات في ثوانٍ قليلة. الطائرة الأخرى سرعان ما تدرك أنها مستهدفة، لكنها لم تدخل بعد في نطاق يسمح لها بالرد، ومن ثم فكل ما تستطيع فعله هو محاولة المناورة والدفاع، لكن الصاروخ الذكي مصمم أيضا لتفادي إجراءات التشويش والمراوغات. النتيجة؟ قبل أن تتمكن الطائرة الثانية من الاقتراب بما يكفي لاستخدام أسلحتها، تنفجر قربها شظايا الصاروخ الذي يضرب خارج المدى البصري، وتدمرها أو تجعلها عاجزة عن القتال، ومن ثم يصبح النصر مضمونا لمَن يمتلك المدى الأطول للصواريخ، رغم تكافؤ كل العوامل الأخرى. وإذا نظرنا إلى مثال عملي قريب، فقد شهدت المواجهة الأخيرة بين الهند وباكستان في مايو/أيار الماضي قيام إسلام أباد باستخدام صواريخ "جو-جو" بعيدة المدى، صينية الصنع، من طراز "بي إل-15" ضد المقاتلات الهندية، لتنجح في إسقاط خمس طائرات وفق الرواية الباكستانية، وطائرة واحدة على الأقل حسب الرواية الهندية. يمكن لهذا النموذج أن يفسر سر تنافس الدول الكبرى على امتلاك هذه التقنية، حيث تتمثل الفكرة الرئيسية وراء القتال فيما وراء الرؤية في إمكانية إصابة الخصم من أبعد نقطة ممكنة قبل أن يتمكن هو أن يصيبك، وهو ما يخلق مضمارين للسباق بين الدول، الأول تطوير الصواريخ بحيث يمكنها إصابة أهدافها من مسافة أبعد، وتطوير تقنيات التخفي والمناورة التي تسمح للطائرات بالاقتراب إلى أقصى حدٍّ ممكن قبل أن تصبح هدفا لصواريخ الخصم. الصواريخ بعيدة المدى تُعد الصواريخ المُطلقة من الطائرات قديمة قدم الطيران الحربي نفسه، حيث استُخدمت صواريخ "جو-جو" منذ الحرب العالمية الأولى على الأقل. ولكن الجديد أنه على مدى العقود الماضية، سعت الدول لتطوير مدى تلك الصواريخ وقدرتها على إصابة أهدافها، وقد فرض هذا التطوير واقعا جديدا في مجال الهيمنة الجوية، وتحديات تكنولوجية جديدة تبدأ من محركات الصواريخ ولا تنتهي عند مجال الرادارات وشبكات الاتصال. هناك عاملان أساسيان لازمان لنجاح الصاروخ طويل المدى: محرك قوي يُمكّنه من حمل الصاروخ لأطول مسافة مع قدرة على التوجيه، ثم نظام توجيه إلكتروني يستند إلى شبكة اتصالات متقدمة. على صعيد المحركات، يمكن الصواريخ أن تُزوَّد بنوعين من المحركات، الأول هو محرك قذف صاروخي يعتمد على وقود صلب أو سائل، وهذا النوع من المحركات يحتوي في داخله على الوقود والعامل المؤكسِد (المادة الكيميائية التي توفر الأكسجين اللازم لاحتراق الوقود) معا، مما يجعله لا يحتاج إلى الهواء ويُعد مناسبا أكثر للطيران في الفضاء الخارجي. وغالبا ما يتمتع هذا النوع من المحركات بمدى أقصر نسبيا بسبب المساحة التي يشغلها خزان المادة المؤكسدة، لكنه يتمتع على الأرجح بتفوق واضح على صعيد السرعة. أما النوع الثاني فهي المحركات النفاثة، وهذا النوع من المحركات يحتاج إلى الهواء للحصول على الأكسجين اللازم لاحتراق الوقود، مما يجعله مناسبا أكثر للصواريخ التي تطير داخل الغلاف الجوي للأرض. يتميز الصاروخ ذو المحرك النفاث بقدرته على الطيران لمدة طويلة، لأن محركه يعتمد على أكسجين الهواء الخارجي، وبالتالي يمكن تحميله بكمية أكبر من الوقود، وهو ما يجعل المحركات النفاثة أكثر مناسبة لزيادة مدى الصاروخ، رغم أن سرعته تكون أبطأ من الصواريخ المزودة بالوقود التقليدي. في بعض الأحيان، تُصمَّم الصواريخ كي تكون متعددة المراحل، بمعنى أنها تحتوي على أكثر من محرك، وهي محركات مركَّبة بوصفها أجزاء ومنفصلة عن بعضها بعضا بحواجز. ومع إطلاق الصاروخ تعمل هذه المحركات على التوالي، حينما ينتهي وقود المحرك الأول ينفصل عن الصاروخ، ويبدأ المحرك الثاني معطيا دفعة جديدة للصاروخ من أجل زيادة مداه. ومع المسافات الشاسعة التي تقطعها الصواريخ بعيدة المدى، فإنها تحتاج إلى نظام توجيه متقدم، يعتمد على شبكة اتصالات متقدمة توفر معلومات حية وفورية عن مواقع طائرات الخصم. وفي بعض الأحيان، يُوجَّه الصاروخ من خلال رادار الطائرة التي تحمله وتتولى مهمة تحديد مكان الهدف قبل الإطلاق أصلا، أو من خلال رادار مستقل ونظام استشعار مثبت في الصاروخ نفسه يُمكّنه من التحليق دون حاجة إلى توجيه خارجي، وهو ما يُطلق عليه عادة ميزة "أطلِقْ وانسَ"، وفيها تقتصر مهمة الطائرة على إطلاق الصاروخ ليتولى مهمة توجيه نفسه وتعديل مساره. ومن الممكن أن يعتمد الصاروخ بعد إطلاقه على التتبع الحراري للهدف عند مدى معين، دون أن يمتلك رادارا بالمعنى المعروف. بالإضافة إلى تلك السمات الأساسية (مثل المدى ونوع المحرك ونظام التوجيه) هناك عدة عوامل أخرى تسهم في تحديد كفاءة الصاروخ، منها خفة الوزن لكي يسهل تحميله على المقاتلة، وانسيابية التصميم التي تسهل حركته في الهواء، وأيضا التكلفة المالية التي تحدد إمكانية إنتاج أعداد كبيرة منه وتعويض المفقود في ساحات المعركة باستمرار. تنافس عالمي محتدم نظرا للدور الكبير الذي يُرجح أن تلعبه تلك الصواريخ في مجال الهيمنة الجوية، تتسابق الدول الكبرى مثل الولايات المتحدة وروسيا والصين وعدد من الدول الأوروبية في إنتاج وتطوير وتحسين صواريخ "جو-جو" بعيدة المدى، لا سيما وقد شهدت تكنولوجيا الصواريخ تطورا كبيرا في العقود الماضية. في مطلع القائمة تأتي الولايات المتحدة الأميركية ، وتمتلك في الخدمة الآن أشهر صواريخ "جو-جو" بعيدة المدى، ويُعد بمنزلة النموذج الأوّلي الذي يُحاكَى حينما تنوي دولة ما تصنيع صاروخ من هذا النوع، وهو "أيم-120 أمرام) (AIM-120 AMRAAM)، الذي دخل الخدمة الفعلية في 1992 ومنذ تلك اللحظة ما زال يخضع لتحديثات مستمرة، أسفرت عن زيادة مدى الصاروخ إلى 160 كيلومترا، مع وزن يصل إلى 150 كيلوغراما، وطول 3.66 أمتار تقريبا. ورغم الكفاءة العالية للصاروخ الأميركي فإن هذه الأرقام تضعه في مرتبة أقل -نظريا- من أحدث الصواريخ الصينية المناظرة، وهو صاروخ "بي إل-15" (PL-15)، حيث يُقدَّر أقصى مدى للصاروخ بنحو 200-300 كيلومتر. ولذلك تسعى الولايات المتحدة من خلال مشروعين منفصلين لتطوير طرازين من الصواريخ المحمولة جوًّا، الأول تابع لسلاح الجو وهو الصاروخ "أيم-260" (AIM-260 JATM)، والثاني تابع للبحرية وهو الصاروخ "إيه آي إم-174 بي" (AIM-174B)، وهو نسخة معدلة للإطلاق الجوي من صاروخ البحرية التقليدي "إس إم-6" (SM-6). وقد كشفت الولايات المتحدة عن أول نسخة من الصاروخ علنا في مايو/أيار الماضي خلال فعالية يوم الصداقة التي أُقيمت في قاعدة مشاة البحرية في إيواكوني باليابان. وتأمل واشنطن أن تؤدي النسخة البحرية الخاصة من الصاروخ دورا جيدا في جبهة المحيط الهادي، مع تنامي القوة الصينية وتوقعات أميركية بأن يصل مدى الصواريخ المضادة للطائرات التي يمتلكها خصومها إلى أكثر من ألف ميل بحلول عام 2050. تسير أوروبا فيما يبدو على الخُطى نفسها، بفضل صاروخ "ميتيور" (Meteor)، وهو ثمرة تعاون مجموعة دول أوروبية (بريطانيا ـ فرنسا ـ ألمانيا ـ إسبانيا ـ إيطاليا – السويد)، ويعتمد على محرك نفاث، يصل مداه إلى نحو 200 كيلومتر، كما أنه مزود برادار يمكنه من تحديد مكان هدفه والمسافة بينه وبين الهدف الذي يمرق نحوه بسرعة تصل إلى نحو أربعة أضعاف سرعة الصوت (نحو 5000 كم/ساعة). وتم تجربة تحميله على أشهر المقاتلات الأوروبية، مثل المقاتلة السويدية "ساب-جاس 39″، ومقاتلة "يوروفايتر تايفون" ومقاتلات " رافال الفرنسية"، والمقاتلة الأميركية "إف-35″، وهناك خطة أوروبية لتحديث الصاروخ ليواكب التحديات المعاصرة. أبعد من الغرب بعيدا عن العالم الغربي، هناك منافسة محمومة من جانب كلٍّ من روسيا والصين في هذا المجال. روسيا تحديدا لديها طموح من نوع آخر، حيث تشير تقارير استخباراتية أميركية إلى أن موسكو تعمل على تزويد طائراتها المقاتلة بصواريخ ذات رؤوس نووية، وليس ذلك بمستغرب بالنسبة للروس الذين يُظهرون اهتماما خاصا بالأسلحة غير التقليدية. على الأرجح فإن الصاروخ المقصود هو نسخة من الصاروخ جوّ-جو طويل المدى "آرـ37 إم" (R-37M)، وهو أحد الصواريخ بعيدة المدى الأساسية في الترسانة الروسية، ويصل مداه إلى 300 كيلومتر، وينطلق بسرعة فرط صوتية تصل إلى نحو 6 ماخ (أي 6 أضعاف سرعة الصوت – أكثر من 7300 كم/ساعة)، برادار مستقل ويمكن أن يستهدف أي طائرات بما يشمل المقاتلات والقاذفات وطائرات التحكم والاستطلاع. هناك صاروخ روسي آخر هو الصاروخ "كي-172 نافاتور" (K-172 Novator) المُصمَّم أصلا للهجوم على الطائرات الداعمة، مثل طائرات الاستطلاع والتحكم، وطائرات التزود بالوقود، وطائرات الحرب الإلكترونية، لأجل حرمان الخصم من المعلومات وسائر أشكال الدعم في ساحة المعركة. يمتلك الصاروخ رادارا مستقلا عن رادار الطائرة يصل مداه إلى 300 كيلومتر، ومنحت روسيا من خلاله قُبلة الحياة لمقاتلاتها العتيقة "ميغ-31" بعدما نجحت في تسليحها به. تُعد الصين هي الحصاد الأسود الحقيقي في هذا المجال. لفترة طويلة، كان هناك اعتقاد سائد وسط صفوف المحللين الغربيين بأن الصواريخ الصينية ما هي إلا نسخ رديئة مقلدة من مثيلاتها الغربية. ولكن بحسب منصة "ذا وور زون" المتخصصة في الشؤون العسكرية، فإن الآونة الأخيرة شهدت قبولا واسعا لإمكانية أن تكون النسخ الصينية أفضل من مثيلاتها الغربية. خلال الصراع الهندي الباكستاني الأخير، برز اسم الصاروخ الصيني "بي-15″، وهو صاروخ يعمل بالوقود الصلب، ومزوّد برادار مستقل يعمل عبر مصفوفة مسح إلكتروني نشط تتكون من عشرات الحساسات الصغيرة، التي ترسل الموجات، ثم تستقبلها مرة أخرى، فتستطيع رصد الخصم ثم إطلاق الصاروخ تجاهه بسرعة تصل إلى نحو 4 ماخ (أربعة أضعاف سرعة الصوت). يُزوَّد الصاروخ بمحرك ثنائي الأجزاء (حيث ينفصل الجزء بعد احتراق وقوده)، ويشار إليه أيضا بالمحرك ثنائي النبضات. ويصل مدى النسخة المُخصصة للتصدير منه إلى ما بين 145-150 كيلومترا، وهي غالبا النسخة التي تمتلكها القوات الجوية الباكستانية التي حصلت على الصاروخ لتسليح الطائرة "جي-10 سي" (J-10 C) الصينية، ونجحت عبرها في استهداف المقاتلات الهندية خلال النزاع الأخير. هذا الصاروخ هو النسخة الأخيرة من الصواريخ جو-جو الصينية، وقد طورت الصين نسخة شبحية من هذا الصاروخ تحت اسم "بي إل – 15 إي" (PL – 15E). جدير بالذكر أن مسيرة الصين نحو تطوير صواريخ "جو-جو" بدأت منذ ثمانينيات القرن الفائت، وكانت الصواريخ الصينية المبكرة نسخا من الصواريخ السوفياتية، وكانت ذات مدى أقصر، ومنذ ذلك الحين خاضت الصين مسيرة بعيدة لأجل تطوير صواريخها المحمولة جوًّا حتى الوصول إلى الصاروخ "بي إل-15". تحديات جديدة في القتال الجوي تفرض الصواريخ بعيدة المدى تحديات كبيرة وغير مسبوقة على الطائرات المقاتلة، وهناك طيف واسع من التقنيات التي يلجأ إليها الطيارون لتفادي الإصابة بصاروخ طويل المدى. وغالبا ما تكون المشكلة الأولى والرئيسية هي تحديد الصديق من العدو، وهو ما تفشل الرادارات الحديثة في فعله بدقة حتى الآن. بالنظر إلى بُعد المسافة وتطور تقنيات التخفي، أصبح من الصعب على الطيار أن يحدد إذا ما كان مَن يقترب منه صديقا أم عدوا يجب إطلاق النار عليه. وتزداد هذه المشكلة تعقيدا حين يحظر الاتصال المباشر بين الطيارين في ساحة المعركة خوفا من اختراق أنظمة الاتصالات وتعرض الطائرات للانكشاف. هذه التعقيدات قد تزيد من زمن اتخاذ القرار لدى الطيارين الذين قد يصبحون في مرمى نيران الخصوم فجأة دون إنذار. في تلك اللحظة، يراهن الطيار على أنظمة الحماية المتوفرة في طائرته، مثل الأسلحة الليزرية والكهرومغناطسية بالإضافة إلى الطعوم التي تطلقها الطائرة، وهي عبارة عن شظايا أو دخان يدفع الصاروخ الموجَّه حراريا لتتبعه عوضا عن الطائرة. وبعيدا عن التحديات العملياتية، فإن انتشار القتال خارج مدى الرؤية ربما يدفع لإعادة النظر في الخيارات التصميمية التي تستهدف زيادة قدرة الطائرات على المناورة وتغيير الاتجاه خلال معارك الاشتباك المباشر "دوغ فايت". وعوضا عن ذلك سوف تسود تكتيكات جوية غير مألوفة مثل نصب الكمائن، حيث تكمن الطائرة على ارتفاع كبير، ومن ثم تنتهز الفرصة لمهاجمة العدو بغتة، وهكذا تلعب الطائرة المقاتلة دور القائد الذي يرسل المسيرات والصواريخ التي ستؤدي دور البيادق أو المشاة في معارك أولية قبل أن يتدخل عندما يشتد وطيس المعركة. التأثير الأكبر أن ذلك النوع الجديد من المعارك الجوية سوف يضطر العديد من الدول إلى إعادة تعريف مجالها الجوي الحيوي، لأنها من الممكن أن تكون عُرضة للتهديد من طائرات خارج مجالها الجوي المعتاد، ومن ثم باتت مضطرة أن تهتم بخلو الأجواء المجاورة من التهديدات أيضا عن طريق تطوير منظومات دفاع جوي بعيدة المدى يمكنها أن تعترض طائرات تقع خارج حدودها. يفتح ذلك التعريف الواسع للأمن الجوي مجالا واسعا لسوء الفهم والصراعات بين الدول، التي ستكون واحدة من التداعيات القليلة للقتال خارج المدى البصري الذي يُعد الثورة الأكبر والأكثر تأثيرا في الطيران الحربي منذ عقود.


الجزيرة
منذ يوم واحد
- الجزيرة
لماذا لا تستطيع أميركا إنتاج 200 ألف طائرة مسيرة شهريًا؟
مقدمة الترجمة في زمنٍ شهد حروبا جوية ضارية، خاضها طيارون يقطعون السحاب ليعودوا مكلّلين بالنصر وربما لا يعودون، وُلد آنذاك حلمٌ أميركيّ قديم مفادُه أن تُخاض المعارك من على بُعد، بلا دماء تُهدر، وبأيدٍ لا تلمس الزناد. وهكذا بدأت رحلة الولايات المتحدة مع الطائرات المسيّرة، مدفوعةً بهاجس تقليل الخسائر وتعظيم الدقّة. لكنّ المشهد تغير لاحقا، فالمسيّرات التي وُلدت بوصفها رمزا للتفوّق والتقدّم، باتت الآن سلاح الفقراء والأقوياء على حدٍّ سواء، تدور في سماء أوكرانيا كما في سماء غزة، وتقلب موازين القوة بتكلفة لا تتجاوز أحيانا بضع مئات من الدولارات. وبينما كانت الحروب تتغير من حولها، ظلّت واشنطن أسيرة نماذجها القديمة، المتمثلة في طائرات مسيرة باهظة الكُلفة، وعقيدة عملياتية لم تعد تصلح لمعارك اليوم. وأمام هذا التحوّل الجذري، بدت القدرات القتالية الأميركية وكأنها تتآكل من الداخل. فهل تكفي التكنولوجيا وحدها لصناعة النصر؟ أم أن على الولايات المتحدة أن تعيد النظر في الطريقة التي تخوض بها حروبها؟ في هذا المقال المترجم من مجلة "فورين أفيرز"، نستعرض كيف بدأت ثورة الطائرات المسيّرة، وإلى أين وصلت، ولماذا لم تعد واشنطن في طليعة هذا التحليق؟ نص الترجمة حتى وقت قريب، لم يكن في سماء الحرب طائرات مُسيّرة تُضاهي ما تطوّره الولايات المتحدة، فقد استخدمتْ طائرات "بريداتور" (Predator) و"ريبر" (Reaper) لتنفيذ ضربات دقيقة في مناطق نائية حول العالم. لكن مشهد المعركة تغير في الحملات العسكرية الأخيرة في وروسيا وأوكرانيا وبعض الدول الأخرى، التي كشفتْ عن انطلاق ثورة جديدة في عالم الطائرات المسيّرة. فبعد أن كانت هذه الطائرات باهظة الثمن وتُوجَّه عن بُعد لتنفيذ ضربات دقيقة، أو مهام استطلاع إستراتيجي، بات من الممكن اليوم اقتناؤها بأسعار زهيدة لا تتجاوز بضع مئات من الدولارات، مع قدرتها على تنفيذ طيف واسع من المهام، بدءا من مراقبة أرض المعركة، وصولا إلى إيصال الدماء والأدوية إلى الجنود المصابين في الخطوط الأمامية. واليوم، تخوض الجيوش حول العالم تجارب واسعة مع الجيل الجديد من الطائرات المسيّرة، لتوظيفه في مختلف أوجه القتال. ففي جبهات أوكرانيا المُلتهبة على سبيل المثال، تُحلِّق طائرات مسيّرة من منظور الشخص الأول (الذي يتحكم بها) لتنفيذ ضربات داخل عمق أراضي العدو، بينما اعتمدت روسيا على أسراب من المسيّرات الانتحارية، والصواريخ، والقنابل الموجّهة لاستهداف منشآت الطاقة والتصنيع في أوكرانيا. أما على الخطوط الأمامية، فيستخدم الطرفان -موسكو وكييف- طائرات صغيرة، وذخائر متسكعة (أو ما يُعرف بالدرونز الانتحارية) لتدمير الجنود والدبابات والمعدات الداعمة، مع الاستفادة من المسيّرات نفسها في إيصال الإمدادات، ونقل الجرحى، ورصد تحركات العدو. وبالتالي، لم تعد هذه المسيّرات تُوجَّه من مواقع بعيدة، بل أصبحت تنغرس في قلب المعركة، فتُسيَّر من الخنادق، أو تُهرَّب خفية إلى عمق أراضي العدو. لكن على الجانب الآخر، يبدو أن الولايات المتحدة تخلّفت إلى حدٍّ كبير عن مواكبة هذه الثورة في تكنولوجيا الطائرات المسيّرة. فرغم تعهّد وزير الدفاع، بيت هيغسيث، بـ"إطلاق العنان لهيمنة أميركية في مجال المسيّرات"، فإن الترسانة الأميركية ما زالت تعتمد على طائرات ضخمة وباهظة الثمن، تعود إلى أيام كانت فيها وحدها في الطليعة. أما المشاريع الجديدة التي تُعلِّق عليها الولايات المتحدة آمالها، مثل "الطائرات القتالية التعاونية" (CCA) التابعة لسلاح الجو، وبرنامج "المطاردة والذخائر الضاربة على ارتفاعات منخفضة" (LASSO) الخاص بالجيش، فلا تزال حبيسة النماذج الأولية، وبعيدة عن ميادين القتال، فضلا عن أنها مكلِّفة. فالطائرة الواحدة من نوع الـ"CCA" تكلّف ما بين 15-20 مليون دولار، بينما المسيّرة الأصغر حجما للجيش لا تقل كلفتها عن 70 ألف دولار، وقد تصل إلى 170 ألفا. ومع أن الجيش الأميركي قد يُقدم على شراء أعداد أكبر من هذه المسيّرات مستقبلا، فإن السؤال الذي يبقى بلا إجابة هو: هل تمتلك الشركات الأميركية القدرة على الإنتاج بوتيرة تقارب ما تفعله أوكرانيا، التي تستخدم نحو 200 ألف طائرة مسيّرة شهريا؟ وللانخراط الفعّال في ثورة الطائرات المسيّرة، لا يكفي أن تركز الولايات المتحدة على تعزيز قدراتها الكمّية من حيث التمويل والإنتاج وسرعة التوريد، بل يتطلب الأمر إعادة النظر في الأفكار التي شكّلت عقيدة الجيش الأميركي لعقود طويلة. فالقصور الأميركي في تبنّي الجيل الجديد من المسيّرات لا يُعزى إلى عوائق مادية أو تكنولوجية، بل إلى منظومة من قناعات راسخة تشكَّلت على امتداد 60 عاما من خوض الحروب، مفادها أن التفوق الأميركي يكمن في إدارة المعارك عن بُعد، باستخدام أنظمة دقيقة ومُسيّرة، لتحقيق انتصارات سريعة تُدَار عن بُعد مع تقليل الانخراط البشري المباشر. يواجه قادة الولايات المتحدة اليوم ضغوطا متزايدة للتكيف مع نمط جديد من الحرب آخذ في التشكل على نحو واضح في الحروب الدائرة في أوروبا والشرق الأوسط. فقد أصبح الاستخدام المكثّف للطائرات المسيّرة من قِبل العديد من الأطراف عاملا حاسما يُعيد تشكيل ملامح ساحة المعركة. لكن قبل الاندفاع نحو موجة جديدة من الاستثمارات في تقنيات متطورة، يُعد من الضروري أن تُراجع المؤسسات العسكرية المبادئ الأساسية التي وجهت قراراتها وعمليات تسلّحها لعقود طويلة. فعليها أن تُعيد تقييم مدى تقبّل الرأي العام للخسائر البشرية، وأن تُراجع آليات الشراء العسكري التي كثيرا ما تُفضّل الأنظمة الأكبر والأعلى تكلفة، وأن تُعيد النظر أيضا في النزعة المؤسسية لدى بعض الأفرع العسكرية نحو امتلاك منظومات ضخمة قد لا تتناسب مع متطلبات الحرب الحديثة. والأهم من ذلك، ينبغي لصانعي القرار أن يبلوروا تصورا جديدا للنصر، يأخذ في الحسبان كيف يمكن لتقنيات المسيّرات أن تُسهم في تحقيق أهداف إستراتيجية حاسمة ضمن بيئات قتال متغيّرة. مَن يقف خلف الكواليس التقنية في المعركة؟ لطالما سعى الجيش الحديث إلى تسخير التكنولوجيا لرفع مستوى الدقة والكفاءة في تنفيذ المهام القتالية، وتقليل التكلفة البشرية، ليس فقط حمايةً لأرواح الجنود، بل أيضا لتخفيف العبء عن صانعي القرار. فمنذ عقود، بدأ هذا التوجّه يتبلور، حين بدأت القيادات تبحث عن سُبل تُغنيها عن إرسال جنودها إلى مهام محفوفة بالخطر. وفي وقت مبكر من عام 1965، بينما كانت حرب فيتنام تواجه تراجعا في التأييد الشعبي، وتُثير جدلا متزايدا داخل الولايات المتحدة، طلب الرئيس ليندون جونسون من وزير دفاعه روبرت مكنمارا أن يجد حلًّا تكنولوجيًّا لمهام الاستطلاع الخطرة في حرب فيتنام قائلا: "ألا توجد أي طريقة يا روبرت تستطيع من خلالها -بطائراتك الصغيرة أو مروحياتك- أن ترصد هؤلاء الناس، ثم تبعث بإحداثياتهم عبر اللاسلكي، فتأتي الطائرات وتنهال عليهم بوابلٍ من القصف العنيف؟". مع بزوغ المعالج الدقيق عام 1971، انطلقتْ شرارة الابتكار الأميركي في عالم الطائرات المسيّرة بقوة، حين بدأت هذه الآلات الصامتة تجد لنفسها مكانا في قلب المعركة، ونجحت لأول مرة في استخدام قدراتها استخداما فعّالا في سماء فيتنام. حينذاك، شهدت الأجواء أكثر من 4,000 طلعة لطائرات "لايتنينغ باغ" و"بافالو هانتر"، تولّت ما اعتاد البشر وحدهم أن ينجزوه من مهام وصفها العسكريون بأنها "مملة، وخطرة، وقذرة". حلّقتْ تلك الطائرات مثل فخّ مُعدٍّ بإحكام لاستدراج مواقع الدفاعات الجوية، كما التَقطَت صورا لمواقع الأسرى وصواريخ "أرض–جو" الفيتنامية، واستمرتْ في تنفيذ عمليات استطلاع حتى في أسوأ الأحوال الجوية. ولم تكتفِ بالرصد، بل ألقتْ منشورات دعائية في قلب أرض العدو. صحيح أن الطائرات المسيّرة لم تُحدِث تحولا جذريا في مجريات حرب فيتنام، لكنها أثارتْ خيال الجيش الأميركي عندما أظهرتْ كيف يمكن للتكنولوجيا أن تقلّل من المخاطر التي يتعرض لها الإنسان. وجاء عام 1973 ليمنح هذا التصور بُعدا أشد واقعية، إذ أُوقف التجنيد الإجباري، وانتقل الجيش إلى نظام يعتمد على المتطوعين وحدهم. لم يعد من السهل تعبئة آلاف الجنود عند الطلب، وأصبح لزاما على القادة أن يُعيدوا رسم إستراتيجياتهم بناءً على مَن يستطيعون استقطابه، وليس مَن يمكنهم فرض التجنيد عليه. ومع بداية الثمانينيات، وبينما كانت الولايات المتحدة تُواجه خصما سوفيتيًّا يتفوّق عليها عددا وعُدّة، تصاعدتْ الحاجة إلى تكنولوجيا تعوّض ذلك النقص. وبالتالي، لم يعد السباق حول مَن يملك جنودا أكثر، بل مَن يستطيع أن يصنع الفارق من خلال الدقة، والسرعة، والتفوّق النوعي. ولذلك، اتجه القادة الأميركيون نحو إعادة تشكيل القوة العسكرية، ليس بتوسيع حجمها، بل بتقليصها وتحسين كفاءتها، لتُقاتل بقوة مدرّبة تعتمد على تقنيات ذكية موجهة بدقة. وفي قلب هذا التحوّل، تشكَّلت عقيدة "المعركة الجوية البرية"، وهي رؤية إستراتيجية تبنّاها الجيش وسلاح الجو معا، تقوم على تناغم الضربات بعيدة المدى مع تحركات برية سريعة ومرنة، مدعومة بتقنيات المعالجة الدقيقة التي مكّنتهم من رؤية العدو واستهدافه من مسافات غير مسبوقة. وفي ظل إدارة الرئيس رونالد ريغان، تدفّقت المليارات إلى ميزانية الدفاع، فكانت الأقمار الصناعية، والرادارات، والأسلحة الذكية من أوائل المستفيدين. لم تكن هذه مجرد أدوات متطورة، بل كانت اللبنات الأولى في بناء ترسانة المسيّرات الأميركية. وبعد أن اهتزّت واشنطن بهجوم عام 1983 الذي استهدف ثكنة مشاة البحرية، وسقوط طيّارين من البحرية في لبنان، تسارعتْ وتيرة البحث الأميركي عن الطائرات المسيّرة، وأدركت واشنطن حينها أن تقليص الخسائر البشرية لم يعد خيارا بل أولوية، فاستثمرت البحرية قرابة 90 مليون دولار في نظام مسيّرات أثبت كفاءته، واشترت 72 طائرة مسيّرة من طراز "بايونير" (Pioneer). في تلك الفترة، أطلق وزير الدفاع كاسبار واينبرغر عقيدة عسكرية جديدة تنصّ على ألا يُزَجّ بالقوات في الميدان إلا عندما تُستَنفد جميع البدائل. وهكذا، نمت القناعة لدى المخطّطين العسكريين بأن الطائرات المسيّرة يمكن أن تُغني عن إرسال الطيّارين في مهام استطلاعية محفوفة بالمخاطر. وقد لخّص كيلي بيرك، رئيس قسم البحث والتطوير في سلاح الجو من عام 1979 إلى عام 1982، هذه القناعة بعبارة لافتة لصحيفة "واشنطن بوست" عام 1985، قائلا: "قد توجد طائرة رخيصة، لكن لا يوجد ما يُسمى بطيارٍ رخيص". تزامن صدور عقيدة واينبرغر مع فجر عصر المعلومات، في وقتٍ لطالما سعت فيه الولايات المتحدة إلى تفادي حروب الاستنزاف الطويلة. ومع التسارع اللافت في تطوّر التكنولوجيا الرقمية، بدا أن تجنّب تلك الحروب قد يُصبح ممكنا أخيرا. وفي أعماق البنتاغون، وفي مكاتب لا تصلها الأضواء الإعلامية، ركّزت مجموعة صغيرة من الإستراتيجيين على كيفية تمكين الأنظمة الجديدة، وعلى رأسها الطائرات المسيّرة، من إعادة رسم ملامح الحرب بالكامل، من خلال رصد العدو واستهدافه من مسافات بعيدة، وبسرعة تقضي على الحاجة إلى التضحية المباشرة بالجنود. وفي عام 1986، كتب فريق منهم تقريرا سابقا لعصره، تخيّلوا فيه ساحة معركة تعجّ بمستشعرات استطلاعية طائرة، وألغام جوية تحوم كسرب مدجّج، فيما تعتمد المدفعية والطائرات المأهولة على أجهزة استشعار غير مأهولة لاختيار الأهداف تلقائيا. غنائم بلا قتال لكنّ هذين الهدفين -تقليل المخاطر البشرية وتعزيز فعالية القتال- لم يسيرا يوما جنبا إلى جنب بانسجام تام. فمنذ حرب الخليج عام 1991، ظلّت الإستراتيجية الأميركية في استخدام الطائرات المسيّرة تتأرجح بين كفتين: كفة تخشى المخاطرة، وأخرى تطمح إلى نصرٍ خاطف تُنجزه التكنولوجيا. في تلك الحرب، حاولت الولايات المتحدة أن تمسك العصا من المنتصف، فتبنّت نهجا مزدوجا، حيث افتتح سلاح الجو الحرب بحملة "الصدمة والرعب"، المدعومة بقنابل موجهة وصواريخ بعيدة المدى، بينما شنّت القوات البرية مناورة ألحقت دمارا كبيرا بالجيش العراقي. وقد بدا أن هذا الانتصار السريع والفعّال يبشّر بعقيدة أميركية جديدة في الحرب، عقيدة تقوم على الحسم السريع، وقلة الخسائر. لكن عقب انهيار الاتحاد السوفيتي، قلّص الكونغرس وإدارة كلينتون ميزانية وزارة الدفاع. ومع تضاؤل الموارد، اندفعت أفرع القوات المسلحة في سباق داخلي، كلٌّ منها يسعى لحماية برامجه المفضّلة، متمسّكة بالمنصات التقليدية الكبرى مثل حاملات الطائرات، والمقاتلات، والدبابات، على حساب الأنظمة غير المأهولة والذخائر الأصغر حجما. وفي الوقت نفسه، أعادت وزارة الدفاع ترتيب أوراقها، وبدأت موجة من الاندماجات تقلّص عدد اللاعبين في السوق. ومع تقلّص الميزانيات، تراجعت شهية الشركات المتبقية للاستثمار في الابتكار خارج حدود المتطلبات الرسمية التي تضعها وزارة الدفاع. ورغم القيود التي كبّلت الميزانية، نجحت إدارة كلينتون -خلال التسعينيات- في تشييد ترسانة من طائرات الشبح، وصواريخ كروز بعيدة المدى، وقنابل ذكية تهتدي بنظام تحديد المواقع العالمي (GPS). وقد مثلّتْ تلك الحقبة زمن التدخلات العسكرية الجوية الذي اتّسم بانخفاض المخاطر، واعتمد اعتمادا أساسيا على التفوّق التكنولوجي. صحيح أن الطائرات المسيّرة لم تكن على رأس أولويات أي فرع من فروع القوات المسلحة، لكن وزارة الدفاع في عهد كلينتون رأت فيها إمكانات واعدة. وفي وقت مبكر من فترة توليه منصب نائب وزير الدفاع، أسّس جون دوتش منظمة مشتركة تُعرف باسم "مكتب الاستطلاع الجوي الدفاعي"، بهدف تشجيع الجيش على تبنّي تكنولوجيا المسيّرات. وفي عام 1994، خلص هذا المكتب إلى أن الطائرات غير المأهولة تُمثِّل "بديلا مناسبا" في وقت تواجه فيه القوات المسلحة صعوبة بسبب تقليص أعدادها ومعدّاتها. وبالفعل، في صيف عام 1995، حلّقت فوق سماء يوغوسلافيا السابقة أولى طائرات "بريداتور" (Predator) المسيّرة، التي طوّرتها شركة للطاقة تُدعى "جنرال أتوميكس" (General Atomics)، دون داعم صريح من داخل المؤسسة العسكرية. وفي صيف العام نفسه، هزّ الحرج أروقة المؤسسة العسكرية الأميركية حين أُسقِطت طائرة "F-16" يقودها الطيّار سكوت أوغرادي فوق أراضٍ يسيطر عليها صرب البوسنة. عندها، تحرّك رئيس أركان السلاح الجوي، الجنرال رونالد فوغلمان، وقرر التوسع في نطاق استخدام طائرات "بريداتور" المسيّرة، وأسس أول وحدة للطائرات غير المأهولة في يوليو/تموز 1995. لم يكن الجنرال فوغلمان وحده في هذا التوجه، فقد وجَد دعما صريحا من الكونغرس، إذ صرّح السيناتور جون وارنر، رئيس لجنة القوات المسلحة بمجلس الشيوخ، قائلا: "في تقديري، لن يسمح هذا البلد مجددا بأن تُزَجّ قواته في حروب تُكلّفه هذا القدر من الأرواح كما شهدنا في الماضي". وبحسب استنتاجه، فإن ذلك يعني التحوّل الحتمي نحو تقنيات غير مأهولة. تصويب بلا هامش للخطأ في أعقاب هجمات 11 سبتمبر، أصبحت طائرات "بريداتور" و"ريبر" المسيّرة عنصرا بارزا في الإستراتيجية العسكرية الأميركية. وعلى مدار عقدين من الزمن، اقتنت الولايات المتحدة أكثر من 500 طائرة من هذين الطرازين (بتكلفة بلغت عشرات المليارات من الدولارات)، وسخّرتها لتنفيذ آلاف الضربات الجوية في سماء أفغانستان، والعراق، وليبيا، وباكستان، وسوريا، واليمن، وعدد كبير من الدول الأخرى. وجلس القادة يحدّقون في الشاشات، يلاحقون الأهداف لحظةً بلحظة، على مدار الساعة وطوال أيام الأسبوع. ورغم الحضور الطاغي للطائرات المسيّرة في مشهد الحروب الحديثة، لم يكن استخدامها يوما بمنأى عن الجدل. فهذه الأنظمة لم تكن رخيصة، كما أنها لم تُظهِر مرونة كبيرة أو قدرة عالية على التحمّل في ظروف القتال المعقّدة، مما أثار استياء القوات على الأرض. وكان هذا الاستياء ناتجا عن مشكلات واجهها الجنود، مثل بطء وصول المعلومات وتأثّر أداء الطائرات في الأجواء السيئة بسبب التشويش، كما أن تشغيل الطائرات كان محصورا تقريبا على سلاح الجو، وهو ما دفع القوات البرية للشكوى من أن طياري المسيّرات لم يتلقّوا تدريبا كافيا لتقديم الدعم الأرضي الفعّال. وفوق تلك الشوائب التقنية، ظهرتْ تساؤلات أخلاقية وإستراتيجية حول الاعتماد المفرط على الطائرات غير المأهولة بدلا من المقاتلين البشر. ففي العراق وأفغانستان، زعمت الولايات المتحدة أنها تسعى لكسب "قلوب وعقول" السكان، لكن هذا الهدف بدا متناقضا مع سياسة القصف من مسافات بعيدة، من خلف شاشات بلا تواصل أو ملامح. وخلال العقود الأخيرة من الحروب والصراعات غير التقليدية، كان سلاح الجو الأميركي هو الفرع الوحيد الذي انخرط فعليا في الاستثمار في الطائرات المسيّرة. ورغم أن هذه الطائرات بدت وكأنها تهدد دور الطيّار التقليدي داخل المؤسسة الجوية، فإن رغبة سلاح الجو في الحفاظ على هيمنته على المهام الجوية دفعته إلى تبنّي هذه التكنولوجيا بقوة. وفي إطار ترسيخ هيمنة سلاح الجو على المسيّرات، استُخدمت طائرات "بريداتور" و"ريبر" ضمن أسراب تابعة لسلاح الجو، جرى تنظيمها وفق نموذج وحدات المقاتلات التقليدية. وغالبا ما تولّى قيادتها طيّارون سابقون، اعتمدوا في تشغيلها وتكليفها على أنظمة شبيهة بتلك المستخدمة في الطائرات المأهولة. لذلك، لم يكن مفاجئا أن تتشابه مهام الطائرات المسيّرة مع المهام الجوية التقليدية، مثل القصف الإستراتيجي وجمع المعلومات الاستخباراتية. وفي الوقت نفسه، ترك الجيش الأميركي المجال "لسلاح الجو" للسيطرة على الطائرات المسيّرة، واقتصر استثماره فيها على بعض الأنظمة الصغيرة فقط، بينما أبدت البحرية اهتماما ضئيلا بها، إذ ظل تركيزها منصبًّا على المنصات الكبرى مثل حاملات الطائرات التي تُعدّ جزءا أساسيا من هويتها القتالية. ولحماية جنودها في ذلك الوقت، ركّزت الولايات المتحدة على تسخير التكنولوجيا المتقدّمة لتقليل الخسائر البشرية، الأمر الذي دفعها إلى تبنّي نوع محدد من الطائرات المسيّرة: تلك التي تُدار عن بُعد، وتراقب الأهداف لساعات، وتعمل وسط أجواء محفوفة بالمخاطر. لم يكن هذا التوجّه في التسلّح وليد اللحظة، بل هو نتاج عقود من القرارات المتراكمة، بدءا من الطريقة التي أرادت بها الولايات المتحدة خوض الحروب بعد فيتنام، مرورا بالدروس التي استخلصتها من حرب الخليج، ووصولا إلى توجّهات الإنفاق الدفاعي خلال مرحلة الانفراد الأميركي بقيادة العالم. وقد جاءت حربا أفغانستان والعراق، على مدار عقدين، لترسيخ هذه الخيارات وجعلها جزءا ثابتا من العقيدة العسكرية الأميركية. على الجانب الآخر، هزّت الحرب في أوكرانيا الثوابت التي طالما استندت إليها العقيدة العسكرية الأميركية، فأطلقت سباقا محموما نحو توسيع استثماراتها في مجال الطائرات المسيّرة. وبدأت واشنطن بمنح عقود لشركات دفاعية ناشئة، وإجراء سيناريوهات افتراضية تُحاكي مهام غير مسبوقة للمسيّرات، وأوامر مباشرة من وزير الدفاع هيغسِث للوحدات بشراء المسيّرات التجارية واختبارها ميدانيا. ومع ذلك، بدت هذه الخطوات وكأنها ردود أفعال ارتجالية على ما يجري في ساحات القتال بالخارج، لا خطوات منسّقة نابعة من إستراتيجية مدروسة ترسم بوضوح ملامح الدور المستقبلي الذي ينبغي أن تؤديه هذه الطائرات في حروب الغد. إعادة الحرب إلى صورتها الأولى إذا كانت الولايات المتحدة تطمح إلى خوض حروب استنزاف والانتصار فيها -كتلك التي تُخاض الآن في أوكرانيا بطائرات مسيّرة- فعليها أن تُعيد تشكيل ترسانتها لا بالعتاد فقط، بل بالعقيدة أيضا. بمعنى أنها في حاجة إلى مسيّرات منخفضة التكلفة، تُرافق الجنود في الميدان، وتتمتع بمرونة تكتيكية تمكّنها من التكيّف مع أساليب مواجهة المسيّرات. لكن تقليد التجارب الأوكرانية أو غيرها لن يكون كافيا، لأن الأمر يتطلب ما هو أعمق من مجرّد التسلّح. فقبل أن تهرع مصانع السلاح إلى إنتاج مسيرات جديدة، لا بد للإستراتيجيين أن يضعوا تصورا جديدا لمفهوم "النصر"، يُراجع ما ترسّب في الذاكرة العسكرية من مسلّمات عمرها نصف قرن. فعلى مدار نصف قرن، بَنَت الولايات المتحدة سياستها العسكرية على افتراض أساسي مفاده أن الشعب الأميركي لن يرضى بالتضحية بأرواح أبنائه، لكنه مستعد لإنفاق الأموال من أجل خوض الحروب. لكن هذا اليقين بدأ يتصدّع، فالعجز المالي يتفاقم، وغضب الناخبين من التضخم وسوء الإنفاق يعلو، وهو ما يضع القادة الأميركيين أمام حقيقة مفادها أن ضخ الأموال في مشاريع تكنولوجية باهظة الثمن لم يعد وسيلة مضمونة لحماية أنفسهم سياسيا. وفي الوقت ذاته، بدأ الحلم القديم -الذي ساد ثمانينيات وتسعينيات القرن الماضي بأن الطائرات غير المأهولة ستجعل الحروب أسرع وأبعد- يتهاوى أمام واقع جديد. فالمسيّرات، كما تُستخدم اليوم في ميادين أوروبا والشرق الأوسط، تُعيد الحرب إلى ما يشبه صورها الأولى، حيث الخنادق المُوحلة، والألغام، واستهداف المدنيين، وكلها ملامح غابت عن العقيدة الأميركية منذ حرب فيتنام. واليوم، تواجه الولايات المتحدة لحظة حاسمة تستدعي مراجعة جادة لإستراتيجيتها العسكرية، لا سيما فيما يتعلّق بدور الطائرات المسيّرة في حروب المستقبل. ولضمان توجيه الميزانية الدفاعية بشكل فعّال، لا بد من إصلاحات عميقة تشمل تسريع عملية التسلّح، وتوسيع هامش الابتكار، عبر منح القادة الميدانيين والفرق الصغيرة قدرة أكبر على اختيار وتطوير المسيّرات التي يحتاجون إليها فعلا. وفي المقابل، انخدع الجيش الأميركي بنجاحاته في العمليات التنفيذية والتكتيكية في الحروب الماضية، وأغفل نقطة مهمة وهي الحفاظ على التفوق الإستراتيجي الضروري لمواجهة تحديات القرن الحادي والعشرين. وبدون إعادة النظر في النموذج الأميركي في خوض الحروب، لن يكون امتلاك المزيد من الطائرات المسيّرة -مهما بدت متقدمة- كافيا لحماية الولايات المتحدة من الانزلاق إلى حروب لا تسعى إلى الانخراط فيها. _______________________


الجزيرة
منذ يوم واحد
- الجزيرة
هل أصبح "غش الباحثين" ظاهرة تهدد بانهيار العلم؟
في الوقت الذي تعد فيه الأبحاث العلمية ركيزة لتقدم المجتمعات الإنسانية، رصد فريق من علماء جامعة نورث ويسترن الأميركية ظاهرة خطِرة نشأت أخيرا وبدأت في الانتشار، تهدد الثقة في العلوم نفسها، وهي الاحتيال العلمي المنظم. فبحسب الدراسة ، التي نشرها الفريق في دورية "بي إن إيه إس"، لم يعد الأمر يقتصر على حالات فردية من تزوير البيانات أو سرقة الأفكار، بل أصبحنا في نواجه شبكات ممنهجة، تعمل على إنتاج وترويج أبحاث زائفة على نطاق واسع، مدفوعة بالمكاسب المادية التي تحصل عليها هذه الشبكات من جهة، والضغوط الأكاديمية التي يعاني منها الباحثون من الجهة الأخرى. احتيال في العلم يعرف الاحتيال العلمي بأنه تزييف متعمد للمحتوى العلمي بهدف خداع القارئ أو المؤسسة. ويأخذ هذا الاحتيال أشكالًا متعددة، منها التلاعب في البيانات أو الصور البيانية، وسرقة الملكية الفكرية، إضافة أسماء مؤلفين لم يشاركوا في الدراسة. وإلى جانب ذلك ينتشر استخدام الذكاء الاصطناعي لتوليد مقالات علمية وهمية، والنشر في دوريات ضعيفة أو فاسدة، وشراء أبحاث جاهزة من شركات تُعرف بـ "مزارع الأوراق". وتعرف "مزارع الأوراق" بأنها شركات تبيع أوراقا علمية جاهزة للنشر للباحثين أو طلاب الدراسات العليا أو حتى أساتذة جامعيين يريدون تحقيق متطلبات الترقية الأكاديمية أو الشهرة أو التمويل، دون إجراء أبحاث حقيقية. هذه الأوراق البحثية عادة ما تكون معتمدة على اختلاق بيانات أو صور مخبرية، غالبًا ما تكون مزوّرة أو مكررة. تستخدم هذه الأوراق البحثية عادة لغة غريبة أو متكررة بشكل مريب، وتجد بها مؤلفين من أماكن غير مرتبطة فعليًا بالبحث، مع بيانات بلا مصادر واضحة، وبالطبع مجلة غير معروفة أو تم افتراسها (وهو أمر نوضحه بعد قليل)، كما تجد أن البحث يبدو عاما جدا ومليئا بالكلمات "الرنانة" دون عمق أو رصانة أكاديمية. جريمة منظمة لكن الخطير في السنوات الأخيرة هو التحول من الاحتيال الفردي إلى الشبكي والمنهجي، بشكل يشبه الجريمة المنظمة، حيث يتم إدارة أعمال احتيالية منسقة تمتد عبر دول ومؤسسات ومجلات علمية. إعلان وقد أجرى الباحثون من جامعة نورثويسترن فحصا تحليليا اعتمد على الذكاء الاصطناعي وتقنيات تعلم الآلة لأكثر من 10 ملايين ورقة علمية منشورة. وبحسب الدراسة، فقد ظهر أن عشرات الآلاف من الأوراق أظهرت نمطًا إحصائيًا غير طبيعي في الاقتباسات والعناوين والمحتوى، وهناك ارتباطات مشبوهة بين مجموعات من الباحثين ودور نشر تتكرر فيها علامات الاحتيال، ما يعني صورة من صور التنظيم والهيكلة لتلك النوعية من الاحتيال. إلى جانب ذلك، وجدت الدراسة أن الاحتيال العلمي ينمو بمعدل أسرع من نمو الأبحاث الأصلية، ويرى المؤلفون، أن هذه النتيجة يجب أن تكون بمثابة جرس إنذار للمجتمع العلمي، الذي يحتاج إلى التحرك قبل أن يفقد الجمهور ثقته في العملية العلمية. أخطر المشكلات وقال لويس أ. ن. أمارال، كبير مؤلفي الدراسة وهو الأستاذ بكرسي إيراستوس أوتيس هافن وأستاذ علوم الهندسة والرياضيات التطبيقية في كلية ماكورميك للهندسة بجامعة نورث وسترن في تصريح حصلت الجزيرة نت، على نسخة منه: "يجب على العلم أن يُراقب نفسه بشكل أفضل للحفاظ على نزاهته". ويضيف: "إذا لم ننشر الوعي عن هذه المشكلة، فسيصبح السلوك أسوأ فأسوأ وأمرًا طبيعيًا. في مرحلة ما، سيكون الأوان قد فات، وستصبح الأدبيات العلمية مُسممة تماما. ويوضح أمارال، أن بعضهم يخشى من أن يكون الحديث عن هذه القضية هجومًا على العلم، مضيفا "لكنني أعتقد اعتقادًا راسخًا أننا ندافع عن العلم من الجهات السيئة. علينا أن ندرك خطورة هذه المشكلة ونتخذ التدابير اللازمة لمعالجتها". إستراتيجيات المحتال وبحسب الدراسة، وجد أمارال ورفاقه أن الشبكات الاحتيالية تستخدم عدة إستراتيجيات رئيسية: تعاون بين مجموعات من الباحثين لنشر أوراق مزيفة: عدد من الباحثين يتفقون بينهم على نشر أبحاث مزيفة في مجلات مختلفة، وعندما تُكتشف هذه الأبحاث لاحقًا، تقوم المجلات بسحبها، لكن الضرر يكون قد حصل فعلا. وجود "وسطاء" لتسهيل النشر الجماعي المزيف: هؤلاء الوسطاء يعملون كجسر بين الباحث والمجلة، ويبيعون خدمات مثل كتابة الورقة، ونشرها في مجلة معيّنة، أو حتى إضافة اسمك كباحث دون أن تكتب شيئًا، والهدف هو تسهيل نشر مئات أو آلاف الأوراق الاحتيالية. التركيز على مجالات علمية "ضعيفة" يسهل اختراقها: الاحتيال يتركّز غالبًا في تخصصات علمية معيّنة، مثل بعض فروع الطب أو الكيمياء الحيوية، وتحديدا في مجلات ضعيفة، حيث المراجعة ضعيفة والمجلات أقل شهرة والرقابة أقل صرامة. تفادي العقوبات بخداع أدوات الجودة: حتى عندما تُكتشف مجلة فاسدة ويتم حذفها من قواعد البيانات، فإن الشبكات الاحتيالية تنقل نشاطها إلى مجلات أخرى جديدة أو تابعة. اختطاف أو افتراس المجلات المتوقفة: في بعض الأحيان تتوقف مجلة علمية محترمة عن النشر (بسبب توقف التمويل، أو إغلاق الناشر، أو لأي سبب إداري)، يبحث المحتالون عن هذه المجلات المتوقفة، لأنها كانت ذات سمعة جيدة ولها تاريخ مشرف، ثم يقومون "بسرقة" اسم المجلة أو موقعها الإلكتروني، أو يصنعون موقعا جديدا يشبه الأصلي تمامًا، ويزعمون أن المجلة لا تزال تعمل، ويبدؤون في استقبال ونشر أبحاث جديدة مزيفة. إعلان ضغوط أكاديمية بهذه الطريقة يواصل هؤلاء المحتالون عملهم دون انكشاف. وبحسب الدراسة، فإن السبب الرئيسي لهذه الظاهرة يتعلق أبرزها بالضغوط الأكاديمية، فالباحثون وطلاب الدراسات العليا وحتى العلماء مطالبون بنشر عدد معين من الأوراق للترقي أو الحصول على تمويل. يؤدي ذلك إلى نظام تقييم غير دقيق في بعض الجامعات، يتضمن الاعتماد المفرط على عدد الأبحاث بدلا من جودتها. إلى جانب ذلك، فبعض الجامعات تشترط نشر ورقة علمية قبل مناقشة الرسالة، ومن ثم فإن الطالب قد يلجأ للغش تحت الضغط، أو بسبب ضعف إشراف أكاديمي، أو صعوبة البحث. وإلى جانب ذلك، فإن بعض المجلات العلمية تتحايل على القوانين، وتنشر الأبحاث بسرعة دون تدقيق كاف، يأتي ذلك في سياق وجود سوق مربحة لبيع الأبحاث، فكثير من الشركات تبيع أوراقا مزيفة بأسعار تبدأ من 500 إلى 5000 دولار للمقال. الدفاع عن العلم يدرك الباحثون أن ذلك سيدفع من ناحية إلى تآكل خطير للثقة في البحث العلمي، خاصة إذا تم اقتباس الأوراق الزائفة في أبحاث حقيقية، كما أنه يضيّع الموارد، فهناك أموال ومنح تهدر على مشاريع مبنية على أساس خاطئ. وللأمر نتائج أعمق، فقد يؤدي -أو هو بالفعل يفعل- إلى إرباك نماذج الذكاء الاصطناعي التي تُدرب على الأبحاث المنشورة، فتتعلم من بيانات مزيفة وتنتج معرفة غير موثوقة. أما إذا تسللت أوراق زائفة بكثافة إلى مجالات الطب أو التكنولوجيا، فإن ذلك يؤثر مباشرة على صحة الناس، أو اتخاذ القرارات الحكومية في سياق نطاقات متنوعة، مثل البيئة أو المناخ. وللخروج من هذه المشكلة، يقترح الباحثون عدة إجراءات يمكن أن تساعد بقوة على تنظيم العملية العلمية بشكل "صحي": تطوير أدوات ذكاء اصطناعي لرصد الأنماط الاحتيالية. إلزام المجلات بعمليات تدقيق أكثر صرامة. فرض عقوبات على الباحثين والمؤسسات التي يثبت تورطها. تبنّي مبدأ الشفافية المفتوحة في البيانات والنتائج. دعم مبادرات مجتمعية مثل "باب-بير"و "ريتراكشن واتش" لرصد ومراجعة الأبحاث بعد النشر. ويقول أمارال معلقا على النتائج التي توصل وفريقه إليها: "ربما تكون هذه الدراسة أكثر المشاريع إحباطًا التي شاركتُ فيها طوال حياتي". ويضيف: "منذ صغري، كنت متحمسا للعلم. من المحزن أن نرى الآخرين يتورطون في الاحتيال والتضليل. ولكن إذا كنت تؤمن بأن العلم مفيد ومهم للبشرية، فعليكَ أن تناضل من أجله". في النهاية، يوضح الباحثون أن العلم الحقيقي لا يقوم فقط على الاكتشافات، بل على النزاهة والشفافية، والاحتيال العلمي المنظم لا يهدد فقط الباحثين، بل يمس المجتمعات والقرارات السياسية والصحة العامة، ومن ثم فمن الضروري أن يتكاتف المجتمع العلمي لإرساء معايير أكثر صرامة لحماية المعرفة العلمية.