logo
لماذا لا تستطيع أميركا إنتاج 200 ألف طائرة مسيرة شهريًا؟

لماذا لا تستطيع أميركا إنتاج 200 ألف طائرة مسيرة شهريًا؟

الجزيرةمنذ 5 أيام
مقدمة الترجمة
في زمنٍ شهد حروبا جوية ضارية، خاضها طيارون يقطعون السحاب ليعودوا مكلّلين بالنصر وربما لا يعودون، وُلد آنذاك حلمٌ أميركيّ قديم مفادُه أن تُخاض المعارك من على بُعد، بلا دماء تُهدر، وبأيدٍ لا تلمس الزناد. وهكذا بدأت رحلة الولايات المتحدة مع الطائرات المسيّرة، مدفوعةً بهاجس تقليل الخسائر وتعظيم الدقّة. لكنّ المشهد تغير لاحقا، فالمسيّرات التي وُلدت بوصفها رمزا للتفوّق والتقدّم، باتت الآن سلاح الفقراء والأقوياء على حدٍّ سواء، تدور في سماء أوكرانيا كما في سماء غزة، وتقلب موازين القوة بتكلفة لا تتجاوز أحيانا بضع مئات من الدولارات.
وبينما كانت الحروب تتغير من حولها، ظلّت واشنطن أسيرة نماذجها القديمة، المتمثلة في طائرات مسيرة باهظة الكُلفة، وعقيدة عملياتية لم تعد تصلح لمعارك اليوم. وأمام هذا التحوّل الجذري، بدت القدرات القتالية الأميركية وكأنها تتآكل من الداخل. فهل تكفي التكنولوجيا وحدها لصناعة النصر؟ أم أن على الولايات المتحدة أن تعيد النظر في الطريقة التي تخوض بها حروبها؟ في هذا المقال المترجم من مجلة "فورين أفيرز"، نستعرض كيف بدأت ثورة الطائرات المسيّرة، وإلى أين وصلت، ولماذا لم تعد واشنطن في طليعة هذا التحليق؟
نص الترجمة
حتى وقت قريب، لم يكن في سماء الحرب طائرات مُسيّرة تُضاهي ما تطوّره الولايات المتحدة، فقد استخدمتْ طائرات "بريداتور" (Predator) و"ريبر" (Reaper) لتنفيذ ضربات دقيقة في مناطق نائية حول العالم. لكن مشهد المعركة تغير في الحملات العسكرية الأخيرة في وروسيا وأوكرانيا وبعض الدول الأخرى، التي كشفتْ عن انطلاق ثورة جديدة في عالم الطائرات المسيّرة.
فبعد أن كانت هذه الطائرات باهظة الثمن وتُوجَّه عن بُعد لتنفيذ ضربات دقيقة، أو مهام استطلاع إستراتيجي، بات من الممكن اليوم اقتناؤها بأسعار زهيدة لا تتجاوز بضع مئات من الدولارات، مع قدرتها على تنفيذ طيف واسع من المهام، بدءا من مراقبة أرض المعركة، وصولا إلى إيصال الدماء والأدوية إلى الجنود المصابين في الخطوط الأمامية.
واليوم، تخوض الجيوش حول العالم تجارب واسعة مع الجيل الجديد من الطائرات المسيّرة، لتوظيفه في مختلف أوجه القتال. ففي جبهات أوكرانيا المُلتهبة على سبيل المثال، تُحلِّق طائرات مسيّرة من منظور الشخص الأول (الذي يتحكم بها) لتنفيذ ضربات داخل عمق أراضي العدو، بينما اعتمدت روسيا على أسراب من المسيّرات الانتحارية، والصواريخ، والقنابل الموجّهة لاستهداف منشآت الطاقة والتصنيع في أوكرانيا.
أما على الخطوط الأمامية، فيستخدم الطرفان -موسكو وكييف- طائرات صغيرة، وذخائر متسكعة (أو ما يُعرف بالدرونز الانتحارية) لتدمير الجنود والدبابات والمعدات الداعمة، مع الاستفادة من المسيّرات نفسها في إيصال الإمدادات، ونقل الجرحى، ورصد تحركات العدو. وبالتالي، لم تعد هذه المسيّرات تُوجَّه من مواقع بعيدة، بل أصبحت تنغرس في قلب المعركة، فتُسيَّر من الخنادق، أو تُهرَّب خفية إلى عمق أراضي العدو.
لكن على الجانب الآخر، يبدو أن الولايات المتحدة تخلّفت إلى حدٍّ كبير عن مواكبة هذه الثورة في تكنولوجيا الطائرات المسيّرة. فرغم تعهّد وزير الدفاع، بيت هيغسيث، بـ"إطلاق العنان لهيمنة أميركية في مجال المسيّرات"، فإن الترسانة الأميركية ما زالت تعتمد على طائرات ضخمة وباهظة الثمن، تعود إلى أيام كانت فيها وحدها في الطليعة.
أما المشاريع الجديدة التي تُعلِّق عليها الولايات المتحدة آمالها، مثل "الطائرات القتالية التعاونية" (CCA) التابعة لسلاح الجو، وبرنامج "المطاردة والذخائر الضاربة على ارتفاعات منخفضة" (LASSO) الخاص بالجيش، فلا تزال حبيسة النماذج الأولية، وبعيدة عن ميادين القتال، فضلا عن أنها مكلِّفة. فالطائرة الواحدة من نوع الـ"CCA" تكلّف ما بين 15-20 مليون دولار، بينما المسيّرة الأصغر حجما للجيش لا تقل كلفتها عن 70 ألف دولار، وقد تصل إلى 170 ألفا.
ومع أن الجيش الأميركي قد يُقدم على شراء أعداد أكبر من هذه المسيّرات مستقبلا، فإن السؤال الذي يبقى بلا إجابة هو: هل تمتلك الشركات الأميركية القدرة على الإنتاج بوتيرة تقارب ما تفعله أوكرانيا، التي تستخدم نحو 200 ألف طائرة مسيّرة شهريا؟
وللانخراط الفعّال في ثورة الطائرات المسيّرة، لا يكفي أن تركز الولايات المتحدة على تعزيز قدراتها الكمّية من حيث التمويل والإنتاج وسرعة التوريد، بل يتطلب الأمر إعادة النظر في الأفكار التي شكّلت عقيدة الجيش الأميركي لعقود طويلة.
فالقصور الأميركي في تبنّي الجيل الجديد من المسيّرات لا يُعزى إلى عوائق مادية أو تكنولوجية، بل إلى منظومة من قناعات راسخة تشكَّلت على امتداد 60 عاما من خوض الحروب، مفادها أن التفوق الأميركي يكمن في إدارة المعارك عن بُعد، باستخدام أنظمة دقيقة ومُسيّرة، لتحقيق انتصارات سريعة تُدَار عن بُعد مع تقليل الانخراط البشري المباشر.
يواجه قادة الولايات المتحدة اليوم ضغوطا متزايدة للتكيف مع نمط جديد من الحرب آخذ في التشكل على نحو واضح في الحروب الدائرة في أوروبا والشرق الأوسط. فقد أصبح الاستخدام المكثّف للطائرات المسيّرة من قِبل العديد من الأطراف عاملا حاسما يُعيد تشكيل ملامح ساحة المعركة.
لكن قبل الاندفاع نحو موجة جديدة من الاستثمارات في تقنيات متطورة، يُعد من الضروري أن تُراجع المؤسسات العسكرية المبادئ الأساسية التي وجهت قراراتها وعمليات تسلّحها لعقود طويلة. فعليها أن تُعيد تقييم مدى تقبّل الرأي العام للخسائر البشرية، وأن تُراجع آليات الشراء العسكري التي كثيرا ما تُفضّل الأنظمة الأكبر والأعلى تكلفة، وأن تُعيد النظر أيضا في النزعة المؤسسية لدى بعض الأفرع العسكرية نحو امتلاك منظومات ضخمة قد لا تتناسب مع متطلبات الحرب الحديثة.
والأهم من ذلك، ينبغي لصانعي القرار أن يبلوروا تصورا جديدا للنصر، يأخذ في الحسبان كيف يمكن لتقنيات المسيّرات أن تُسهم في تحقيق أهداف إستراتيجية حاسمة ضمن بيئات قتال متغيّرة.
مَن يقف خلف الكواليس التقنية في المعركة؟
لطالما سعى الجيش الحديث إلى تسخير التكنولوجيا لرفع مستوى الدقة والكفاءة في تنفيذ المهام القتالية، وتقليل التكلفة البشرية، ليس فقط حمايةً لأرواح الجنود، بل أيضا لتخفيف العبء عن صانعي القرار. فمنذ عقود، بدأ هذا التوجّه يتبلور، حين بدأت القيادات تبحث عن سُبل تُغنيها عن إرسال جنودها إلى مهام محفوفة بالخطر.
وفي وقت مبكر من عام 1965، بينما كانت حرب فيتنام تواجه تراجعا في التأييد الشعبي، وتُثير جدلا متزايدا داخل الولايات المتحدة، طلب الرئيس ليندون جونسون من وزير دفاعه روبرت مكنمارا أن يجد حلًّا تكنولوجيًّا لمهام الاستطلاع الخطرة في حرب فيتنام قائلا: "ألا توجد أي طريقة يا روبرت تستطيع من خلالها -بطائراتك الصغيرة أو مروحياتك- أن ترصد هؤلاء الناس، ثم تبعث بإحداثياتهم عبر اللاسلكي، فتأتي الطائرات وتنهال عليهم بوابلٍ من القصف العنيف؟".
مع بزوغ المعالج الدقيق عام 1971، انطلقتْ شرارة الابتكار الأميركي في عالم الطائرات المسيّرة بقوة، حين بدأت هذه الآلات الصامتة تجد لنفسها مكانا في قلب المعركة، ونجحت لأول مرة في استخدام قدراتها استخداما فعّالا في سماء فيتنام. حينذاك، شهدت الأجواء أكثر من 4,000 طلعة لطائرات "لايتنينغ باغ" و"بافالو هانتر"، تولّت ما اعتاد البشر وحدهم أن ينجزوه من مهام وصفها العسكريون بأنها "مملة، وخطرة، وقذرة".
حلّقتْ تلك الطائرات مثل فخّ مُعدٍّ بإحكام لاستدراج مواقع الدفاعات الجوية، كما التَقطَت صورا لمواقع الأسرى وصواريخ "أرض–جو" الفيتنامية، واستمرتْ في تنفيذ عمليات استطلاع حتى في أسوأ الأحوال الجوية. ولم تكتفِ بالرصد، بل ألقتْ منشورات دعائية في قلب أرض العدو.
صحيح أن الطائرات المسيّرة لم تُحدِث تحولا جذريا في مجريات حرب فيتنام، لكنها أثارتْ خيال الجيش الأميركي عندما أظهرتْ كيف يمكن للتكنولوجيا أن تقلّل من المخاطر التي يتعرض لها الإنسان. وجاء عام 1973 ليمنح هذا التصور بُعدا أشد واقعية، إذ أُوقف التجنيد الإجباري، وانتقل الجيش إلى نظام يعتمد على المتطوعين وحدهم.
لم يعد من السهل تعبئة آلاف الجنود عند الطلب، وأصبح لزاما على القادة أن يُعيدوا رسم إستراتيجياتهم بناءً على مَن يستطيعون استقطابه، وليس مَن يمكنهم فرض التجنيد عليه.
ومع بداية الثمانينيات، وبينما كانت الولايات المتحدة تُواجه خصما سوفيتيًّا يتفوّق عليها عددا وعُدّة، تصاعدتْ الحاجة إلى تكنولوجيا تعوّض ذلك النقص. وبالتالي، لم يعد السباق حول مَن يملك جنودا أكثر، بل مَن يستطيع أن يصنع الفارق من خلال الدقة، والسرعة، والتفوّق النوعي.
ولذلك، اتجه القادة الأميركيون نحو إعادة تشكيل القوة العسكرية، ليس بتوسيع حجمها، بل بتقليصها وتحسين كفاءتها، لتُقاتل بقوة مدرّبة تعتمد على تقنيات ذكية موجهة بدقة. وفي قلب هذا التحوّل، تشكَّلت عقيدة "المعركة الجوية البرية"، وهي رؤية إستراتيجية تبنّاها الجيش وسلاح الجو معا، تقوم على تناغم الضربات بعيدة المدى مع تحركات برية سريعة ومرنة، مدعومة بتقنيات المعالجة الدقيقة التي مكّنتهم من رؤية العدو واستهدافه من مسافات غير مسبوقة.
وفي ظل إدارة الرئيس رونالد ريغان، تدفّقت المليارات إلى ميزانية الدفاع، فكانت الأقمار الصناعية، والرادارات، والأسلحة الذكية من أوائل المستفيدين. لم تكن هذه مجرد أدوات متطورة، بل كانت اللبنات الأولى في بناء ترسانة المسيّرات الأميركية.
وبعد أن اهتزّت واشنطن بهجوم عام 1983 الذي استهدف ثكنة مشاة البحرية، وسقوط طيّارين من البحرية في لبنان، تسارعتْ وتيرة البحث الأميركي عن الطائرات المسيّرة، وأدركت واشنطن حينها أن تقليص الخسائر البشرية لم يعد خيارا بل أولوية، فاستثمرت البحرية قرابة 90 مليون دولار في نظام مسيّرات أثبت كفاءته، واشترت 72 طائرة مسيّرة من طراز "بايونير" (Pioneer).
في تلك الفترة، أطلق وزير الدفاع كاسبار واينبرغر عقيدة عسكرية جديدة تنصّ على ألا يُزَجّ بالقوات في الميدان إلا عندما تُستَنفد جميع البدائل. وهكذا، نمت القناعة لدى المخطّطين العسكريين بأن الطائرات المسيّرة يمكن أن تُغني عن إرسال الطيّارين في مهام استطلاعية محفوفة بالمخاطر.
وقد لخّص كيلي بيرك، رئيس قسم البحث والتطوير في سلاح الجو من عام 1979 إلى عام 1982، هذه القناعة بعبارة لافتة لصحيفة "واشنطن بوست" عام 1985، قائلا: "قد توجد طائرة رخيصة، لكن لا يوجد ما يُسمى بطيارٍ رخيص".
تزامن صدور عقيدة واينبرغر مع فجر عصر المعلومات، في وقتٍ لطالما سعت فيه الولايات المتحدة إلى تفادي حروب الاستنزاف الطويلة. ومع التسارع اللافت في تطوّر التكنولوجيا الرقمية، بدا أن تجنّب تلك الحروب قد يُصبح ممكنا أخيرا.
وفي أعماق البنتاغون، وفي مكاتب لا تصلها الأضواء الإعلامية، ركّزت مجموعة صغيرة من الإستراتيجيين على كيفية تمكين الأنظمة الجديدة، وعلى رأسها الطائرات المسيّرة، من إعادة رسم ملامح الحرب بالكامل، من خلال رصد العدو واستهدافه من مسافات بعيدة، وبسرعة تقضي على الحاجة إلى التضحية المباشرة بالجنود.
وفي عام 1986، كتب فريق منهم تقريرا سابقا لعصره، تخيّلوا فيه ساحة معركة تعجّ بمستشعرات استطلاعية طائرة، وألغام جوية تحوم كسرب مدجّج، فيما تعتمد المدفعية والطائرات المأهولة على أجهزة استشعار غير مأهولة لاختيار الأهداف تلقائيا.
غنائم بلا قتال
لكنّ هذين الهدفين -تقليل المخاطر البشرية وتعزيز فعالية القتال- لم يسيرا يوما جنبا إلى جنب بانسجام تام. فمنذ حرب الخليج عام 1991، ظلّت الإستراتيجية الأميركية في استخدام الطائرات المسيّرة تتأرجح بين كفتين: كفة تخشى المخاطرة، وأخرى تطمح إلى نصرٍ خاطف تُنجزه التكنولوجيا.
في تلك الحرب، حاولت الولايات المتحدة أن تمسك العصا من المنتصف، فتبنّت نهجا مزدوجا، حيث افتتح سلاح الجو الحرب بحملة "الصدمة والرعب"، المدعومة بقنابل موجهة وصواريخ بعيدة المدى، بينما شنّت القوات البرية مناورة ألحقت دمارا كبيرا بالجيش العراقي. وقد بدا أن هذا الانتصار السريع والفعّال يبشّر بعقيدة أميركية جديدة في الحرب، عقيدة تقوم على الحسم السريع، وقلة الخسائر.
لكن عقب انهيار الاتحاد السوفيتي، قلّص الكونغرس وإدارة كلينتون ميزانية وزارة الدفاع. ومع تضاؤل الموارد، اندفعت أفرع القوات المسلحة في سباق داخلي، كلٌّ منها يسعى لحماية برامجه المفضّلة، متمسّكة بالمنصات التقليدية الكبرى مثل حاملات الطائرات، والمقاتلات، والدبابات، على حساب الأنظمة غير المأهولة والذخائر الأصغر حجما.
وفي الوقت نفسه، أعادت وزارة الدفاع ترتيب أوراقها، وبدأت موجة من الاندماجات تقلّص عدد اللاعبين في السوق. ومع تقلّص الميزانيات، تراجعت شهية الشركات المتبقية للاستثمار في الابتكار خارج حدود المتطلبات الرسمية التي تضعها وزارة الدفاع.
ورغم القيود التي كبّلت الميزانية، نجحت إدارة كلينتون -خلال التسعينيات- في تشييد ترسانة من طائرات الشبح، وصواريخ كروز بعيدة المدى، وقنابل ذكية تهتدي بنظام تحديد المواقع العالمي (GPS). وقد مثلّتْ تلك الحقبة زمن التدخلات العسكرية الجوية الذي اتّسم بانخفاض المخاطر، واعتمد اعتمادا أساسيا على التفوّق التكنولوجي. صحيح أن الطائرات المسيّرة لم تكن على رأس أولويات أي فرع من فروع القوات المسلحة، لكن وزارة الدفاع في عهد كلينتون رأت فيها إمكانات واعدة.
وفي وقت مبكر من فترة توليه منصب نائب وزير الدفاع، أسّس جون دوتش منظمة مشتركة تُعرف باسم "مكتب الاستطلاع الجوي الدفاعي"، بهدف تشجيع الجيش على تبنّي تكنولوجيا المسيّرات. وفي عام 1994، خلص هذا المكتب إلى أن الطائرات غير المأهولة تُمثِّل "بديلا مناسبا" في وقت تواجه فيه القوات المسلحة صعوبة بسبب تقليص أعدادها ومعدّاتها.
وبالفعل، في صيف عام 1995، حلّقت فوق سماء يوغوسلافيا السابقة أولى طائرات "بريداتور" (Predator) المسيّرة، التي طوّرتها شركة للطاقة تُدعى "جنرال أتوميكس" (General Atomics)، دون داعم صريح من داخل المؤسسة العسكرية.
وفي صيف العام نفسه، هزّ الحرج أروقة المؤسسة العسكرية الأميركية حين أُسقِطت طائرة "F-16" يقودها الطيّار سكوت أوغرادي فوق أراضٍ يسيطر عليها صرب البوسنة. عندها، تحرّك رئيس أركان السلاح الجوي، الجنرال رونالد فوغلمان، وقرر التوسع في نطاق استخدام طائرات "بريداتور" المسيّرة، وأسس أول وحدة للطائرات غير المأهولة في يوليو/تموز 1995.
لم يكن الجنرال فوغلمان وحده في هذا التوجه، فقد وجَد دعما صريحا من الكونغرس، إذ صرّح السيناتور جون وارنر، رئيس لجنة القوات المسلحة بمجلس الشيوخ، قائلا: "في تقديري، لن يسمح هذا البلد مجددا بأن تُزَجّ قواته في حروب تُكلّفه هذا القدر من الأرواح كما شهدنا في الماضي". وبحسب استنتاجه، فإن ذلك يعني التحوّل الحتمي نحو تقنيات غير مأهولة.
تصويب بلا هامش للخطأ
في أعقاب هجمات 11 سبتمبر، أصبحت طائرات "بريداتور" و"ريبر" المسيّرة عنصرا بارزا في الإستراتيجية العسكرية الأميركية. وعلى مدار عقدين من الزمن، اقتنت الولايات المتحدة أكثر من 500 طائرة من هذين الطرازين (بتكلفة بلغت عشرات المليارات من الدولارات)، وسخّرتها لتنفيذ آلاف الضربات الجوية في سماء أفغانستان، والعراق، وليبيا، وباكستان، وسوريا، واليمن، وعدد كبير من الدول الأخرى. وجلس القادة يحدّقون في الشاشات، يلاحقون الأهداف لحظةً بلحظة، على مدار الساعة وطوال أيام الأسبوع.
ورغم الحضور الطاغي للطائرات المسيّرة في مشهد الحروب الحديثة، لم يكن استخدامها يوما بمنأى عن الجدل. فهذه الأنظمة لم تكن رخيصة، كما أنها لم تُظهِر مرونة كبيرة أو قدرة عالية على التحمّل في ظروف القتال المعقّدة، مما أثار استياء القوات على الأرض.
وكان هذا الاستياء ناتجا عن مشكلات واجهها الجنود، مثل بطء وصول المعلومات وتأثّر أداء الطائرات في الأجواء السيئة بسبب التشويش، كما أن تشغيل الطائرات كان محصورا تقريبا على سلاح الجو، وهو ما دفع القوات البرية للشكوى من أن طياري المسيّرات لم يتلقّوا تدريبا كافيا لتقديم الدعم الأرضي الفعّال.
وفوق تلك الشوائب التقنية، ظهرتْ تساؤلات أخلاقية وإستراتيجية حول الاعتماد المفرط على الطائرات غير المأهولة بدلا من المقاتلين البشر. ففي العراق وأفغانستان، زعمت الولايات المتحدة أنها تسعى لكسب "قلوب وعقول" السكان، لكن هذا الهدف بدا متناقضا مع سياسة القصف من مسافات بعيدة، من خلف شاشات بلا تواصل أو ملامح.
وخلال العقود الأخيرة من الحروب والصراعات غير التقليدية، كان سلاح الجو الأميركي هو الفرع الوحيد الذي انخرط فعليا في الاستثمار في الطائرات المسيّرة. ورغم أن هذه الطائرات بدت وكأنها تهدد دور الطيّار التقليدي داخل المؤسسة الجوية، فإن رغبة سلاح الجو في الحفاظ على هيمنته على المهام الجوية دفعته إلى تبنّي هذه التكنولوجيا بقوة.
وفي إطار ترسيخ هيمنة سلاح الجو على المسيّرات، استُخدمت طائرات "بريداتور" و"ريبر" ضمن أسراب تابعة لسلاح الجو، جرى تنظيمها وفق نموذج وحدات المقاتلات التقليدية. وغالبا ما تولّى قيادتها طيّارون سابقون، اعتمدوا في تشغيلها وتكليفها على أنظمة شبيهة بتلك المستخدمة في الطائرات المأهولة.
لذلك، لم يكن مفاجئا أن تتشابه مهام الطائرات المسيّرة مع المهام الجوية التقليدية، مثل القصف الإستراتيجي وجمع المعلومات الاستخباراتية. وفي الوقت نفسه، ترك الجيش الأميركي المجال "لسلاح الجو" للسيطرة على الطائرات المسيّرة، واقتصر استثماره فيها على بعض الأنظمة الصغيرة فقط، بينما أبدت البحرية اهتماما ضئيلا بها، إذ ظل تركيزها منصبًّا على المنصات الكبرى مثل حاملات الطائرات التي تُعدّ جزءا أساسيا من هويتها القتالية.
ولحماية جنودها في ذلك الوقت، ركّزت الولايات المتحدة على تسخير التكنولوجيا المتقدّمة لتقليل الخسائر البشرية، الأمر الذي دفعها إلى تبنّي نوع محدد من الطائرات المسيّرة: تلك التي تُدار عن بُعد، وتراقب الأهداف لساعات، وتعمل وسط أجواء محفوفة بالمخاطر.
لم يكن هذا التوجّه في التسلّح وليد اللحظة، بل هو نتاج عقود من القرارات المتراكمة، بدءا من الطريقة التي أرادت بها الولايات المتحدة خوض الحروب بعد فيتنام، مرورا بالدروس التي استخلصتها من حرب الخليج، ووصولا إلى توجّهات الإنفاق الدفاعي خلال مرحلة الانفراد الأميركي بقيادة العالم. وقد جاءت حربا أفغانستان والعراق، على مدار عقدين، لترسيخ هذه الخيارات وجعلها جزءا ثابتا من العقيدة العسكرية الأميركية.
على الجانب الآخر، هزّت الحرب في أوكرانيا الثوابت التي طالما استندت إليها العقيدة العسكرية الأميركية، فأطلقت سباقا محموما نحو توسيع استثماراتها في مجال الطائرات المسيّرة. وبدأت واشنطن بمنح عقود لشركات دفاعية ناشئة، وإجراء سيناريوهات افتراضية تُحاكي مهام غير مسبوقة للمسيّرات، وأوامر مباشرة من وزير الدفاع هيغسِث للوحدات بشراء المسيّرات التجارية واختبارها ميدانيا.
ومع ذلك، بدت هذه الخطوات وكأنها ردود أفعال ارتجالية على ما يجري في ساحات القتال بالخارج، لا خطوات منسّقة نابعة من إستراتيجية مدروسة ترسم بوضوح ملامح الدور المستقبلي الذي ينبغي أن تؤديه هذه الطائرات في حروب الغد.
إعادة الحرب إلى صورتها الأولى
إذا كانت الولايات المتحدة تطمح إلى خوض حروب استنزاف والانتصار فيها -كتلك التي تُخاض الآن في أوكرانيا بطائرات مسيّرة- فعليها أن تُعيد تشكيل ترسانتها لا بالعتاد فقط، بل بالعقيدة أيضا. بمعنى أنها في حاجة إلى مسيّرات منخفضة التكلفة، تُرافق الجنود في الميدان، وتتمتع بمرونة تكتيكية تمكّنها من التكيّف مع أساليب مواجهة المسيّرات.
لكن تقليد التجارب الأوكرانية أو غيرها لن يكون كافيا، لأن الأمر يتطلب ما هو أعمق من مجرّد التسلّح. فقبل أن تهرع مصانع السلاح إلى إنتاج مسيرات جديدة، لا بد للإستراتيجيين أن يضعوا تصورا جديدا لمفهوم "النصر"، يُراجع ما ترسّب في الذاكرة العسكرية من مسلّمات عمرها نصف قرن.
فعلى مدار نصف قرن، بَنَت الولايات المتحدة سياستها العسكرية على افتراض أساسي مفاده أن الشعب الأميركي لن يرضى بالتضحية بأرواح أبنائه، لكنه مستعد لإنفاق الأموال من أجل خوض الحروب. لكن هذا اليقين بدأ يتصدّع، فالعجز المالي يتفاقم، وغضب الناخبين من التضخم وسوء الإنفاق يعلو، وهو ما يضع القادة الأميركيين أمام حقيقة مفادها أن ضخ الأموال في مشاريع تكنولوجية باهظة الثمن لم يعد وسيلة مضمونة لحماية أنفسهم سياسيا.
وفي الوقت ذاته، بدأ الحلم القديم -الذي ساد ثمانينيات وتسعينيات القرن الماضي بأن الطائرات غير المأهولة ستجعل الحروب أسرع وأبعد- يتهاوى أمام واقع جديد. فالمسيّرات، كما تُستخدم اليوم في ميادين أوروبا والشرق الأوسط، تُعيد الحرب إلى ما يشبه صورها الأولى، حيث الخنادق المُوحلة، والألغام، واستهداف المدنيين، وكلها ملامح غابت عن العقيدة الأميركية منذ حرب فيتنام.
واليوم، تواجه الولايات المتحدة لحظة حاسمة تستدعي مراجعة جادة لإستراتيجيتها العسكرية، لا سيما فيما يتعلّق بدور الطائرات المسيّرة في حروب المستقبل. ولضمان توجيه الميزانية الدفاعية بشكل فعّال، لا بد من إصلاحات عميقة تشمل تسريع عملية التسلّح، وتوسيع هامش الابتكار، عبر منح القادة الميدانيين والفرق الصغيرة قدرة أكبر على اختيار وتطوير المسيّرات التي يحتاجون إليها فعلا.
وفي المقابل، انخدع الجيش الأميركي بنجاحاته في العمليات التنفيذية والتكتيكية في الحروب الماضية، وأغفل نقطة مهمة وهي الحفاظ على التفوق الإستراتيجي الضروري لمواجهة تحديات القرن الحادي والعشرين. وبدون إعادة النظر في النموذج الأميركي في خوض الحروب، لن يكون امتلاك المزيد من الطائرات المسيّرة -مهما بدت متقدمة- كافيا لحماية الولايات المتحدة من الانزلاق إلى حروب لا تسعى إلى الانخراط فيها.
_______________________
Orange background

جرب ميزات الذكاء الاصطناعي لدينا

اكتشف ما يمكن أن يفعله Daily8 AI من أجلك:

التعليقات

لا يوجد تعليقات بعد...

أخبار ذات صلة

علماء يختبرون درعا لرواد الفضاء من أجل صد غبار القمر السام
علماء يختبرون درعا لرواد الفضاء من أجل صد غبار القمر السام

الجزيرة

timeمنذ 7 ساعات

  • الجزيرة

علماء يختبرون درعا لرواد الفضاء من أجل صد غبار القمر السام

في وقت تتسابق وكالات الفضاء العالمية نحو العودة إلى سطح القمر، يبرز خطر غير متوقع، ليس ناتجا عن إشعاعات أو درجات حرارة قاسية، بل عن غبار مجهري يكسو سطح القمر. ولا يُرى هذا الغبار بالعين المجردة، لكنه شديد الالتصاق، وحاد كالإبر، وسام كيميائيا، ويشكل تهديدا حقيقيا لمعدات رواد الفضاء وصحتهم، وبشكل خاص خلال رحلات الفضاء الطويلة المستقبلية، والتي قد تتضمن بقاء على سطح القمر. وفي مواجهة هذا "العدو الخفي"، يعمل فريق من جامعة سنترال فلوريدا الأميركية، على تطوير طلاء نانوي ذكي قادر على التصدي لهذا الغبار قبل أن يلتصق بالمعدات أو بالرواد. تكنولوجيا نانوية لمشكلة قديمة وحتى الآن، تعتمد معظم الجهود للسيطرة على هذا الغبار الحاد جدا، واللزج جدا، والسام جدا، على دراسات أُجريت على الأرض، ولكن المميز في هذا المشروع هو سعي أعضائه لفهم أعمق للتفاعلات داخل بيئة تحاكي القمر لتوجيه التصميم نحو الطلاء المثالي. ولتحقيق ذلك يتم إجراء تجارب داخل غرفة تفريغ تحاكي بيئة القمر، باستخدام مادة محاكية لغبار القمر الذي يعرف بـ"ريغوليث"، بهدف معرفة كيف تتفاعل الجزيئات مع الأسطح المصممة، خاصة في ظروف الإشعاع الشمسي والجسيمات المشحونة. ويقول البروفيسور لي زهاي، مدير مركز تكنولوجيا النانو وقائد المشروع في تقرير رسمي نشره الموقع الإلكتروني للجامعة: "سنضع الطلاءات والأسطح المصممة داخل الغرفة المفرغة مع غبار القمر المحاكى، وندرس كيفية تفاعل الغبار معها، وسنستخدم أيضا مصادر إشعاع ومجهرا ذريا لفهم التفاعلات على مستوى الجزيئات". ويوضح أن هذه البيانات ستساعد الفريق على تعديل خصائص الأسطح مثل الصلابة، والبنية الدقيقة، والتوصيلية الكهربائية، للوصول إلى تصميم مثالي يقلل من التصاق الغبار. رواد الفضاء في خطر والدور المهم لزهاي وفريقه هو توفير الطلاء المناسب، ثم يتم تسليمه إلى أستاذة الفيزياء الدكتورة لورين تيتارد لدراسة التفاعل باستخدام المجهر الذري، وإلى أستاذة الفيزياء ورئيسة القسم الدكتورة أدريان دوف التي تجري التجارب في بيئة محاكاة القمر. وتقول الدكتورة أدريان دوف، أستاذة الفيزياء ورئيسة القسم: "غبار القمر أحد أكبر التحديات التي تواجهنا في رحلات الفضاء الطويلة، المشكلة ليست فقط في تنظيفه، بل في الحد من التصاقه منذ البداية. نحن نستخدم هذا المشروع كفرصة لتطبيق بحث علمي مباشر لحل مشكلة حقيقية". وتوضح أنها عملت لسنوات على دراسة تفاعلات غبار القمر، وتتابع: "أحد أساليبنا لقياس قوة الالتصاق هو تغطية سطح بالغبار، ثم تدويره بسرعة عالية باستخدام جهاز طرد مركزي لمعرفة متى تبدأ الحبيبات بالانفصال". وتقارن دوف بين غبار القمر والرمال العادية قائلة: "عندما نزور الشاطئ ونعود مغطين بالرمال، يمكننا مسحها بسهولة، لكن غبار القمر لا يُشبه هذا، إنه أخشن، وأصعب في التنظيف، بل وقد يخدشك بسهولة". تعاون متعدد التخصصات ومن جانبها، تقول الدكتورة لورين تيتارد، المتخصصة في المجهر الذري: "نحن نطور منصة جديدة تربط بين علم النانو والفضاء بطريقة مبتكرة، وسنجري القياسات في ظروف تحاكي بيئة الفضاء، والبيانات التي نحصل عليها ستستخدم لتحسين تصميم الأسطح". ويشارك في المشروع أيضا الدكتور طارق الجوهري، أستاذ الهندسة الميكانيكية والفضائية، الذي يعمل على تصميم محاكاة حاسوبية تدرس تفاعلات الغبار مع الأسطح. ويقول "نحن نحاول فهم كيفية انتقال الشحنات الكهربائية بين الجزيئات، وما إذا كانت تتراكم أو تتبدد، هذا الجانب أساسي لتصميم إستراتيجيات الحماية السلبية". ويأمل الباحثون أن يضعوا حدا لأثر هذا الغبار "المزعج" عبر تقنيات نانوية ذكية تحمي المعدات والأطقم، دون الحاجة إلى التنظيف اليدوي أو التأثير على الأجهزة الحساسة. ويقول الباحثون: "إذا كان الغبار لا يُمكن تجنبه، فربما يمكن منعه من الالتصاق، وهذا ما نأمل في تحقيقه قبل أن تخطو البشرية خطوتها التالية على سطح القمر".

قنبلة "ليتل بوي" السلاح النووي الذي دمر ثلثي هيروشيما
قنبلة "ليتل بوي" السلاح النووي الذي دمر ثلثي هيروشيما

الجزيرة

timeمنذ 11 ساعات

  • الجزيرة

قنبلة "ليتل بوي" السلاح النووي الذي دمر ثلثي هيروشيما

"ليتل بوي" هي أول قنبلة نووية صُنعت في التاريخ، وأول سلاح نووي يُستخدم فعليا في الحروب، ألقتها الولايات المتحدة على مدينة هيروشيما اليابانية في 6 أغسطس/آب 1945، وتسببت بانفجار بلغت قوته التدميرية ما يعادل 15 ألف طن من مادة تي إن تي. وأسفر الانفجار عن تدمير ثلثي مدينة هيروشيما ومقتل نحو 70 ألف شخص على الفور، بينما تسببت التأثيرات طويلة الأمد للإشعاع النووي في ارتفاع متواصل لعدد الضحايا ليصل في نحو 5 أعوام إلى ما لا يقل عن 200 ألف شخص. وكان إطلاق أميركا قنبلة "ليتل بوي" عاملا حاسما في استسلام اليابان في الحرب العالمية الثانية ، إذ قبلت استسلاما غير مشروط بعد نحو أسبوع واحد من القصف، ومع مطلع سبتمبر/أيلول من العام نفسه، تم توقيع وثيقة الاستسلام التي أنهت الحرب رسميا. وعلى الرغم من إنتاج 5 قنابل أخرى من طراز "ليتل بوي"، لم يُستخدم أي منها في أي عمليات عسكرية لاحقة، وبقيت قنبلة هيروشيما واحدة من قنبلتين نوويتين فقط استُخدمتا في الحروب عبر التاريخ، وأما الثانية فهي قنبلة "فات مان"، التي ألقيت على ناغازاكي اليابانية في الأسبوع نفسه. خلفية تاريخية انطلقت الأبحاث الأولى الناجحة في مجال الانشطار النووي من ألمانيا، إذ اكتشف العالمان الألمانيان أوتو هان وفريتز ستراسمان في ديسمبر/كانون الأول 1938 عملية الانشطار النووي، التي تحدث عن طريق قصف اليورانيوم بالنيوترونات (جسيمات دون ذرية متعادلة الشحنة توجد في نوى الذرات). وتُسبب عملية القصف انقسام نواة اليورانيوم إلى نصفين متساويين تقريبا، منتجة بذلك نظيرا أخف مع إطلاق قدر كبير من الطاقة، كما ينتج عن الانقسام بعض النيوترونات الحرة التي تحفز تفاعلا متسلسلا يؤدي في نهاية المطاف إلى انفجار هائل. وسرعان ما انتقلت نتائج تلك الأبحاث إلى الولايات المتحدة، ولاقت هناك اهتماما بالغا. وفي عام 1939، سعت مجموعة من العلماء الأميركيين، كان العديد منهم لاجئين من دول أوروبية، إلى إنشاء مشروع يهدف إلى تطوير عمليات الانشطار النووي لأغراض عسكرية. استطاع العلماء إقناع ألبرت آينشتاين بالانضمام إليهم واستغلال نفوذه لإقناع الرئيس الأميركي حينئذ فرانكلين روزفلت بالمشروع. وفي مطلع عام 1940، وافقت الحكومة على البرنامج وخصصت له موازنة قدرها 6 آلاف دولار أميركي. وفي ديسمبر/كانون الأول 1941، وُضع المشروع تحت إشراف مكتب البحث والتطوير العلمي الحكومي في الولايات المتحدة. وفي أعقاب انخراط أميركا في الحرب العالمية الثانية، مُنحت وزارة الحرب مسؤولية المشاركة في تنفيذ المشروع. وفي سبتمبر/أيلول 1942، عُين الفريق ليزلي ريتشارد غروفز مسؤولا عن جميع أنشطة الجيش المتعلقة بالمشروع، لا سيما الهندسية منها. مشروع مانهاتن بدأت الولايات المتحدة عام 1942 فعليا تطوير القنبلة الذرية الأولى التي عُرفت باسم "ليتل بوي" (أي الصبي الصغير)، وذلك في إطار مشروع سريّ أُطلق عليه اسم "مشروع مانهاتن". وأنشأ فيلق مهندسي الجيش الأميركي العديد من المصانع ومرافق التصنيع والمختبرات لتنفيذ المشروع، وكانت البداية في منطقة مانهاتن بنيويورك ، نظرا لأن الأبحاث المبكرة في غالبها أُجريت في المنطقة ضمن النشاطات العلمية لجامعة كولومبيا. ولاحقا، أُنشئت العديد من مرافق البحث والتطوير التي خدمت المشروع في مناطق أخرى في أنحاء البلاد، إذ اعتنت منشأة تينيسي بتخصيب اليورانيوم ، بينما ركز مرفق هانفورد بواشنطن على إنتاج البلوتونيوم (عنصر كيميائي مشع يستخدم في الأسلحة النووية)، وقدمت مختبرات الأبحاث في جامعتي شيكاغو وكاليفورنيا إسهامات كبيرة في تطوير الأبحاث. وفي 2 ديسمبر/كانون الأول 1942 نفذ علماء مشروع مانهاتن أول تفاعل نووي متسلسل ذاتي الاستدامة في مختبر شيكاغو. واختيرت منطقة لوس ألاموس بولاية نيومكسيكو لإنشاء مختبر القنابل بناء على اقتراح عالم الذرة ورئيس الفريق العلمي للمشروع، جيه روبرت أوبنهايمر. وفي أبريل/نيسان 1943، بدأ مئات العلماء والمهندسين والفنيين بالتوافد إلى مختبرات لوس ألاموس. كانت مهمة تلك المختبرات تطوير أسلوب لتجميع المواد الانشطارية المنتجة بهدف الوصول إلى كتلة فوق حرجة من معدن نقي، يمكن استخدامها لإحداث انفجار نووي. كما شمل عمل الفريق تصميم سلاح نووي قادر على دمج المواد القابلة للانشطار، مع الحفاظ على حجم يسمح بحمله وإلقائه من طائرة. بمرور الوقت، أظهرت الحكومة الأميركية اهتماما أكبر بالمشروع، ورفعت المبلغ المخصص له من 6 آلاف دولار أميركي إلى ملياري دولار. وفي أغسطس/آب 1943، أبرمت الولايات المتحدة و بريطانيا اتفاقية تهدف إلى التعاون في مجال الطاقة الذرية أثناء فترة الحرب، إلى جانب تسريع إنجاز مشروع مانهاتن. وبموجب الاتفاقية تأسست لجنة مشتركة تضم كلا من الولايات المتحدة والمملكة المتحدة و كندا ، مما سمح لعلماء بريطانيين وكنديين بالانضمام إلى المشروع. التصميم ومبدأ العمل استطاع فريق علماء مشروع مانهاتن بحلول صيف عام 1945 إنجاز التصميم النهائي للقنبلة النووية "ليتل بوي"، والذي اعتمد على جهاز تفجير يشبه المدفع. تحتوي العلبة الرئيسية للمدفع على مدك من كربيد التنغستن، يؤدي مهمة مزدوجة هي زيادة عدد الكتل الحرجة في نواة اليورانيوم وتثبيت النواة لحظة الاصطدام لتعزيز عائد التفجير. وكان "اليورانيوم المخصب-235" هو العنصر المستخدم لإحداث التفجير أو التفاعل الانشطاري، ولم يكن بحوزة الولايات المتحدة حينئذ منه سوى كمية تكفي لصنع قنبلة واحدة فقط. ويعتمد مبدأ القنبلة الذرية "ليتل بوي" على إحداث تفاعل انشطاري بفعل اصطدام كتلتين من "اليورانيوم المخصب-235″، وذلك بواسطة جهاز دفع مما ينتج عنه تكوين كتلة حرجة يبدأ بها التفاعل المتسلسل. وصممت الكتلة الأولى على شكل رصاصة من "اليورانيوم المخصب-235″، تنطلق عبر أسطوانة مدفع ملساء فتصطدم بالكتلة الأخرى، التي صُممت على شكل نتوء صلب يبلغ طوله 7 بوصات وقطره 4 بوصات، وأثناء الاصطدام تتطابق الأسطوانة بدقة فوق النتوء، مما ينجم عنه تفاعل انشطاري يُنتج كتلة حرجة. وتتكون الكتلة الحرجة عندما ترتطم النيوترونات بنواة يورانيوم، مسببة انشطار النواة، وتصاحبها كمية هائلة من الطاقة، إضافة إلى نيوترونين أو أكثر. وتعمل النيوترونات الناتجة عن الانقسام على الدفع نحو انشطار المزيد من نوى اليورانيوم، محدثة تفاعلا متسلسلا يستمر حتى تُصبح الطاقة المُنطلقة عن عمليات الانشطار هائلة، مما يؤدي إلى انفجار القنبلة. وقد ضَمن تركيب المدفع أن يصل "اليورانيوم-235" إلى الكتلة الحرجة بسرعة، مما يمنع الحرارة الناتجة عن التفاعل الأول (الانشطار الأول) من تفجير كل الوقود قبل استهلاكه لإنتاج مجموعة من التفاعلات المتسلسلة. النقل والتجميع كان إلقاء القنبلة النووية على هيروشيما أول تجربة فعلية لقنبلة "ليتل بوي"، إذ لم يُختبر القذف من المدفع من قبل، واكتفى العلماء باختبارات معملية ناجحة على نطاق محدود، منحتهم الثقة بنجاح هذه الطريقة. وتعذر إجراء اختبار شامل لها، لأن إنتاج قنبلة واحدة يتطلب استخدام كل "اليورانيوم-235" المنقى الذي تملكه البلاد، وكان فصله عن "اليورانيوم-238" في اليورانيوم الطبيعي عملية مكلفة وصعبة. مع ذلك، أجرى العلماء اختبارات عديدة على قنابل تحتوي على معظم المكونات، ولم يتم استخدام شيء من "اليورانيوم-235" المُنقّى، وخُصص جميع ما أُنتج حينئذ للقنبلة التي قُصفت بها هيروشيما. ووفرت الاختبارات التي أُجريت على نماذج "اليورانيوم-235" الأولية، ضمانات بنجاح التفجير بواسطة المدفع. وكان تصميم قنبلة "ليتل بوي" شديد الحساسية، فبمجرد تعبئة الوقود الانشطاري، أصبح تعرضها لأي اشتعال كافيا للتسبب بانفجارها بالكامل. ولتجنب وقوع حادث كارثي قبل الوقت المحدد للتفجير، لم يتم تجميع أجزائها في الولايات المتحدة، بل نُقلت جميعها بشكل منفصل وعلى مراحل إلى جزيرة تينيان في المحيط الهادي جنوب اليابان. نُقل اليورانيوم المخصب بشكل منفصل على متن 3 طائرات من طراز "سي-54 سكاي ماستر" إلى جزيرة تينيان الخاضعة للسيطرة الأميركية. وكانت باقي أجزاء القنبلة بما في ذلك مدفع القذف وعلبة الهدف والبرميل وقذيفة اليورانيوم قد نقلت في 16 يوليو/تموز 1945 بالقطار من لوس ألاموس إلى سان فرانسيسكو ثم شُحنت كلها على متن الطرادة الثقيلة "يو إس إس إنديانابوليس" إلى تينيان، إلى جانب عدد من علماء وفنيي لوس ألاموس. وصل كل من اليورانيوم المخصب والأجزاء الأخرى للقنبلة في 26 يوليو/تموز 1945 إلى الجزيرة، وجُمعت تحت إشراف الكابتن في البحرية الأميركية ويليام بارسونز، وأُجل الجزء الأخير من التجميع حتى اللحظة الأخيرة، لمنع انفجار عرضي ناتج عن تماس كهربائي أو اصطدام. التفجير وآثاره المدمرة حُملت "ليتل بوي" صباح السادس من أغسطس/آب عام 1945 على متن طائرة أميركية من طراز "بي-29″، ورافقتها طائرتان أخريان بهدف المراقبة. وكان يقود القاذفة "بي-29" العقيد بول تيبيتس، وقبل إقلاعها بقليل، طلب من عامل الصيانة كتابة اسم والدته، إينولا غاي، على مقدمة الطائرة التي عُرفت لاحقا بهذا الاسم. وبمجرد أن أقلعت "إينولا غاي" متجهة إلى مدينة هيروشيما، أضاف الكابتن ويليام بارسونز، المختص بالأسلحة، مكونات الإطلاق النهائية إلى "ليتل بوي". وعند تجميع القنبلة بالكامل، بلغ وزنها الإجمالي 9700 رطل (نحو4400 كيلوغرام) وطولها 10 أقدام وقطرها 28 بوصة، بينما وصل وزن نواة اليورانيوم المغلف نحو 64 كيلوغراما. وعند الساعة 8:15 صباحا بالتوقيت المحلي، أُطلقت قنبلة "ليتل بوي" فوق هيروشيما، وبعد 43 ثانية، انفجرت على ارتفاع 1900 قدم. ورغم أن أقل من 2% من "اليورانيوم- 235" حقق انشطارا، فإنه أحدث انفجارا هائلا، قُدِّرت قوته بـ15 ألف طن من مادة تي إن تي. وعلى الفور، ارتفعت درجة الحرارة إلى نحو 7 آلاف درجة مئوية، صاحبها وميض ساطع وغطت المدينة سحابة سوداء ضخمة على شكل فطر ارتفعت إلى أكثر من 12 كيلومترا. وتسبب الانفجار في اندلاع حرائق عديدة في أنحاء المدينة، سرعان ما اندمجت مُشكّلة عاصفة نارية كبيرة، اجتاحت رقعة واسعة من المدينة، وتحولت مساحة بلغت نحو 5 أميال مربعة من مركز المدينة إلى رماد. وتدمرت بفعل القنبلة نحو 70% من مباني المدينة، وتعطلت محطات الطاقة الكهربائية والسكك الحديدية والهواتف وخطوط التلغراف. ونظرا لانقطاع الاتصالات اللاسلكية والتلغرافية مع هيروشيما، لم تستطع الحكومة اليابانية معرفة ما حدث على وجه اليقين، وهو الأمر الذي أخّر وصول إغاثة من الخارج ساعات بعد الهجوم. وكانت عملية الإغاثة الداخلية متعذرة، فقد دمرت القنبلة 26 مركز إطفاء من أصل 33 في المدينة، مما أسفر عن مقتل أو إصابة 3 أرباع رجال الإطفاء بجروح بالغة، وهو الأمر الذي أعاق تنفيذ إجراءات عاجلة لاحتواء الحرائق. من جهة أُخرى، أُصيب القطاع الطبي في المدينة بالشلل، إذ تعرضت جميع المستشفيات للتدمير أو الضرر الشديد باستثناء مستشفى واحد، ولم ينج من الإصابة الشديدة أو القتل سوى 30 فقط من بين 298 طبيبا مسجلا، كما قُتل أو أصيب أكثر من 1800 شخص من أصل 2400 من طاقم التمريض. وقدر الأرشيف الوطني الأميركي عدد الضحايا الذين لقوا حتفهم نتيجة الانفجار والحرارة وآثار الإشعاع الأولي بنحو 70 ألف شخص، بما في ذلك 20 طيارا أميركيا كانوا محتجزين في المدينة. ونتيجة للآثار المدمرة طويلة الأمد للإشعاعات النووية، والتي من أخطرها السرطانات التي انتشرت بشكل ملحوظ في المدينة، تجاوز عدد ضحايا هيروشيما في نهاية عام 1945 ما مجموعه 100 ألف فرد، وفي 5 سنوات تجاوز إجمالي عدد الضحايا 200 ألف، بحسب بيانات الأرشيف.

احذر فالحيتان لها آذان.. كيف تستخدم الاستخبارات الحيوانات للتجسس؟
احذر فالحيتان لها آذان.. كيف تستخدم الاستخبارات الحيوانات للتجسس؟

الجزيرة

timeمنذ 2 أيام

  • الجزيرة

احذر فالحيتان لها آذان.. كيف تستخدم الاستخبارات الحيوانات للتجسس؟

قبل أكثر من 6 عقود من الآن، وتحديدا في عام 1964، جرى اصطياد 5 دلافين وتدريبها لتصبح أبطال 3 مواسم متتالية في برنامج تلفزيوني أميركي يُسمى "فليبر (Flipper)". حقق البرنامج شعبية كبيرة، وأصبحت الدلافين تحظى بمحبة الأطفال الأميركيين. في الوقت نفسه تقريبا، أصبح الدلفين، هذا الكائن البحري الذي جُسّد بصورة ودودة ممتعة ومسلية خلال برنامج فليبر، بطلا لمغامرة أخرى أكثر إثارة في معامل وكالة المخابرات المركزية الأميركية " سي آي إيه". بذلت وكالة المخابرات المركزية الأميركية قصارى جهدها لتصبح الدلافين جزءا من نظام تسلحها في الحرب الباردة. هذا ما كشفته وثيقة رُفعت عنها السرية جزئيا من وثائق عام 1976 حول تدريب الدلافين البحرية للأهداف العسكرية والاستخباراتية لأغراض جمع المعلومات من المناطق الساحلية، وربما أكثر من ذلك. ليست الدلافين فقط التي حاولت أجهزة المخابرات الدولية استغلالها وتوريطها في صراعاتها، فلم تنجُ العديد من المخلوقات غير البشرية، سواء أكانت تعيش في البر أو البحر أو الجو، من محاولات استغلال الجيوش وأجهزة المخابرات الدولية. خلال الحرب العالمية الأولى ، حاول الجيش البريطاني تدريب طيور النورس على التبرز على مناظير الغواصات الألمانية، لإعاقة الرؤية لدى طواقم الغواصات. لم تكن تلك المحاولة ناجحة تماما، بعكس توظيف الحمام المُدرب على حمل رسائل مشفرة عبر خطوط القتال، حيث كان لدى الجيش البريطاني زهاء 20 ألف طائر في الخدمة بحلول عام 1918. خلال الحرب العالمية الثانية ، عرف العالم الاستخدام المنظم وواسع النطاق للكلاب في الكشف عن الألغام والمتفجرات وغيرها من المهام الحسية، وهي ممارسة لا تزال قائمة إلى اليوم. وخلال حرب فيتنام بدأت البحرية الأميركية في برنامجها لتدريب الثدييات البحرية الذي ظل مغلفا بإطار من السرية حتى مطلع التسعينيات. ولا تزال البحرية الأميركية إلى اليوم تدير برنامجا خاصا لـ"خدمة الحيوانات" مقره في القاعدة البحرية في سان دييغو، بكاليفورنيا، حيث تقوم الحيوانات البحرية المدربة بدوريات في المياه المحظورة وتفتش عن الأجسام المشبوهة. وللغرابة، لم تَسْلم الحشرات من محاولات تجنيد أجهزة الاستخبارات. يشير تقرير صادر عام 1972 إلى مساعي مختبرات الجيش الأميركي استغلال "القدرات الحسية للحشرات" مثل بق الفراش والبعوض والقراد للكشف عن الأشخاص. ولا تزال العديد من أجهزة الاستخبارات حول العالم تستثمر في برامج لتدريب الحيوانات وتوظيف قدراتها الحسية للأغراض العسكرية والاستخباراتية. "القطط" عملاء لـ"سي آي إيه" في الواقع، اشتهرت وكالة المخابرات المركزية الأميركية بمحاولاتها المستميتة للإبداع في التجسس في الستينيات. وقد تجلت وحشية هذه المحاولات وقسوتها خلال عملية عُرفت باسم "القطة الصوتية" (Acoustic Kitty). وكما كتب "توم فاندربيلت"، الكاتب الأميركي، لمجلة "سميثسونيان (smithsonianmag)" آنذاك: "بهدف التجسس على خصوم الحرب الباردة، نشرت الحكومة الأميركية عملاء غير بشريين، مثل الغربان والحمام وحتى القطط". تشير المجلة إلى أن هذا المشروع لم يكن قطّ موضوع جلسة استماع في الكونغرس، إلا أن بعض الوثائق والمصادر من داخل أروقة الاستخبارات تشير إلى أن المشروع كان حقيقيا. فقد اعتقدت وكالة المخابرات الأميركية أنه في ظل التدريب المناسب، يمكن أن تتحول القطط ببعض الجهد إلى "جواسيس". أرادت الوكالة أيضا استغلال سمة "الفضول" في القطط، والتي لن تجعل أي شخص يشك في وجود قطة في مكان ما. بُنيت الخطة على افتراض أن قطة موصولة بأسلاك لتسجيل الصوت سيمكنها بسهولة أن تكون قادرة على القدوم والذهاب دون أن يلاحظها أو يشك فيها أحد، وباستخدام الإشارات الصوتية، يمكن التحكم فيها لتتحرك وتصل إلى المكان الذي يمكنها فيه تسجيل الأصوات المطلوبة، مثل المحادثات بين القادة السوفيات. لم يكن إنشاء قطة عالية التقنية مهمة بسيطة أو سهلة في عصر التسجيل الصوتي البدائي وأجهزة الحاسوب التي كان يصل حجمها إلى حجم غرفة، ويزيد من صعوبة الأمر هنا أنه يجب أن تظل القطط تبدو قططا طبيعية بدون نتوءات غريبة أو ندوب تثير الشكوك. لتحقيق هذا، قامت وكالة المخابرات المركزية بإنشاء جهاز إرسال يبلغ طوله 3/4 بوصة لوضعه في قاعدة جمجمة القط بشكل جراحي، وحينما تقوم القطط بالتسلل ستتمكن الأجهزة المزروعة في جسد القطة من التنصت على الأنشطة المطلوب مراقبتها. تمت الإشارة إلى المشروع ذاته من قبل "جيفري تي ريتشلسون"، المؤلف الأميركي والباحث الأكاديمي الذي تخصص في دراسة كيفية جمع المعلومات الاستخباراتية، في كتابه "سحرة لانغلي" (The Wizards of Langley)، وهو أول كتاب يؤرخ لجهود وكالة المخابرات المركزية الأميركية المكثفة لاستغلال العلم والتكنولوجيا لأغراض التجسس. ويقدر أن الوكالة الأميركية ضخت حوالي 10 ملايين دولار في تصميم القطط الأولى وتشغيلها وتدريبها ضمن المشروع، لكن المشكلة الكبرى التي واجهها المسؤولون هنا هي أنه لم يكن هناك طريقة لضبط حركة القطط أو تقييدها بالشكل المرغوب، حيث كانت القطط تتجول عندما تشعر بالملل أو التشتت أو الجوع. عولجت مشكلات الجوع لدى القطة من خلال عمليات جراحية أخرى. تشير التقديرات إلى أن نفقات الجراحة والتدريب الإضافية أدت إلى رفع التكلفة الإجمالية إلى 20 مليون دولار. كل هذه التكاليف والتدريبات والجهود جعلت المسؤولين يظنون أن القطة جاهزة أخيرا لبدء تنفيذ مهمتها في العالم الحقيقي، وعندما حان وقت بدء المهمة، أطلق عملاء وكالة المخابرات المركزية سراح عميلهم من مؤخرة شاحنة وشاهدوه بفارغ الصبر وهو ينطلق في مهمته. اندفعت القطة تجاه السفارة، لكن ما حدث لم يكن ليخطر ببال رجال المخابرات، فقبل أن تصل القطة إلى السفارة اصطدمت بسيارة أجرة عابرة وماتت قبل أن تبدأ في تنفيذ مهمتها المرجوة. ألغت وكالة المخابرات المركزية الأميركية المشروع في النهاية، ووفقا لوثائق منقحة جزئيا في أرشيف جامعة جورج واشنطن، خلصت الوكالة إلى أنه على الرغم من جهد وخيال أصحاب فكرة استخدام القطط في التجسس، لن يكون من العملي الاستمرار في محاولة تدريب القطط لأغراض التجسس نظرا لصعوبته وتكلفته المرتفعة، فضلا عن عوائده غير المضمونة في نهاية المطاف. تجنيد الدلافين لا يقف الأمر عند القطط، ففي أغسطس/آب عام 2015، نقلت تقارير صحفية أن حركة حماس الفلسطينية اكتشفت أن الإسرائيليين استخدموا الدلافين في التجسس. وفقا للتقارير الفلسطينية، فإن الاحتلال الإسرائيلي قام بتجنيد حيوان مائي أليف، وهو الدلفين، وثبّت معدات تصوير وأجهزة تجسس على ظهره. وكما أشرنا لم تكن هذه هي المرة الأولى التي تُستخدم خلالها الدلافين في التجسس، ففي ستينيات القرن الماضي، أظهرت الوثائق أن وكالة المخابرات المركزية الأميركية بحثت في استخدام الدلافين من أجل "اختراق الموانئ" والتجسس على خصومها. وللمفاجأة، لم تقتصر مهمات الدلافين على التجسس فقط، فقد استخدمتها البحرية الأميركية سابقا في عمليات إزالة الألغام. أكثر من ذلك، حاول المسؤولون الأميركيون استخدام دلافين قارورية الأنف لشن هجمات تحت الماء ضد سفن العدو. كانت هناك أيضا اختبارات حول ما إذا كانت الدلافين يمكنها حمل أجهزة استشعار لرصد الغواصات النووية السوفياتية أو البحث عن آثار أسلحة مشعة أو بيولوجية من المنشآت القريبة. جاء خلال وثيقة منشورة على موقع "سي آي إيه" بتاريخ الثاني من نوفمبر/تشرين الثاني 1964 تحت عنوان "مشروع أوكسي غاز" (Project Oxygas) القول: "أنفقت الوكالة والبحرية قدرا كبيرا من الوقت والمال في تطوير المشروع لكن النتائج المتحققة كانت "هامشية" في أحسن الأحوال. على سبيل المثال، قد تتجاوز تكلفة توصيل السباحين والمعدات المتخصصة وحدها سنويا نحو 5 ملايين دولار، والنتيجة ليست مرضية بدرجة كافية. ورغم ذلك، أكدت الوثيقة أن "التقدم في العملية يشجع على إيلاء المزيد من الانتباه لهذا المشروع. ورغم أنه لا يمكن توقع أن يحل الدلفين محل الرجل في الماء تماما، فلربما كان باستطاعة الدلفين أن يوفر جزءا كبيرا من جهودنا البشرية". بحلول عام 1967، كانت "سي آي إيه" تنفق مئات الآلاف من الدولارات على 3 برامج استخباراتية، تشمل تدريب واستخدام الدلافين والطيور والقطط والكلاب ليصبحوا عملاء. في السياق ذاته يذكر تقرير لصحيفة الغارديان البريطانية أن البحرية الأميركية دربت الدلافين وأسود البحر منذ حرب فيتنام، بوصف ذلك جزءا من برنامج استخدام الثدييات البحرية، حيث دُرب ما يقرب من 70 دولفينا قاروري الأنف و30 أسدا في قاعدة سان دييغو. تتميز الدلافين وأسود البحر بالذكاء والقدرة على التعلم ومواكبة التدريبات، وقد تفوقت حواسها الطبيعية على قدرات أي آلة أو حاسوب أنشئ بواسطة البشر. وتتمتع الدلافين، بالإضافة إلى قدرتها على الغوص بعمق كبير، بإمكانية "تحديد الموقع بالصدى"، التي تسمح لها باكتشاف أماكن الألغام المدفونة تحت الماء. أما أسود البحر فهي تتمتع ببصر ممتاز، وقد ساعدت الجيش الأميركي في العثور على بعض المعدات المفقودة. يوضح تقرير الغارديان مثلا أن الدلافين استُخدمت بالفعل للمساعدة في إزالة الألغام في الخليج العربي أثناء حروب الخليج و غزو الولايات المتحدة للعراق في عام 2003. لا يزال استخدام الدلافين في الحروب والصراعات البشرية قائما حتى الآن. ففي شهر أبريل/نيسان عام 2019 أبلغ صيادون نرويجيون عن حوت يتصرف بشكل غير طبيعي ويستمر في مطاردة قواربهم بصورة غير معتادة. سرعان ما تبين أن هناك سرجا غريبا ملفوفا حول جسم الحوت كتب عليه "معدات سانت بطرسبرغ"، مما أثار تكهنات جديدة حول برنامج عمليات خاصة للثدييات البحرية تحت إدارة البحرية الروسية. لاحقا في عام 2022، نشرت إذاعة "إن بي آر" تقريرا حول استخدام الجيش الروسي دلافين مدربة بشكل خاص للدفاع عن قاعدة بحرية مهمة قبالة شبه جزيرة القرم. أضاف التقرير أن هناك صورا ملتقطة بواسطة الأقمار الصناعية تظهر وجود الدلافين عند مدخل ميناء سيفاستوبول، الذي يستضيف القاعدة البحرية "الأكثر أهمية" للبحرية الروسية في البحر الأسود. لم تكن تلك سابقة على أي حال، فمن المعلوم أن البحرية السوفياتية أدارت العديد من برامج استخدام الثدييات البحرية خلال الحرب الباردة، بما في ذلك تدريب الدلافين بالقرب من سيفاستوبول. يُضيف تقرير "إن بي آر" أن هذه الوحدة بالذات انتقلت إلى الجيش الأوكراني عندما انهار الاتحاد السوفياتي، لكن الوحدة ظلت غير فاعلة حتى استعادتها روسيا بعد أن ضمت شبه جزيرة القرم في عام 2014، وأحيت البرنامج مرة أخرى. حتى الحمام لم يَسْلم! تعددت القصص والروايات التي تفسر سبب اختيار الحمام رمزا للسلام، لكن ربما لم تكن هذه القصص والروايات مقنعة بما يكفي للمسؤولين العسكريين ورجال المخابرات، الذين قرروا إقحام الطائر المسالم في الحروب والنزاعات وعمليات التجسس. يعود استخدام الحمام في الاتصالات إلى آلاف السنين، حتى قبل ظهور خطوط التلغراف، حيث كان الحمام يصل بالرسائل من مكان إلى آخر مهما طالت المسافة الفاصلة بينهما. بعد توصيل رسالته، يمتلك الحمام قدرة خاصة تمكنه من أن يجد طريقه عائدا للنقطة الأولى التي انطلق منها حاملا رد الطرف الآخر. لكن مهمة الحمام في مساعدة البشر على التواصل لم تقتصر على التواصل "السلمي"، ففي الحرب العالمية الأولى بدأ استخدام الحمام لجمع المعلومات الاستخبارية. بحلول الحرب العالمية الثانية، كان هناك فرع سري من المخابرات البريطانية يدير "خدمة الحمام السرية"، كانت مهمة هذا الفرع هي إسقاط الطيور في حاوية بمظلة فوق أوروبا. وقد استطاع الحمام بالفعل حينها تنفيذ المهمة المطلوبة بنجاح، فقد عاد أكثر من ألف طائر حمام برسائل تتضمن تفاصيل عن مواقع إطلاق صواريخ ومحطات رادار ألمانية. بعد الحرب، توقفت لجنة الحمام الفرعية التابعة للمخابرات البريطانية، بينما استمرت وكالة المخابرات المركزية الأميركية في استغلال قوة الحمام. تكشف الوثائق كيف قامت وكالة المخابرات المركزية الأميركية بتدريب الحمام للقيام بمهمات سرية لتصوير مواقع حساسة داخل الاتحاد السوفياتي. وفقا لموقع "بي بي سي"، فإن عملية استخدام الحمام في التجسس خلال السبعينيات كان يُطلق عليها اسم "تاكانا" (Tacana)"، وقد زُود الحمام خلالها بكاميرات صغيرة لالتقاط الصور تلقائيا. لقد حاولت وكالة المخابرات المركزية هنا الاستفادة من الميزة الحاسمة في الحمام، وهي أنه يمتلك قدرة مذهلة على إيجاد طريق العودة إلى الوطن مهما ابتعد. كشفت الوثائق أن وكالة المخابرات المركزية دربت أيضا غرابا على تسليم واستعادة أشياء صغيرة يصل وزنها إلى 40 غراما من عتبات نوافذ المباني التي يتعذر الوصول إليها، كما حاولت الوكالة أيضا تدريب الصقور الكندية والببغاء، لكن من بين كل هذه الفصائل، أثبت الحمام وحده، لسوء حظه، أنه الأكثر فاعلية. بحلول منتصف السبعينيات، بدأت الوكالة في القيام بسلسلة من المهمات التجريبية، كان أحدها فوق سجن والآخر فوق مقر للبحرية في واشنطن العاصمة. زُود الحمام بكاميرات تبلغ تكلفة إحداها ألفي دولار ووزنها 35 غراما فقط، أظهرت الصور الملتقطة بواسطة الحمام بالفعل تفاصيل واضحة بشكل ملحوظ لأشخاص يمشون وسيارات متوقفة في باحة مقر البحرية في واشنطن العاصمة. وجد الخبراء أن جودة الصور كانت أعلى من تلك التي تنتجها أقمار التجسس الصناعية العاملة في ذلك الوقت. كانت المهمة المقصودة هي استخدام الحمام ضد أهداف استخباراتية "ذات أولوية" داخل الاتحاد السوفياتي. أشارت الوثائق إلى أنه كان من المقرر شحن الطيور سرا إلى موسكو ، لكن لم يُعرف المزيد من التفاصيل حول هذه المهمة.

حمل التطبيق

حمّل التطبيق الآن وابدأ باستخدامه الآن

هل أنت مستعد للنغماس في عالم من الحتوى العالي حمل تطبيق دايلي8 اليوم من متجر ذو النكهة الحلية؟ ّ التطبيقات الفضل لديك وابدأ الستكشاف.
app-storeplay-store